مكتبة بلدية نابلس واللجنة الثقافية لدار الفاروق تستضيف الكاتب شريف سمحان


تقرير: فراس حج محمد ـ
عقد يوم السبت 29/9/2018 في مكتبة بلدية نابلس العامة وبتنسيق مع اللجنة الثقافية لدار الفاروق لقاء أدبي لمناقشة كتاب "نقوش من الذاكرة" للكاتب شريف سمحان، حضره جمع من المثقفين والمهتمين والأصدقاء.
وقدم فراس حج محمد الكتاب والكاتب، متحدثا عن دور شريف سمحان في الحياة الثقافية ودوره في العمل للأطفال من خلال عمله في جمعية الزيزفونة إذ عمل مديرا للجمعية متطوعا لفترة طويلة، وبخصوص الكتاب تحدث حج محمد عن الموضوعات التي تناولها الكتاب وكانت تدور في مجالات متنوعة السياسية والاجتماعية والثقافية والوجدانية.
وفي مداخلة للكاتب والشاعر جميل دويكات بين أن ما قدمه الكاتب سمحان في الكتاب مثالا للأدب الموجوع والمفجوع، حيث ترى فيه واقعا تبتلع الأرض فيه أصحابها والشجرة مكسورة والنخلة ما عادت نخلة، فالموت يفترسنا جميعا، وأشاد بالكتاب وبجرأة الكاتب في الطرح.
وركز الكاتب سامي مروح دويكات على بناء النصوص ومراوحتها بين الحداثية والكلاسيكية، مشيرا إلى بعض المآخذ على الكتاب ونصوصه كما في نص "دهشة"، فوصفه أنه بعيد عن المجتمع الفلسطيني.
أما الشاعر خليل العانيني فأشار إلى أن نصوص المجموعة تقترب من المدرسة الكلاسيكية، وسيطرة الهم النسوي على أغلب النصوص، وأشار نضال دروزة إلى ما في بعض نصوص المجموعة من موقف الكاتب من الإسلام السياسي، وتمنى أن يكون هناك في المستقبل كتابات تهز الوعي والضمير ووعي المواطن للخروج من القوقعات المتعددة، الفكرية والسياسية والعقدية.
وتناول الأستاذ عمار دويكات ارتباط العنوان بمجمل النصوص، وأن هناك نصوصا قد تفوق فيها الكاتب تفوقا واضحا، وتنفض الغبار عن القضايا المجتمعية، وأشار الكاتب رائد الحواري إلى ما في الكتاب من نقاط قوة سواء في طريقة التناول أو اللغة، ونجاحها في مخاطبة القارئ.
وتحدثت الكاتبة إسراء كلش عن التابوهات الثلاث في الأدب وكيف أن كتاب شريف سمحان "نقوش من الذاكرة" قد تناولها جميعا، وأشارت إلى ما في النصوص من ظواهر أسلوبية كالسخرية والفنتازيا وصدق التجربة التي انعكست إيجابيا على النصوص، داعية إلى تطوير الخطاب الثقافي ليستطيع الكتاب أن يغيروا في مجتمعاتهم.
وأما الكاتبة فاطمة عبد الله فتميزت مداخلتها في الكشف عن البعد الرمزي في بعض القصص وخاصة قصة "البسطار"، وكيف أن الكاتب كان ذا رؤية مستقبلية، مشيرة إلى ما وقع من ثورات الربيع العربي، على الرغم من أن النص المشار إليه كان قد كتب عام 2007.
وقدمت الدكتورة لينا الشخشير رئيسة منتدى المنارة للثقافة والإبداع مداخلة قارنت فيها بين كتاب سمحان "نقش على جدار الزمن" وهذا الكتاب، وكيف استمر الكاتب في تطوير خطابه الإبداعي ليشكل الكتابان مشروعا إبداعيا واحدا مترابطا.
وفي مداخلة مكتوبة بين المسرحي محمد شحادة أن معظم النصوص جاءت على شكل لافتات تبين الفكرة التي تناقشها، وعبر الطالب يزن حج علي من مدرسة جماعين الثانوية للبنين عن إعجابه بالكاتب وبكتبه التي قرأها له، وخاصة كتاب "أيلول الأسود".
وتحدث الكاتب عن كتابه ومضيئا بعض القضايا والنصوص، مجيبا عن استفسارات الحضور، ومتحدثا عن الكتب الجديدة التي ينوي إصدارها في المستقبل، شاكرا مكتبة بلدية نابلس واللجنة الثقافية لدار الفاروق، ووقع الكتاب للجمهور.   

