حوار صحفي في كتاب يطرح فصل الدين عن الدولة: البروفسور فيليب سالم و سرطان الطائفية لجان دايه

البروفسور فيليب سالم - سرطان الطائفية" كتاب جديد أعده الكاتب و المفكر جان دايه . يتضمن الكتاب حواراً مطولاً إستغرق ثلاث سنوات بشكل متقطع أجراه المؤلف مع سالم في بيروت و بمنزله في بطرام - الكورة. وقد صدر الكتاب قبل أيام عن دار فجر النهضة (160 صفحة من القطع الوسط)
مقدمة الكتاب كتبها الصحافي و المفكر نصري الصايغ , أشار فيها , أن دايه طرح على سالم أسئلة حول سرطان الطائفية و حول الحلول . و أنه كتاب يضع البروفسور سالم امام  إمتحان الأجوبة الصعبة حول أسئلة صعبة
هنا مقدمة نصري الصايغ بعنوان : لبنان اللبنانيين متى ينوجد؟
لبنان اللبنانيين متى ينوجد ؟
كتاب هذا، يختلف عن سواه. انه حوار مفتوح على القضايا المضنية في بلد متهالك. اسئلة يطرحها الاستاذ جان دايه على الدكتور فيليب سالم. اسئلة في السياسة والثقافة، وليست اسئلة في العلم، أو في علاجات الأمراض، ومنها السرطان. اسئلة، حول سرطان الطائفية وحول الحلول وصعوبة انجازها. ولبنان، بلد صعب جداً، يكاد يكون علاجه من المستحيلات. فهو لا يتقدم في السياسة، وهو بلد أدمن على التراجع، وهو كيان صلب وصامد في وجه أي تغيير أو اصلاح أو تحسين أو تجميل. بلغ لبنان درجة تيئيس المتفائلين وتعجيز المؤمنين، بوطن ديمقراطي حر، تسود فيه المواطنة، ويفصل فيه الدين عن الدولة و....
كتاب تطالعه، فتجده يحاورك ويحملك مسؤولية الاسئلة ويضعك امام امتحان الاجوبة. وستبدو الاسئلة صعبة جداً والاجوبة أصعب اكثر. فلبنان، الذي يشغل بال الدكتور سالم، هو لبنان الانسان، لبنان الحرية، لبنان المواطنة، لبنان الثقافة، لبنان الابداع، لبنان العلم، لبنان الانتاج، لبنان المعاني من الطائفية والتبعية والزبائنية... ولنا أن نسألة مع جان دايه: أين الطريق إلى هذا اللبنان؟
أول ما يلفت في الكتاب مقدمة جان دايه التي رصدت رجالات العلم والطب في عصر النهضة وما بعده، والتي انخرطت في العمل الانشائي والسياسي. خريطة وافية لعلماء جديرين بالريادة.
في لبنان، لا مفر من الطائفية. هي علة وجود لبنان وسبب علله كافة. هي سابقة على الكيان وعلى الدولة. فلبنان، ليس دولة طائفية، بل هو دولة للطائفية، اي ان الكيان بذاته، كان هدية للطائفيين، الذين ورثوها عن المذابح التي اندلعت في جبل لبنان، منذ حكم الأمير بشير الشهابي. لعل لهذه الاسباب، الطائفية سرطان، كأن لا شفاء منها، أو، كأن شفاءها يحتاج إلى أزمنة.
كم تبدو رغبة الدكتور فيليب سالم صعبة. تفاؤله حذر، لكن ايمانه بفصل الدين عن الدولة، هو الأساس الذي يبنى عليه الاجتماع السياسي، وتنشأ الدول ويعبر عنه في النظام السياسي والممارسة. بدا للقادم من الطب أن مريضه يتعافى، بشرط تطبيق مبدأ الفصل التام بين الدين والدولة، محتفظاً للدين بقيمة كبرى، بمستوى الحضارة البشرية. فالدين ليس شأناً عابراً، بل هو أساس لايمان لدى الشعوب كافة. الاستثناءات قليلة، ولا تبنى قاعدة على الاستثناء.
لبنان فيليب سالم مريض ولكنه يمتلك مقومات كثيرة، أهمها الحرية. لديه فائض من الحرية. حدودها، ليس القانون، إنما مصلحة الطوائف وزعمائها. واذا كان لا بد من بداية، فالمعركة تبدأ بالتربية. من دون التربية المدنية، تنشأ الاجيال اللبنانية على انتماءاتها الموروثة. التربية، عند الدكتور فيليب سالم، تجدد العقل وتحرره من قيود موروثة وتدربه على التفكير الحر، وتلزمه بأن يكون أولاً إنساناً، بكل ما في هذا الانتماء للانسانية، من رقي وسلامة مجتمع ورفعة قيم وجدوى سياسية. من دون الالتزام بقيم انسانية، كالحرية والعدالة والمساواة، لا جدوى. فاما أن يكون دينك السياسي، شرعة حقوق الانسان، واما تنقاد بغرائزك الطائفية والمذهبية والعنصرية، وتحوِّل حياتك الاجتماعية إلى جحيم من التناحر والتنابذ والانقسام والكراهية. لا تبنى سياسة من دون قواعد مبدئية، من دون التأكيد على منظومة قيم عليا اجتماعية، وإلا فالسرطان يستشري. وهذه هي حالة لبنان اليوم.
عناد الدكتور سالم نموذجي. بيده مفتاح العلاج، ومنه تبدأ المعافاة. يكرر ثم يكرر، لا خلاص إلا بفصل الدين عن الدولة، فيتم تحرير الدين من مشكلات السياسة والدولة، ويتم تحرير الدولة من افات تدخل الدين ورجالاته وزعاماته القابضة على النفوس وملغية النصوص. ويبرهن الدكتور سالم على حجم الافات المتعاقبة من استعمال الدين كأداة سياسية.
اذا كان الايمان مبنياً على التسليم، كما يقول، فان السياسة مبنية على المصالح، وارقاها، مصالح الناس، من دون تمييز ديني أو طائفي أو مذهبي. لقد بلغ تدخل الدين والطائفية في الدولة، جعلت من الدين ضحية من ضحايا انفلات الغرائز الدينية. عانى لبنان في حروبه الداخلية، هذه الويلات. صار الدين حزباً. الاحزاب المسيحية جنت على لبنان. الاحزاب الوطنية في الاحضان الاسلامية، جنت على لبنان، واليوم، بلغ التطرف الديني مداه من العنف، بحيث صار الاسلام ضحية المسلمين، كـ «داعش» و«النصرة»، وباتت اليوميات اللبنانية السياسية، مداراة للحساسيات الطائفية، خوفاً من الانزلاق إلى الشارع. وعندما يصير الأمن، هو الشغل الشاغل والمقلق للدولة، يصار إلى معالجة المشكلات بالحلول الوسطى، ولو كانت مخالفة للدستور وناقضة للقوانين. فماذا يكون «هذا العيش المشترك» قاعدة لبنانية، فيما هو خطر دائم تلزم معالجته بمراهم وعقاقير غير وطنية.
لا يعوِّل الدكتور سالم على السياسيين أبداً. يقول: «سياسيو اليوم يستحيل عليهم الاصلاح. لانهم مرتزقة يعيشون على حساب الدولة... ورجال الدين مشتركون معهم في هذه الجريمة». اذا، من اين يأتي الحل. والحكم ممثل من هذه الطبقة السياسية المزمنة والتي لا تحتاج إلى دليل لاعلان فسادها؟
على من يقع اللوم؟ على قوى الداخل أم قوى الخارج؟ يقول الدكتور سالم، انتهى زمن لوم الآخرين، لوم السوري ولوم الفلسطيني لا يجدي. هذا ماضٍ مضى. «حان وقت تحمل المسؤولية». أما ان يكون مستقبلنا من صنعنا واما نجتر ازماتنا بلا أفق.
اي حل أذن؟ مبدأ فصل الدين عن الدولة من يطبقه؟ مبدأ تطبيق النظام الديموقراطي من ينفذه؟ مبدأ الاصلاح من يقوى عليه؟ الجواب: الرحلة طويلة وتبدأ من المدرسة والجامعة. هذا على صعيد الثقافة والتربية وتدريب العقل على ما هو ابعد من الخصوصية اللبنانية المريضة. التربية أساس، انما من يحمل المشروع؟ الدكتور سالم يرى في المجتمع المدني خشبة خلاص. لكن تجربة هذا المجتمع غير مقنعة وينقصها الكثير: مجتمع مدني بلا قيادة مسؤولة وفاعلة ومسموعة، هو مجتمع موسمي. هذا اساس للنجاح مع الاصرار على سلمية الاحتجاج والعمل الميداني، ولا قدرة لأي فريق مدني ان يحقق الانجاز الوطني، من دون بناء تنظيم قوي يضم كافة اطراف المجتمع المدني، ويكون هذا التنظيم خالياً من الصراعات والنزاعات والفردية، والأهم هو الديمومة والحضور الفاعل، فلا يكون المجتمع المدني طفرة موسمية لا اكثر.
يكرر الدكتور سالم متلازمة المدرسة - الجامعة. من هناك نبدأ. التربية المدنية في لبنان قاصرة على تعريف التلميذ واجبات محددة في نظام متهالك. في المدرسة واجب تعليم التلميذ قيم الوطن والمواطنية. واجب تحذيره من الطائفية والمذهبية المدمرة. على المدرسة واجب تخريج مواطنين. يلزم طرد الطائفية واقتلاعها منذ نعومة الأظافر. التعليم الديني كما هو ممارس يخرج طائفيين ومذهبيين. اول ما يجب التأكيد عليه، لا دين للدولة ولا دخل للدين في السياسة.
النخب غائبة، أو مغيبة لنفسها. التربية بلا دور للنخب فيها، تصير اداة لنقل المعرفة من الاستاذ إلى الطالب من دون مناقشة. النخب لا تملي بل تناقش وتحاور وتجرب وتتعلم اكثر مما تعلم. لا تشعر النخب راهنا بدورها في التغيير، «لذلك لم تتمكن النخبة في العالم العربي من تغيير المجتمع العربي، لأن النخبة بحد ذاتها غير قابلة للتغيير، وبقيت على تقليديتها في التعاطي مع الآخرين». وهذا الوضع يفسر لماذا يظل العلم سجيناً. سبحانه هو المكتفي بذاته. يصير العلم في هذه الحالة طلاءً خارجياً وزينة اجتماعية واكاديمية لا اكثر. اين الاسئلة؟ اين مناخ الحوار؟ اين محاور الاختلاف ومنصات الالتقاء؟ اين تدريب العقل على الجرأة والنقد والتحدي والتطلع إلى التاريخ الماضي بعين نقدية إلى الحاضر بعين المساءلة والرفض، وإلى المستقبل بالانفتاح على الحلول، وضرورة نقل وجهات النظر المختلفة إلى ورشة حقيقية للمعرفة الفاعلة؟
يشدد الدكتور سالم على زواج العلم بنزعة التحرر من الجهل والعادة. الحرية فعل تحدِّ للواقع وفعل بناء للمستقبل، فبناء الوطن يقوم على التربية الملتزمة بمبادئ الحرية والحق والجمال والمعرفة، أن تربية لا تساهم في صنع انسان جديد، هي برنامج مدرسي لا نفع منه.
يبدو الدكتور سالم انه ذو نزعة براغماتية، فهو يميز بين العلمانية وفصل الدين عن الدولة. «العلمانية شيء اكبر من فصل الدين عن الدولة، وفصل الدين عن الدولة هو قسم من فلسفة العلمانية... العلمانية تنطوي على شيء من تخفيض قيمة الدين... الدين أمر مهم ونحتاجه كي لا ندمر ما بقي من اخلاقياتنا».
وهو ليس ضدان تكون بعض المدارس والجامعات تابعة لطوائف، بشرط ألا يفرضوا الدين أو المذهب على التربية والعقل. العلوم الدينية تظل خياراً لمن يرغب. لا اكراه في الدين. كن ما تشاء واتركني على ما انه عليه. «فالجامعة التي لا تضمن حرية المعتقد والرأي، ليست جامعة... انا اريد الفصل بين الدين والدولة ولكني اصر على احترام الاديان».
لماذا لم تفز العلمانية ولم لم يطبق فصل الدين عن الدولة؟ جواب الدكتور سالم حاسم: «خذ معظم العلمانيين، ان لم يكن كلهم، هناك انفصام لديهم بين الكلمة والفعل، لا التزام بالكلمة حتى لدى المفكرين والكتّاب». المشكلة ليست في المبدأ، بل في من يعتنقه ولا يلتزم به حياتياً وتربوياً وسياسياً. يؤمن بشيء ويمارس نقيضه. فيما التربية الدينية، تؤمن وتفعل، وللاسف، احياناً تشذ عن قواعد الحياة، وتذهب إلى عبادة النص فتقرأه بحرفيته، وخارجاً عن ظروفه وبيئته وتاريخه. «فالذي اوصلنا إلى داعش، هي المدارس الدينية التي تحض على الطائفية، وكان من نتائجها قتل من يخالف رأي خريجي تلك المدارس... اذن، لا بد من فصل الدين عن التربية... لا يمكنك وضع التربية تحت رحمة الدين».
ولنعترف بأن التربية ليست كل شيء. مشروع فصل الدين عن الدولة، بحاجة إلى قيادة سياسية وامور اخرى كثيرة. لذلك يقتضي انتهاج مسار ديناميكي متحوِّل. لا بد أولاً من فصل الدين عن السياسة. النتيجة، ستكون في تحرير المواطن من التبعية السياسية لزعيمه الطائفي. والنتيجة الأهم، هو في تكوين ادارة نظيفة تحترم القوانين وتعمل بموجبها، من دون شعور بالخوف من أحد. الكفاءة أولاً، لا يمكن ان تطبق من دون تحرير السياسة والادارة من الطائفية والمذهبية. وهكذا يكون الشعار العملي، تعالوا نبني دولة على اساس الفصل، أولاً، بين الدين والسياسة.
يبقى هذا التفكير بحاجة إلى من يعمل به. الطبقة السياسية في لبنان اقوى من الدين والله والناس. فهي قوة قابضة، وقبضتها ممسكة بمصائر الناس، عبر ربطهم بها بواسطة نهج الزبائنية.
فهل يكون لبنان مصاباً بسرطان يتفشى، غير قابل للعلاج في المدى المنظور، أو هو مستعص حتى الآن، لفشل بنيوي أو لعجز في تشخيص المرض بأسبابه، وتلكؤ المعالجة، واستقالة النخب عن دورها في خوض معركة الحياة؟
والدكتور فيليب محاور ومحاضر وعالم، ويؤمن بالتعدد، والاختلاف في الرأي محبذ. لا يقبل الموافقة بلا قناعة. الفكر الحر، يؤمن بحرية الفكر. بديهية علمية وسياسية. قمع الفكر ديكتاتورية يقود إلى انفجار وخيم العواقب. الديمقراطية، اساسها، تأمين حرية التفكير وحرية الاختيار واحترام حرية الرأي، عندما يكون مختلفاً. «ديمقراطياتنا» العربية معدومة، والديموقراطية في لبنان معطوبة، واعطابها مزمنة، بسبب ارتهانها للطائفية، بداية ونهاية.
انطلاقاً من ايمان الدكتور سالم بحرية الرأي والحق في الاختلاف، أجد فسحة لنقاش السياسة الخارجية التي يختلف عليها اللبنانيون. هو يميز بين لبنانية اللبنانيين. فليس كل الاطراف «اللبنانية» هي لبنانية. وهذا صحيح، ولكن اسبابها لا تعود إلى «خيانات» للبنان. فلبنان الكيان، مولف من كيانات طائفية راسخة. وهذه الكيانات الطائفية ليست مستقلة عن امتداداتها في المنطقة. المسيحيون، يكفيهم لبنان بحدوده وجغرافيته، ولكن الطوائف الاخرى عابرة للحدود من الأساس التكويني للبنان. منذ العام 1920، عام تأسيس الكيان والدولة، واللبنانيون لا يكتفون بلبنان. ومثل هذا، ليس عمالة، بل هو قناعة ناتجة عن انتماء مذهبي، اقوى بكثير من الانتماء الوطني. وعليه اختلف اللبنانيون، ولجأوا إلى العنف مراراً، لحسم خلافاتهم التي تدور حول المحاور الدولية والاقليمية وما له علاقة بفلسطين.
اختلف اللبنانيون عندما اختار الحكم اللبناني في العام 1956، ان يدخل في مشروع ايزنهاور. المسلمون، عروبيون اساساً، رفضوا هذا الحلف ورأوا ان الناصرية أقرب اليهم من أميركا. انفجر لبنان. بعد اعوام، فتح لبنانيون الابواب لمنظمات الكفاح الفلسطيني، ايماناً منهم بواجب قومي، يتخطى حدود سايكس - بيكو. لقد استضاف هؤلاء القضية وسلاحها وانخرطوا فيها وكانوا على وشك تغيير اسس الكيان الذي تم التوافق علي حياديته بين شرق وغرب. بين لا للوحدة ولا للحماية.
لبنان مؤلف من جماعات لبنانية مكتفية بلبنان بحدوده، ومن جماعات تتخطى ولاءاتهم الحدود. فالشيعي اليوم اقرب إلى الشيعي الايراني منه إلى السني اللبناني، والسني اقرب إلى السني السعودي منه إلى الشيعي اللبناني. لبنان، ليس واحداً، من الاساس. ومع ذلك، هي متمسكة بالكيان، ومتنازعة على انتماءاته الخارجية.
هناك فريق لبناني يرى إلى فلسطين واجباً وجودياً. السنة كانوا كذلك قبل انزياحهم إلى السعودية. الشيعة صاروا كذلك بعد ثورة الخميني التي رفعت شعار القدس. 
هذا هو لبنان. مشكلته انه لا يتمتع بجاذبية الولاء والانتماء اليه وحده. انتماءات اللبنانيين هي باتساع خريطة انتشار الطوائف والمذاهب في الاقليم. ولا يبدو ان في الافق حلاً لذلك. فاسرائيل ستبقى عدواً لفريق من الواجب مقاومته ومحاربته، فيما يرى فريق اخر الاكتفاء بالدعم اللفظي، من دون ان ننسى ان الاسرائيلي دخل لبنان متحالفاً مع فريق لبناني اصيل في لبنانيته.
هل من علاج لهذه الحالة؟ هل المطلوب ان يستقل لبنان عن قضايا محيطه وكيف؟ هل يمكن اعلاء اللبنانية على الانتماء الطائفية والمذهبية؟ اذا كان صعباً فصل الدين عن الدولة في لبنان، فانه من الاصعب، فصل لبنان عن القضايا الاقليمية ومنها قضية فلسطين، ومن الاصعب ان يحصل استقلال عن الدول الاقليمية المتنازعة. فلبنان منقسم دائماً، بين اميركا وعبد الناصر، بين السورية واللبنانية، بين الممانعة والمسالمة، بين السعودية وايران، بين وبين إلى آخر النزاعات.
لبنان، بلد صعب، هذا هو قدر اللبنانيين، ولكن، ليس حتماً أن يظل كذلك.
من هذا المنظور، اختلف بالرأي مع الدكتور فيليب سالم، فاسرائيل مشكلة لبنانية، كما هي مشكلة عربية، وكما هي قضية لا مفر منها. لبنان ليس جزيرة وسكانه ليسوا سياحاً ابداً. انهم منخرطون، من خلال ثقافاتهم وانتماءاتهم بهذا الصراع، شاء فريق ذلك أم لم يشأ. هذه وقائع وليست مسائل سياسية. انها جزء من تاريخ لبنان وتكونيه.
كتاب الدكتور فيليب سالم، مثير للنقاش، ومثير للتساؤل. ولعل القارئ يجد متعة في معرفة مشكلات لبنان من رجل علم، وليس من رجل سياسة. من دون ان يعني ذلك، انه غير سياسي، بل ان سياسته ابداع فكره وثقافته وتربته.
يبقى، ان في الكتاب لذة اكتشاف العلاقات الشخصية والسياسية والانسانية، مع رجالات لبنان الذين عاصرهم من انطون سعاده إلى شارل مالك وغسان تويني وآخرين.