بيروت 1965 كما رآها الدكتور عدنان الظاهر

 1965 / إلى بيروت
توعّكت صحة والدتي في ربيع هذا العام وأُصيت بالذبحة القلبية فأُدخِلت المستشفى في قسم العناية المركّزة. خرجت من مستشفاها مع تصميم وقرار غير قابلٍ للتأجيل : أنْ ترى ولدها البعيد قبل أنْ تموت. إتفقنا عن طريق الرسائل أنْ نلتقي منتصف شهر تموز في بيروت. شرعت من جهتي بتجهيز مستلزمات سفرة طويلة تستغرق خمسة أسابيع. تبدأ الرحلة بمغادرة موسكو بالطائرة إلى ميناء ( أوديسا ) على البحر الأسود في شبه جزيرة القرم. ثم ركوب الباخرة إلى ميناء ومدينة ( فارنا ) البلغاريين ومن ثم تتوقف الباخرة في مدينة وميناء أسطنبول في تركيا. بعد إسطنبول يأتي ميناء ( بيريه ) اليوناني القريب من العاصمة أثينا. ثم ميناء ( فاماكوستا ) القبرصي الواقع على البحر الأبيض المتوسط الدائم الهيجان. بعد ذلك تستقبلنا الإسكندرية المصرية، وأخيراً نصل بيروت. بالإضافة إلى ميناء الإنطلاق، تتوقف الباخرة في ستة موانيء قبل الرسو في ميناء بيروت اللبناني. لحظة الوصول إلى أيٍّ من هذه المحطات تعزف فرقة الباخرة الموسيقية شتى الألحان. وبعد تمام الرسوّ على الرصيف تتسلق السلالم صعوداً إلى الباخرة ثلةٌ من رجال السلطات المحلية في كل ميناء. ثم تأخذ بتدقيق جوازات وقوائم المسافرين وأعدادهم. بعد ذلك تسمح هذه السلطات للمسافرين بالنزول إلى البر الوطني والمكوث في كل ميناء لحوالي الثماني ساعات تكفي للتعرف السريع على أهم المعالم. السفرة البحرية على الباخرة وحدها إنْ هي إلاّ متعة وعطلة لا مثيلَ لهما، خاصةً حين تمخر الباخرة بنا عُباب البحر الأسود حيث تمارس الدلافين إستعراضاتها قريباً من الباخرة لكأنما قد أعدتها خصيصاً لتسلية المسافرين والترحيب بقدومهم. أما النوارس البحرية فلم تكنْ لتفارق الباخرة أينما كنا وكانت. معنا ووراءنا وحولنا تلتقط ما تلفظ الباخرة من فضلات الطعام. كنتُ نهاراً أُمارس السباحة في حوض مكشوف على سطح الباخرة. أما الأماسي فكنت أُقضّيها مع بقية المسافرين في الحفلات الراقصة حتى منتصف الليل. كنا نختلط ببعضنا على سطح السفينة في كافة الأوقات وخاصةً بعد وجبات الطعام. البهجة الطاغية تُنسي الإنسان الإحساس بالزمن. تجعله يطفو على أثير الوجود مخدَّراً أو دون أعصاب. ليس لوجوده حدود أو إنه لا يُحس أصلاً بهذه الحدود. إنه خارج الزمان وفوق المكان.
نسيم البحر رخيٌّ عليل والطعام جيد والوجوه تتبدل مع تبدل الموانيء والمدن. ففي كل ميناء يُغادر الباخرةَ أُناسٌ ويصعد إليها آخرون غيرهم جُدُد. وجوه شتى وأزياء منوّعة وتقاليد وأنماط حياتية تحاكي ألوان طيف قوس قزح. لفت نظري كثرة السياح الذين يركبون الباخرة في ميناء إسطنبول التركي ليغادرونها في قبرص أو بيروت. فيهم الكندي والأمريكي وعوائل تتكلم العربية بلهجة لبنانية تغادر الباخرة عادةً في قبرص !!
كنتُ بالدرجة الأولى مَشوقاً أن أرى الإسكندرية. وصلناها. صعدت على سطح سفينتنا ثِلّةٌ من رجال الشرطة يقودها ضابط شرطة برتبة عقيد، وهي عادةً شرطة حدود. بعد تقليب جوازاتنا وتدقيق وثائق الباخرة وقوائم المسافرين على متنها فتح الضابط المصري أمامه سجّلاً ضخماً ربما بألف ورقة. قلّب أوراقه بعناية فائقة. توقف عند صفحة بعينها. أراح نفسه على مقعده كأنما أزاح عبئاً ثقيلاً عن كاهله. تفرّس في وجه طبيب أردني  كان معنا على الباخرة. قال له بصرامة : غير مسموح لك أن تطأ الأرض المصرية !! ماذا ؟ غير مسموح لطبيب عربي من الأردن أن يغادر السفينة لبضعة ساعات كي يرى بعض معالم الإسكندرية ؟ شيء غير متوقع، بل ولا يُصدّق. كانت مصر يومذاك وكما هو معروف تقود أزمّة العرب نحو الوحدة والعروبة وترفع عالياً لواء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. شيء أذهلني وجعلني أُصابُ بالدوار. إحتججتُ. قلت للضابط بشيء من الوقاحة : كيف لا تسمحون للدكتور ( هشام حمارنة ) أن يرى مدينة عربية وأنتم في مصر تقودون العرب نحو الوحدة الشاملة وترفعون الشعارات القومية الطنانة ؟ قرّب الضابط أُذنه مني متسائلاً : ماذا قلتْ ؟ أرادني أن أكرر كلامي كيما يلتقط إسم الطبيب الأردني كاملاً لكي يتأكد وبما لا يقبل الشك أنَّ هذا الرجل ( هشام ) هو بلحمه ودمه الممنوع من زيارة الأراضي المصرية. قلتُ للضابط إنني سأبقى على سطح السفينة مع الدكتور هشام إحتجاجاً على موقفكم وإستنكاراً رغم أني لا أعرف هذا الرجل ولم أتعرف عليه إلا على سطح السفينة. لم يعلّقْ. بقي على هدوئه وهو يلملم أوراقه ويطوي صفحات المجلد الضخم. توقعت أن يأمرني بالبقاء على السطح ولا يسمح لي بزيارة الإسكندرية لكنه لم يفعل ذلك. أقنعني هشام أن أترك الباخرة وأن أرى الإسكندرية. شكر تضامني معه وقال إنه سوف لن ينسى هذا الموقف الإنساني. ما قصة هشام حمارنة مع الشرطة المصرية ؟ قال لي هشام إنه طُرد من مصر يوم أن كان يدرس الطب في القاهرة بسبب نشاطه البعثي المتميز. وكان الخلاف يومذاك على أشُده بين البعثيين وجمال عبد الناصر. 
تمشيت في منطقة الميناء فإنتبهت إلى كثرة عربات باعة الفول المُدمّس. كما لفت نظري أنَّ الناس هناك يأكلون الفول بقشوره. ثم إسترعى إنتباهي أحد الباعة ينادي خلف عربته الملأى بفاكهة غريبة عليَّ، سمعتُ بها قبلاً لكني ما رأيتها. إنها ( المانجو )، فاكهة بيضوية الشكل أحد خديها أخضر اللون والآخر أحمر. تشكيلة لونية رائعة. قلت فلأجربنّها ما دمت على أرض الكنانة. بعد مساومة قصيرة إبتعتُ واحدة. قلّبتها وهي في يدي يمنةً ويسرةً ثم أعدت تقليبها يسرةً فيمنةً وفي قلبي شيء من الهيبة، بل والخوف. كيف أبدأ بأكلها ومن أين أبدأ ؟ لماذا أقحمتُ نفسي في هذه الورطة ؟ كان البائع يراقبني عن كثب لكأنما أحس أو تكهّن أني في ورطة. عرف بكل تأكيد أنني رجل غريب، غير مصري لا قِبلي ولا بحري. لا صعيدي ولا إسكندراني. مسحتُ قطعة الفاكهة بيدي وقضمتها بشوق العاشق المستهام. صرخ البائع في وجهي مستنكراً فعلتي : إنتَ بتعمل إيه ؟ توقفت عن القضم لأعرف ماذا جرى لهذا البائع المسكين. هل كان يقصدني أنا بهذه الصرخة أم غيري يا تُرى ؟ تلفّتُ من حولي في شيء من الذهول. كرر سؤاله إياه رافعاً كفه عالياً ( إنتَ بتعمل إيه ؟ ). لم أجد، وقد عقدت الدهشة لساني، جواباً معقولاً لسؤاله سوى أن أسأله بدوري ( جرى إيه ؟ ). قال كيف تأكل المانجو دون أن تنزعَ قشرتها ؟ أجبته بكل بساطة وبراءة أني أُجرّبُ هذا الصنف من الفاكهة لأول مرة في حياتي. ليس لدينا مانجو في العراق.
[ خلال إحدى زياراتي لمدينة البصرة جنوب العراق عام 1970 أخبرني أقاربي هناك أنَّ في بعض بساتين البصرة بضعة أشجار لفاكهة المانجو ].    
بعد أن تمشيتُ طويلاً في بعض شوارع مدينة الإسكندرية ( التي بناها الإسكندر المقدوني ذو القرنين ) قررت الرجوع إلى باخرتي في وقت مناسب لئلا يفوتني موعد مغادرتها الميناء. ولكثرة ما تشعبت بي الطرق والشوارع فقدت الإتجاه الصحيح الذي يؤدي بي إلى الميناء فالباخرة السوفياتية الراسية هناك. أسأل من ؟ نعم، أسأل من ؟ لم تطل حيرتي. لمحت من بعيد جندياً بحرياً بالملابس البيض الزاهية والأزرار التي كانت تتوهج تحت أشعة الشمس القوية. دنوت منه وحييته ثم سألته : أي طريق قصير يأخذني إلى الميناء ؟ طلب مني أن أُعيد السؤال. أعدته بحذافيره. لم يتحرك. لم يبدِ أية علامة تدل على أنه فهم قصدي ومحتوى سؤالي. سألتُ مَن ؟ يا إلهي !! أدار رأسه كما يدور فنار الميناء ليلاً، ثم قال بإستغراب : ( بتقول إيه ؟ ). أعدتُ عليه سؤالي فأجاب : ما أعرفش ! مصيبة. جندي بحري ولا يعرف موقع ميناء الإسكندرية. أراد ترك المكان فإستوقفته متوسلاً قائلاً إني أستقل باخرةً ستمخر قريباً في مياه البحر الأبيض المتوسط من ميناء الإسكندرية في مصر إلى ميناء بيروت في لبنان. أفضتُ في بياني لعله يدرك مغزى سؤالي. لعله يربط بين إسم الباخرة والميناء وماء البحر، فإنه رجل بحر. صرخ عندذاك وإنفرجت أساريره قائلاً : آه… إنتَ بتقصد المينةْ. قلت له نعم. قال ( أومّال ما ألتها من الصبح ؟ ) ده المينة، المينة. لا يفهم هذا الشاب البحري كلمة ميناء. يفهمها بإعتبارها مينةْ. رافقني مسروراً حتى مرسى سفينتي. وحين عرف أني طالب عراقي أدرس في موسكو قال بفرح طفولي طافح
إنه قد زار موسكو مرّةً بالغواصة أثناء تأدية بعض التدريبات البحرية. صححتُ معلوماته بأنَّ موسكو لا تقع على ساحل بحر، فكان تعليقه الوحيد : آه… أو مّال… فيها إيه ؟ كان قصده أن يقنعني أنه قد زار موسكو بالغواصة فعلاً حتى لو لم تكن واقعة على بحر !! 
من الذي شعر بالخجل والإحراج، هو البحري أم أنا ؟ أنا الذي خجلتُ مما قال هذا الشاب الذي سيقضّي عمره فوق وتحت مياه البحار. صافحته شاكراً وتسلّقتُ سلّم باخرتي لتواصل رحلتها البحرية حتى نهاية خط إبحارها وهدفها الأخير : بيروت. ما بين الإسكندرية وبيروت لم أكفْ عن ترديد ما قاله هذا الشاب البحري ( آه… أومال… فيها إيه ؟ ). 
ركبت الباخرة في ميناء الإسكندرية عائلة كويتية مع سيارة مرسيدس بيضاء اللون في طريقها إلى الكويت مارّةً بثلاث عواصم عربية هي بيروت وعمان وبغداد. تم التعارف بيني وبين رب الأسرة بعد طعام العشاء. قال لي إنه موظف في وزارة التربية الكويتية. وحين علم إني طالب عراقي أواصل دراستي في جامعة موسكو سأل على الفور : أفلم تحمل معك شيئاً من الفودكا الروسية ؟ كان معي بالفعل ثلاث زجاجات منها حملتها هديةً لصديقي حسن عبد الرزاق في العراق. شربنا سويةً زجاجة كاملة في أقل من نصف ساعة دونما مزّة أو فاكهة أو طعام. غلب الكرى نديمي فنام. بعد فترة قصيرة فتح عينيه فقال : أليس لديك المزيد من هذا ؟ وأشار بيده إلى زجاجة الفودكا الفارغة. أتيته بزجاجة ثانية فصكَّ نصفها جرعةً واحدةً ثم نام. تركته وإنسحبتُ إلى صالة الرقص والموسيقى مستغرباً شأن هذا الرجل. كنت أتوقع أن يدعوني مقابل ما قدمت له من شراب إلى بار
( حانة أو مشرب ) الباخرة الرائع والثري بما فيه من مشروبات منوعة مستوردة من شتى بقاع العالم، الروم الكوبي والويسكي الأسكتلندي والجن الإنجليزي والكونياك الأرمني وغيرها وغيرها الكثير. لم يفعل ذلك. نام ولم يحترم حق الضيافة. لقد أثار المزيد من دهشتي حين أخبرني ساعة سكره إنه كان يدعو بعض البغايا إلى شقته في القاهرة ليمارسهن بالتناوب مع شقيقه الأصغر ؟! سألته أفلم تعترض زوجك على هذا الفعل ؟ قال إنها لا تعرف ذلك. نطلب منها البقاء في الحجرات الداخلية للشقة بحجة إنشغالنا مع بعض الضيوف. قال لي مرة وهو يقرّب كأس الفودكا من شفتيه إعتبرْ الكويت بلدك الثاني وسأساعدك إذا رغبت العمل في الجامعة. لم أصدّقه. كيف أضع ثقتي في رجل مخمور جداً يخون زوجه في وضح النهار، ويوزع الوعود جزافاً حين يفقد وعيه ؟
وفي الإسكندرية أيضاً ركبت باخرتنا مجموعة من العراقيين عائدةً إلى بغداد عن طريق بيروت. عرفت من بعض أفرادها إذ كنا جلوساً أمام بار المشروبات إنهم يزورون بين آونةٍ وأخرى مصرَ لا لشيء إلاّ ليمارسوا هواية الرهان في سباق الخيول الذي كان محظوراً حينذاك في العراق. سألته عن مهنته في بغداد فتلكأ أولاً، مصَّ جرعة قويةً من الويسكي ثم قال إنه يعمل دلاّلاً في كراج ومحطة كبيرة للسيارات في جانب الكرخ من بغداد. وأن لديه ترخيصاً خاصاً بحمل مسدس. سألته ولماذا المسدس ؟ تردد كثيراً ثم قال بعد أن أخذ جرعة أخرى كبيرة من كأس شرابه : إنَّ واجبي وبقية رفاقي على سطح الباخرة هو المحافظة على نظام الحكم القومي في العراق وعلى الأنظمة القومية في باقي أنحاء الوطن العربي ! كان هذا الرجل وبقية رفاقه ضخام الجثث منتفخين شحماً ولحماً وجيوبهم ملأى بالنقود. مصائب الزمن . مقامرون ومغامرون وشُقاة ودلاّلو سيارات يحملون السلاح لحماية نظام حكم قومي في بلد لا يستطيع طالب عراقي أن يدخله كيما يرى أهله وذويه. أي نظام حكم هذا الذي لا يرعى حقوق مواطنيه ولا يعترف بقدسيتها أو قانونيتها أو شرعيتها ؟ 
البحر بين قبرص والإسكندرية، وبين هذه وبيروت كثير الهيجان. الأمر الذي يسبب للمسافرين الدوار والغثيان والتقيؤ على درجات متفاوتة. الكل يعزف عن تناول وجبات الطعام في مثل هذه الظروف. والأغلبية الساحقة تفضل النوم هرباً من هذه البلوى. عانيتُ من هذه الظاهرة أيما معاناة حتى أنَّ نفسي عافت الطعام وإستعصى النوم عليَّ فأين المفر ؟
كان في رأسي شيء غير طبيعي وفي معدتي شيء آخر أقوى منه وأمر. فمتى ينقضي هذا البلاء المُقيم ومتى أستعيد سابق عافيتي ؟ متى يهدأ البحر ويكف عن إزعاج ضيوفه الذين كانوا حتى قبل حين مبتهجين مرحاً وصخباً وغناءً يتبادلون النجوىً والسمر على أسطح السفينة ليلاً تحت ضوء القمر وبشتى اللُغى والرطانات ؟ ها نحن أولاء نقترب من هدفنا الأخير بيروت، فلِمَ كل هذا العذاب، أفي البحر نزعة للإنتقام وتدمير بهجة النفوس ؟ هل في البحر طبعٌ متمرّد غامض أم أنَّ قوىً كونية كبرى أخرى أكثر غموضاً وشراسةً تأمره فيعجّل بالتنفيذ ؟ هل سأصل بيروتَ حقاً وهل سأرى والدتي في إنتظاري على رصيف الميناء  حسب الموعد الذي حددتُ في آخر برقية مني للأهل ؟ أما زالت والدتي على قيد الحياة أم أنها قضت نحبها في بيروت أو حتى في الطريق الطويل إلى بيروت ؟ داهمتني هذه الأفكار السود أثناء معاناتي من دوار البحر والتقيؤ المستمر وإستحالة النوم ثم خلو المعدة من الطعام وفقدان الجسد للكثير من مائه وأملاحه. حين يعتلّ الجسد تختلّ المعنوية فتهتزّ موازين القرار وتعصف بالمرء الظنون والفِكر السود. هدأ البحر ليلاً لكني لم أستطع النوم. كنت أُهيء نفسي للنبأ العظيم. أن أرى الوالدة حيّةً ، أن أشم نفحات الأمومة وأن أسفحَ على صدرها عَبَراتي التي خزّنت ُفيها حزن ثلاثة أعوام من الفرقة والمرار ومشقّات الدراسة. ثم الحال الذي آل إليه العراق بعد إنقلاب الثامن من شباط 1963 حيث وجدتُ نفسي محروماً من فُرص زيارة أهلي ووطني. مع الفجر السامي تبدّت لعيني عمارات بيروت العالية والجبال الخُضر الشاهقة المحيطة بها. مشهد رائع لا يمكن أن ينساه المرء. قللّت الباخرة من سرعتها. إذن نحن نقترب من الساحل. أمي ستكون هناك في إنتظاري. لا. ربما ألغت مشروع السفرة أو أجبرها الطبيب على إلغائه. هل عادت ثانيةً إلى مستشفاها ؟ أوَما زالت على قيد الحياة ؟ هل واروها التراب قبل أن تحقق أمنيتها في أن تراني قبل أن تموت ؟؟؟ 
قبل أن يُلقي ربابنة السفينة المرساةَ في قاع البحر ويمدون الحبال إلى رصيف الميناء رأيت إمرأةً مُتشحةً بالسواد تقف في ظل حائط. قلت إنها بكل تأكيد والدتي. مع دنو الباخرة البطيء من الرصيف تأكد لي إنها هي، أمّي. رأيتها تقف شامخة القامة حائرة النظرات كأنها هي الأخرى لا تصدق بأنَّ لقاءنا سيتم أو قد تمَّ بالفعل. كانت تعرف زمن وصول الباخرة السوفياتية إلى ميناء بيروت. كما كانت تعرف أنَّ الباخرة التي دخلت الميناء وأخذت تدنو من الساحل هي باخرة سوفياتية قادمة من ميناء أوديسا. كنت قبل مغادرتي موسكو قد بيّنتُ للأهل في الحلّة وبغداد كافة تفاصيل الرحلة. إذاً لا بدَّ وأن يكون ولدها واحداً من راكبي هذه السفينة. كنتُ ما زلت أراها لكنها لم تستطع تشخيصي من بين بقية المسافرين الذين أصطفوا على سطح السفينة متأهبين لمغادرتها حين تُمدُ السلالم. مُدتْ السلالم فهُرِعتُ إليها مسرعاً وما أن عرفتني حتى صَرَخَتْ ( يُمّه ! ). ألقيت برأسي على صدرها المريض.كلانا يبكي وينشج ويردد أشعار الحزن. أردتُ أن أسألها كيف حال أبي وباقي أشقّائي وشقيقاتي لكني لم أستطع. كلما حاولت الكلام تعثّرت الألفاظ في فمي وإختلطت بالدموع. كانت بي رغبة أن أتملى وجهها وأن أُطيل النظر فيه لكني لم أكنْ لأجرؤ. تغيّر وجه الوالدة. فقد رونقه وبهاءه فأصبح شاحباً هزيلاً وقد عهدته ممتلئاً معافى. إنه المرض. وإن العلّة في القلب. أخذنا سيارة أجرة ( تاكسي ) إلى الفندق الذي حجزت لنا فيه غرفة حين وصلت بيروت قبل يومين. فوجئتُ ! فوجئتُ أنَّ الوالدة قد أعدّت أطباق الطعام والفاكهة التي كنت أُحب. ثم فاجأتني ثانيةً بالحقيبة الكبيرة التي حملتها لي معها وهي العليلة القلب. حقيبة كبيرة ملأى بأنواع الملابس مع راديو ترانسستور ماركة آيوا اليابانية AIAWA . أدارت بعض أزرار الراديو فإذا بصوت إذاعة بغداد يلعلع في فضاء بيروت. كانت قد أعدت سَلَفاً كل ما من شأنه أن يحمل لي المسرة والبهجة. لم أكن أصدق ما ترى عيني. هل هذه هي والدتي حقاً ؟ أُمّي التي أنجبتني وسوّتني إنساناً ؟ أمي التي فارقتها ثلاثة أعوام عصفت أثناءها بالعراق أعاصيرُ وعواصف وسالت على أراضيه دماء ودماء. ثلاثة أعوام مرّت ثقيلة بطيئة وأنا بعيد عن هذه المرأة الصابرة. تذكرتُ عتابها لي قبل ثلاث سنوات في مطار بغداد وقبيل إقلاع طائرتي إذ قالت : أَوَ تسخو بفراقنا يا عدنان ؟ تذكرت قول والدي لي إنه سوف لن يراني ثانيةً. ها إني أرى وأسمع وأُكلّم هذه الوالدة، ولكن أين أبي ؟ من يأتيني بأبي الذي قطع الأمل في أن يراني ثانية ؟ كيف سأفارق الوالدة لسنين أُخرَ وكيف ستتحمل هي هذا الفراق ؟ 
سألتني أما ترتاح قليلاً ؟ إخلع ملابس سفرك ونمْ لبعض الوقت. من يفكّر بالنوم في حضرة الوالدة ؟ قلت كلاّ، أنا مرتاح جداً وسعيد جدّاً بوجودك معي في بيروت. حدثيني تفصيلاً عن أوضاع والدي وإخواني وأخواتي والأقارب. أفاضت في الحديث وأكثرت كعادتها من تناول أقداح الشاي الثقيل والتدخين الذي منعه الطبيب منه منعاً باتّاً. ثم عرّجت على من مات من الأقارب بعد مغادرتي العراق. مات إبنُ عمّتي الحاج فخري إختناقاً تحت الأقدام أثناء ركضة كربلاء الشهيرة، الماراثون الذي يبدأ عادةً من وسط مدينة الهندية ( طويريج ) حتى ضريح الحسين في كربلاء. ترك زوجةً وخمسة أطفال أكبرهم في الثالثة عشرة. قضى صهرنا أبو رياض بالسكتة القلبية فجراً. إستيقظوا فوجدوه مطروحاً على الأرض مفارقاً الحياة. إبن خالتي حمّودي عبّود الجمعة ( أبو أحمد ) مات يصارع مرضاً عضَالاً أصاب عموده الفقري وجهازه العصبي المركزي. ترك وَلَداً صغيراً وثلاث بناتٍ قاصرات. سألتها ألهذه الأسباب قد إتشحّتِ بالسواد يا أُمّاه ؟ سكتت برهةً ثم قالت : وهل رأيتني يوماً بغير السواد ؟
إقترحتُ أن نتمشى وأن نتعرّفَ على بيروت وأسواقها. وافقتْ، ثم أخرجت من أحد جيوبها الداخلية صكّاً ( شيك ) وقالت هاك، حوّله إلى الليرة اللبنانية. كان الصك بالدينار العراقي صادراً عن مصرف الرافدين الحكومي . في بيروت فرع لهذا المصرف. حولّتُ الدينار إلى ليرات وبدأنا جولة التمشي وإستطلاع المدينة الهائلة. دخلنا سوقاً كبيراً يتوسط المدينة إسمه ( سوق سرسوق ). وجدناه عاجّاً بمختلف السياح الأجانب. يتكلّم الباعة في هذا السوق عدة لغات. سمعتهم يتكلمون الإنجليزية والروسية والألمانية ولغات أخرى غريبة عليَّ. كانوا يجرّون الزبائن إلى محالهم جرّاً يفتقر إلى اللياقة. وحين يصطادون الزبون وينجحون في إدخاله المحل ( المصيدة ) يقدمون له على الفور الشاي أو بعض المشروبات الباردة مع المبالغة في كلام المجاملة المنافقة والترحيب حتّى إنه لا يجد مفرّاً من أن يبتاع شيئاً ما دفعاً للحرج. سوق حر والمنافسة قوية جداً على كسب الزبائن. إنه صراع البقاء. 
رجعنا قبل أن يحلَّ الظلام إلى الفندق. كانت الوالدة تعبى فآوت إلى الفراش مبكّرةً. لكني خرجت ثانيةً تحت ضغط اللهفة والرغبة في أن أرى بيروت ليلاً كما رأيتها نهاراً. سمعتها تقول لا تتأخر. نحن هنا غرباء وأخاف عليك. لقد كَبُرتُ أيتها الوالدة، فمم الخوف عليَّ ؟ قالت ( يا صاكعة يا راكعة ). معناها صاعقةٌ قارعةٌ. وهو مثل يستخدمه العراقيون كثيراً. لا مردَّ بالطبع لقرع الصواعق التي تنقضُّ دونما إنذار. الوالدة تحذرني من المجهول ومن شيء لا نتوقعه. قبّلت رأسها فشمّتني بعمق ثم قالت : دير بالك على فلوسك.
خرجتُ أسأل عن منطقة في بيروت إسمها ( برج حمّود ) خاصة بالأرمن. أتيت بيروت أحمل رسالةً وهدايا من شاب أرمني سوفياتي لبناني الأصل يعيش ويعمل أصلاً في مدينة ( يرفان ) عاصمة جمهورية أرمينيا السوفياتية. جاء إلى موسكو لمواصلة دراسة الدكتوراه في أحد حقول الكيمياء، وكنا نعيش على طابق واحد في القسم الداخلي لجامعة موسكو. أرسل ( جورج ) الرسالة والهدايا إلى شقيقته التي تزوجت وبقيت في بيروت ولم تهاجر مع والديها وإخوتها الصغار إلى الوطن الأم أرمينيا. وصلتُ ( برج حمّود ) وليس معي إلاّ إسم شقيقة جورج، أسأل من أرى في الشوارع عن عنوان سَكن هذه السيدة وكيف أصل إليها. إقترح بعض من سألت ـ وقد بدأ نور النهار بالإنحسار ـ أن أحاول هذا الأمر صباح الغد بدل التخبط في الشوارع ليلاً. وأن أسأل مختار المنطقة عن عنوان السيدة الأرمنية وزوجها. أتيتُ برجَ حمّود صباح اليوم التالي فدلّني بعض المارة على مكان دكّانة المختار. رحب الرجل بي وقدم كل مساعدة ممكنة وبذل بعض الجهد حتى إهتدى إلى عنوان هذه العائلة. كان يدقق في سجل ضخم أمامه يتابع الصفحات والقوائم والأسماء وعناوين الدور. فتح التلفون وأخذ يسأل من أكثر من جهة.  ثم تناول قلماً وورقة صغيرة كتب عليها العنوان الذي أروم كاملاً. ودَّعني قائلاً : البيت الذي تريد ليس بعيداً عنك. أشار إلى جهة بعينها وقال خذ هذا الشارع وستجد ضالتك. شكرته وإنصرفتُ أحمل الهدايا والرسالة وفي النفس عزمُ وشوق غريب أن ألتقي هذه السيدة، فلربما أرى في وجهها وفي كلامها حنان شقيقاتي. طرقتُ باب شقة على الطابق الأول في بناية صغيرة أنيقة فإستقبلتني سيدة عجوز طويلة القامة لا تتكلم العربية. ( يا صاكعة يا راكعة )… بذلتُ جهوداً كي أجعلها تفهم من أنا ولماذا أنا هنا وكنتُ أردد إسم شقيقة صديقي الأرمني جورج. رددته عشرات المرات لأنني ما كنت أعرف غيره. سمحت أخيراً لي بدخول الشقة مرددةً كلاماً لا أفقه منه شيئاً. قادتني إلى غرفة إستقبال وأشارت لي بالجلوس. كانت وحدها في الشقة، لذا كان لحذرها ما يبرره. دخلت بعد حوالي ربع ساعة إمرأة عرفتها على الفور. كانت نسخةً طبق الأصل من وجه شقيقها جورج. عرفّتها بنفسي وقدمت لها هدايا أخيها. كانت لحسن الحظ تتكلم العربية باللهجة اللبنانية. بكت وهي تتناول الهدايا من يدي. مسحت دموعها ثم قالت : كأني رأيت أخي ( شِفِت خَييّ ). تقصد إني قد ذكّرتها بأخيها الذي لم تره منذ ثلاثين سنة. هاجر والداه من بيروت إلى أرمينيا يوم أن كان طفلاً في الثانية من عمره بينما بقيت شقيقته في بيروت. قدّمت لي السيدة (جورجيت الأشقر) الأشقر هي الترجمة العربية لإسم عائلة والدها بالأرمنية ) المرَطِبات وبعض الفواكه مع تكرار جُمل الترحيب والمجاملة ثم فاجأتني بسؤال : هل لديكم فواكه تأكلونها في روسيا ؟ قلت لها أجل، موسكو تستورد الكثير. ثم إنَّ جمهورية الأرمن، أرمينيا، مشهورة بأجود أنواع الخوخ والنكتارين. لذا فإنها تنتج أفضل أنواع الكونياك في العالم. إطمأنّت قليلاً ثم سألتني بعد أن ألقت على ما كنت أرتدي من ملابس وحذاء نظرة متفحّصة، نظرة إمرأة خبيرة في شؤون الأزياء : هل لديكم ملابس تلبسونها في روسيا ؟ ضحكتُ. أجبتها وهل ترينني عارياً ؟ قالت أقصد هل أن أخي جورج يرتدي ما ترتدي أنت ؟ قلت لها كلاّ. إنما تأتيني الملابس الجيدة من أهلي في العراق. جورج مواطن سوفياتي وأنا لست كذلك. جاء زوجها فعرفتني عليه. ثم دخل ولدها الأكبر فقدّمته لي قائلة إنه يملك حافلة كبيرة للركّاب يسيّرها بين مركز بيروت والجبل. قبل أن أودّع هذه العائلة الأرمنية سألتني جورجيت أن أحمل لأخيها معي بعض الهدايا والملابس فقط (كان جورج يريد نقوداً بالدولار ). 
بعد أن تعلّم جورج وشبَّ في يرفان حاول بكل السبل أن يُسقط عنه الجنسية السوفياتية
وأن يعود إلى لبنان. كتب شكاوى وطلبات إلى هيئة الأمم المتحدة وإلى منظمّات حقوق الإنسان بل وحتى  إلى الزعيم السوفياتي يومذاك ( ليونيد بريجينيف ).كانت حججه قوية : إنَّ أمه سورية عربية من مدينة حلب السورية وليست أرمنية وإنه يتبع أمه. وإنَّ والده الأرمني المولود في تركيا جاء به من بيروت إلى يرفان طفلاً في الثانية من عمره. وإنه لا يُتقن اللغة الأرمنية ولا يستطيع أن يهضم اللغة الروسية. إنه يحب لغة أمه العربية.لم تنفعه كل هذه الحجج ولم تنفع مساعيه التي  جلبت له الكثير من المتاعب والمحن. قال لي بعد زيارة بيروت إنَّ الأجهزة الأمنية في جامعة موسكو طلبت منه أن لا يتصل بالطلبة العرب. رفض طلبهم فجاءت النتيجة لاحقاً كما كان يتوقع : رُفِضت رسالته لدرجة الدكتوراه في كيمياء البوليميرات ( المطاط والكاوجك ). وحين عاد إلى يرفان ليستأنف عمله السابق في أحد مصانع المطاط وجد نفسه بدرجة مهندس كيميائي بعد أن كان رئيسَ مهندسين. تبع هذه العقوبة تخفيض راتبه الشهري بمقدار الثلث. [ هل غادر جورج أرمينيا بعد سقوط جدار برلين عائداً إلى مسقط رأسه بيروت ؟ ]. أخبرني مرّةً بأحد أسراره على أن لا أبوح به لأحد. قال إنَّه سجّل بإسمه براءتي إختراع. تخص إحداهما تصنيع وسائل تجعل العدو غير قادرٍ على إكتشاف الغواصات تحت مياه البحار أو معرفة مكان تحركها. سألته وهل قبضتَ شيئاً مُجزياً مقابل هذا الإكتشاف الخطير ؟ ضحك بمرارة ثم قال نعم، أعطوني مائتي روبل. ولو كنتُ في دولة أخرى  لقبضتُ الملايين ! لقد رأيت كتاب هذه البراءة بعيني بعد أن أقسمتُ أن أكتم السر وأن لا أبوح به لأحد. 
كنتُ أقضي معظم ساعات النهار مع الوالدة تمشياً أو تسوّقاً وأتركها عصراً في غرفتنا في الفندق كي تنام مبكِّراً. إلتقيت في بيروت و مصيف ( عاليه ) بالكثير من المعارف والأصدقاء القدامى جاءوا بيروت مصطافين أو للتجارة وتسويق البضائع. ومنهم من كان أصلاً في بيروت للدراسة. كان فيهم المدرس ومدير المعارف والمهندس والمقاول والأديب والشاعر وبعض أساتذة جامعة بغداد ممن سجنهم وشرّدهم إنقلابيو الثامن من شباط 1963 فتركوا العراق للعمل في جامعات المملكة العربية السعودية أو المملكة الليبية السنوسية.كما تعرّفت في بيروت على قاريء المقام الشهير الأستاذ محمد القبانجي.
لم تستطعْ مباهج بيروت ومصيف ( عاليه ) و دجاج مصيف ( بحمدون ) المشوي أن تُنسيني الهاجس الأكبر : صحة الوالدة. كانت تغفو سريعاً وتنام نوماً عميقاً مع ضيق في التنفس شديد.كان تنفسها ينقطع أثناء النوم وصدرها يرتج بعنف حين تستأنف عملية الشهيق والزفير. ما كان تنفسّها يسيراً وما كانت دقات قلبها تجري بوتائر منتظمة. الأمر الذي سبب لي خوفاً وجزعاً. ماذا سأفعلُ لو توفيت الوالدة وكلانا في بيروت غريب ؟ أين أدفنها ووصيتها أنْ تُدفَن في سردابها الخاص في مقبرة وادي السلام في مدينة النجف ؟ من سيحمل جثمانها إلى العراق والطريق إليه مُقفَلٌ في وجهي ؟ كشفت لها ذات يوم عن مخاوفي هذه فوافقتْ على فكرة الرجوع إلى العراق ولم يمضِ على لقائنا سوى أسبوعين فقط. أسبوعان مرّا أسرع من البرق. 
كان يوم الفراق ثقيلاً أليماً. تركنا الفندق قاصدين محطة السيارات الصغيرة الذاهبة إلى عمان. أخذت الوالدة مكانها في السيارة وبقيتُ واقفاً بإزائها لا أستطيع الكلام. لم تبكِ كما كنتُ أتوقع. يبدو أنَّ ذهولي وما كنت فيه من حالة شرود منعاها من ذلك شَفَقةً بي.
كان كلانا صامتاً فالفراق أليم والمستقبل مجهول وصحة الوالدة في أيدي قَدَرٍ أعمى لا يعرف الرحمة أو تأخير الأجل المرسوم. نعم، جرّبنا الفرقة حين إفترقنا قبل ثلاثة أعوام في مطار بغداد. كانت الوالدة معافاة وقلبها سليم. كانت تودّعني على أرض المطار. أما الآن فأنا الذي يودّع ولكن، على أرض غريبة وبعيدة عن العراق. هل ستتحمل الرحلة البرية الطويلة من بيروت إلى عمّان ومن عمان إلى بغداد ؟ ماذا ستأكل وما ستشرب في الطريق ؟ ماذا لو ماتت في هذا الطريق ؟ أين ستُدفن ومن سيقوم بمراسم الدفن ؟؟ أفكار سود تراكمت وتلاطمت في رأسي في تلكم الدقائق الحرجة والثقيلة التي تسبق لحظة مغادرة السيارة. خنقتني عَبرةٌ بينا كنا صامتين لا يجرؤ أحدنا على النظر في وجه الآخر. أخيراً نطقت الوالدة قائلةً : سنلتقي هنا صيف العام القادم في بيروت. أنعشني هذا القول المفاجيء. أمدّني بالأمل. شعرت براحة كنت بأمس الحاجة إليها. إذن سيكون هذا فراق عام وليس ثلاثة أعوام. جرّبنا وتحمّلنا الغياب الأطول، ولسوف تهون الغيبةُ الأقصر. 
تحركّت السيارة فهطل دمعي كما لم يهطلْ في سابق عمري. توجّهتُ نحو البحر ألتمس الصبر والسلوى. ما كنت أعي ما حولي، لا البشر ولا السيارات ولا حركة بيروت الحيوية. بقيت أمشي أُداري وأمسح الدموع مردداً بعض الأشعار والأغاني الحزينة التي تصف ساعة الفراق ولوعة المتفارقين. عجباً، كيف ينهار الإنسان فجأة تحت وطأة أمر منتظر ومتوقع ! كيف يعجز عن السيطرة على تدفق مشاعره وطوفان دموعه ؟ ولماذا تأتي الدموع عادةً مع ساعة الفراق ومن أين تأتي ؟ يفقد المرء توازنه الشخصي وإتزانه الإجتماعي حين تغلبه قوة إندفاع الدموع. الدموع تعبير عَفوي لا إرادي عن حزن عميق وضعف أو رقّة في تركيب الروح. وقد تأتي مع الفرح (( ومن السرورِ بكاءُ / المتنبي )).
بلغتُ أخيراً مرامي إذ إنتهى بي المشي المضطرب إلى منطقة جامعة بيروت الأمريكية ومبنى السفارة الأمريكية المطلتين على ساحل البحر. جلستُ على الرمل أُراقب حركة أمواج البحر تقترب من الساحل فتختفي لتأتي بعدها أمواجٌ أُخُر. قلت هذه هي الحياة وها هم أولاء أحبابنا، يأتون سريعاً ويختفون سريعاً فعلام العَجَلة ؟! أين الوالدة وقد كنّا معاً قبل أقل من ساعتين من الزمن ؟
تركتُ ساحل البحر وأمواجه التي تعكس سياق دورة الحياة متوجهاً نحو مركز المدينة التي أفرحتني أولاً ثم ظَلَمتني ونكبتني أخيراً. كنتُ مُتعَباً وجائعاً ومهزوماً ثم وحيداً كاليتيم في لبنان. هذا هو العراق قريب مني لكني لا أستطيع أن أدخل حدوده لأرى بقية أهلي. دخلتُ منطقة الحمراء أتمشى على مهل في شوارعها الجميلة فأثارت إنتباهي لوحة على إحدى البنايات دنوت منها فقرأت (( الملحقية الثقافية العراقية )). صدفة نادرة لكنها صدفة حلوة. هنا بعض العراق وهنا شيء من أرض العراق. كان شقيقي الأوسط ( جليل ) قد كتب لي في إحدى رسائله التي سبقت مجيئي إلى بيروت يخبرني أنَّ الملحق الثقافي هو صديقه ( مصطفى لطفي عبد الجبار ) الذي كان يوماً مدرِّساً في ثانوية الحلة للبنين. كان واحداً من كثير من المدرسين الذين يأتون بيتنا ضيوفاً.كان هذا شأن ودأب  أخي في تكريم وإستضافة المدرسين القادمين إلى الحلة من مدن عراقية أخرى.كان يقول إنهم هنا غرباء وإنهم بحاجة إلى أجواء حميمة تذكّرهم بعوائلهم.كان أخي يومها موظفاً في الثانوية بدرجة ملاحظ.لم أترددْ ولم أُفكّر في الأمر طويلاً. دخلت العمارة ثم صعدتُ إلى الطابق الأول. ضربتُ جرساً ودخلتُ أسأل أحد الموظفين عن السيد الملحق الثقافي. قادني الرجلُ إليه فكانت مفاجأة لكلينا كبيرة. وكان لقاءً ودياً حارّاً. ما كان يتوقع زيارتي وما كان يعرف أني أدرس في جامعة موسكو. رأيت مكتبه الواسع مليئاً بالضيوف. وجبة تخرج وأخرى تأتي. كنتُ جالساً على كرسي قريب منه فأسرَّ إليَّ إنه طلب من وزارة التربية نقله إلى بغداد. قال إنَّ كثرة زوار بيروت وكثرة الضيوف من الأصدقاء والأقارب والمعارف تُثقِل كاهله وتزيد من متاعبه المالية. شعرت بالحرج وأردت أن أقوم مودعاً لكنه، وقد أدرك خطأه ( التاكتيكي )، بادر إلى القول ستكونُ معنا هذا اليوم على الغداء. قالها لكأنما أراد أن يقول إنَّ لكم في عُنُقي ديناً وها إني أرد بعضه في بيروت. 
حين إنتهى دوام الملحقية أخذني ومجموعة أخرى من الضيوف بسيارته الأمريكية الصنع إلى بيته. بعد تناول طعام الغداء رجاني أن أحمل معي رسالةً منه إلى السفير العراقي في موسكو الدكتور محمد الناصر. كنتُ في العهد الملكي أحد طلاّب الدكتور الناصر في دار المعلمين العالية. ثم أصبح بعد ثورة تموز 1958 عميداً لهذه الكلية لفترة قصيرة. ثم كان عام 1961 نقيباً للمعلمين. ولهذه الأسباب مجتمعة وافقت. وافقت أن أحمل الرسالة إلى السفير رغم حذري الشديد. فلقد كانت السفارة في موسكو ونظام الحكم في بغداد ( صيف 1965 ) في وادٍ والطلبة العراقيون في وادٍ آخر.لم أسأل بالطبع عن مضمون الرسالة المغلقة، لكني عرفتُ بعد مقابلتي للسفير في مكتبه في السفارة أنَّ الرسالة تخص وضع كريمته  الدراسي في الجامعة الأمريكية في بيروت ( مختصرها بالإنجليزية A.U.B  ) أي
                      American University of Bierut  
كانت تعاني من صعوبات مع إدارة الجامعة عزاها السفير إلى نشاطها السياسي.
بعد أن غادرتْ الوالدة غدتْ بيروت بجمالها وجبالها وملاهيها وأسواقها العامرة جحيماً لا يُطاق. فلا الجبل ألهاني ولا رفقة بعض الأصدقاء. زاد من بلواي أني أُصبِتُ بنوع من الحساسية في صدري غريب. كنتُ أسعل بقوة مع كل شهيق وزفير. في هذه الأجواء القاتمة والمؤلمة جسداً وروحاً وجدت طريقي إلى مطعم يحمل إسم فلسطين. ( فلسطين ) عام 1948 حيث قاتل أخي الأكبر في الفوج الأول من اللواء الأول تحت قيادة عبد الكريم قاسم. ثم مجيء موجات اللاجئين الفلسطينيين إلى العراق حيث درّسني اللغة العربية عام 1949 ـ 1950 الأستاذ الفلسطيني ( محمد سليم رشدان ). كان هذا الإنسان الرائع يشكو من سلوك مدير مدرستنا مر الشكوى وما كنا نعرف السبب. ما أنْ إنتهى العام الدراسي حتى أنهى عقده وترك العراق في مغامرة مجهولة وهو يردد أشعاراً للمتنبي :