نصري الصايغ

احتفال لكشافة لبنان فوج حرف ارده في افتتاح السنة الكشفية



زغرتا  ـ

 نظمت جمعية "كشافة لبنان" فوج حرف أرده قضاء زغرتا، احتفالا كشفيا، لمناسبة افتتاح السنة الكشفية للعام ٢٠١٨ - ٢٠١٩ تحت عنوان "معرفة و محبة". استهل بقداس ترأسه المرشد الروحي للفوج الخوري يوسف جنيد في كنيسة مار شربل في البلدة. شارك فيه قادة من المفوضية العامة لكشافة لبنان، الى جانب القادة الحاليين للفوج، وعدد من القادة القدامى، وعناصر الكشفية من مختلف الفئات العمرية، بالإضافة إلى عدد من أهالي البلدة والجوار.

وبعد الإنجيل المقدس، ألقى الخوري جنيد عظة في المناسبة تحدث فيها عن المعاني الكشفية التي يحملها شعار هذا العام، و عن مسيرة الحياة الكشفية بشكل عام، وعن السلوك والاداء الكشفي في البلدة.

وفي ختام القداس، اقيم تجمع كشفي في الباحة الخارجية للكنيسة، عرضت فيه شرائح ضوئية عن الأعمال والنشاطات التي قام بها الكشافة خلال السنة المنصرمة. كذلك تمت تسمية مجموعة من المسؤولين الجدد تعزيزا لمسيرة الفوج. وأقيم حفل كوكتيل في المناسبة. 


الشاعرة والكاتبة الفلسطينية ريتا عودة في حوار مع المجلة الثقافية الجزائرية: وراء كل مبدعة جلاد يرتدي عدة أقنعة يحاول قص أجنحتها

كتب: شاكر فريد حسن ـ
أجرت المجلة الثقافية الجزائرية حوارًا شائقًا ممتعاً في غاية الروعة، يحمل ةالكثير من العمق والفائدة مع الشاعرة والكاتبة الروائية الفلسطينية، ابنة الناصزة المقيمة في عروس الكرمل حيفا، ريتا عودة .
وقالت باسمة حامد التي اجرت الحوار، في التقديم: " لا يمكن أن تذكر قصيدة الهايكو دون أن يطفو اسم الشاعرة الفلسطينية الجميلة ريتا عودة.. لكن الشعر ليس ميدانها الأوحد، فضيفتنا تتميز بأناقة لغوية لافتة وبثقافة انسانية عالية أهلتها للبوح بانسياب الى مسارات أدبية مختلفة".
وسألت المحاورة حامد الشاعرة ريتا عودة: رغم تنوع منجزك الابداعي وثراؤه الا أن اسمك ما زال بعيدًا عن الشهرة، لماذا وهل الأمر متعلق بالنقاد، أم بمأساة الكتابة الجادة والكتابة الرائجة التي يعاني متها المبدع العربي عمومًا؟!
أجابت ريتا عودة قائلة: " ما زال اسمي بعيدًا عن الشهرة، أولًا لكون المجد الأدبي لا يبهرني. أنا أكتب لأنني ملسوعة بنيران الكتابة. (عاشقة أنا لرجل ما إنما لكل مفاتن اللغة). هي قدري الذي لا استطيع منه فكاكًا مهما حاولت. حتى حين أرمي يمين الطلاق على القصيدة أجدها تعود بأثواب باذخة فتغريني بمعاودة منحها حق اللجوء إلى كياني.
ثانيًا لأن وراء كل مبدعة جلاد، يحاول كبت موهبتها، قص أجنحتها، سجنها داخل قمقم العادات والتقاليد والخوف من المجتمع والأقاويل. هذا الجلاد يرتدي عدة أقنعة. قد يكون الأب أو الأخ أو الزوج أو الأسرة أو المجتمع أو الحاكم.
ثالثًا، لأن غالبية الحركة النقدية تعاني من هشاشة النقد أو المجاملات على حساب النص الأدبي. ترى من يرتقون سلم الشهرة لبسرعة مخيفة مع أنهم لم يصقلوا أدواتهم الأدبية بعد. هؤلاء الذين يصعدون بسرعة لا بد أن يقعوا من القمة ولا نعود تسمع لهم صوتًا. أما النص الجيد فهو الذي يحمل بذرة خلود فيه ".