منْ يهنْ يَسهُلِ الهوانُ عليهِ
ما  لجُرحٍ    بميّتٍ   إيلامُ  

واحتمالُ الأذى ورؤيةُ جانيهِ 
غذاءٌ  تضوى  به   الأجسامُ 

ذلَّ  مَن يغبطَ الذليلَ  بعيشٍ
رُبَّ عيشٍ أخفُّ منه الحِمامُ 

لقد دأب هذا الرجل الرائع على كتابة بعض هذه الأبيات على السبورة كلما دخل حصة اللغة العربية. 
حين كنت أرتاد المطعم أرى مأساة فلسطين مثل بانوراما تتجسد فيها أمامي كافة فصولها وأبعادها. أرى فيها شيئاً من محنتي في الوحدة والتغرب. أرى أخي المقاتل. أرى المربي الفلسطيني الفاضل وأكاد أرى دماء عبد الكريم قاسم تصبغ جدران مطعم فلسطين.كان عبد الكريم قاسم قد أسس نواة جيش تحرير فلسطين بُعيد ثورة تموز 1958 وعهد إلى أخي إياه قيادة وتدريب هذه النواة. قتل قاسم البعثيون والقوميون في شباط 1963 بدعوى إنه رجل ( شعوبي ) غير قومي وغير وحدوي. 
ما كنتُ أرتاد إلاّ هذا المطعم. كنت أجد فيه بعض التعزية ونوعاً من السلوى، بل وشيئاً من النشوة الصوفية الغريبة. هنا في هذا المكان أرى عام النكبة. وهنا يتراءى لي أخي و عبد الكريم قاسم وأستاذي الفاضل محمد سليم رشدان. وفيه أسمع قصيدة ( أخي جاوز الظالمون المدى ) بصوت محمد عبد الوهاب. وأقرأ القصيدة الأخرى ( يثربٌ والقدسُ منذ احتلما / كعبتانا وهوى العُربِ هوانا ). ثم صوت فيروز تغني ( أجراسُ العودةِ فلتُقرَعْ ). 
أصبحتُ وقد تعكّرت الأجواء من حولي وفي داخلي أتعجّل موعد مغادرتي بيروت. سيكون وضعي في موسكو أفضل بكل تأكيد. سأجد في موسكو أشياء كثيرة تُلهيني وتنسيني محنتي بوالدتي والأفكار السود التي جعلت الحياة تظّلم في عيني ( وما اسوّدت الدنيا بعيني لضيقها / ولكنَّ طَرَفاً لا أراكِ به أعمى ـ للمتنبي ). نعم، سأستأنف في موسكو أبحاثي، وسأرى الأصدقاء والصديقات الذين فارقت. ستكون ( سونيا ) في إستقبالي على أرض المطار حاملةً بيدها بعض الزهور. ستفرح بما حملت إليها من هدايا. سأزور معلّمة الرقص السيدة نزاروفا. سأزورها في بيتها لأقصَّ عليها أخبار والدتي وأصف لها مدينة بيروت. سأحمل إلى الباحثة العلمية ( أفدونينا ) صندوق اللُبان الذي طلبتْ ماركة السهم Arrow . غدت الأيام ثقيلةً لا أدري كيف أقضيها. فقدت طعمها السابق فصرتُ أعد الساعات. أكثرت من زيارة ساحل البحر ورأس بيروت ومنطقة الحمراء. كما زهدتُ بالجبل ومصايفه الشهيرة المطِلّة على بيروت والبحر. غدا مذاق بيروت في فمي كالتراب. تجمّدت حركتها وحيويتها وأصبح كل شيء فيها خشباً لا روحَ فيه. 
هكذا تقضّت أيام الأسبوع الأول من شهر آب 1965 منتظراً نهايته لأعودَ إلى موسكو التي أحببت رغم ما لاقيت من محن في باديء أمري معها وفيها. إمتدت لي فيها جذور وأصبح لي فيها تأريخ وحققت في دراستي نجاحات أفخر بها وأعتز. ما قيمة بيروت دون والدتي وباقي أهلي ؟ ما قيمة بيروت دون دراسة وبحث وهدف ؟ لا شيء. أنفق في هذه المدينة ما حملت لي أمي من نقود. أما في موسكو فإني أنفق من مخصصات مجزية أستلمها في نهاية كل شهر. ثم لديَّ في موسكو غرفة محترمة معها حمّام مزوّد بالماء الحار والبارد صيفاً وشتاءً. هكذا تأهبت روحاً وجسداً لفراق بيروت والعودة ثانية لموسكو الدفء والشمس صيفاً والثلوج شتاءً. 
حان يوم الرحيل. نهضت مبكّراً، حزمت حقائبي وإتجهت إلى ميناء بيروت الذي ما كان بعيداً عن فندق إقامتي.
في رحلتها البحرية إلى ميناء ( أوديسا ) السوفياتي تمر الباخرة بالمدن والموانيء ذاتها ولكن في الإتجاه المعاكس : من بيروت إلى الإسكندرية فقبرص ثم ميناء بيريه اليوناني وبعدها تأتي إصطنبول التركية ثم فارنا البلغارية يليها ميناء كونستانسا الروماني وأخيراُ تُلقي السفينة مراسيها في أوديسا ومنها إلى موسكو بالطائرة.

عن دار الكتاب... مكتبة كل - شيء في حيفا: للقدس العشر المبشرات

صدر عن دار الكتاب، مكتبة كلّ – شيء في حيفا لصاحبها ومؤسسها الأستاذ صالح عبّاسي، ديوان الشّاعر رشدي الماضي: للقدس العشر مبشّرات وفدوى...
يضمّ الديوان عشر قصائد خصّصت لمدينة القدس ومنها: القدس ذاهبة الى البقاء... كلّ الجنان بلا القدس خواء... القدس سلّم الى الله وطريق... تينة القدس ثدي يُرضع الحجر...
وقد خصّ الباحث والنّاقد الكبير الدكتور فيصل درّاج الديوان بتطهير جاء فيه: تبدو قصائد رشدي الماضي مجالا للبوح والحنين ورسالة تواجه وتحرّض... ومساحة للتحريض تضع الفلسطيني في القدس وهو غائب عنها... هذا ما يقوله رشدي الماضي عن "حقيقة الهيّة"!!! هذا ما شاء أن يكتب عنه وهو "يُشْعل النّار في صمت القصيدة"...وقد أفاد الأستاذ صالح عبّاسي ناشر الديوان، أنّه سيتم عرضه في معرض عمّان الدولي للكتاب وفي معرض الشّارقة الدولي اللذين سيقامان خلال شهري أيلول وتشرين الأول من هذا العام...
ومن الجدير ذكره أنّ صدور الديوان بهذه الحلّة القشيبة والجميلة نعومة وفنيّة هو من عمل الفنان شربل الياس صاحب التّجرية الثّرّة والثّريّة في هذا المجال...

الروائي الكويتي وشيخ الرواية اسماعيل فهد اسماعيل يغادر الحياة

كتب: شاكر فريد حسن ـ
غادرنا في رحلته الأبدية الروائي الكويتي المبدع اسماعيل فهد اسماعيل، الذي غيبه الموت بشكل مفاجىء، بعد رحلة حياة وعطاء ممتدة زاخرة وحافلة بالابداع والتألق والتميز، تاركًا وراءه ارثًا روائيًا وأدبيًا خالدًا.
وتشكل وفاته خسارة فادحة وضربة جسيمة للفن الروائي في الكويت والوطن العربي.
يعد اسماعيل فهد اسماعيل من جيل الرواد الكبار، والأب الروحي للرواية الكويتية، ومن مؤسسيها وواضعي الحجر الأساس، الذي ترعرعنا على قراءة قصصه ورواياته، التي وصلتنا وتم اعادة طباعتها هنا، والذي أثرى المكتبة الكويتية والعربية بأعمال مميزة ذات بناء فني معاصر ومحكم. ويمثل احدى العلامات الروائية الابداعية البارزة المحسوبة في سماء فن الرواية.
ولد اسماعيل فهد اسماعيل بمدينة البصرة العراقية سنة ١٩٤٠، تلقى دراسته في الكويت والعراق، ونال شهادة البكالوريوس في الأدب والنقد من المعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت.
بدأ مشواره بكتابة القصة القصيرة، ونشر كتاباته في مجلة " الرائد " الكويتية العام ١٩٦٣، وجمعها فيما بعد بكتاب حمل اسم " البقعة الداكنة "، صدر عن مكتبة النهضة في بغداد، ثم توالت رواياته بالصدور، وانتج كاكثر من خمس وعشرين رواية، منها: " كانت السماء زرقاء، المستنقعات الضوئية، الحبل، الضفاف الاخرى، الشياح، خطوة في الحلم، النيل يجري شمالًا، ملف الحادثة، سماء نائية، في حضرة العنقاء والخل الوفي، طيور التاجي وغيرها.
وتتناول رواياته قضايا اجتماعية وسياسية مسحوبة من الواقع المعيش والحياة الشعبية العامة، وأبطالها هم من الناس بتشكيلاتهم الطبقية المختلفة.
وهو يدهشنا باسلوبه القصصي والروائي المشوق، ولغته الجميلة الشفافة اللافتة وحواراته وسرده الممتع.
نال العديد من الجوانز التقديرية منها جائزة الدولة التشجيعية في مجال الرواية عام ١٩٨٩، وجانزة الدولة التشجيعية في مجال الدراسات النقدية عام ٢٠٠٢.
برحيل اسماعيل فهد اسماعيل يفقد الكويت والعالم العربي شخصية ثقافية فذة، وقامة وقيمة أدبية كبيرة في عطائها وعمقها الشعبي، وانسانية في حبها للناس وتعاملها وتواضعها الجم.
اسماعيل فهد اسماعيل، رحمة الله عليك، وسلامًا لروحك الطاهرة.

الشاعر رشدي الماضي للجاليات العربيّة: أنتم لي في الغربة دار


أكمل الشاعر رشدي الماضي، قبل عودته الى البلاد، جولة ثقافية في أوروبا وكندا، شارك خلالها الجاليات العربية في أمسيات أدبيّة أقامتها الجمعيات والمؤسسات الفاعلة هناك...
هذا، وأفاد الماضي، أنَّه استهلّ نشاطه في العاصمة الهولندية أمستردام، حيث التقى الناشطة الثقافيّة السيدة مارتينا بيكر، التي استضافته في صالونها الأدبي في أمسية خاصة شارك فيها عدد من المثقفين العرب والأجانب عَشَّاقي اللغة العربيّة وآدابها...
حيث تمحور الحديث عن ديوان الشاعر الماضي – القدس العشر المبشّرات... وفدوى – الذي أصدرته دار الكتاب – كل شيء – لصاحبها ومؤسسها خلّ الكتاب الوفيّ الأستاذ صالح عبّاسي...
والذي بدأه الماضي بالحديث عن المدينة في شعره، من خلال مقارنة قصيرة حملت عنوان... مدينتي قصيدتي.. أشعر أنّني أحبّك!!!... تناول فيها قصائده عن حيفا، عكا، يافا والقدس...
ثم أجاب خلال وصلة حوار مع جمهور الحاضرين عن أسئلتهم وكان مسك الختام قيام الماضي بقراءّة باقة من قصائده خصّص خلالها قصيدة لكل مدينة على حدة.. ثمّ باح للحضور أنّ علاقته بالناشطة المضيفة تعود الى الزمن الجميل قبل سنوات طويلة حين زارت حيفا والتقت مع عدد من محاضري قسم اللغة العربية في جامعة حيفا ومع نخبة من النشاء العرب منهم: الأب إبراهيم داود والصديق المرحوم منير أيوب – خال القائد السياسي البارز الرفيق رجا زعاترة – والفنان المربي المرحوم مسلّم حمام...
أما محطته الثانية فكانت للعاصمة الإيطالية روما، والتي اجتمع فيها الى مندوبين عن أكاديمية فديريكو الثاني للشعر ومقرّها مدينة نابولي والتي منحته في مهرجان شعري خاص شهادة – شاعر الإنسانية – بالتعاون مع جمعية – الزيتونة – التي أسّسها ويفعّلها الشاعر الفلسطيني المغترب، ابن أم الفحم البار الدكتور صلاح محاميد...
وبعد مغادرته روما توجّه الشاعر الماضي الى كندا ومدينة مسيساغا وشقيقتها تورنتو... وحلّ ضيفا على أصدقائه رجال الإعلام... الفنان المسرحي محمد هارون، صاحب صحيفة – ساخر سبيل – والأستاذ جمال القريوطي صاحب صحيفة – الوطن – والدكتور نزيه خطاطبة، صاحب صحيفة – مشوار... فقام بزيارة وديّة لمكاتب كل صحيفة على حِدة معربا عن شكره العميق لقيامهم بنشر قصائده ومقالاته التي تصلهم في كل عدد مما أتاح له الفرصة للوصول الى القراء العرب هناك...
هذا ودعا الفنان المسرحي والإعلامي محمد هارون الشّاعر الماضي ليشارك في حفل اختتام الورشة المسرحيّة لفرقة تياترو الكندية، والتي أشرف عليها تطوعا، هو والمسرحي المتميّز الدكتور جورج وديع ابن أرض الكنانة، وشارك فيها عدد من الشابات والشباب العرب في المدينة...
وفي كلمته أبرز الماضي أهمية المسرح كفعل تحرري إنساني يُخرج صاحبه من الاستلاب الفكري، حيث يساهم في تحرير عقله من ذهنيّة التابع والمتبوع في أفكاره... خاصة إذا تضمّن لغة جديدة من خلال ما يُعرف بمسرح الدّهشة...
أما مسك ختام زيارته، فجعلها الشّاعر الماضي أمسية خاصة أقامها في – البيت الفلسطيني – هناك حيث حلّ ضيفا على أسرته وقام بتنظيم الأمسية مديرها التنفيذي الدكتور محمود جاسر (أبو ليلى)... افتتحها بقصيدة أهداها للبيت، بعنوان:
"أنتَ لي في المنفى دار... ثمّ قام الفنان الدكتور رضوان طالب، بقراءة فنيّة لقصيدتيه – لحيفا أغنّي – وبوح طفل في المخيم... مطعّما قراءته بعزفه على العود... حيث قام الماضي بعد ذلك بتقديم مداخلة عن موضوع: المدينة في القصيدة العربية والفلسطينية... أعقبها حوار حول الموضوع، ثم قرأ عددا من قصائده من ديوانيه: مفاتيح ومنازل الكلمات – وعتبات لعودة زمن الخروج...
وقام عريف الأمسية الفنان محمد هارون باختتامها بقراءة الفقرة الأخيرة من قصيدة "أنتَ لي في المنفى دار:
... ألقيني... لأعلى ألِفَيْكَ... أتلقّفُ التَّائهَ من مطر... وأقول بعد قليلين:
كُن على البيت بردا... وعلى فلسطين... على فلسطين السّلام...  
................................................................................................................
يرسل للنشر: من قبل الشاعر والإعلامي حاتم جوعيه  - المغار - الجليل -  فلسطين 


العميد الركن بدوي مرعب يوقع كتابه: جبل المكمل بين الطوبوغرافيا والطبيعة




وقّع العميد الركن بدوي مرعب كتابه الرابع "جبل المكمل بين الطوبوغرافيا والطبيعة" برعاية بلدية زغرتا-اهدن في مبنى الكبرى الاثري في اهدن، بحضور قائد الجيش العماد جوزاف عون ممثّلاً بالعميد الركن يعقوب معوض، رئيس تيّار المرده سليمان فرنجية ممثلاً بالسيدة ماريا يمّين، النائب اسطفان الدويهي، وزير الأشغال يوسف فنيانوس ممثّلاً بالسيد طوني فرنجية، الوزير بيار رفّول ممثلاً بالسيد بول مكاري، مدير المخابرات ممثلاً بالعقيد جاك فنيانوس، رئيس بلدية زغرتا اهدن الدكتور سيزار باسيم، النائب السابق قيصر معوّض، السادة يوسف بهاء الدويهي، سركيس بهاء الدويهي وزياد المكاري ، رئيسة مؤسسة يوسف بك كرم الانسة ريتا كرم، السيدة مارينا سليم كرم، ضباط من الجيش وقوى الامن الداخلي، رؤساء بلديات، مخاتير، اعلاميين، بيئيين وشخصيات اجتماعية.

بعد النشيد الوطني اللبناني، استهلت الكلام الإعلامية باسكال فرنجية التي قالت "هو كتاب فريد من نوعه من حيث المضمون، لأنه يبرز جمال جبالنا وأوديتنا ويعرف القارئ بلغة سهلة ورسوم واضحة وخرائط مبسطة على المعالم الطبيعية لجبل المكمل ومحيطه، واستعمل المؤلّف العلوم العسكرية لغايات مدنية، إذ أن قراءة الخرائط العسكرية للجرود وفق الأسلوب العسكري لضابط متمرّس في علم المدفعية وقراءة الخرائط، ترجمت بوضوح في الكتاب، من خلال إظهار معالم الجبل الطبيعية، ولعله كتاب دليل لرواد السياحة البيئية، وهواة السير في الجبال لاكتشاف جمالها وسحرها".

وقال نائب رئيس بلدية زغرتا اهدن المهندس غسّان طيّون انّ "أهمية هذا الكتاب ومحتواه تتركز في عدة نواح أو محاور منها التقني ومنها ما يمكن البناء عليه للإجابة على تساؤلات متعلقة بالحيّز الجغرافي نفسه، وتملكّه بالممارسة من قبل الإنسان، كما بأهمية تكوينه السطحي ومدلولات هذه "الجيومورفولوجيا".

وشدد طيون على "توظيف هذا العمل الهاٮٔل كمّاً ونوعاً في تنمية منطقتنا والإنسان؟ أوّلاً عبر ربط المسالك بدرب الجبل اللبناني، والحرص على ممارسة مسؤولة للسياحة في الجبال. ثمّ الاستفادة من البعد العلمي للكتاب للعبور نحو ثقافة من نوع آخر تتعاطى مع الحيّز الجغرافي ومخزونه بما يضمن استدامة دوره المادي واللامادي. واعتماد التسميات ذات الهوية لأنها شاعرية ويسهل حفظها في الذاكرة الفردية والجماعية ﮲ڡتساعد في وضع خطط للطوارئ. واخيراً كم نحن بحاجة الْيوم للغة مشتركة وفهم واحد للحيّز الجغرافي وأهميته التاريخية بالإستناد الى الموضوعية والعقلانية مع الحفاظ على التعلق العاطفي بالمكان".

ورأى انّ "كتاب الجنرال  بدوي مرعب يُؤْمِن القاعدة الصلبة لهذا ا﮲لفهم المشترك لتراث بات مهدداً ڡعسى ان نتمكن من حمايته دون تتحيف".

وختم"تبنى مجلس بلدية زغرتا اهدن ٢٠١٩ سنة للتراث على غرار سنة صليبا الدويهي ﮲ڡلنعمل معاً على تظهير إرثنا الطبيعي والجيولوجي وحمايته عبر احيائه بمسؤولية".

العميد الركن بدوي مرعب

وفي كلمة  المؤلّف العميد الركن بدوي مرعب أوضح انّ الجزء الأوّل من الكتاب "يشرح بأسلوب  عسكري علمي عن ربط رؤوس القمم والأودية، لأقضيةبشري – الضنية – زغرتا – الكورة – البترون، التي تبلغ مساحتها تقريباً 1160 كلم مربع. بغض النظر عن حدودها الإدارية انطلاقًا من قمم جبل المكمل وبالتحديد الزنانير (3073 م) أي أقل بــ 14 متر من قرنة السودا (3087 م) لأنها هي المحور بعملية ربط القمم. واظهرت حدود جبل المكمل وقمم- أودية-أنهر- ينابيع- خسفات مناطق أقضية بشري – المنية/الضنية – زغرتا بخرائط، لأن رحلات السير التي مشيتها موجودة ضمنها". 

وأضاء المؤلف في الجزء الثاني  على 13 مسلك شارحاً  أبرز معالمها الطبيعية والجغرافية ودالاً عليها، بصوَر التقطها بنفسه،مرفقا الكتاب بجداول تشير الى مواقع الينابيع والقمم والأودية وبعض المغاور ونقاط المسالك وخرائط مفصلة عن المسالك والمناطق بعد تقسيمها ، مع CD  صور لمناطق الجرود مع تسمياتها.

كما اقترح  العميد الركن على  بلدية زغرتا اهدن  أخذ المبادرة والقيام بحملة لإعادة تأريف طرقات الإجر في الجرود او السلّان باللغة العسكرية من جديد، لأنّ قسماً كبيراً منها اختفى" خاتماً كلامه "هدفي الإضاءة على الجرود التي هي صحيح  من حجر وتراب ولكن فيها روح وتاريخ، وعند قراءتي تسميات الخريطة وشرح معانيها شعرت كأني أقرا كتاب تاريخ السكان الذين ترددوا عليها.

ثمّ قدّم المؤلف نسخة من كتابه لرئيس بلدية زغرتا اهدن الدكتور باسيم عربون شكر لرعايته اطلاق الكتاب ونسخة للسيد انطونيو يمين عربون شكر لدعم طباعة الكتاب، وقدمت ابنتاه نايله وماريا له الزهر ووقّع كتابه للحضور وبجانبه مجموعة كبيرة من  حجارة جبل المكمل جمعها العميد الركن  خلال رحلاته في جبل المكمل وهي وتدلّ عن تكوينه، وشرب الجميع  نخب المناسبة.

جمعية محترف راشيا لبنان تُطلق معرض النحت الدائم للفنان القدير عادل صالحة في رأس المتن

جمعية محترف راشيا لبنان تُطلق معرض النحت الدائم للفنان القدير عادل صالحة في رأس المتن لبنان ورئيس الجمعية شوقي دلال يشيد بهذا الجهد الفني الكبير ويتمنى على وزارة السياحة إدراجه على الخريطة السياحية

أطلق رئيس "جمعية محترف راشيا" شوقي دلال متحف النحت للفنان عادل صالحة في بلدته رأس المتن وقال دلال في المناسبة:

تَشرّفت اليوم بوجودي في منزل الفن والجمال وتسليمي كُتَيب يجمع فيه عدد من منحوتات الفنان القدير الاخ عادل صالحة التي نَفذها بنفسه وتم وضعها على جدران وقاعات هذا الصرح الفني في رأس المتن ليتحول هذا المنزل الى متحف لهذا الفن الجميل والذي يستحق كل تقدير، 

فالفنان نَحَت عشرات القطع الفنية المستوحاة من تاريخنا وتراثنا ومن الطبيعة اللبنانية ووضعها مع حجارة جدران المنزل مما حَوَّل المنزل إلى مكان فني جميل على غرار قصر موسى في بيت التدين وبشكل أهم لأن الفنان صالحة نحتها بالحجر وليس باللإسمنت مما جعل من هذا المنزل مكان يمكننا جميعاً زيارته والتمتع بجماليات منحوتاته وأتمنى على وزارة السياحة إدراجه ضمن المواقع السياحية التي تستحق العناية

وأضاف دلال "من "جمعية محترف راشيا" نوجه تحية لفناننا القدير عادل صالحة على هذا الجهد الفني الجميل ونشجع الجميع زيارة هذا الصرح الفني في بلدة الجمال رأس المتن

في الصورة: شوقي دلال يتسلم كُتَيب متحف النحت من الفنان عادل صالحة

الومضةُ الشعريّة وسماتها : ما الفرق بين الومضة ، والتوقيعة؟

 دراسة من اعداد الدكتور حسين كياني والدكتور سيد فضل الله مير قادري ( إيران )
  
الملخّص
(التوقيعة - الومضة الشعريّة ) لحظة أو مشهدٌ أو موقفٌ أو إحساس شعريّ خاطف يمّر في المخيلة أو الذّهن يصوغُهُ الشاعرُ بألفاظٍ قليلةٍ. وهي وسيلة من وسائل التجديد الشعري، أو شكل من أشكال الحداثة التي تحاول مجاراة العصر الحديث، معبرة عن هموم الشاعر وآلامه، مناسبة في شكلها مع مبدأ الاقتصاد الذي يحكم حياة العصر المعاصر. راجت الومضة في السبعينات من القرن العشرين وباتت تستقلّ بنفسها حتّي أصبحت شكلاً شعريّاً خاصّاً. من أهم العوامل التي لعبت دوراً هاماً في نشأتها هي التحول الفكريّ والفنيّ ومتطلبات الحياة الجديدة والمؤثرات الأجنبية. ( وقد كان لعزالدين المناصرة،  قصب السبق في تأسيس هذا النمط الشعريّ؛  ومن روّادها بعده، أحمد مطر، مظفر النواب، تتسم (الومضة) بالسمات العامّة للقصيدة الحديثة، منها: التفرد والخصوصية، التركيب، الوحدة العضوية، والإيحاء وعدم المباشرة وتنفرد بالاقتصاد في الايقاع والصورة واللغة والفكرة. تحاول هذه المقالة بعد التعريف بالومضة وما شابهها وتاريخ نشأتها وعوامل وسمات وروّادها أن تثبت أنّ الومضة الشعرية وإن تأثرت بمؤثرات في الأدب الأوروبي ولكن ليست نسخة من الشعر الياباني أو الإنجليزي بل هي إحياء أو إعادة صياغة لما نعرفه في الشعر العربي القديم من المقطعات وامتزجت فيها الخصائص التراثية والعالمية. 
الكلمات الأساسية: الومضة، التوقيعة، عزالدين المناصرة ،  اللمحة ، الحداثة الشعرية . 

مقدّمة
شهد الأدب العربي المعاصر التحوّلات الثلاث في طريقه إلى التطوّر والحداثة. التحوّل الأوّل في الانتقال من الضّعف والرّكود إلى القوّة والحركة بخاصّة مع محمود سامي البارودي. الثاني مع خليل مطران ؛ الذي فتحَ بابَ الشعر العربي على مصراعيه على الغرب ولا سيما الغرب الفرنسيّ. وكان التحوّل الشعريّ الثالث في الانتقال مِن بلاغة الشعر وتنميقه وبرج عاجيته إلى الاهتمام بالحياة والشعب وهذا كان في كثير من (شعر المهجر وشعر جماعة أبولو) . وفي هذه المرحلة وبعدها «برزت الأوزان الخفيفة والإيقاعات السريعة والتناوب الايقاعي وترديداته كما برزت الايقاعات الغنائية السريعة الصافية فأفادَالشعراء مِن هندسة الموشّح وهيمنة الرّباعيات والمزدوجات والنّظام المقطعي هيمنة طاغية»(1). 
إنّ ما شهدهُ القرنُ العشرون مِن تسارع في حركة تطوّر الشعر وتجديده، يتوافق وحركةَ التغيير المتسارعة التي هزّت العالم خلالَ هذا القرن وفي هذا المجال يقول يوسف الخال: «نحنُ نجدّد في الشعر، لا لأنّنا قرّرنا أن نجدّد، نحنُ نجدّد لأنَّ الحياةَ بدأت تتجدّد فينا، أو قُل تجدّدنا، فنجاحنا مؤكد ولا حاجة لنا بأي صراعٍ معَ القديم. القافية التقليدية ماتت على صخَبِ الحياة وضَجيجها والوزنُ الخليلي الرتيب ماتَ بفعلِ تشابك حياتنا وتغير سيرها. وكما أبدعَ الشاعرُ الجاهلي شكله الشعريّ للتعيير عن حياته، علينا نحنُ كذلك أن نبدع شكلنا الشعريّ للتعبير عن حياتنا التي تختلفُ عن حياته»(2).
لعبت القصائد الطويلة دوراً في ابتعاد الجمهور عن الشعر، وجاءت قصيدة الومضة لتعيد هذا الجمهور اللذين تعبوا من الإسهاب والسرد الخطابي واللذين لم يعد لديهم من الوقت ما يكفي لقراءة الأشعار الطويلة المملة إلى هذا الفن الجديد. ونحنُ في هذا البحث أمام شكلِ شعريّ المسمي بـ«الومضة» وأسئلةٍ نبحثُ عن أجوبتها بالتحليل والتمحيص وهي: 
- ما الومضة الشعريّة وما هو تاريخ نشأتها؟ 
- ما عوامل نشأتها وسماتها وروّادها؟ 
- هل الومضة نسخة من الشعر الياباني «الهايكو» والشعر الإنجِليزي القصير؟ 
وهنا تجدر الإشارة إلى أن موضوع الومضة الشعرية من الموضوعات الجديدة في الشعر العربي المعاصر التي تطرق إليها عدد من الباحثين وبينوا جوانب خفية منها وأهمّ هذه الدّراسات هي: 
1. «النثيرة والقصيدة المضادّة»، لمحمّد ياسر شرف (1981)، النادي الأدبي، رياض. وهو يدرس الومضة الشعريّة تحتَ مصطلح «النثيرة». يبدو أنّه هو من الأوائل الذين قاموا بمحاولات التنظير لفن الومضة الشعرية 
2. «بنية القصيدة في شعر أدونيس»، عليّ الشرع (1987) اتّحاد الكتاب العرب، دمشق. هو يدرس فيه الومضة الشعرية تحت مصطلح «القصيدة القصيرة» ويحاول أن يكون في نقده تطبيقياً إضافة إلى محاولته التنظير لهذا الجنس الأدبي الجديد. 
3. «الحداثة الشعريّة وفنّ الومضة»، «مدخلٌ إلى دراسة الومضة الشعريّة»، «قصيدة الومضة وإشكالية الشكل»، مقالات لمحمّد غازي التدمري طبعت الأولى (1991) في العدد 8590 والثانية (1992) في العدد 8768 من صحيفة البعث والثالثة (1993) طبعت في مجلة المعرفة العدد 354 في سورية. 
4. مقالة «بعض من ملامح "قصيدة الومضة"» لنسرين بدور جريدة الاسبوع الأدبي، السورية، العدد 84 تاريخ 14/9/2002. 
يبدو أنّ لمجلات اتحاد الكتاب العرب في سوريا دوراً ريادياً في دراسة الومضة الشعرية في الأدب العربي الحديث. وهذا، الكتب التي اهتمت بدراسة الشعر العربي المعاصر تطرق أصحابها بدراستها؛ نحو: كتاب «إشكاليات قصيدة النثر» لعزالدين المناصرة ،  وكتاب «بنية القصيدة القصيرة في شعر أدونيس» لعزالدين اسماعيل، تطرق الأخير بمقابلة القصيدة القصيرة بالقصيدة الطويلة في الفصل الذي أقامه بعنوان «معمارية الشعر المعاصر». اعتمد هذا البحث على المنهج المتكامل الذي لا يكتفي بمنهج واحد ويستند إلى المناهج المتعددة مع التركيز على المنهج الأساس. والنهج الأساس في هذا البحث هو المنهج الوصفي التحليلي. 
ما الومضة؟ الومضة لغةً من «وَمضَ» وومضَ البرقُ: لمع خفيفاً، وأومَضَتِ المرأةُ: سارقتِ النّظر، وأومضَ فلانٌ: أشار إشارة خفية. وفي هذا المعنى شيءٌ مِن اللّمعان والتلالُؤ والتألُق والإشراق والتوهُّج وفيه شيءٌ من الإدهاش والتشويق وفيه شيءٌ آخر من الشفافية والغموض الآسر وعدم الايضاح لكلّ شيءٍ. وفيه شيءٌ آخر مِن التكثيف والاختزال والاقتصاد اللّغويّ. وقد قيل: «البلاغة هي الايجاز» كما قيل «خير الكلام ما قلَّ ودلَّ». «ويتداخلُ مع معنى الومضة، البرقية ولذلك يقال: «القصيدة البرقية، القصيدة الومضة وهي قصيدة مكثفة ومختزلة جدّاً».(3) 
إذن فهي نصٌّ أشبه ما يكون ببرقٍ خاطفٍ يتسم بعفوية وبساطة تمكنه من النفاذ إلى الذاكرة للبقاء فيها معتمداً على تركيزٍ عالٍ وكثافة شديدة مردّها انطباع كامل واحد مستخلص من حالة شعورية أو تأملية أو معرفية عميقة إذن فهي تتوفّرُ على التركيز والغني الواضح بالايحاءات والرّموز وتدفقُ رقراق وانسياب عضوي بديع لوعي شعريّ عميق. فالشكل نصٌّ مختصرٌ مختزلٌ بأعلى قدرة للاختزال. يعرفها (عزالدين المناصرة ) لعل أول خطوة في رسم مثل هذه الصورة، هي أن يجمع الشاعر بين المعنى الحسي، والمعنى الذهني في لمحة واحدة، فتشتمل الصور حينئذٍ على العمق والسطح معاً. المفهوم والإدراك الحسي للمفهوم على التجربة وخلاصة التجربة.(5) «... هناك الكثير مِن النصوص التي يطلقُ عليها أصحابُها اسم الومضة وهي لا تتناسَبُ مع تحديد الومضة واسمها فهي لا تشكلُ بَرقاً خاطفاً ولا تتميزُ بالاختزال وإنّما تكونُ أطول ممّا ينبغي للومضة أن تكون عليه بل هي أقربُ ما تكون للقصيدة القصيرة.» إنّ الومضة والقصيدة القصيرة تشتركان في أنّهما مقطوعتان شعريتان تعتمدان على أقلّ ما يمكن من الملفوظية وفي العاطفة والموقف الشعري ويسعيان إلى التكثيف والاختزال. الومضة الشعرية والقصيدة القصيرة تختلفان في الفكرة والشكل واللغة. أما الفكرة فالفكرة الشعرية مسيطرة على الومضة وتحقق الدهشة والكثافة الشعرية. أما القصيدة القصيرة فتقع تحت هيمنة السرد النثري ويغيب مفهوم الكثافة فيها. شكل الومضة وتوزيع النص وعلامات الترقيم فيها إحدى سماتها الأساسية وهي توحي بمعان وإيحاءات جديدة بيد أنّ القصيدة القصيرة لا يوحي الشكل فيها بمعان جديدة. الفارق الرئيسي بين الومضة والقصيدة القصيرة هو اللغة الموظّفة. «تشكل اللغة لدى شعراء الومضة هاجساً مقلقاً، يسعون من خلاله إلى تآلف بنية التركيب اللغوي، مع مستوى العلاقة الدلالية والإشارات الملفوظية التي تومض داخل النص من خلال النظام الإيقاعي الموسيقي المتجانس، المتداخل في علاقات الكلمات بأفعالها وأسمائها وحروفها ولواصقها ولواحقها في بنية النص الداخلية، باعتبارها ظاهرة تسعى إلى إثارة المتلقي في زاوية التأزّم والانفراج، بقصد الإدهاش... فالمفارقة... فالايماض... فالاهتمام... فالتوقيع»(6). 
يقال أيضاً: «الومضة الشعريّة لحظة أو مشهدٌ أو موقفٌ أو إحساس شعريّ خاطف يمّر في المخيلة أو الذّهن يصوغُهُ الشاعرُ بألفاظٍ قليلةٍ جدّاً (الاقتصاد اللغوي) ولكنّها محملّة بدلالاتٍ كثيرة وتكونُ الصياغة مضغوطة إلى حدّ الانفجار.»(7)
فالقصيدةُ الومضية هي التي تتعدّد فيها الأصوات الشعريّة وتحيل إلى بنية جديدة ونسيج وعلامات وإشارات متعدّدة تنطوي ثناياها على علاقات متنوّعة فيها من الإثارة والإدهاش ما يجعلها تثير المتلقّي وتجذبُ انتباهَهُ. يشير داغر شربل إلى ملاحظة رومان جاكوبسون حيثُ يقول: «وجود علامات شعريّة عديدة لا تنتسبُ فقط إلى عالم اللّغة، ولكن إلى مجمل نظريات الدّلالة وبشكل آخر إلى علم الدّلالات العام.»(8) 
فالومضة الشعرية هي نوع من الشعر الجديد الذي يعتمد على التكثيف عن طريق تقصيرها على معنى ودقة التعبير وعلى بضع كلمات وجمل ذات إيحاء ودلالية مكثفة قوية. ولا يفيض في الوصف والتشابيه ولا تسهب في مماطلة المضمون والشاعر فيها يهتم باللغة الشعرية إضافة إلى اهتمامه بالفكرة الشعرية. هناك مُصطلحات وأسماء ومصاديق، كأنّها نظائر، الومضة مِن وميض النور وقصيدة الومضة التي انفجرت كومضة لدى شعراء قصيدة النثر مُنذ منتصف السبعينات وحتى نهاية القرن العشرين قريبة مِن (التوقيعة )وهي التي وضَعَها (عزّالدين المناصرة)  في منتصفِ الستينات (1964)حيثُ مارسَهُ في قصيدة بعنوان «توقيعات»؛ فمِن توقيعات المناصرة آنذاك: «وصلتُ إلى المنفى في كفي خُفُّ حُنين/ حينَ وصلتُ إلى المنفى الثاني سرقوُا منّي الخُفَّين.»(9)
ويقول غالي شكري عن الومضة: «إحدى ضرباتِ الشعر الحديثِ، الومضة وهي القصيدة القصيرة المركزّة الغنية بالإيماء والرّمز والانسيابِ والتدفُّق»(10)
وقد قيل لها قصيدة النثر وفيها جماليةٌ يمكنُ أن نُطلقَ عليها «قصيدة الخبر» حيثُ تتخذ القصيدة النبأَ، مادّةً لها؛ يضفي عليها شعريتُه الخاصّة، ومنَ المعروف أنّ الخبرَ الإعلامي أبعد ما يكونُ عنِ الشعريّة، بل إنَّ الشّعرَ كثيراً ما يقابل بخطابِ الجرائد والصحف. فالخبر والشعر، يكادان يكونان نقيضين، وجمعهما فنياً يحفز الذهن، لما فيه من تقاطع الأضداد. ومن مثل قصيدة الخبر استخدم الشاعر المصري محمّد صالح، للخبر أو النّبأ، يجعل منهُ أكثر مِن وثيقة، إنّهُ يضفي على الخَبرِ قيمة شعريّة ترفعُهُ مِن مستوى الصّحافة إلى مستوى الأدب. مع أنّ قصائد محمّد صالح تكاد تكون تلغرافية كما في نشرة الأخبار إلا أنّها على عكس الخبر لا تقدّم جوهره في المطلع بل في الخاتمة.(11)
يبدو أنّ مصطلح «الومضة» ثمّ «التوقيعة» أكثر شيوعاً من بقية المصطلحات. عندما أطلقَ (عزّالدين المناصرة ) في الستينات مصطلح «التوقيعة» على بعضِ قصائده القصيرة المكثفة المركزة، ذات الختام الحاسم المفتوح، انتبَهَ الناقد المصري «علي عشري زايد» لهذه الظاهرة في شعر المناصرة ونوّهَ بها. لقد انطلقَ الشاعرُ مِن مفهوم التوقيعاتِ في العصرِ العباسي ثمَ أردفها عندما اكتشف نوعينِ مِنَ الشعر الياباني يشبه التوقيعة اسمُها «الهايكو» و«تانكا».(12) (السابق) 
سمى المناصرة قصائده القصيرة «توقيعات» لاعتقاده أن ذلك الشكل الشعري، يشبه التوقيع في توخي الإيجاز واكتناز العبارة الموجزة بمعني عميق، يمكن بسطه في رسالة. وقد أشار إحسان عباس إلى ممارسة المناصرة لقصيدة التوقيعة أو الومضة واختلفَ معَهُ حول التسمية. فقد سمّاها إحسان عباس «القصيدة القصيرة» مثلما أطلقَ عليها عزّالدين اسماعيل عام 1967 نفس الاسم. «وهناك فارق جوهري بين النوعين رغم انتمائهما إلى مجال واحد. فالقصيدة القصيرة قد لا تكون مُكثفة مثل التوقيعة وهناك أمثلة شعرية، قدمها عزالدين إسماعيل، وإحسان عباس للقصيدة القصيرة، لا علاقة لها بقصيدة «التوقيعة».(13) 
هناك أسماء أخرى لهذا النوع منَ الشعر كالقصيدة المضغوطة، القصيدة الكتلة والمركزة والمكثفة لأنّها في غاية الايجاز وقصيدة الدّفقة كأنّها تتدفّق مِن باطنِ الشاعر دفقةً وتنقشُ على ورقة بالقلم. وقصيدة الفقرة لأنّها لا تتجاوز مِن فقرة واحدة كفقرة نثرية. وقصيدة اللّمحة لأنّها تلمحُ على ذهن الشاعر وقصيدة المفارقة لأنّها تفارقُ القصائد المعتادة. وقصيدة الأسئلة لأنّها في جواب سؤالٍ أو أسئلةٍ أو نفسُها سؤالٌ أو أسئلةٌ. وقصيدة القصّ الشعريّ كأنّها اقتصّت مِن قصيدة طويلة. وقصيدة تأملية لأنّها نتيجُة تأمّل الشاعر في مظاهر الكائناتِ والأنفُس. والقصيدة اللّافتة لأنّها كلافتة رُسمَت بريشة فنّانٍ يقال لهُ شاعر. والقصيدة اللاقطة كأنَّ الشاعرَ يلتقطُها بينَ أفكارٍ مختلفةٍ وظواهر متعدّدة في العالم. وقصيدة الصورة كأنّها صورة مِن صُور الفكر وتصوير مِن تصاوير ظواهر العالم. وقصيدة الفكرة لأنّها نتيجةُ فكرة واحدة في ذهن الشاعر وكتابتها موجرةً لتلك الفكرة. والقصيدة الخاطرة أو الخاطرة الشعريّة لأنّها تخطُرُ ببالِ الشاعر في لحظةٍ واعية أو غير واعية. والقصيدة العنقودية كأنّها قسمٌ مِن قصيدة طويلة. والقصيدة اليومية كأنّها كلامٌ خاصٌّ لكلّ يومٍ. وشذرات شعريّة كأنّها قِطَعٌ كمالية مِن عناصر الشعر. والنصوص الفلاشية والاشراقية الشعريّة لأنّها كأشعّة تسطعُ وتشرقُ من ذهن الشاعر وقطعٌ فنية لأنّها لافتاتٌ يخلُقها الشاعرُ كفنّانٍ بريشة ذوقه على الورق. ويقال الشعر الأجدّ لأنّها شعر ممتازٌ دونَ أي حشوٍ وزوائد مصيباً لغرض الشاعر المنشود. ومهما قيل في تعدّد الأسماء فإنَّ أفضلَ التسميات ، هي التي قدّمها المناصرة عام 1964 لأوّل مرّة لأنّه اشتقّها من مفهوم التوقيعات النثرية العباسية أو مِنَ الومضات التي تعتمدُ على صفاء الصورة. لا داعي هنا للبحث عن أفضل تسمية لها وكلٌ على فهمه للومضة يسميها باسم خاص.
- إشكالية الومضة أنها تخلو من ( المفارقة الشعرية ) ،بينما تشترط التوقيعة ، هذه المفارقة الضرورية كما يقول الشاعر المناصرة .