كاتيا بو فرنسيس توقع كتابها: أوقاف دير سيّد قنوبين خلال العهد المملوكي


زغرتا ـ
وقعت الانسة كاتيا بو فرنسيس كتابها بعنوان "أوقاف دير سيّد قنوبين خلال العهد المملوكي" في قاعة المحاضرات في مبنى الجامعة الانطونية فرع مجدليا قضاء زغرتا، برعاية وحضور رئيس اساقفة ابرشية طرابلس المارونية المطران جورج بو جوده، مدير فرع الجامعة الاب فراشيسكو خوري، النائب العام على ابرشية طرابلس المارونية الخوراسقف انطوان مخائيل، المدير الاداري في الجامعة الخوري جوزاف فرح، رئيس كهنة رعية اهدن - زغرتا المونسنيور اسطفان فرنجيه، وعدد من الكهنة والرهبان والراهبات، وعائلة الكاتبة وحشد من المدعويين. 
بداية النشيد الوطني اللبناني، عرف بالمناسبة الاستاذ سليم فضل الله، لتتحدث بعده الدكتورة سعاد سليم ابو الروس عن أهمية الاوقاف، فاشارت الى ان "الوقف هو عمل قانوني صادر عن فريق واحد ويدعى في اللغة الشرعية إسقاطًا، والوقف تبرع دائم لأن موضوع الوقف ثابت وخالد، لا يجوز بيعه ولا التصدق به ولا هبته ولا رهنه". وتحدثت عن اهمية اعادة تفعيل اراضي الوقف التابعة للاديار اليوم، من خلال الزراعة، وهكذا يتم تشغيل اعداد مهمة من الناس.
ثم كانت كلمة راعي الحفل المطران جورج بو جوده الذي قال:" كانت هناك علاقات مهمّة تربط الشعب بالأديرة. وهذه العلاقة كانت الحصن الذي يتحصّن به الشعب في حياته اليوميّة. فهو كان يستمدّ قوّته من البطريركيّة أو من الأديرة المحيطة به. علاقة جيّدة ومتينة وقويّة قامت بين الطرفين أساسها كان في معتقد الشعب. إنّه إذا كانت الأديرة بخير، فهم بخير ولا ننسى أنّ الإنتماء قديماً كان إنتماءً للكنيسة، وليس كما هو اليوم بمعظمه إنتماءً سياسياً، والعلاقة التي كانت تربط الشعب بالكنيسة هي أقوى بكثير من اليوم، علاقة متينة قامت على إيمان الشعب وثقته بالأديرة".
وختم بو جوده مهنئا الآنسة كاتيا على هذا البحث التاريخي والإجتماعي المميّز و"أنا أُشجّعها على متابعة أبحاثها ودراساتها في تاريخ كنيستنا المارونيّة ودورها في حياة المجتمع اللبناني، كما إنّي أشكرها على كل ما تقوم به على الصعيد العلمي مع إستمرار إهتمامها بالعمل الرسولي المباشر مع الشبيبة في مختلف نشاطات الأبرشيّة، بروح التواضع والخدمة والعطاء دون حساب".     

اخيرا تحدثت الكاتبة بو فرنسيس فقالت:" خليط رائع ومتكامل من كل فئات المجتمع، اجمعوا على ايجاد مجال إقتصادي، تنطلق منه البطريركية في تمركزها في منطقة الشمال، في عصر لم يكن بالعصر الهادىء أو المتساهل مع الماروني.
اضافت:" من المؤكد أن ارتباط الشعب مع دير سيدة قنوبين، أكبر وأهم من قصة شعب وكنيسة، إرتباط المصير الواحد والمشترك بينهما في ذلك العصر. انها صورة متينة قوية صلبة، صورة تحدت كل الصعوبات والمشاكل، واستطاعت أن تكون مجتمعًا متضامنًا قويًا صلبًا ، مجتمعًا من الصعب أن نجد مثله اليوم. ولن تستطيع الكنيسة اليوم أن تجدد تلك العلاقة، الا باعادة أواصر الثقة والعودة الى الجذور لاستعادة بهاء الماضي وإبراز هويتنا المارونية ذات البعد الرسولي، والانفتاح على الاخر، فنحن لم نأت هذا الجبل لاجئين إنما أتيناه مرسلين". 
من ثم وقعت بو فرنسيس كتابها للحضور، واقيم حفل كوكتيل في المناسبة.  

جمعية محترف راشيا" تكرم الراهب الإنسان الاب مارون عطالله تحت شجرة النذور في راشيا الوادي

كرم رئيس "جمعية محترف راشيا" شوقي دلال الاب مارون عطالله خلال لقاء أقيم تحت شجرة النذور المباركة في راشيا الوادي وبحضور حشد من جمعية تعرف تحب ومعاً نعيدي البناتء

رئيس الجمعية شوقي دلال قال في المناسبة "عام 1998 كانت رحلتنا في "جمعية محترف راشيا" مع الأب مارون عطالله هذا الراهب الإنسان الذي عَبَرَ بقلبه الكبير ومحبته الطوائف والمذاهب والبلدان وكان له الفضل في العديد من المشاريع المشتركة فيما بيننا خاصة ما يتعلق منها  برحلة التجلي الى جبل حرمون وربطه برحلة مشتركة لوادي قنوبين المقدس عبر "إنتظارات الشباب" ومن ثم "معاً نعيد البناء"  و"جمعية تعرف تحب" حيث إستضفنا معاً شخصيات من الإتحاد الاوروبي في وادي التيم وكان للأب مارون ولا يزال الفضل بالتعريف عن راشيا الوادي بكل تفاصيلها السياحية والبيئية والتراثية والدينية وآخرها هذا اللقاء الذي يجمعنا اليوم تحت شجرة النذور في راشيا شجرة الشيخ الفاضل ابو هلال محمد (ر) حيث كان يتعبد تحتها وإكتسبت من يومها هالة إيمانية كبيرة عند ابناء منطقة راشيا وفي كل لبنان

لهذا نعتبر أن تكريم "جمعيتنا محترف راشيا" للأب مارون عطالله في راشيا الوادي وتحت شجرة النذور هو عربون وفاء وتقدير لهذا الراهب الكبير صاحب الأفضال علينا وعلى لبنان وطن وحدة الروح بين جميع مكوّناته" 

الأب مارون عطالله "شكر لجمعية محترف راشيا ورئيسها شوقي دلال على هذا التكريم الذي اراد من خلاله تكريم جميع من عملو على مدى سنوات في بناء هذه العلاقات الروحية وهو واحد منهم وأخص الاخوة والاخوات في إنتظارات الشباب سابقاً وتعرف تحب حاضراً وهي سعادة كبيرة ان نكون اليوم في راشيا لأننا في البداية إنطلقنا من هنا وها نحن نعود إليها وسنبقى بإذن الله"..

وفي الختام قدم شوقي دلال بإسم "جمعية محترف راشيا" و"تجمع البيوتات الثقافية في لبنان" و"صالون إينانا الثقافي" درع التكريم للأب مارون وبحضور سبعين شخصية من "جمعية تعرف تحب" وكان بعدها جولة على معالم راشيا التراثية ومنطقتها

شاعرة الياسمين ملاك العوام تضيء ليل دمشق

كتب: شاكر فريد حسن ـ
أضاءت الشاعرة السورية، ابنة السويداء، ملاك العوام ليل دمشق، حيث شاركت مع عدد من الشعراء من المحافظات السورية، ضمن ملتقى مجموعة حديث الياسمين الرابع، على مسرح المركز الثقافي العربي في العدوى بدمشق، وتحت رعاية أمير الياسمين محمد الدمشقي.
وتألقت ملاك العوام على المسرح حيث قدمت بصوتها الشعري الشجي مجموعة من أشعارها الرقيقة النابضة بحب سورية والشام وارض السويداء المخضبة بدماء شهداء المجزرة الرهيبة، تفاعل معها الحضور والهبت مشاعره.
وقالت العوام عن هذه الأمسية الشعرية: " دقائق اسعدت خلجات روحي/ تحت ظل ياسمين الشام تتفيأ قصائدي / غافية أمنياتي على كتف القمر/ تعوم كلماتي بحور العشق/ لأشدو/ على شواطىء الزمن/ مكحلة العينين/ زينت جيدي/ بحب الحياة وبالامل.

إفهموني.. كتاب جديد للشاعر صالح أحمد

- وأخيرا ... تسلمت الطبعة الأولى من ديواني بعنوان (إفهموني) وهو مجموعة شعرية للأطفال.. تضم 13- قصيدة لورودنا وعصافيرنا الصغار.. وكلها تحمل عبق الطفولة... ورسالة للطفل وللأهل معًا..
* الديوان صدر عن دار الهدى ع.زحالقة
* مزيّن برسومات الفنانة الأردنية - رنا حتاملة
- إنها تجربتي الأولى في هذا المجال.. أرجو ان تروقكم.. وكم يسعدني أن تزودوني بملاحظاتكم وتوجيهاتكم ..
ولله الحمد من قبل ومن بعد :
* إليكم هذه القصيدة كنموذج مما يتضمنه الديوان:
&
ما عُدتُ صَغيرًا
///
أمّي ... أبي ...
كَبِرتُ 
ما عُدتُ بِالصَّغير
وَلي عُيونٌ تُبصِرُ 
وَلستُ بِالضَّرير
وَأُدرِكُ الحَياةَ 
وَأفْهَمُ المَصير
وأحفَظُ التّاريخَ
وَأُدرِكُ الحُدود
ما كانَ لَن يَعود !
وَصارَ لي تَجرِبَتي
واعٍ وعِندي خِبَرَتي
وَبالأمورِ يا أَبي 
لي نَظرَتي 
وَحِكمَتي 
دَعني.. أَعيشُ فِكرَتي ...
أُمارِسُ حُرِيَّتي ..
يَومًا بِلا قُيود
***
أَكرَهُ أن يُشارَ لي بِأصبَعٍ قَصير 
وأَن يُقالَ: عابِثٌ وجاهِلٌ صَغير
ويَجهَلُ الظّروفَ 
ويَجهَلُ المَصير 
أَكرَهُ أن يَقودَني الكِبارُ كالضَّرير
لأَنَّني بِزَعمِهِم 
اَلجاهِلُ الصَّغير
أَكرَهُ أَن أعيشَ
عُمري مَعَ الرَّقابَةْ
أَو أَن أظَلَّ خائِفًا
مُنتَظِرًا عِقابَهْ
لِأَنَّني كَبِرتُ
ما عُدتُ بِالصَّغير..
صالح أحمد

جمعية محترف راشيا لبنان تطلق كتاب المفكر الدكتور شوقي ابو لطيف ورئيس الجمعية شوقي دلال يعتبره كتاب العام 2018


لأنه كناب العام في "جمعية محترف راشيا" أطلق رئيس الجمعية شوقي دلال كتاب المفكر والأديب والشاعر الدكتور شوقي ابو لطيف بعنوان "فلسفة المنهج وإشكالية العقل والحدس عند برغسون" 

شوقي دلال قال في المناسبة "اليوم نحن مع ثقافة راقية هادفة بانية بإحتفالية إصدار كتاب الأخ المفكر والأديب والشاعر الدكتور شوقي أبو لطيف بعنوان "فلسفة المنهج وإشكالية العقل والحدس عند برغسون" الصادر عن دار النهضة العربية الذي نعتبره من بين اهم إصدارات الكتب لهذا العام 2018 على مستوى لبنان والعالم العربي وهو شرف لنا أن نُطلق هذا الكتاب الفريد في مضمونه وعمقه المَعرفي الذي إستهله كاتبنا بطرح السؤال "هل تبدأ الفلسفة؟ وهل تنتهي؟ وإذا ما بدأت فكيف وأين ومتى ولماذا؟؟؟" .. وأضاف "بين عقل الحداثة وعقل المستقبل يقع الحدس، الذي فلسف به هنري بيرغسون حقيقة الحياة، كصيرورة لا تتوقف أبداً، ليتجاوز الكَم الكبير من المُدركات المتَسمة بثبات اللحظة وسكون الملاحظة إلى رؤية الديمومة وصخب الإبداع"....

وقد شرفني الاخ الدكتور شوقي ابو لطيف بوضع لوحتي على غلاف الكتاب والتي رسمتها خصيصاً لهذه القيمة الأدبية التي ستُغني المكتبة العربية والعالمية بإذن الله. وأضاف دلال "من "جمعية محترف راشيا" و"تجمع البيوت الثقافية في لبنان" نقول لأديبنا الكبير الدكتور شوقي ابو لطيف ، بك نَعتز وبفكرك تكبر الثقافة ويكبر لبنان، فأمثالك قيمة إبداعية بانية وراسخة في الوجدان والعقل حيث بِرؤيتك الخَلّاقة نُخاطب أجيال لم تولد بعد اطال الله بعمرك.

من جهته شكر الكاتب ابو لطيف لجمعية محترف راشيا ورئيسها الصديق الفنان شوقي دلال على ما يقدمه للثقافة والفن والإبداع على المستوى اللبناني والعربي وما هذه اللوحة العميقة في مضمونها التي زينت الكتاب سوى دليل على ذلك متمنياً للجمعية دوام التقدم والإستمرار بهذه النشاطات البانية الهادفة" 

وفي ختام اللقاء قدم الكاتب الدكتور شوقي ابو لطيف لشوقي دلال الكتاب الجديد

الباحثة المغربية ثريا وقاص تكتب أحلام عمانية للكاتب الفلسطيني زياد جيوسي


   تقديم كتاب مثل "أحلام  عمانية" ليس بالأمر السهل أبدا، لأن  كاتبه الأستاذ زياد جيوسي دائم الانفلات الجميل.. 
   تقرأ له "صباحكم أجمل" فتجده في النقد.
   تضبطه و هو يجثو على تراب رام الله فيطل عليك من عمًّان.
   تمسك به وهو يكتب مشجعا ومعرفا بالأقلام الشابة فتراه يغرس شجرتك الفلسطينية في موقع النبي غيث في منطقة دير عمار.. 
   وهذا كثير على تقديم صغير كهذا..
   هذا قليل بحق الرجل..
   علاقتي به تمتد لبضع سنين..
   أذكر أنني كتبت قبل ست سنوات نصا بمناسبة يوم الأرض و"عنونته أشجار فلسطين"، ولن أنسى أبدا الطريقة الراقية المبهجة والسخية التي تبناه بها الأستاذ زياد جيوسي و كيف أحبه بكل جوارحه ونشره في العشرات من المواقع الالكترونية، وكانت صداقتنا آنذاك ما تزال في بداياتها..
   يومها قلت بيني و بين نفسي: هذا رجل يحمل في وجدانه فلسطين قبل أن يحمل روحه..
   قلت ذلك و ما ظننتني أخطأت. ..
   لن أنسى أيضا كيف غرس لي شجرة باسمي على تراب فلسطين في "حملة لنا جذور" وكيف أرسل لي شهادة انتماء حقيقية لفلسطين الحبيبة، هذه الشهادة التي لا تفارق منذ ذلك الحين مكتبي. "أحلام عمانية" التي صنفها صاحبها كوجدانيات عبارة عن نفحات معطرة من حياة الكاتب الحميمة في عمَّان ولكنها موشومة  بفلسطين، الحب الأكبر والمحرك الأساسي لعملية التذكر و الكتابة معا.
   ونلاحظ أننا كلما توغلنا في القراءة كلما أحسسنا بأن الكاتب ينتمي لأولئك الذين يضعون قلوبهم على الطاولة وهم  يكتبون.. 
   وكما خياطة تخيط لفستانها تبطينا حريريا يقيه من التمزق، يخيط زياد محكياته الحميمة الحاضرة بالذكريات الجميلة التي تقي القلب من وجع الغياب.
   ثم إننا مع التقدم في القراءة يتراءى لنا جيدا هذا الطفل الكبير العاشق و هو يتأمل قطرات المطر، يحتسي قهوة الصباح ويعانق طيف المعشوقة الغائبة بهيام شبيه بابتهال، أما عمَّان الحاضرة كفضاء الكتابة فتقابلها جيوس ورام الله.
   المسافة لا تفرق ولكنها تخلق سبل التواصل حتى نكاد نرى هذه الفضاءات تتشكل وتتراص كقطع في متحف عريق تحكي حقبة قلب وحكاية عشق أزلية.
   هذه الوجدانيات التي تتلون بقطرات المطر حينا والياسمين والورود والعصافير حينا آخر هي قطع نورانية أيضا وتضيء درب من يقرأ ليصل إلى الخلاصة البسيطة وهي أن الحلم العمَّاني يأخذ شكل امرأة غائبة تجسدها الكلمات.. 
   وتجدر الإشارة إلى أن الجميل في كتابات زياد جيوسي هو أنها ترتدي النظرة المرحة والجياشة لعاشق يتنقل بين هذه الفضاءات حاملا فلسطين في قلبه وعمَّان في روحه واللتين يصفهما انطلاقا من نظرة جميلة ايجابية، فلا نرى أي نقد سلبي ولا أي تأفف أو ضجر وحتى هذا الانتظار لحبيبة تأخرت بالمجيء، يحاول الراوي تأثيثه بطيفها والذكريات وحلم اللقاء الوشيك.
   يقول ميشيل بيتور بأن كل كلمة مكتوبة هي انتصار على الموت، وفي نفس السياق تقريبا يقول موريس باشلار بأننا نكتب لننقذ حياتنا وأرواحنا حتى لا تضيع بين أيامنا الفقيرة.
   هذان الاقتباسان للكاتبين الفرنسيين يستطيعان مساعدتنا على فهم وجدانيات كاتبنا.
فإذا كان الكاتب وهو غارق في وجدانياته  شديد الاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية، بالتزاماته و لقاءاته الأدبية، فهذا يعني انه بجانب الحياة  التي ينقذها من الموت كتابة، وهو فوق ذلك دقيق الملاحظة وكعدسته الشهيرة  التي يوثق بها أمكنة فلسطين والبلاد العربية التي يتمكن من زيارتها، تلتقط عينه كل ما يراه من المناظر و الوجوه ويضفي عليها مسحته الجمالية الشاعرية المعتادة.
   ونستطيع القول بأنه من كثرة ما كتب، تأتي الآن الكتابة معه سلسة وعفوية، والسرد يأتي بسهولة جميلة، أما الفضول الأدبي فهو جد كبير  لديه: إن الكاتب يهتم بكل شيء ويحب أن يعرف كل شيء وهو فوق ذلك عاشق كبير للحياة، هذه التي لا تستقيم إلا بالعشق، وهنا نلاحظ بأن كل فصل من الكتاب يأخذ عنوانا موحيا بذلك، كما أننا نحس من كلمات النص الأولى بأن زياد جيوسي يعطي اللغة من روحه حتى تتألق الكتابة.
   فكرة تقطيع الكتاب إلى نصوص قصيرة تتوازي مع فكرة بناء العلاقة التي هي في الأصل رؤية للحياة، وهي تشبه أي بناء يحتاج لكي يكتمل إلى لبنات ترتصف شيئا فشيئا. 
   وإذا كان الكاتب الجيد هو الذي يملك عينا وأذنا و يدا على استعداد دائم لالتقاط الأحاسيس، فنصوص زياد جيوسي تحمل الكثير من الاهتمام الذي يوليه للنظر والملاحظة، ولهذا نرى هذه النصوص القصيرة تفاصيل تتجانس لتشكل هذا  الكل الذي يقدمه الكتاب، وبطبيعة الحال يملك كل نص من هذه النصوص كينونته الخاصة، إلا أنه في نفس الوقت لا يفقد علاقته بالكل الذي هو وجدانيات الكاتب.
     وحين نتحدث عن الوجدان لا مناص لنا من الحديث عن الذاتية في نفس الوقت.
   الذاتية غالبا ما تنظر إلى العالم نظرة عابرة  ثم تدير له ظهرها لأنها لا ترى شيئا أهم منها. 
   ولكن يجب القول أيضا بأنها لا تدير ظهرها لهذا العالم إلا حين تمسك بشيء ما منه، هذا الذي يشبه حبة الرمل التي تتسلل إلى المحارة لتصبح فيما بعد لؤلؤة. 
   الكاتب الفرنسي مارسيل بروست يؤكد على أن كل شيء يكمن في  الذات وليس في الموضوع.
   في هذا السياق نستطيع أن نشير، وربما بشكل تعسفي قليلا، بأن زياد جيوسي الموزع ما بين المناضل الذي أفنى حياته في النضال والالتزام السياسي والفصائلي والاعتقال والمحبط سياسيا، وزياد الكاتب قد وصل إلى حقيقة مهمة، وهي أن العودة إلى الوجدان، إلى الذات، إلى الشأن الحميم هي عودة إلى الأرض، إلى معانقة الحبيبة وعبرها معانقة الآخرين لأن الوجدان أكثر واقعية من الواقع نفسه، فهو لا يخذل أبدا..  
   وزياد يحاول في كتابة "أحلام عمانية"  تأسيس الوجدان وعلاقته بالذات والآخرين والأرض، لأن التفتت في العلاقات الاجتماعية والإنسانية عموما يحصل غالبَّا حين تكون هذه العلاقات مستلبة وغير معبرة عن وجدانها.
    وكخلاصة نستطيع القول بأن قراءة نصوص زياد جيوسي تتيح للقارئ تكوين فكرة مختزلة عن معنى الحياة المتمثلة أساسَّا في العشق الخاص والعام معَّا، وأن شكل النص القصير المختصر والمليء صورا يسمح له باستشراف عالم لا نهائي، حيث يستطيع أن يضيع ويجد نفسه معا..
   والأحاسيس التي تطالعنا في نهاية المطاف هي أحاسيس رجل أمام وحدته وهشاشة حياته دون حبيبته الغائبة، أما النظرة التي ما توقفت عن معانقة الناس فهي تعانق الآن وجدانه أيضا و تراقب الحياة التي تمر فترتج روحه.

   باختصار شديد أقول: حين نقرأ زياد جيوسي نصبح عشاقا.

الشاعر والأديب الفلسطيني ب. فاررق مواسي يضيء الشمعة السبع والسبعين

كتب شاكر فريد حسن ـ
يصادف اليوم عيد ميلاد صديقي الجميل، صديق العائلة وصنو أخي الراحل نواف عبد حسن، ا.د فاروق مواسي، الذي يضيء الشمعة السبع والسبعين من عمره الممتد، وحياته العريضة الحافلة بالعطاء والتدريس الاكاديمي والابداع بمختلف مجالاته وأنساقه.
ب. فاروق مواسي شاعر وأديب وناقد متوهج الكلمة، صادق الأداء، وكم كان محقًا المحامي حسبن الشيوخي، عندما نعته وقال عنه " كشاجم " الفلسطيني، فهو كذلك. وانه من أبرز وأنشط المبدعبن واغزرهم في المشهد الثقافي الفلسطيني ذفي الداخل، وأشعاره ذات أبعاد ذاتية وانسانية ووطنية، ويأسرنا بصوره الشعرية الخلابة الخلاقة وقدرته الابداعية اللافتة، وتوظيفه المعاني بما يتناسب ويتلاءم مع موضوعة قصيدته، ببوح متأجج ورمزية شفافة.
انني اذ انتهز هذه المناسبة السعيدة كي أسجل هنا تقديرنا الكبير للصديق الحبيب أبو السيد، واعتزازنا به اخًا ومبدعًا وانسانًا رائعًا رهيفًا حتى الدمع والبكاء والتأثر والانفعال السريع، وتمنياتي له بالعمر المديد والعبش الرغيد، حفظك الله من أي مكروه، واسبغ عليك ثياب الصحة والعافية والسعادة والفرح، ودمت مبدعًا متألقًا، مع أجمل باقات الورد نقدمها لك في يوم ميلادك.

فوق مرآة الغربة شمسٌ اِسمُها بغداد: قراءةٌ في ديوان (عروس الشّرق بغداد) للأب الشّاعر يوسف جزراوي