تاريخ نشأة التوقيعة - الومضة: 
النصوصُ الشعريّة التي عُرفت باسم الومضات راجت في السبعينات وباتت تستقلُّ بنفسها حتي أصبحت شكلاً شعرياً خاصّاً إلى جانبِ الأشكال الشعريّة المعروفة، نجد حولها مواقف متباينة تجعلُ قضيتَها غير محسومة حتى اليوم. ومنها يقال: «ليست قضيةُ الومضة غائبةً عن الشعر القديم وذهبَ مُعظمُ النّقاد القدماء إلى اكتفاء البيت بذاته، بل حكمُوا على جودة شعر الشاعر مِن خلاله، فقالوُا عن فلانٍ: إنّهُ أشعر العربِ لأنّهُ قائلُ هذا البيت، لَما حكمُوا على الجنس الشعريّ مِن خلاله، فقالوُا: هذا أمدحُ بيتٍ وهذا أهجى بيتٍ وهذا أغزل بيتٍ...»(14).
وبالفعل نري في (دواوينِ بشّار بن برد وأبي العتاهية والمعرّي) مقطّعات بينَ البيت وخمسة أبيات، وهذا كثيرٌ أيضاً في دواوين بعض الشعراء العرب في العصر الحديث ومنهُم محمود سامي البارودي والرباعيات في شعر عمر الخيام التي ترجمت إلى اللّغة العربية غير مرّة شعراً ونثراً. يمكننا القول إنّ قصيدة الومضة هي إحياء أو إعادة صياغة لما نعرفُهُ في الشعر العربي القديم مِن المقطّعات، ذلك الشكل من الصياغة الشعريّة الذي عرفتهُ العربُ منذ نشأة الشعر عندهم. ويرفض قويدر العبادي نظرية مَن يظنّ أنّ هذا النوع من الشعر مجرّد ردّ فعل على متغيرات سياسية أو اجتماعية و... حيثُ يقول: «لم يأتِ الشعر الحُرّ وشعرُ التفعيلة كما يسمّى أحياناً مِن فراغ، لم يكن مجرّد ردّ فعل على متغيرات سياسية واجتماعية وثقافية وفكرية شهدتها حقبة الأربعِينات مِن القرن العشرين، ولم يكن أيضاً تعبيراً عَن تأثُّر بالشعر الأوروبي الحديث كما يعتقدُ الكثيرون ممّن يعانونَ عقدةَ الدونية إزاءَ كلّ ما هو أعجمي، معَ أنّنا لا ننكرُ استفادة الشعر الحُرّ مِن بعضِ الجوانب الشكلية والفنية والتقنية الأوروبية لكنّنا لا نصلُ إلى حدّ التسليم بأنّ شعرنا تقليد للآخر، وأنّ ثقافتنا العربية العريضة وأدبنا وشعرنا العربي العريق عاجز عنِ التطوّر»(15) 
وممّا يؤيدُ هذا الرأي النظر إلى التراث الأدبي العريق الذي يطمئننا إلى مرونة الشعر العربي القديم حركته وقدرته على التغيير حتى في الشكل ولعلّ في المقطّعات والرّباعيات والموشحات والقوما والكان كان والدوبيت وغير ذلك مِن الأشكال الشعريّة العربية القديمة ما يؤكدُ قدرة الشعر العربي على الحركة. وإنّ الفتح الجديد في العصر العباسّي المتمثّل في المزدوجات مهّدَ أرضية لظهور أنماط جديدة من الصياغة الشعريّة تعدّدت مسمياتها كالمثلثات والمربّعات والمخمّسات والمسمّطات وأخيراً الموشّحات. وإذا شئنا أن نبحثَ عَن جذور هذه الظاهرة في الذّاكرة العربية فإنّنا سنقف في مواجهة نظائر لها في الأبيات المفردة التي تنهضُ برأسها وتؤصّل معنى تامّاً وفكرة متعدّدة وهو ما ينضوي تحتَ الاستعارة التمثيلية في العُرفِ البلاغيّ. بجانب هذا الموقف، موقف آخر يعتقد أن شعر الومضة تأثر بمؤثرات أجنبية معاصرة؛ منها الشعر الانجليزي القصير والقصة القصيرة وقصيدة «الهايكو» اليابانية التي اهتمّ بها الدكتور شاكر مطلق ترجمةً وتنظيراً وتطبيقاً فنسَج على منوالها وغير ذلك.(16)