كتبت د. أسماء غريب ـ

وإذ أحملُ قلمِي لأكتُبَ عن الشّاعرِ يوسف جزراوي، أرى الشّمسَ جالسةً أمامي، وبين يديْها بغداد زنبقةً بيضاءَ تنظرُ إليّ بمحبّة وتسألني: أَلِلْعَارفَةِ أن ترُصَّ لآلئَ أبْجديّتِها فوقَ قراطيسِ الأبِ الكاهِنِ؟ وهل لقلبِها المغربيّ أنْ يكتُبَ بحرفِ البهاءِ عن قلبهِ المَشرقيّ؟ وهَبِي الأمرَ كذلكَ، فهل للغريبة كُنْيَةً ومكاناً أن تُطَرِّزَ حروفاً من ذهبٍ عن الغريبِ اسماً وإقامةً في بئرِ المنفى اليوسفيّ البعيد؟ ابتسمتُ للشّمسِ الفضّيّة وقد أشرقتْ عراقيّةً بيْنَ عينيَّ وقلتُ لها: لا يعرفُ الغُربَةَ والغُرباءَ إلّا غريبٌ آخرَ شرِبَ مثلهُم حتّى الثّمالة من الكأسِ العيسويّةِ، ونهلَ معهُم مِن الرّحيق المُحمّديّ حتّى فاضتِ النّقطةُ البيضاءُ بالدّموع والآهات، واللّواعج واللّوعاتِ، وكيف لا يا سيّدتي وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ، بلْ كيف لا وغربةُ يوسفَ في ديوانه هذا غربتَان: غُربةُ الصّالحين بيْن أهل الدّنيا والفسَادِ والرّياء، وغربة الفارّين بدينِهم من أهل الفتْنَة الفُسَّاق السّفّاكين للدّماء، وهو لأنّهُ من أهل الهِمّة والطّريقِ أكتبُ عنهُ وعن غربتِه وبغدادِه، عروسَ الشّرق وقدّيسةَ العواصم كلّها، ألمْ تسمعيه يا سيّدتي الشمس وهو يقولُ: 
((في قلب كلِّ غريبٍ
قصّة لم ولن تحكى
وقصّتي تدور عن شدة وفائكِ
فكم يؤلمني أن كلَّ ما حولي لم يظلَّ وفيًا
إلّا أنتِ!
مازلتِ حدبة في ظهري
وندبة في جبيني،
متى ستطلقين سراحي؟
يوسفٌ كنتُ لكِ وأنتِ كنتِ لي بئرًا)) (1)
نعم، يا شمسَ المحبّة، فمن مقام البئر هذا يُؤثِّثُ الشّاعرُ يوسف مكانَه الشعريّ ويجعلهُ مرآةً قلبيّة لا تعكسُ شيئا سوى بغداد التي يقول فيها:
((بغداد يا ملكوت الأرض،
عجزتُ عن حبّ غيركِ،
كأنّ قلبي عاقر
لم ينجب مشاعر إلّا لكِ!
ولكن،
حتّى متى سيظل في الروح
أسى حبّ لا يُفسّر؟!
أنا الذي هو أنت
أوقدتُ قلبي للصلاة
أقمتُ القدّاس مرتلاً بالحنين،
وأشعلتُ آخر شمعة على مذبح الأمنيات
عسى أن تبصريني،
فلكلّ داء دواء
إلّا أنتِ،
فقد أعييتِ من يداويكِ!)) (2)
بغداد هذا المكان الذي يعشقُه بصوفيّة العارفين كمنزلٍ لا يَفْتَحُ أبوابَهُ إلّا لأهل الكمال الّذين تحقّقوا بالمقامات والأحوال وجاوزُوها إلى مقام الجلال الّذي تظهرُ فيه بغداد عروس الشّرق الحاملة لسرّ العشقِ والحكمة العليا كمعنىً بديلٍ يُساوقُ في هذا الدّيوان بين اللّغة والخيال الشعريّ العرفانيّ بشكل يحاولُ معه الشاعرُ يوسف أن يستعيدَ التّوازنَ بين المعنى المجرّد لبغداد كمكان جغرافيّ فقط، وبين معناها الرّمزيّ المُدرَكِ بحسٍّ وعقلٍ مُختلفيْن هُما حسُّ وعقلُ الكاهن العابد اللذانِ تتحولُ عناصرهُما التكوينيّة والدلاليّة لتُصبحَ عناصر تحيل إلى اللّامنتهى، أو إلى الوجه اليسوعيّ الذي ظهر متقنّعاً في الدّيوانِ بوجه بغداد، مصداقاً لقولِ الشّاعر في هذا المقطع الحلوليّ بامتياز: ((أنا الذي هو أنتِ / أوقدتُ قلبي للصلاة / أقمتُ القدّاس مرتلاً بالحنين، / وأشعلتُ آخر شمعة على مذبح الأمنيات / عسى أن تبصريني)). فهل أبْصَرَتْ بغدادُ يا ترى عاشقَها الكاهن المرميّ في أقصى منافي الأرض؟!
نعم، أبصرتْهُ حتّى أنّها أصبحتْ نموذجاً جمالياً يتحرّكُ فيه الوعيُ الدّاخلي للشّاعر رغماً عن كلّ المسافات مُعيداً بذلك إنتاج كلّ الصّور المرسومة في ذاكرتهِ عنها وعن أهلها وأزقّتها، وسمائها ومائها ونجومها وكواكبها، بل عن حياته التي قضاها فيها مُذ رأى النور إلى أن تركها وفي القلب غصّة الأسى وفي الحلق حشرجة الموت:
((في مستشفى السامرائي حبل مشيمتي،
وفي الكرادة مهد طفولتي وجرن عمادي،
وفي الدورة كلّيتي
وفي المعلمين
حيث كنيسة الصعود
أوقدتُ أولى شموع كهنوتي،
وفي مقابر بعقوبة
يرقد والدي على رجاء القيامة
تحت تربتك الطاهرة
فهل عرفت ابن من أنا؟)) (3)
هكذا في حضرة بغداد الشامخة يؤسِّسُ يوسف جزراوي أبنيتَه الشّعريّة ويرصّها الواحدة تلو الأخرى ليقول إنّ الحقيقة ليست هي فقط ما نبصرهُ حولنا وإنما هي أيضاً ما يضفيه الخطابُ اللغويّ من قيم وصفيّة على كلّ الكائنات والأشياء بما فيها الأماكن التي هي حيّز خصبٌ لأحداث وتوقّعات وذكريات وصور هي صدىً لتجاربه العميقة والحميميّة في وطنه العراق. وهو بهذا يسعى إلى إعادة بناء بغداد مرّتين، مرّة في قلبه الحيّ عبر التذكّر المُستمرّ، ومرّة في خيال المتلقّي عبر اللّغة الشّعريّة التي تجعل من بغداد زائراً ينعكس على مرآة الغُربة التي يقول فيها الشاعر:
((ليس في رزنامة العمر سوى الغربة
وفي الغربة صومعة ومرآة متشظّية
أغازل فيها حبيبة لم تعُد تغازلني
صباحا ومساء أناجيها وأحاكيها
ألملم ذاتي الجريحة من حنايا انعكاساتها
أتفرّسُ في ملامح تشبهها إلى حد كبير
ولولا أنها تبتسمُ
لقلتُ إنها هي!
[...]
سألتها متى ستزورك بغداد؟
لأفتل ضفائرها حين يزرع الليل القمر،
وأقطف لها في الصّباحات خصلات الشّمس
متى سأغنّي لها حنيني وأدقّ أنيني وأشدو مواويلي؟
بين الأنين والحنين
جاءني الجواب من دمعة اشتياق
عنوانه انتظار!
راودتني فكرة
أن أنام في عين العاصفة
أحطّم ما تبقى من المرآة
وأمشي على بقايا الزجاج المطحون
تريثتُ
لأنني لم أكسر يوما بخاطر وردة؛
فإن كانت بغداد جرحا لم يندمل ونزيفا لم يلتئم،
إلّا أنّ لقاء خيالها في مرآة الاغتراب هو للعين مستطاب.))(4).
لا بدّ للغريب أينما كان من المرآة، مرآةَ الله التي عليها يرى العرفاءُ الغرباءُ أسرارَ الكون كما حدث لموسى حينما كان على قمّة جبل سيناء. لا بدَّ ليوسف الشّاعر من المحنة، ولا بدّ للمحنة من الآه واللّوعة والدّمعة والاحتراق، وإلّا فإنّ بغداد لن تزوره في منفاه، ولن يتجلّى له اللهُ من خلالِ وجهها البهيّ، وهو الشّاعرُ الذي قضى أيام البُعد في انتظارها ليُشعلَ شموعَ حبّها ويُبشّرَ بها هنا وهناك (5)، مادام يوسف وإن كان بعيدا هناك في استراليا فإنه ظلّ وفيّاً للعهد والوعد، وحرص على ألّا يولّي وجهَه إلّا شطر بغداد الله، لأنها مرآته الحقّة التي بدونها لا يكون له قِبلة يتّجِهُ إليها ولا قطبٌ يوجّهُهُ في حياته وصلاته وعبادته كما تفعل بغداد التي هي دار السّلام وعروس الشّرق شاء من شاء وأبى من أبى. وهي وإن كانت اليوم في محنة فإنّ محنتها عرضية ليس إلّا، وهي لهذا زائلة، وما المُعوَّلُ إلّا على بغداد القلب التي يَخْبِرُ العرفاءُ والشّعراء الغرباءُ من تكون حقيقة، هذه الشمس المكللة بالضياء والجمال:
((حبيتي بغداد،
أقف طويلاً أمام صورتكِ
لأنظر في وجوم إلى زمنٍ
لم يبق منه سوى ذكريات خلدتها الصور!
ولأنّ الذكريات تدوم أكثر من الحبّ
تركتُ لكِ ذكرى، بل وردة لا تذبلُ
بين طيات كتاب له رائحة بخور الكنائس،
وزرعتُ صورة قداسي الأول بين الصفحات
لتتيقّني أنّكِ في قلبي وصلاتي مهما طال الغياب.)) (6)
الهوامش:
(1) الأب يوسف جزراوي، عروس الشرق بغداد، (أيتها الغربة رحماك)، دار تموز ميموزي، دمشق، 2018، ص 161.
(2) (إلّا أنت)، المصدر نفسه ص 138.
(3) (أقسمُ بحبّكِ)، المصدر نفسه ص 42.
(4) (مرآة الغربة وخيال بغداد)، المصدر نفسه، ص 72.
(5) انظر قصيدة (سأبشّرُ بحبّكِ)، المصدر نفسه، ص 129.
(6) المصدر نفسه، ص 68.

خلاخيل للكاتبة دعاء زعبي خطيب


بقلم وعدسة: زياد جيوسي ـ
      من ناصرة الجليل الفلسطينية وعلى مركب النسمات الغربية العابقة برائحة البحر السليب، كانت الكاتبة دعاء زعبي خطيب تحط في أمسية ناعمة النسمات في عمًان عاصمة الأردن الجميل، في رواق بيت الثقافة والفنون بين حضور جميل لتتمازج نسمات ضفتي النهر المقدس، في حفل اشهار كتابها الأول: "خلاخيل" الصادر عن دارة المها للنشر والترجمة في الناصرة، حيث بدأ الحفل بحديث موجز للشاعر مختار العالم الذي قال: لن أتحدث عن الكاتبة وعن الكتاب، فشهادتي ستبقى مجروحة لصلة القرابة التي تربطنا، لذا سأكتفي بمقاطع من نص لي تولد وأنا أجول كتاب خلاخيل وأستعيد ذاكرة الطفولة التي جمعتني بالكاتبة دعاء.. (رنّات خلخالٍ بدرب الذاكرة /لمّا تزل بالنبض بعدُ مسافرة/ لحنٌ يموسقُ حُسنها ودلالها/ حتّى انتشى فكرٌ يداعبُ خاطرة/ سامرتُهُ والليلُ يأكلُ بعضهُ/ أوقاتهُ مع نبض قلبي ساهرة/ أفشيتُ سرّي والجنونُ يعضُهُ/ فينزُ سحرًا من جمال الساحرة..)، ليتحدث بعده الكاتب والناقد أحمد الغماز، فيقدم نبذة عن الكاتبة ومسيرتها وحياتها، وقراءات في بعض نصوص الكتاب أشار فيها لما وراء النص من جماليات الصور والفكرة، كما تحدثت الكاتبة عن بعض المحطات التي أدت لإشراقة مولودها الأول في عالم الكتابة، وقرأت عدة نصوص من كتابها على انغام الناي وعزف العود، وبدأت القراءة بمقدمة تعريفية عن الكتاب: "بخطى وثيرة، حالمة، ثابتة، تجوب خلاخيلي طرق الذاكرة، وذاكرتي لا تحتاج لأوراق ثبوتية كي تؤكد حقها في قسمات المكان، وفواصل اللغة، وشوارع مدن أرهقها سير العسكر وترنح الحب فيها.. هي أقمار أضاءت أقدام روحي وحثتها على السير فسارت، معلنة حربها على الصمت والنسيان".
   هذه المقدمة في بداية الكتاب تضعنا مسبقا بالهدف من الكتاب والرسالة التي حملها، ويلي ذلك الاهداء الذي قالت الكاتبة فيه: "لسنوات عمري التي مضت تنتظر هذا الحلم فأهدتني الكثير لأكتب فكتبت. ولتلك التي ستأتي بعد، علها تكسر ما تبقى لي من لحظات شوق وجدران صمت"، وفي جولة سريعة في الكتاب الذي حوى عدد كبير من النصوص تراوحت في تصنيفها بين شعر وقصة وخاطرة وومضة، جعلتها بوح روح بعيد عن التصنيفات الأدبية مما يوقع الناقد بمطب اشتباك النصوص إن تناول الكتاب بقراءة نقدية، بدأتها بــ "رقصة الروح" وأنهتها بالحديث عن أبيها الذي رحل في نص "أبي"، كانت نصوص الكتاب حافلة بالرمزية والمعاني خلف السطور معبرة عما يجول في داخلها من براكين الغضب من احتلال طال، فـهي "دارت ودار معها زمانها في رقصة غجرية مجنونة لا تشبه الرقص.. غابت عن كل شيء، مسحورة، مأسورة، تصارع قدرًا أحادي الرقص"، فهي رقصت على من ألم جرحها الوطني، فجالت في كتابها بين ذكريات الطفولة وبين من غادروا الوطن وعاشوا في الشتات الفلسطيني، وبين من هجروا وبين من يحلمون بالعودة.
   حرب لبنان لم تغب عن ذاكرتها ولا المجازر التي تلتها في صبرا وشاتيلا، ولا غابت بيروت ولا مجد الأندلس، ولا ذلك الصهيوني المعادي لكل ما هو عربي على مقاعد الدراسة المشتركة الذي ذهب للحرب ولم يعد، ولا مظاهرات العرب تضامنا مع شعبهم في لبنان ومطاردتهم من شرطة الكيان الاستيطاني، ولم تغب عن لقاء الأهل بين الضفة الغربية والعمق الفلسطيني في ظل هزيمة 1967 حين أصبحت كل فلسطين تحت الاحتلال، كما تحدثت عن قصف مدرسة بحر البقر في مصر كي لا تذهب الذاكرة في ظل زمن أصبحت الخيانة فيه وجهة نظر، وعن الشام الجريحة؛ ولم تغفل أن تتحدث عن بعض من الحياة اليومية العربية في الوطن الذي ارادوا أن يشطبوا ذاكرته فتحدثت عن خميس والعرق سوس والستيني بائع الكعك بالسمسم، وعن الرعب لدى المحتلين في مقهى حين سمعوها تقول الله أكبر وهي تروي حكاية لصديقتها عن أمها، وعن رفض فكرة الحب بين جندي احتلالي وفتاة عربية، وعن ذاكرة اطفال المرحلة وعن الشاعر الكبير المناضل توفيق زياد ابن الناصرة.
   حكاية طويلة بل حكايات روتها الكاتبة في "خلاخيل" تحتاج للكثير من الحديث عنها، لكن للقارئ حق أن يقرأ بنفسه نصوص الكتاب ويحلق معها ومع الروح التي باحت بها وكتبتها، حكايات الوطن والروح والقلب والأحاسيس والمشاعر والطفولة والنضوج والوعي الوطني المبكر تحت احتلال يبذل كل جهده لاستلاب الأرواح كما استلب وطن ننشد له القصائد فقالت الكاتبة في أحد النصوص: "وهل يحتاج الوطن لقصائد يضيئها ورد أنثى؟".. 
   في خلاخيلها أخذتنا الكاتبة لفضاءات قريبة قرب الوطن من القلوب، وبعيدة كما بعد القناعة أنه يمكن أن تكون هذه الأرض لغير اهلها الذين قطنوها منذ ضرب كنعان أول ضربة معول وبنى مدينة القمر أريحا، بأسلوب سهل بعيد عن التعقيد وإن حفل بالرمزيات الكثيرة وما وراء الكلمات، فالنص الأدبي إن كان مباشرا تحول إلى الخطابة، وإن ابتعد عن تكثيف اللغة تحول إلى سرد ممل، وهذا ما سعت الكاتبة أن تبتعد عنه، فكانت خلاخيل كما حديقة ورود، لكن كل وردة فيها لم تخلو من وخز الأشواك، فكانت خلاخيل باكورة عودتي للكتابة بعد غياب لأسباب صحية.
   ونهاية حديثي، خلاخيل كتاب أردات به الكاتبة أن تُسمع صوت خلاخيلها  الكنعانية الجذور بعد طول صمت حتى فاض بها الكيل، فهي أرادت أن تدق جدران الخزان  لمن يجب أن يسمع، فهي كما قالت في نصها "رقصة روح": "بدأت تهذي بجنون الكلام، وابتدأ الرقص".

إصْدَارُ ديوان- أَتُـخَـلِّـدُنِـي نَوَارِسُ دَهْشَتِك؟


(كُنْ عَظِيمًا، لِيَخْتَارَكَ الْحُبُّ الْعَظِيمُ..) .. مي زيادة
هذا ما استهل به الناقد العراقي علوان السلمان مقدمته التي جاءت بعنوان رَسَائِلُ وجْدَانِيَّةٌ لديوان "أَتُـخَـلِّـدُنِـي نَوَارِسُ دَهْشَتِك؟" رَسَائِلُ وَهِيب نَدِيم وِهْبِة وآمَال عَوَّاد رضْوَان، والصادر في الثامن من أكتوبر 2018 عن دار الوسط للنشر في رام الله. 
يتألف الكتاب (أَتُـخَـلِّـدُنِـي نَوَارِسُ دَهْشَتِك)، والذي صمم غلافه بشار جمال، من 36 رسالة، منها 18 رسالة للأديب وهيب نديم وهبة، و18 رسالة ردًّا عليها للشاعرة آمَال عَوَّاد رضْوَان، في كتاب من القطع المتوسط بواقع 186 صفحة .  
وقال الناقد علوان السلمان في مقدمته: 
إنَّ بثَّ الوجدانِ بعوالِمِه المُؤطّرةِ بشغفٍ على ورقِ القلبِ وحِبرِ الوجْدِ يعني؛ تحقيقَ الرّسالةِ لطرفٍ يَحتلُّ مديّاتِ الرّوحِ، بصِفتِها النّاطق الكلميّ المُعبّر عن المشاعر والأحاسيسِ، والمُترجِم المرئيّ للعواطفِ، المُستنِدِ على منهَجٍ اجتماعيٍّ ونفسيٍّ ووصفيٍّ، موجزٍ بعباراتِهِ، وبُعدِ مُفرداتِهِ عن القاموسيّةِ والتّقعُّر.
  لقد شهدَ فنُّ الرّسائلِ نهضةً واضحةَ المَعالم، إذ إنّ مُسايرَتَهُ لحركةِ العصرِ الّذي وُسِمَ بعصرِ السُّرعةِ، وكانَ تَطوُّرُهُ في المحتوى والأسلوبِ، حتّى صارَ صناعةً ذاتَ قواعد وأصول، وأخذَ يستمدُّ أهمّيّتَهُ وقيمتَهُ مِن أمريْن أساسيّيْن: الخصائص والوظائف..
لقد ميّزَ صاحبُ الصّناعتيْن ما بينَها وبينَ الخطبة، كونَهُما نصّان مُتشاكلان، (إذ إنّهما كلامٌ لا يَلحقُهُ وزنٌ ولا تقفيةٌ، وقد يتشاكلانِ مِن جهةِ الألفاظِ والفواصلِ، فألفاظُ الخطباءِ تُشبهُ ألفاظَ الكُتّابِ في السّهولةِ والعذوبةِ، وكذلكَ فواصلُ الخُطبِ مثلُ فواصلِ الرّسائلِ، ولا فرقَ بينَهما إلّا في:
(الخطبةُ يُشافَهُ بها.. والرّسالةُ يُكتَبُ بها..)
وسواءً طالتْ الرّسائلُ أم قصُرَتْ، تبقى قطعةً فنّيّةً مُؤثّرةً دافعةً إلى استجابةِ المَشاعرِ لها، فنصُّ أبو هلال العسكريّ يعتمدُ آليّةَ المُقارنةِ المُضْمَرةِ، كوْنُهُ يَستحضِرُ جنسَ الشّعرِ، باعتبارِهِ المِعيار الّذي يَحتكمُ إليهِ في كلِّ عمليّةٍ تجنيسيّةٍ، فجنسُ الرّسائلِ ليسَ مُجرّدًا عن مضمونِهِ الكاشِفِ عن تأمُّلاتٍ نفسيّةٍ وعاطفيّةٍ، بل عادَ وثيقةً أدبيّةً تُعلنُ عن دواخلِ الذّاتِ الإنسانيّةِ، واشتغالاتِها الحالِمةِ باعتمادِ التّكثيفِ والإيجازِ، معَ ابتعادٍ عن التّكلّفِ، والمُبالغةِ والاستطرادِ، بتوظيفِ الأساليبِ البلاغيّةِ (مجاز/ استعارة/ كناية..)، وكلّ هذا يتطلّبُ ثقافةً معرفيّةً، وصياغةً مُتقنةً بليغة.
  وَهِيب نَدِيم وِهْبِة يقول:
آمَال؛ كُلُّ الْمَسَافَاتِ فَوْقَ وَطَنِ الْكَلِمَاتِ قَرِيبَةٌ، لِهذَا أَوَّلُ الْوَرْدِ أَنْتِ! أَنْتِ تَمْنَحِينَ لِلْإِبْدَاعِ قِيمَةً وَوُجُودًا وَكَيَانًا، بِتَوَاصُلٍ يَمْنَحُ الْحَيَاةَ قِيمَةً وَمَعْنًى، وَحَقِيقَةً أَدَبِيَّةً إِنْسَانِيَّةً، وَإِنَّنَا مَا نَزَالُ نَحْيَا الْمُعَانَاةَ، هذَا الشُّعُورُ الَّذِي يَجْمَعُ مَا بَيْنَ الْقَارِئِ وَالْمُبْدِعِ فِي بَوْتَقَةِ الْحَيَاةِ". 
دَعِينِي أُهْدِيكِ أُغْنِيَةً؛ 
إِلَيْكِ.. وَإِلَى "سَلَامِي لَكَ مَطَرًا" لِلشَّاعِرَةِ آمَال عَوَّاد رِضْوَان: 
مَا بَيْنَ زَغَبِ الْيَمَامِ وَطُيُورِ الْغَمَامِ.. 
غَزَالُ الْكَرْمِلِ الرَّاكِضِ.. مِنْ عَيْنِ "أُمِّ الشَّقَفِ".. 
إِلَى مَرْجِ بْنِ عَامِر.. إِلَى سَهْلِ حُورَان..  
أَمَا قُلْتُ..
هِيَ.. عَوْدَةُ الصَّيَّادِينَ مِنَ الْبَحْرِ عِنْدَ الْفَجْرِ؟ 
هِيَ.. صَرْخَةُ الْحَصَّادِينَ.. فِي الظَّهِيرَةِ فِي عِزِّ الْحَرِّ؟ 
هِيَ.. قِنْدِيلُ الْعَاشِقِ فِي ضَوْءِ السَّهَرِ؟
أَلَيْسَتْ أُغْنِيَةً.. تَنْبَعِثُ مِنْ بَيَاضِ الْوَرَقِ فِي عِطْرِ الشَّوْقِ؟ 
هَا أَنْتِ قَصِيدَةٌ.. تَمُوجِينَ.. مِثْلَ زُرْقَةِ الْبَحْرِ الْكَبِيرِ!
وَأَعُودُ لِلشِّعْرِ.. وَلِلْبَحْرِ 
لِأَمْوَاجِ الْكَلِمَاتِ .. فَوْقَ بَيَاضِ الزَّبَدِ 
لِهذَا النَّهْرِ الَّذِي .. يَخْتَارُ جِهَةَ الْفِكْرِ 
لِمَصَبِّ النِّهَايَاتِ.. فِي خَوَاتِيمِ الْبَرِّ الْكَبِيرِ؛ 
"الْحَيَاةْ"! 
لِعَصَافِيرِ الشِّعْرِ الَّتِي.. تَطِيرُ الْآنَ مِنْ أَوْرَاقِي! 
سَأَكْتُبُ إِلَيْكِ أُغْنِيَةً.. وَفِي الْقَلْبِ "سَلَامِي لَكِ مَطَرًا" 
آمال عوّاد رضوان تردّ: 
أُسْتَاذِي وَهِيب نَدِيم وِهْبِة.. حَقًّا؛ تَنَعَّمْتُ بِلَذَائِذِ أُغْنِيَتِكَ، أَقُولُ بِمِلْءِ شُكْرِي الْعَمِيق:
عَلَى ثَرَى أَثِيرِي.. حَطَّتْ عُصْفُورَةُ ضَوْءٍ
تَهُزُّ عَرْشَ أَسَاطِيرِي!
مِنْ ذَاكَ الْمَدَى.. رَفْرَفَتْ.. هَلَّتْ وَهَلَّلَتْ 
تُنْبِينِي.. بِهَدِيَّةٍ مَخْتُومَةٍ .. بِعِطْرِ الشِّعْرِ
مُظَلَّلَةٍ بِوَحْيِ حَرْفِي.. "سَلَامِي لَكَ مَطَرا".. ؟!
كَشَذَى بَتُولٍ خَاشِعٍ.. لَفْتَتُكَ الْمَلَائِكَيَّةُ
دَغْدَغَتْ سُحُبِي.. عَذْبَةَ الْجُرُوحِ
بِأَرِيجِ أَجْنِحَةِ السَّمَاءِ.. تُكَلِّلُ رُوحِي 
وَأُفُقِي الشَّفِيفُ.. مَا انْفَكَّ يَنْضُجُ رَهْفَةً
عَلَى ضِفَافِ شُكْرٍ.. لِهَدِيَّةٍ تَغْلُو بِالشِّعْرِ تَرَفًا!
وَتَظَلُّ عَقَارِبُ الْأَيَّامِ ضَبَابِيَّةً.. 
تُمَاحِكُ سُوَيْعَاتُهَا ثَوَانِيهَا
لِتَخْتَالَ خُطَى الْبَهْجَةِ .. عَلَى بِسَاطِ الْغِبْطَةِ!
بِمُنْتَهَى حَرَارَةِ عَفَوِيَّةِ طِفْلٍ.. تَكَمَّشَ بِرَاحَةِ يَدِي
كَمَنْ يَقْبِضُ.. عَلَى مَاسَّةٍ زِئْبَقِيَّةٍ
يَخْشَى أَنْ تَنْزَلِقَ.. تَزُوغَ مِنْ أَنَامِلِهِ؟
وَبِجُنُونِ سَعَادَتِهِ الْبَاعِثِ 
عَلَى إِرْبَاكِي .. عَلَى دَهْشَتِي
عَنْ صَهْوَةِ التَّحَايَا .. يَتَرَجَّلَ حَيَاؤُهُ الْجَهُورِيُّ!
نَبْضُ قَلْبِهِ يَتَهَدَّجُ.. عَلَى مَسَامَعِ الْحُضُورِ
وَمَا دَرَى .. أَنَّنِي ابْنَةُ بَلَدِهِ الْمَبْتُورِ!