الوَمضات والمقطّعات
سِماتُ المقطّعاتِ تتطابقُ معَ سِماتِ قصيدة الومضة إلى حدٍّما؛ إذ كانَ كلٌّ منهما يقومُ على وحدة الموضوع (الايماضية المعنوية) وكذلك قصر النصّ واختزال مفرداته وتكثيف دلالاتها. وإذ كانت الوحدة الموضوعية والايجاز وقصر النصّ وصغر الحجم هي سمات عليا تميز قصيدة الومضة فإنّها – غالباً – هي السّمات ذاتها التي تميز المقطعات وهو الأمر الذي ساقنا بالقول بتشابه هذين إلى حدّ كبير. بما أنّ عدداً كبيراً جدّاً مِنَ المقطّعات التي أطلَقَ عليها بعضُ النّقاد المعاصرين مُصطلح « القصيدة القصيرة» يتألّفُ مِن بيتٍ أو بيتينِ أو ثلاثة أبيات أو ستة أبيات وهي شبيهة في صياغتها مضموناً وشكلاً بصياغة البيت مِن حيث اكتمالها فإنّ الأدباء يرون أن يطلقُوا على هذا الجنس مصطلح «الومضة الشعريّة» وهو مصطلحٌ أقربُ مِنَ المقطّعة أو الرباعية أو المنمنمة أو القصيدة البرقية أو سوي ذلك. على سبيل المثال يقول القصيبي: تصرّ متِ السنونُ ولا سبيلٌ إليك وأنت واضحة السّبيل(17).
يمكننا أن نقرأ البيت في قالب جديد: (تصرّمتِ السنون وهل سبيلٌ إليك وأنت واضحةُ السبيلِ)
عوامل نشأتها: 
الومضة الشعرية وسيلة من وسائل التجديد الشعري، أو شكل من أشكال الحداثة التي تحاول مجاراة العصر الحديث، ومسايرة مع التطورات الأدبية المعاصرة، مناسبة في شكلها مع مبدأ الاقتصاد الذي يحكم حياة العصر المعاصر. 
أ: تحولات فنية وفكرية معاصرة: عرفَت حركة الشعر الجديد انعطافاً تاريخياً جديداً وشَهِدت تحوّلات فنية وفكرية تتوافقُ والتحوّلَ الفكري الحضاري للعالم المعاصر، قامَ بها عددٌ من الشعراء الجُدُد وعدد مّمن قادوُا الحركة الشعريّة. وساعدت الظروف السياسية التي تمرّ بها البلدان العربية؛ حيثُ الإرهابُ الفكري وانعدام الحرية على اللّجوء إلى الرّمز والومضات النّاقذة السريعة الخاطفة. « يعبّر الشعراء العرب بواسطة الومضة الشعريّة عَن تذمّرهم مِن أوضاع بلادهم وعن أملهم في بعث جديد ينتشلها مِن الموتِ».(18) 
لا يمكن أن يكون سبب قصيدة الومضة الميل إلى الراحة أو الإفلاس، لكن الضّغط النفسي الرهيب الذي يعيشُهُ الفنّانُ والمثقّف والانسانُ العربي هو السبب الأساس، فربّما كانت هذه الدبابيس والقنابل القصيرة المتفجّرة وسيلة جديدة توصل إليه الرّسالة وتهزّ فيه مناطق الاستنقاع وأصقاع البرودة والترّهل والتيه.(19) 
كأنّنا حين ذكرنا (الومضة أو التوقيعة) لا يمكننا أن نكون بمنأى عن متطلّبات الحياة الجديدة وكأنّ الومضة الشعريّة ظهرت كتعبيرٍ عن روح العصرِ الذي صار كلّ شيء فيه يمرّ مُسرعاً مُستعجلاً وكأنّهُ ومضة خاطفة لا تدومُ طويلاً ولكن أثرها يبقي مشعاً؛ لأنّها تعبّر عن رؤى الشاعر وعالمه مهما تعقّدت تلك الرؤى ومهما تعدّدت وتلوّنَت. «ومع تطوّر الحياة وتعقّدها انطلقَ الشعراءُ في رحلة البحث، مرّة أخرى في محاولة للتجديد الشعريّ؛ هذا التجديد الذي لم يأتِ تلبيةً لمجرد الرّغبة في التجديد بل لأنّ الحياة الجديدة التي تكرّس مبدأ الاقتصاد في كلّ شيءٍ تطلُب شعراً جديداً... شعراً مختلفاً ...»(20) 
ونقرأ في مقالة «التجريب الفني في النص الشعري الجزائري المعاصر- الممكن والمستحيل» التي تشيرُ إلى ظروف الحياة الجديدة: «والقصيدة الومضة أو اللّمحة أو التلكس الشعريّ في القصيدة المبالغة في القصر، حتى لتكون الجملة الواحدة قصيدة وهذا النوع فرضته الحياة الجديدة المتّسمة بالسرعة والتكثيف اللغوي والاقتصاد في التعبير لتوصيل الرّسالة الشعريّة بأقلّ عددٍ ممكنٍ مِن الكلماتِ.» فقصيدة الومضة تجربة تستجيب لحال مجتمع مشغول بهمومه الكثار، وكأنّ الشاعر وجد ضآلته في قصيدة الومضة التي من شأنها ألا تأخذ من وقته ووقت القارئ سوى أقل القليل.
ب: المؤثرات الأجنبية: استطاع الأدب العربي أن يتواصل مع الآداب الغربية والشرقية على مرّ العصور مؤثراً أحيانا ومتأثراً غالباً رغم اختلاف المرجعيات الفكرية والاجتماعية والسياسية لكلا الأدبين. تأثر شعراء الومضة الشعرية بمؤثرات في الأدب الأوروبي شعره ونثره، ففي شعره تأثروا (بالمقطعات الشعرية الانكليزية القصيرة جداً ) خاصة باستخدامات إليوت الشعرية وفي نثره تأثروا بـ«حركة الأدني «Minmalism» التي برزت في الولايات المتحدة، ونادت «بكتابة مختصرة لحياة مختصرة» ورأت أن القصة القصيرة أو الأقصوصة هي خير تطبيق لهذا المبدأ وهي الأكثر ملاءمة لروح هذا العصر الذي يوصف بعصر السرعة، فإن الومضة الشعريّة بالمقابل هي وليدة هذا العصر، وإنّ ما يقال عن القصة القصيرة يقال عن الومضة تقريباً، وكأنّها توأمان تخلّقتا في رحم واحد ولدتا في وقت متقارب، وتجمعهما خصائص مشتركة وملامح متقاربة و... وكثيراً ما تقراً نصاً وتقول عنه قصة قصيرة جداً، وفي الوقت نفسه بإمكانك أن تقول عنه إنه ومضة شعرية.»(21) (حجو، 2002) 
يرى بعض الباحثين أن قصيدة الومضة متأثرة بنمط من الشعر الياباني المعروف بـ«الهايكو» الذي يقوم على التركيز والتكثيف والاقتصاد اللغوي. «تمثل قصيدة الهايكو بضربٍ من الشعر المقتضب الدقيق الذي ينظمه الشعراء اليابانيون منذ القديم، وتتألف قصيدة الهايكو من سبع قطع موزعة (5-7-5) تنطوي على فصل من فصول السنة لتستحضر الطقس والنبات والطيور والحشرات»(22). فقصيدة «الهايكو» عبارة عن مقطعة شعرية قصيرة، تتكون من ثلاث أبيات، أولها وآخرها من خمسة مقاطع، ووسطها من سبعة، إن هذا لا يعني التزام مقلدي هذه الكتابة عندنا حرفياً بهده الشروط، ولكنهم ربما اهتموا بغنائية الموضوع، أكثر من احتفالهم بمعيارية الشكل، بسبب أن إيقاعية شعرنا ذاتية، لا إنشادية، قائمة على المقطعية(23). 
-يعمل الشاعر عزّالدين المناصرة في فتوحاته ( 1964) على مشابهة بعضِ الأنماط الشعريّة في الحِداثة الغربية، وإعادة تمثّلها عربياً ومِن ثمَّ إعادة انتاجها شعراً، كما هو الحال في قصيدته «هايكو» المبنية على نظام قصيدة «هايكو» اليابانية التي تعتمدُ على الأبيات الثلاثة وكذلك قصيدة «تانكا» المبنية على نظام قصيدة «تانكا» اليابانية والتي تعتمدُ على نظام الأبيات الخمسة. وتقدّم نموذجاً لتوظيف ثقافات الشعوب الأخرى وتقاليدها في كتابة القصيدة: 
أ: هايكو: يا بابُ ديرنا السميك / الهاربونَ خلفَ صخرك السّميك/ افتح لنا ناقدةً في الروح.
ب: تانكا: أجابَ شيخٌ يحملُ الفانوسَ في يديه/ يوزّعُ الشمعات/ على أطراف روحنا البوار/ وحينَ سلّمنا عليه /بكى ... واصفرّ لونُه ... ومات(24) (المناصرة، (لا. ت)، ص 104) 
حاول بعض الشعراء محاكاة «الهايكو» الياباني، ولكن هناك معوقات حالت دون نجاحهم في محاكاتهم هذا النمط من الأدب العالمي: 
1- إن المترجمين العرب الذين نقلوا بعض نماذج الهايكو إلى اللغة العربية لم يدركوا شروط الهايكو في لغتها، مثل رفضها الاستعارة والتشبيه وتحريها الموضوعية وبعدها عن تصوير المشاعر الذاتية. 
2- إن المترجمين العرب نقلوا النصوص المتعلقة بالهايكو، وحتى ما يتصل بالدراسات النقدية، عن اللغات الأخرى، وخصوصاً الانجليزية، ثم إن معظم المترجمين كانوا باحثين وليسوا شعراء، هؤلاء أهملوا التركيب الايقاعي في ترجماتهم، إضافة إلى ذلك أدخلوا تفسيرات غريبة على ما نقلوه من نماذج الهايكو. 
3- نقل المترجمون الهايكو إلى اللغة العربية دون معرفة بسياق هذا الفن الثقافي والفكري، برويته الجمالية فلسفته القائمة على وحدة الكون.(25) 
إنّ الومضة الشعرية وإن تأثرت بمؤثرات في الأدب الأجنبية ولكن ليست نسخة من الشعر الياباني أو الإنجليزي بل هي إحياء أو إعادة صياغة لما نعرفه في الشعر العربي القديم من المقطعات وامتزجت فيها الخصائص التراثية والعالمية.
     روّادها 
ظهرت حركة «الشعر المنثور» على يد أمين الريحاني، سنة (1910م) و«النثر الشعري» على يد جبران خليل جبران ابتداءً من كتابه «دمعة وابتسامة» سنة 1914 واستمرت في كتابات آخرين من امثال مصطفي صادق الرافعي، أورخان ميسر، حسين مردان، وغيرهم. حتى ظهرت قصيدة النثر عام 1954، متأثرة بالآداب الأجنبية والموروث الشعري. شهدت قصيدة النثر تحولات فنية وفكرية، تتوافق والتحول الفكري والحضاري للعالم المعاصر، حيث مال كتاب قصيدة النثر إلى اللجوء إلى التوقيعات والومضات الشعريّة الخاطفة التي كانت نصاً مكثفاً يميل إلى الإدهاش والمفارقة. «كان للمناصرة، قصب السبق في التأسيس لهذا النمط من القصيدة «المفرقعة»، «القنبلة الموقوتة» كما أثّر بوقائعه الغريبة وتوقيعاته في جيل كامل من الشعراء مشرقاً مغرباً: أحمد مطر ومظفر النواب من العراق، سيف الرحبي من عُمّان ومحمد لافي من فلسطين وعبدالله راجع ومحمد بن طلحة من الغرب مثلما سبق له، أن أثّر في قصيدته الطويلة (مذكرات البحرالميت 1969) في (قصيدة صور) لعباس بيضون عام 1974. ومنذ أوائل الثمانيات استطاع المناصرة أن يجذب زميله محمود درويش إلى حقله الكنعاني الخاصّ، فقد انتقل إليه درويش في التسعينات.»(26) 
بدأ (عزالدين المناصرة ) في منتصف الستينات 1964، كتابة هذا النوع الجديد من القصيدة القصيرة، مستفيداً من نمط الشعر الياباني «الهايكو» ومزج بين بناء الموروث (التوقيعات النثرية العباسية) ولغة الحياة اليومية الهامشية وشعرية التفاصيل. «يشكل عزالدين المناصرة إلى جانب نزار قباني، مظفر النّواب، أمل دنقل وأدونيس، شعراء الرفض الوجودي، بعد هزيمة 1967، والهزائم التي توالت على العرب، وأغلبهم يملكون تجربة عميقة وتمرساً وفهماً للحداثة؛ سواءً في التشكيل الموسيقي أو التصوير كما استطاعوا في محاولتهم التوفيق في إيجاد معادل موضوعي شعري عبر عنصر المفارقة والسخرية الحادة»(27) 
ملخص القول إن المناصرة هو أول من استخدم مصطلح التوقيعة (1964م) منذ النصف الثاني من الستينات ، ونجد نزار قباني يستخدم عام 1967 أي منذ قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» مصطلح (البرقية- التلكس) وهو مفهوم قريب من مصطلح المناصرة. الشعراء الذين اهتموا بالومضة الشعرية في دواوينهم زادوا في التسعينات وما بعدها ومن أشهرهم، سامي مهدي، يوسف الصائغ، شوقي بغدادي وغيرهم من الشعراء. يقول المناصرة : ( قصيدة التوقيعة ومضة تحكمها المفارقة / بينما قصيدة الومضة ليست توقيعة لأنها تخلو من ( المفارقة ) فكل توقيعة هي ومضة وليست كل ومضة توقيعة ) 
سماتها 
تتميز القصيدة الحديثة بمجموعة من السمات والخصائص العامة التي اكتسبت من الطبيعة الشعرية الحديثة ومن طبيعة التكنيكات المستخدمة في بنائها، ولعل من المفيد في تحديد سمات «الومضة الشعريّة» أن نتعرف على هذه السمات قبل ان نعرض بالتفصيل لسمات الومضة الشعريّة، من أبرز هذه السمات هي: 
أ: التفرد والخصوصية؛ أي لا يمكن تصنيف القصيدة الحديثة تحت أي غرض من الأغراض الشعرية العامة التي انحصر فيها التراث الشعري القديم من مدح وفخر وهجاء ورثاء ووصف وغزل و... إن الشاعر الحديث يهدف إلى أن تكون قصيدته إبداعاً بكراً ومن ثم فهو شديد الحرص على أن ينظر إلى الوجود من زاوية لم يسبق لأحدٍ قبله أن ينظر إليه منها، وأن يعالج هذه الرؤية الخاصة بطريقة فنية متفردة.(28) من هنا تكتسب القصيدة الحديثة خصوصيتها وتفردها، ولا تكون مجرد تكرار لما سبق قوله مئات المرات بطريقة أخرى. 
ب: التركيب؛ لتنوع الأداوت الفنية التي يستخدمها الشاعر وطريقة استخدامه لها، ولميل القصيدة الحديثة إلى أن تكون كياناً متفرداً خاصاً، أصبح بناء هذه القصيدة على قدر من التركيب والتعقيد يقتضي من قارئها نوعاً من الثقافة الأدبية والفنية الواسعة(29). 
ج: الوحدة؛ على الرغم من أن القصيدة الحديثة تتركب من مجموعة من العناصر والمكونات المتنوعة، والمتنافرة في بعض الأحيان، فإن ثمة وحدة عميقة تؤلف بين هذه العناصر، وتنحصر فيها هذه المكونات المتناثرة المتنافرة لتصبح كياناً واحداً متجانساً، لا تفكك فيه ولاتنافر. 
د: الإيحاء وعدم المباشرة؛ من السمات البارزة في القصيدة الحديثة أنها لا تعبر تعبيراً مباشراً عن مضمون محدد واضح، وإنما تقدم مضمونها الشعري بطريقة إيحائية توحي بالمشاعر والأحاسيس والأفكار ولا تحددها أو تسميها، ونتيجة هذا، فإنّ القصيدة الحديثة لا تحمل معنى واحداً متفقاً عليه، ومن الخطأ أن نتطلب من كل قصيدة أن يكون لها معنى واقعي وحيد، لأن الشاعر لو كانت لديه فكرة محددة واضحة المعالم يريد إيصالها إلى القاريء لما لجأ إلى الشعر أسلوباً لنقلها، ولآثر عليه النثر الذي هو أكثر قدرة على تحديد المعاني والأفكار وتوضيحها.(30) 
(الإيحاء )الذي يهدف إليه بناء القصيدة الحديثة يتطلب من الشاعر ألا يصرح بكل شيءٍ لأنّه يلجأ إلى إسقاط بعض عناصر البناء اللغوي مما يثري الايحاء ويقويه من ناحية وينشط خيال المتلقي من ناحية أخرى لتأويل هذه الجوانب المضمرة. أما فيما يتعلق بالبنية المتميزة لقصيدة النثر والومضة الشعريّة وليدة ظهورها «فلا بد أن نلاحظ اعتمادها على الجمع بين الإجراءات المتناقضة؛ أي أنها تعتمد على فكرة التضاد، وتقوم على قانون التعويض الشعري، إذ إنّها تتألف من ثلاثة عوامل متزامنة تنصبّ كلّها في بؤرة واحدة لإحداث فعاليتها الجمالية، وهي بالترتيب: 
أ – تعطيل الأوزان العروضية المتداولة. 
ب- تفعيل أقصي الطاقات الشعرية الممكنة. 
ج- إبراز الاختلاف الدلالي الحادّ.»(31). 
لكي يحقق الشاعر المعاصر لقصيدته سمة الإيحاء فإنه يلجأ إلى استخدام مجموعة من الأدوات والتكنيكات الفنية بعضها مستمد من التقاليد الموروثة للشعر منذ أقدم عصوره، كاللغة الشعريّة، والصورة الشعرية، والموسيقي الشعريّة، المتمثلة في الوزن والقافية وبعضها الآخر من التقاليد الشعريّة الحديثة؛ كالرمز، والمفارقة التصويرية، وغير ذلك من الأدوات الفنية التي ابتكرها الشاعر الحديث، وبعضها الثالث استعاره الشاعر من الفنون الأدبية الأخرى، تراثية كانت، أو حديثة، حيث استمدّ من الفنون الأدبية العربية التراثية بعض قوالبها الفنية كقالب المقامة، والتوقيع مثلاً، كما استمد من الرواية الحديثة والمسرحية الحديثة بعض تكنيكاتها أيضاً؛ فقد استعار من الرواية الحديثة أسلوب الارتداد (الفلاش – باك)، والمونولوج الداخلي، وغير ذلك من تكنيكات الرواية الحديثة، كما استعار من المسرحية أخص تكنيكاتها بها مثل تعدد الأصوات، والحوار، والصراع، بل إن بعض القصائد الحديثة استعارت القالب المسرحي بكل مكوناته وعناصره.(32) 
يبدو أنّ الومضة الشعرية لم تصبح حتى الآن في الشعر العربي المعاصر، نوعاً أدبياً مستقلاً قد استقرّت أعرافه وتأصّلت تقاليده، بالرغم من اندفاع شعراء المبدعين اليوم نحوها، ولكن لها مكان متميزٌ باعتبارها أحد التنويعات البارزة في الحداثة الشعريّة؛ بما أنّ الومضة الشعريّة تحاول إلغاء الشكل القديم للقصيدة العروضية، لابد أن تتسم بسمات وأشكال جديدة. فما هي سمات هذا الشكل وخواصه الجمالية؟
الوحدة العضوية
اتسمت قصيدة الومضة بالصفات العامة للقصيدة الحديثة، لقد تأثرت قصيدة الومضة بالوحدة العضوية الموجودة في القصيدة الحديثة، بحيث لم يعد نادراً أن نجد القصيدة تجمع بين أشياء بينها من التباعد والتنافر الظاهريين أكثر مما بينها من الترابط، ومبالغة في هذا الاتجاه فإننا كثيراً ما نجد شاعر الومضة يسقط أدوات الربط اللغوي بين أجزاء القصيدة، حتى لتبدو القصيدة في بعض الأحيان أشبه ما تكون بمجموعة من العبارات والجمل المفككة المستقلة الواقعة بذاتها في الفراغ، ولكن يكون هناك رباط وثيق خفي يضم شتات هذه الأجزاء المتنافرة في كيان واحد شديد التمسّك. فالوحدة العضوية هي شرط أساسي في بناء الومضة الشعريّة، «فهي وحدة متكاملة متداخلة في الفعل الشعري والاستدلالي، وبالتالي الانفعالي الشعوري وليس لها أي ارتباط عضوي مسبق بأي شكل من أشكال القصيدة التي لا تحقق مثل هذه الوحدة العضوية المتكاملة».(33) ينبغي أن تكون للومضة الشعريّة وحدة عضوية مستقلة لأنها تقدم عالماً مكتملاً يتمثل في تنسيق جمالي متميز يختلف عن الأشكال الفنية الأخرى من قصة قصيرة، أو مقالة أو رواية.
بناء الومضة 
اللافت للنظر في شكل جميع الومضات الشعريّة أنها تكتب تارة على شكل قصيدة التفعلة، وتارة على شكل قصيدة النثر وأن منها ما يجمع بين التفعله وقصيدة النثر. توقف خليل الموسى في مقالته بعنوان «الأبنية الفنية في تجربة الحداثة الشعريّة في سورية»، عند أشكال الومضة الشعريّة وهيكليتها، في أعمال الشاعرين، وهما نزار قباني وأدونيس، وذهب إلى أن أشكال الومضة الشعريّة التي استخدمها الشاعران خمسة هي : 
1- الومضة ذات البنية المركزة التعريفية؛ التي تعدّ بمنزلة العنوان من المجموعة فهي تقول كل شيء عن المجموعة أو هي تختصرها بعدد قليل من الأبيات. نحو قول نزار قباني في مجموعته «قالت لي السمراء»: قَلبي كمنفَضة الرمادِ ... أنا أن تنبشي ما فيه تحترقي شعري أنا قلبي ... ويظلمُني من لا يري قلبي على الورق(34) 
2- الومضة ذات البنية المركزة التقابلية؛ وهي صورة مقابل صورة ضدية أو حاله مقابل حالة مختلفة، نحو قول نزار قباني في قصيدته «هوامش على دفتر النكسة»: جلودنا ميتة الإحساس أرواحنا تشكو من الإفلاس أيامُنا تدور بين الزّار والشطرنج والنعاس هل «نحن خير أمة أخرجت للناس»(35) 
3-ومضة البيت المفرد ذات البنية المغلقة؛ تعتمد هذه الومضة على البيت الواحد هذا النوع يؤكد على وحدة البيت الذي كانت سائدة في الاحكام النقدية عند القدماء. نحو: بالناي والمزمار ... لا تحدث انتصار(36) الومضة في هذا النوع تقوم أولاً وأخيراً على الفكرة فهي بنت الفكرة أكثر مما هي بنت الاحساس، وهي بنت العمل الجاد المضني أكثر مما هي بنت العفوية والاحساس: يوجعني أن أسمع الأنباء في الصباح يوجعني أن أسمع النباح(37) 
4- الومضة ذات البنية المفتوحة؛ وهي ومضة تننهي نهاية مفتوحة على التأويل، أو هي مفتوحة على نصوص سابقة أو معاصرة «تناص»: وما كنت أعلمُ ... حين شَطبتُك من دفتر الذكريات بأنّني سأشطُبُ نصفَ حياتي(38) 
5- الومضة ذات البنية الحلزونية؛ وهي مجموعة دفقات أو موجات تنطلق من نقطة واحدة، حتي تكتمل دورة القصيدة، ويشبه عزالدين اسماعيل هذه البنية بالسلك الحلزوني الذي يبدو في النظرة الأفقية إليه مجموعة من الحلقات المستقلة، ولكنها في الحقيقة مترابطة يربط بينها الموقف الشعوري الأول، وهي مجموعة من الدوائر التي تنتهي عند نهاية واحدة(39) (1972 /261) من أمثلة هذه البنية لنزار: في البدء كان الشّعرُ والنثرُ هو استثناء في البدء كان البحرُ والبرُّ هو استثناء في البدء كنتِ أنتِ... ثم كانتِ النساءُ(40) 
علامات الترقيم 
تأثرت القصيدة العربية الحديثة بالمدرسة الرمزية في تحرر لغتها الشعرية من الروابط والصلات المنطقية التي تربط الجمل والألفاظ بعضها إلى بعض، حتى إن بعض قصائدها كانت تتألف من مجموعة من الجمل المتجاورة بدون ترابط، لقد تأثرت الومضة الشعرية بمثل هذا الاتجاه فشاع في الكثير من نماذجها توالي الجمل بدون أدوات ربط لغوي تصل ما بينها. «إن علامات الترقيم والفصل، تمثل عنصراً هاماً في النظام الطباعي للقصيدة الحديثة، تتحول من مجرد محدد لعلاقات المفردات في الجملة إلى محدد للعلاقات بين أجزاء النص ككل»(41) 
إلا أن هذا المحدد الذي يوجب نمطاً معيناً من العلاقات بين المقاطع لا يتداخل تداخلاً جوهرياً في باطنية التجربة الشعريّة في القصيدة، إذا تظل القصيدة المقطعية، خاضعة لخصوصية تجربتها المفردة التي ينظر إليها بعض النقاد، بوصفها ظاهرة شعرية موجودة بشكل فعلي ميداني في النسق النصي اللغوي، بحيث يصعب فصل عناصرها.(42)
شاعر الومضة تارة يمتنع عن وضع إشارات الترقيم اللازمة للتحديد البنائي والمنطقي ونحو قول نبيلة الخطيب: كم هو عارٌ من يخلَع جلدَه ليرقّعَ ثوبه(43) أو: حين رأيت الندي على الأزهار أدركتُ سرَّ غيابك كلَّ صباح(44) 
وتارة يستعين بأشكال عدة للتنقيط والفصل من أجل تمزيق وحدة الجمله وتقطيعها في أجزاء مبعثرة كذاته، وهذا نموذج من شعر أدونيس، يقول: لا، لا. أحبّ، أن أثِقا وبسطتُ أجنحتي، ومنحتها الأفقا فتناثرت مِزَقا...(45) أو: ( أنت أمير!!! أنا أمير! فمن ترى يقود هذا الفيلق الكبير)!!(46)