الرّسالتانِ مُكتظّتانِ بالحقولِ الدّلاليّةِ المُكتنِزةِ بالعاطفةِ الّتي احتضنَتْها ألفاظٌ شفيفةٌ مُتميّزةٌ بِرقَّتِها وعذوبتِها، مع بُنْيَةٍ تتجاوزُ القوالبَ الجاهزةَ والهيكليّةَ الثّابتة، وهي تُعبّرُ عن نصوصٍ وجدانيّةٍ تَكشفُ عمّا يَختلجُ المُرسلَ لكلا الطّرفيْن (العاشق والمعشوق)، لبثِّ لواعجِ الشّوقِ، لتحقيقِ التّواصُلِ والوِصالِ واختصارِ المسافاتِ، عبرَ نثريّةٍ مُوجَّهةٍ بصياغةٍ وجدانيّةٍ مُمتعةٍ بتَوارُدِ الخواطرِ فيها، لتغدُوَ قطعةً فنّيّةً موجزةً مُؤطّرةً بإطارِ (الحُبّ) الخارجِ عنِ الذّات، مُؤثّرةً دافعةً إلى استفزازِ الذّاتِ الآخر، وتَحريكِ مشاعرِهِ للاستجابةِ لها..
     وَهِيب نَدِيم وِهْبِة يكتب:
آمَال؛ عُصْفُورَةُ الْحَنِينِ تَنْقُرُ شُبَّاكِي؟! 
مَا بَيْنَ الْبَحْرِ "اللُّغَةِ" وَشُعَاعِ الْفَوَانِيسِ
تَحْمِلُ كَلِمَاتُكِ الرَّقِيقَةُ النَّاعِمَةُ.. غِنَاءَ عُصْفُورَةِ الصَّبَاحِ! 
رِسَالَتُكِ الْعَائِدَةُ إِلَى الْجَبَلِ الْكَرْمِلِيِّ الشَّامِخِ تَقُولُ: 
أَنْتِ الشَّامِخَةُ الْعَالِيَةُ.. أَنْتِ الْغَالِيَةُ الْمُبْدِعَةُ الرَّائِعَةُ
كَيْ تَزْرَعَ الدُّنْيَا "حَدَائِقَ الشِّعْرِ" 
كَيْفَ سَقَطَ الطَّيْرُ فِي يَدِي؛ (الْكِتَابُ)؟
لِمَاذَا أَقُولُ أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ تَفْقِدُ الْكَثِيرَ حِينَ تُقَالُ؟ 
إِنَّ غُمُوضَ الْبَحْثِ عَنِ الْمَجْهُولِ، مُخَيَّلَةُ الْقَادِمِ الْآتِي تَكُونُ بِالرَّمْزِ، بِالْإِشَارَةِ، فَالدِّينُ وَحْيٌ، وَالْكِتَابَةُ إِلْهَامٌ وَهَذَيَانٌ، وَحِينَ نُفَسِّرُ سِرَّ الْكِتَابَةِ، نَفْقِدُ رَعْشَةَ الْإِحْسَاسِ، وَحِينَ نُفَسِّرُ سِرَّ الْحَيَاةِ، نَفْقِدُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّنَفُّسِ، وَنَفْقِدُ سِرَّ الْحَيَاةِ، هذَا الْحَنِينَ الْعَتِيقَ الْغَامِضَ الَّذِي يَشُدُّ الْإِنْسَانَ لِلْبَقَاءِ.
آمال عوّاد رضوان تردّ:
يُسْعِدُنِي أَنْ أَفْتَرِشَ وَإِيَّاكَ بَعْضَ زَغَارِيدِ الْآمَالِ لِعَرُوسِ الْكَرْمِلِ الْخَلَّابَةِ، نُرَاقِصُ مَوْجَهَا، وَيُعَطِّرُ مَسَامَاتِ الرُّوحِ رَذَاذُ لْيَلِهَا، نَرْتَشِفُ أَثِيرَ هَوَاهَا، وَتَتَلَمَّظُ دِمَاءَنَا كُرُومُ غُرُوبِهَا الْعَابِقِ بِعِشْقِهَا.
الشَّاعِرُ وَهِيب نَدِيم وِهْبِة؛ دَعِ الْخَيَالَ يَجُولُ وَيَصُولُ فِي بَرَاحِ سَكْرَتِهِ الْمُتَيَقِّظَةِ، دُونَ أَيِّ تَصْرِيحٍ أَوْ جَوَازِ سَفَرٍ يَتَسَكَّعُ عَلَى الْحُدُودِ، فَتَهَلَّلْ/ لِنَتَهلَّلَ بِتَهَالِيلِكَ الْعَذْبَةِ. 

دار الفاروق تصدر كتابين للكاتب رائد الحواري

تقرير: فراس حج محمد/ نابلس ـ
صدر مؤخرا عن دار الفاروق للثقافة والنشر كتابين للكاتب رائد محمد الحواري، الأول جاء تحت عنوان "إضاءات على رواية المعتقلين الأدباء في المعتقلات الإسرائيلية"، وهو دراسة نقدية لمجموعة من الروايات التي كتبها أدباء فلسطينيون تعرضوا لتجربة الاعتقال، يقع الكتاب في (270) صفحة من القطع المتوسط، تناول فيه الكاتب رواية "المفاتيح تدور في الأقفال" للشاعر والكاتب علي الخليلي، ورواية "المحاصرون" للروائي فيصل الحوراني، ورواية "وجوه في درب الآلام" للروائي مشهور البطران، وتناول كذلك تجربة الأسيرة عائشة عودة من خلال كتابيها "أحلام بالحرية" و"ثمنا للشمس"، وتوقفت الدراسة عند رواية "فرسان الحرية" لهشام عبد الرازق، ورواية "المسكوبية" لأسامة العيسة، ورواية حسن نعمان فطافطة "خريف الانتظار" ورواية "سجن السجن" لعصمت منصور، وتوقف الكاتب عند أربع روايات لوليد الهودلي، وهي: ستائر العتمة بجزأيها الأول والثاني، و"أمهات في مقابر الأحياء" و"الشعاع القادم من الجنوب"، وأما الوقفة الأخيرة فخُصصت لرواية هيثم جابر "الأسير 1578".
وقد اعتمد المؤلف على المنهج التحليلي الوصفي الذي يتناول كل عمل من الأعمال، فعرف بفكرة الرواية وسماتها الأسلوبية وظواهرها الفنية، ويبين الباحث في مقدمته أن كتابه "هو الوحيد الذي يتحدث عن رواية السجن في فلسطين بصورة خاصة".
أما الكتاب الثاني فيبحث في "مدخل تاريخي إلى النص القرآني"، وجاء في (99) صفحة من القطع المتوسط، وقدم له الدكتور وليد الشرفا أستاذ الدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، وجاء في مقدمة الشرفا: "يتجاوز الباحث القضايا السطحية نحو الأفكار العمودية ويبلغ التأويل أقصى درجاته عند ذلك الربط بين نضج الكتابة وتلك الحالة المتداخلة بين الشام ومصر، وبين إبراهيم والأنبياء الذين جاءوا من بعده ومن قبله".
ويتناول الكاتب الحواري في كتابه ظاهرة القصص القرآني وما يتصل بها من مظاهر أسلوبية وتعليل لتلك المظاهر، ويتوقف في البحث الثاني من الكتاب عند "الماركسية والدين"، ليخلص إلى النتيجة الآتية أن "الدين في كل زمان ومكان هو إنتاج فكري بشري، نتج عن ضعف الإنسان في مواجهة الطبيعة ومعرفة الأسباب التي تقف وراءها". ويناقش أيضا الرؤية الاجتماعية للدين وكيف كانت مساعدا على إنتاج الأديان إذ يعتبر أن "الديانة المسيحية أحد أهم إنتاج المجتمع السوري"، كما يبحث موضوعات أخرى تختص بالدين الإسلامي وعوامل ظهوره ونشأته في الجزيرة العربية، وظاهرة الكتب السماوية وأول كتاب سماوي، متوقفا عند سيدنا يعقوب وأولاده عليهم السلام، لينهي دراسته ببحث "الدين والسحر"، موضحا الفرق بين الدين والسحر في الهدف والغاية.

إستعراض لقصّة (مغامرات النحلة سالي) للأطفال – للأديب الشَّاعر صالح أحمد كناعنه

كتب حاتم جوعيه  - 
مقدَّمة: تقعُ هذه القصَّة في 24 صفحة من الحجم الكبير، إصدار ( دار الهدى . ع . . زحالقة -  كفر قرع)  - سنة 2018، ووضع رسومات القصة الفنانة التشكيليَّة منار  نعيرات .
***
مدخل: 
   تتحدَّثُ القصَّةُ عن نحلةٍ اسمها سالي، أطلق الكاتبُ عليها هذا الإسم، وهي غريبةُ الأطوار تختلفُ عن أترابها من النحل، ودائما تكثرُ من الشّكوى  والتَّذمُّر وتنتقدُ كلَّ شيء ولا يُعجبُهَا شيء.. وكانت مملكةُ النحل تعيشُ حياة هادئة وسعيدة ومنتظمة وبأنضباط تام، والأمور تجري دائما بشكلٍ صحيح وسليم بين أفراد خلية النحل، وكلُّ فرد في الخليَّة يؤدِّي عمله بدقّةٍ، وخاصَّة العاملات اللواتي يعملن دائما بنشاط وإتقان وعلى أحسن ما يكون من دون اعتراض أو تذمُّر. وقد انتبهت كبيرةُ العاملاتِ في خلية النحل لسلوك النحلة سالي غير الطبيعي وغير المنطقي؛ فدعتها لجلسة من أجل التفاهم ومعالجة  مشكلتها، وعاملتها بأدب واحترام، وقالت لها: إختنا النحلة سالي إنَّ جميعَ الكائناتِ والمخلوقات تحسدُ مملكة النحل على انضباطها وحسن ودقةِ نظامها الحياتي، وجو المودَّة والمحبَّة والإحترام الموجود بين أفرادها.. ولنشاط العاملات الدؤوب والمنقطع النظير فيها، فمملكةُ النحل هي النموذجُ المثالي للمحبّةِ والألفةِ والتعاضد والتعاون المشترك بين جميع الأفراد فيها، حيث يُضَحِّي الفردُ من أجل الجميع، ولا يوجدُ حسدٌ ولا بغضاء ولا عداء بين أفراد مملكة النحل، بل دائما يعملُ الجميع بمثابرة ونشاط مستمر وبإخلاص وتضحية لا مثيل لهم. ولا يوجد أحدٌ من أفراد خليّة النحل يتذمَّر أو يعترض، والجميعُ يطيعُ وينضبط ويعملُ بجهد وإخلاص من أجل الجميع، ولكن لفتَ نظري أيَّتُها الأخت سالي تذمُّركِ المستمر وكثرة شكواك واعتراضك على كلِّ شيء، وفي نفس الوقت أنت تميلين وتجنحين إلي الكسل والخمول والتراخي.. وترفضين العملَ وإطاعة الاوامر عكس إخوانك في خلية النحل.. وهذا الأمر غريب وَمُستهجَن ومستنكر ولم نألفهُ ونعهدْهُ في خليَّتنا من  قبل، فأرجو منكِ أن تفتحي لي  قلبَكِ، وتشرحي لي وجهة نظرك.. وتصارحيني بكل أفكاركِ، ولماذا تقومين بهذا التصرُّف غير المنطقي وغير الطبيعي في خليتنا؟ ودعينا نناقش معا سرَّ مشكلتك وسبب تصرُّفاتك هذه المستنكرة، ولعلَّ النقاش البنَّاء والودِّي يأخذ نتيجة إيجابيَّة، ويأتي بإيجابات مقنعة على كلَّ ما يجول بخاطرك، ويراود نفسكِ ويريحُكِ من العناء.. 
   فغضبت النحلةُ سالي وزمزمت، وطارت دائرة حول كبيرة النحلات (أعطى الكاتبُ هنا للطفل صورة للنحلة وطريقة طيرانها) وتمتمت بغضب  وكبرياء: كلُّ شيء هنا لا يُعجبني! فلماذا عليَّ أن أعملَ دائما وبجهد وتعب  وفي نفس الوقت الملكة الخاملة تبقى رابضة في ركنها وموقعها الحصين  بلا عملٍ ولا طنين.. وكل شيء يأتيها بسهولة، يأتيها طعامُها الخاص من أجود العسل، وتلقى أفضل الرعاية والعناية، ودائما يحيط بها الذكورُ ويحرسُها مجموعةٌ من العاملاتِ والجميعُ يدللها، وهي ليس لها عمل ولا مجهود سوى الأكل والتثاؤب!! 