شكل الكتابة وتوزيع النص 
إلى جانب تقنيات التنقيط والترقيم يلعب شكل الكتابة وتوزيع النص، نصاً أو كل على حدة، دوراً فعالاً في تفكيك الجملة، وإعادة تقييم مكوناتها، نحو قول نزيه أبي عفش الذي لم يجعل عنواناً وأنما بدأت بمجموعة من النقط: هذه الجثة هي أنا متربصاً خلف قناع موت أما أنت... فلا تكثرت ربما: القناع وجهك.(47) 
أبو عفش في ومضته السابقة عمد إلى تقطيع العبارة إلى أجزاء موزعة بشكل غير منتظم على أسطر متعددة، تاركاً مِن كل سطر وآخر مسافة من البياض العازل. تعرف قصيدة الومضة بأنّها «مجموعة من المشاهد المنفصل بعضها عن بعض كل الانفصال، يكاد كلّ مشهد فيها أن يقوم بذاته، ولكننا ما نلبث أن ندرك إدراكاً مبهماً أنّ شيئاً ما يصادفنا في كل مشهد، كأنّه يتخذ في كل مرة قناعاً جديداً حتى إذا ما انتهت القصيدة أدركنا أن هذه المشاهد لم تكن أقنعة بل مظاهر مختلفة لحقيقة واحدة»(48) وبذلك يقوم بناء القصيدة على مجموعة من المقطعات ولكل مقطعة عنوان مستقل، وتتخذ في بعض الأحيان أرقاماً أيضاً. 
قافية الومضة 
ترتكز قصيدة الومضة على تعطيل المُعامل الاساسي في التعبير الشعري، وهو الاوزان العروضية والقافية، دون أن تشلّ بقية امكانات التعبير في أبنيتها التخيلية والرمزية، فقصيدة الومضة تجعل القاريء قادراً على إغفال الوزن والقافية والتحرر منهما مع إبقائه على الإيقاع الداخلي فهي التي تبرهن على أن الايقاع لا يقتصر على الشكل العروضي الجاهز بل يتداخل في نسج اللغة الشعريّة بمستوياتها المختلفة. أما قافية الومضة، فيسعي شاعر الومضة إلى تحريرها من القافية التقليدية وهو يميل إلى أشكال ثلاثة وفقاً لشكل القافية: 
1- قصيدة تبني على سطور تتبع قوافي محددة كقول نزار قباني: السرُّ في مأساتنا صراخنا أضخم من أصواتنا وسيفنا أطول من قامتنا(49)
2- قصيدة تبني على سطور تتبع القوافي المتداخلة، كما في قول أدونيس: قال الغد الحائرْ: «إن طفر اللحنُ من شفتيْ طائرْ لا يطربُ الغصنُ».(50) 
3- قصيدة تبني على سطور تتبع القوافي المتعانقة، كقول شاكر مطلق في ومضته التي حملت عنوان «محطة»: تحت ضوء القمر الفضي ظل الزيزفون يتلاشي في العيون ومياه النهر تمضي في سكون(51) 
بعد دراسة قافية الومضة في ديوان أشهر شعراء الومضة من أمثال سعدي يوسف، أدونيس، عزالدين المناصرة، ونزار قباني، و... تبين أنّ القافية ليست واحدة عند شعرائها ولا عند شاعر واحد، ولذلك يتعذر أن تنحصر في تقسيم محدد لا تتجاوزه، لأنّ قصيدة الومضة لا تلتزم بالقافية والأوزان بل الفكرة الشعرية هي الغالبة فيها. 
لغة الومضة 
إن نتأمل في الجذر اللغوي لكلمة «القصيدة» مضافة إلى «الومضة» فسوف نجده يشير إلى فكرتين متلازمين: إحداهما هي القصد والتعمد أي أنّ القصيدة هي «الكلام المقصود في ذاته» أي هي لغة فنية وليست مجرد وسيلة للتواصل، أما المعني الثاني فهو «الاقتصاد اللغوي» أي أن اللغة التي تنظم في قصيدة الومضة لا بد لها أن تتسم بالقصد والتركيز والتكثيف، لأنَّ الومضة من سماتها لغوياً السرعة واللمعان فهي تتسم بالاقتصاد وهذا الاقتصاد جوهري في قصيدة الومضة لأنه مظهر الشعريّة فيها، فهي عندما تحذف فيها حروف العطف أو الوصل مثلاً تتحقق اقتصادها الخاص الذي لا بدَّ أن يختلف عن بقية أنواع الشعر. اللغة هي المادة الأولى الّتي يشكل منها وبها البناء الشعري أي انها الأداة الأمّ التي تخرج كل الأدوات الشعريّة الاخرى من تحت عباءتها. الومضة الشعريّة هي شكل من أشكال الحداثة التي تتناسب مع مقتضيات العصر الحديث ومتطلباته، ولهذا لغتها خالية من الكلمات الميتة أو الوعرة، وهي تعبّر عن المألوف بكلمات مألوفة مستقاة من واقع الحياة المعيشية، وهي خالية من الكلمات الرنانة الفخمة التي يراد منها إثارة الاحتدام العاطفي رغبة في التحرر من القيود الخارجية. نلاحظ في قصيدة الومضة وجوداً مميزاً للمفردات الدارجة أو الواقعية على أساس مبدأ ينطلق من أن لغة الناس يجب أن تكون لغة الشاعر. وليس المقصود بلغة الناس تلك اللغة المتداولة في الحياة اليومية؛ إنما المقصود استخدام تلك اللغة التي تعمل على استبدال التعابير والمفردات القديمة بتعابير ومفردات جديدة مستمدة من صميم التجربة... من حياة الشعب. «ولا بد من الإشارة إلى أن قصيدة الومضة لا تستخدم اللغة بمعناها القاموسي التعييني، إنها كتابة تري في اللغة شفافيتها وتواصليتها القائمة على تأويلاتها، لذا فهي تعبير شكلي تغلب عليه المعاناة والتمرد والرفض، تستمد منابعها من قوة اليأس والحاجة إلى التعبير الذاتي باللغة الذاتية. وصارت وظيفة اللغة أن تساير تجربة الشاعر بكل ما فيها من الغني والتواتر والتناقض والحساسية».(52)
المفاجأة 
إنّ الومضه الشعرية عالم خيالي مركب على نحو خاص، يهدف إلى تحقيق ذات الشاعر في تكوين موضوعي قائم بذاته وبهذا تكون الومضة تغييراً في نظام التعبير عن الأشياء، يقول أدونيس:( بَكَتِ المئذنة حين جاء الغريب – اشتراها وبنى فوقها مدخنة) إيحاء المئذنة في تجربة القارئ بعيد عن البكاء، قد يكون السكينة، الأمن، السلام، الجلال، السلام، الخشوع لله، لكنه ليس البكاء!! ثم يأتي الغريب ليشتري ما لا يباع ويبني فوقها ما يناقض رموزها جميعاً. 
النتائج: 
1- الومضة إحدى ضربات الشعر الحديث وهي القصيدة القصيرة المركّزة الغنية بالإيماء والرمز والإنسياب والتدفّق. وهي عبارة عن دفقة شعورية سريعة تتناسب مع تسارع الأشياء المذهل في هذه الحقبة الزمنية التي تحاصرنا حالياً؛ إنّها إشبه ببرقية شعرية صار لها أنصار وأعلام، وتتميز بالكثافة والتركيز حيث إنّ الشاعر يقول بوساطتها أشياء كثيرة، بعبارات موجزة. عرف هذا النوع من الشعر في السبعينات من القرن العشرين. 
2- من عوامل نشأة الومضة هي: التحولات الفنية والفكرية، والحاجة إلى التعبير عن روح العصر وهو عصر السرعة والاختصار. 
3- ومن روّادها عزّالدين المناصرة وكان له قصب السبق وبعده، أحمد مطر، مظفّر النواب، نزار قبّاني.  
4- راج بين الباحثين أنّ قصيدة الومضة متأثرة بالمؤثرات الأوروبية والشعر الياباني الذي يقوم على التركيز والتكثيف والاقتصاد اللّغويّ. هذه الدراسة لا تنكر هذا التأثير ولا تذهب إلى أنّ الومضة محاكاة بحتة للآخر بل تعتقد أنّها وإن تأثرت بمؤثرات في الأدب الأوروبي ولكن ليست نسخة من الشعر الياباني أو الإنجليزي بل هي إحياء أو إعادة صياغة لما نعرفه في الشعر العربي القديم من المقطعات وامتزجت فيها الخصائص التراثية والعالمية. 
5-أهم ميزات (الومضة) هي: الخيال المتوقد، الحساسية المرهفة، الابتعاد عن الحشو والزيادات، الاتصاف بانتقائية اللفظ وتميّز الصورة، القدرة على التأثير في المتلقي، السيطرة على توجيه انتباه المستمع، المفاجأة، الوحدة العضوية والتركيز على الجمل القصيرة المكثفة جداً.لكن الومضة تخلو من ( المفارقة) ، عكس شقيقتها ( التوقيعة ) ، التي هي ومضة تشترط وجود ( المفارقة ) .
المراجع
1. أدونيس؛ (1988) أوراق في الريح؛ طبعة جديدة، بيروت: منشورات دار الآداب.
2. إسماعيل، عزالدين؛ (1972) الشعر العربي المعاصر "قضاياه ظواهره الفنية والمعنوية؛ ط3، بيروت: دارالعودة ودار الثقافة
3. البحراوي، سيد؛ (1996) البحث عن لؤلؤة المستحيل، ط 1، القاهرة: دار الشرقيات للنشر والتوزيع
4. حشلاف، عثمان؛ (1986) التراث والتجديد في شعر السياب؛ الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية
5. حلوم، أحلام؛ (2001) النقد المعاصر وحرکة الشعر الحر؛ ط 1؛ حلب: مرکز الإنماء الحضاري
6. الخطيب، نبيلة؛ (2004) ومض الخاطر؛ الأردن: دارالأعلام.
7. داغر، شربل؛ (لا.ت) الشعرية العربية الحديثة؛ ط 1، بيروت: دار المعرفة الأدبية.
8. الصمادي، امتنان عثمان؛ (2001) شعر سعدي يوسف؛ ط 1، ييروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
9. غشري زايد، علي؛ (2008) عن بناء القصيدة العربية الحديثة؛ ط 5، القاهرة: مكتبة الآداب.
10. فضل، صلاح؛ (1995) أساليب الشعرية المعاصرة، ط 1، بيروت: دار الآداب.
11. قباني، نزار؛ (1993) الأعمال السياسية الكاملة؛ ط 5، بيروت: منشورات نزار قباني.
12. ....،.....؛ (1993) الأعمال السياسية الكاملة؛ ط 12، بيروت: منشورات نزار قباني.
13. القصيبي، غازي عبدالرحمن؛ (2006) مائة ورقة ياسمين؛ جدة: مكتبات تهامة.
14. القصيري، فيصل صلاح؛ (2005) بنية القصيدة في شعر عزالدين المناصرة، الأردن: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع.
15. کمال الدين، جليل؛ (1974) الشعر العربي الحديث وروح العصر؛ ط 1، بيروت: دار العلم للملايين.
16. مطلق، شاکر؛ (1984) معلقة كلكامش على أبواب أوروک، حمص: دارالأرشاد.
17. المناصرة، عزالين؛ الأعمال الشعرية، (قصيدة هايكو – تانکا)، من ديوان يا عنب الخليل، ط5، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
18. المناصرة، عزالدين؛ إشكاليات قصيدة النثر، ط3، دار الراية ، عمّان ، 2013
المجلات والمواقع
1. الموسی، خليل؛ (2005) قصيدة الومضة في يمامة الكلام، الأسبوع الأدبي، العدد 956، دمشق: اتحاد الكتاب العرب 
2. ..... ،.....؛ (2005) الأبنية الفنية في تجربة الحداثة الشعرية في سورية، مجلة الموقف الأدبي، العدد 405، السنة الخامسة والثلاثون، دمشف: اتحاد الكتاب العرب
3. بدور، نسرين؛ (2002) بعض من ملامح "قصيدة الومضة"؛ الأسبوع الأدبي، العدد 824، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.
4. بعلي، حفناوي؛ (2005) شعرية التوقيعة؛ الموقف الأدبي، العدد 413، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.
5. حجو، فواز؛ (2002) الومضة الشعرية؛ الموقف الأدبي العدد 373، السنة الواحدة الثلاثون، دمشق: اتحاد الکتاب العرب .
6. الخال، يوسف؛ مجلة الشعر، (أخبار وقضايا)، العدد الثالث، ط5، بيروت: 1978.
7. خرفي، محمد الصالح؛ التجريب الفني في النص الشعري الجزائري المعاصر، الممكن والمستحيل؛ مأخوذة من الموقع التالي المؤرخ 10/1/2010 
http://www.difaf.net/modules.php?name=News&file=print&sid=556
8. علوش، سلاف؛ الومضة الشعرية، جريدة الأسبوع الأدبي، العدد 830، دمشق: اتحاد الكتاب العرب .
9. علي محمد، أحمد؛ (2001) التفاتة نقدية إلی قصيدة الهايكو في اللغة العربية، هايكو صحاري الجنون لعبداللطيف خطاب نموذجاً، الأسبوع الأدبي، العدد 788، دمشق: اتحاد الكتاب العرب .
10. غزول، فريال جبوري؛ (1997) شعرية الخبر، مجلة الفصول، العدد الأول، المجلد السادس عشر.
11. قويدر العبادي، عيسی؛ قصيدة الومضة؛ مجلة الموقف الأدبي، العدد 377، السنة الثانية والثلاثون، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.
12. هيوي، موراکاي؛ (1984) دراسة تاريخ الأدب الياباني، (مترجم ) ، ، مجلة الآداب الأجنبية، العدد 34، دمشق: اتحاد الكتاب العرب.
13. عزالدين المناصرة : (توقيعات) ، ط 2 ، دار الصايل ، عمان ، 2013 .
14. حسين كياني ، وسيد فضل الله مير قادري : سمات الومضة الشعرية ، والتوقيعة – مجلة الغة العربية وآدابها ، العدد 9 – جامعة الكوفة ، العراق 2010 .