 وما الفائدةُ أيضا من هذا العدد الكبيرمن الذكور الخاملين والكسالى فهم  يأكلون ما نحن نجني (العاملات) ويسمتعون ويتمتّعون بجهدنا وتعبنا، ونحن العاملات نشقى ونطوفُ الأرضَ ونقطعُ مساحات سحيقة، ونصل إلى أماكن نائية وبعيدة جدًا حتى نجني الرشفات والقطرات من رحيق الزّهر، ونعود لنسكبَهُ عسلا خالصًا.. ونتجَنّدُ دائمًا للدفاع عن الخليَة، وكل واحدةٍ منا (نحن العاملات) تُضَحِّي بنفسها، فلتذغ العدوَّ المهاجمَ وهي تعلم أنَّ في هذا الأمر موتها، فنحنُ العاملات منا من يعمل ويجني العسل، ومنا الحارساتُ، ومنا المسؤولات عن كلِّ  شيء، عن الطعام والدفاع والحراسة، وفي نهايةِ المطاف لا ننال جزءًا بسيطًا من الذي تنالهُ وتحصلُ عليه الملكةُ وذكورها من الدلال ولا حتى الطعام! إنهم يعيشون في رغدٍ وراحة واسترخاء... بينما نحنُ لا نعرف الراحة والإستقرار، وليس في هذا الأمرعدل أبدًا. 
((ويعطي الكاتب هنا للطفل ولكل قارىء صورة كاملة وبجمل بسيطة عن  حياة خلية النحل ونظامها وأنواع النحل حسب الشكل والفوارق البيولوجيىَّة  ونوع الوظيفة والمهمة الملقاة على كل نوع منها: "الملكة، العاملات، الذكور")) .
    ثمَّ صمتت النحلة سالي، وعادت تطنُّ بغضب وكبرياء، بينما جلست النحلةُ العاقلة (كبيرة العاملات) تنظرُ إليها وتتأملُ حركاتها وتصرفاتها  بإشفاق، ثمَّ همسَت لها بمودَّة وحنان: هل انتهى كلامُك أيتها الأختُ الصّغيرة؟
     فأجابتها  النحلةُ  سالي بغضب: لست صغيرةً، أنا نحلةٌ ناضجة وقادرة  على فعل كلِّ شيء، لست خاملةً ولا طفيليَّة كملكتكِ القابعة هناك وذكورها المتثائبين حولها.. 
    فتبسَّمت لها النحلة الكبيرة وردت عليها بكلِّ أدب: نعم أنت نحلة ناضجة في فريق عاملاتنا البطلات ويحقُّ لك الفخر بذلك، لذلك أردت أن أذكِّرك أن كلَّ عضو وكلَّ فردٍ في مملكتنا له عملهُ وأهميَّتهُ، فالملكة هي المسؤولة عن وضع البيض لينشأ جيلٌ جديد في الخليةِ، وأما الذكور فعليهم تقعُ مسؤوليَّة إخصاب الملكة، والعاملات لهنَّ الفضلُ والشرفُ الأعظم والأكبر، وهو شرف العمل والكفاح والتضحية من أجل الجميع.. 
   ((تمثلُ النحلةُ الكبيرة هنا وترمز إلى الأب أو الأم أو المسؤول في كلِّ عائلة، وفي كل مجموعة ومجتمع.. والتي ترد على تسرّع وتهوُّر وطيش ابنها أو بنتها بحكمة ورزانة وهدوء.. وتحاول أن تثنيه أو تثنيها عن الفكر الخاطئ والتصرف الأهوج والأرعن والسلبي بكلمات جميلة ومهذبة  ومقنعة، وبأسلوب تربوي حضاري، وبدون صياح وعنف)) ..
   فسألتها النحلةُ سالي بغضب: ولماذا لا يعملُ الذكور إلى أن يجيءَ موعدُ  إخصاب الملكة؟ 
   فأجابتها كبيرةُ النحل بهدوء واتّزان: لأنَّ الذكورَ لا يملكون قوَّة العاملات وصلابة أجسامهنَّ، ولا  قوَّة أجنحتنَ، ولا قدراتهنَّ في العمل.. لأنهم لم يُخلقوا لهذا الأمر مثلنا –
  (يتحدث الكاتب هنا بشكل تلقائي وعفوي عن الخالق جلَّ جلالهُ الذي  وضع في كل مخلوق وكائن حي ميزات وصفات معيَّنة، وقدرات وطاقات  تختلف عن الآخر، وكل شخص خلقة الله لوظيفة ولعمل ومجال معين- حسب مبناه البيولوجي والعقلي - لا  يستطيع كائن آخر من نوع آخر أن يعمله ويتقنه، وحتى بين البشر أيضا ومن نفس النوع تختلفُ القدرات والطاقات عندهم.. وهذا الأمر يبدو ويظهرُ جليًّا بين أفراد خليّة النحل، ويتجلى إبداع الخالق وعظمته.. وهذا ما أراد أن يقوله الكاتب من خلال هذا المشهد والحوارالذي دار بين كبيرة العاملات والنحلة سالي))...
   وتضيف كبيرة النحل مبينة وموضحة: وأيضا الملكة يا عزيزتي لم تخلق للعمل مثلنا، فكلُّ شخص خلقَ ووجدَ لهدف وعمل ورسالة معيَّنة، ولديهِ  قدراتٌ تتلاءمُ لما خُلِقَ لأجلهِ من المهمَّات. 
   فقالت لها النحلةُ سالي بسخرية: إنها فلسفةُ الخاضعين والمستسلمين! أما أنا فلا أعملُ من أجل غيري، وسأتركُ الخليَّة منذ الآن، وسأعمل من أجل نفسي فقط، وسآكلُ من تعبي وما أجنيه، ولن أسمحَ لأحدٍ غيري أن يأكلَ  تعبي بعد اليوم. 
   فأجابتها كبيرةُ العاملات: حسنٌ؛ أنت حُرَّة، وبإمكانكِ أن تعملي ما يطيبُ ويحلو لكِ، ولكن عندي نصيحةٌ لك وهي: أن لا تتركي أخواتك النحلات، لأنَّ حياة الوحدة صعبة وموحشة ومملة... وأخطارها ومتاعبها أكبر ممَّا تتصوَّرين، وعليكِ أن تتذكري أنَّ بابَ خليَّة النحل سيبقى مفتوحا أمامك في كل وقت إذا ما قرَّرتِ العودة في يوم ما..
    فشكرتها النحلةُ سالي، وطارت مبتعدة خارج الخليَّة، والنحلة الكبيرة  وقفت تتابعُها وبنظرات الحزن والإشفاق، وتردِّدُ في وجدانها: هداكِ الله يا اختي الصغيرة. 
    بعد هذا السيناريو والحوار الدرامي بين كبيرة العاملات والنحلة سالي؛ ابتدأت النحلةُ سالي في رحلة الحريَّة والانطلاق كما كانت تظن وتعتقد..  وبدأت تنتقلُ من زهرةٍ إلى أخرى في الإطار المحيط القريب من الخليّة، بيدَ انّها لم تحظَ برشفةِ رحيق واحدة تسكتُ بها جوعَها وسغبَها، فكلُّ الزهور القريبة قد جنت رحيقها العاملات، ويجب عليها أن تصلَ لأماكن بعيدة للبحث عن رحيق... فطارت وطارت إلى أن بدأت تشعر بالتعب والإرهاق؛ لأنَّ جناحيها لم يعتادا الطيران لمسافات طويلة حيث كانت ترفضُ دائما مشاركة أترابها وزميلاتها في الطيران والعمل المشترك وجني الرحيق.. وفي طريقها ورحلتها هذه شاهدت العديدَ من المخلوقات وبأشكال وأحجام وأنواع مختلفة، ولفت نظرَها كثيرًا مخلوق رمادي اللون بحجم النحلةِ، ويشبه النحلة كثيرًا بتركيب جسمه الخارجي، ويطيرُ ويعض مثلها، ولكنهُ لا يقتربُ من الزهور! فاقتربت منه والقت عليه التحيَّة والسلام، وعرَّفتهُ على نفسها: (مرحبا أنا النحلة سالي)  
فأجابها المخلوق.. أو بالأحرى الحشرة التي  تشبهها: "وأنا الذبابة" .. 
   فقالت لها النحلةُ: ما لي أراكِ وحيدة أختي الذبابة ؟
   فأجابتها الذبابةُ: نحن لسنا مثلكم معشر النحل إننا نعيشُ بالقرب من  بعض، ولكن كل واحدة منا مستقلة في حياتها، ومسؤولة عن نفسها فقط . 
   فأجابتها النحلة سالي: ما أروع هذا، وأتمنى أن نكون كلنا كذلك معشر النحل، كنت سأشعر بشيء من الحريَّة.
   فأجابتها الذبابةُ: أنتِ أغربُ نحلة أصادفها في حياتي! لأنَّ النحلات لا تحبُّ الإنفراد والعزلة، بل  تفضلُ الحياة المشتركة والجماعيَّة والتعاون  المشترك.. 
   فقالت لها النحلةُ سالي: نعم.. نعم.. لذلك تركتُ الخليَّة وقررتُ العيشَ لوحدي، هل تسمحين لي أن أرافقك؟ 
   فأجابتها الذبابةُ: ولكن حياتنا تختلف عن حياتِكِ. 
   فقالت النحلةُ: دعيني أجرِّب.. 
   وافقت الذبابةُ على طلبها، فطلبت منها النحلةُ أن تدلها على مكانٍ تجني منه طعاما لأنها جائعة..
   فقالت لها الذبابةُ: أنتِ اليوم ضيفتي، تعالي لتشاركيني طعامي.. 
   فشكرتها النحلةُ على لطفها، وطارت الذبابةُ والنحلة وراءَها، حتى وصلت إلى جيفة يتجمَّعُ أسرابُ الذباب وقطعان الديدان عليها، إقتربت الذبابةُ من الجيفةِ وبدأت تمتصُّ من لحمِهَا المتعفّن، وطلبت من النحلةِ أن  تشاركهَا في هذه الوجبة.. 
   فاستغربت النحلةُ، وقالت لها: أهذا هو طعامُكم؟ 
   فقالت لها الذبابةُ: نعم وإنه طعام لذيذ. 
   فتأملت النحلةُ مضيفتها الذبابة وهي تشارك الديدان أكلَ اللحم النتن، وبدأت تصابُ بالدوار من الرائحة المنتنة والقاتلة، فقالت بغضب: أيَّتُها الذبابةُ.. خذي منَّي حكمة لم أنتبه إليها من قبل: "إنَّ مَن اعتادَ أكلَ العسل لن  يقبل أن يأكل لحم الجيف.. واعلمي إنَّ النحلة تفضِّلُ الموت على أن تنزلَ ضيفة على ذبابة "(صفحة24)...
((إنها لحكمة رائعة هنا على لسان النحلة... ومفادُها: أن الإنسانَ النظيف والأبيّ وعزيزالنفس والشَّريف وحسن الصِّيت... والذي اسمهُ وسمعتهُ  كالمسكِ والعنبر وكالزهور الفوَّاحةِ.. طعامُهُ يكون العسل والشهد.. أي زملاؤه وأترابه ومحيطه وحياته هم العسل والشهد والرائحة الجميلة  والعطرة، ودائما يجلس مع الأشخاص الأفاضل والمحترمين.. واعتاد على هذا النمط  من الحياة المستقيمة والنظيفة والفاضلة سنين طويلة؛ ومن الصعب بل المستحيل أن يُغيِّرَ ويُبدِّلَ ثوبَهُ بسرعة ويرتدي ثوبًا آخر لا يلائمه، ويختلط بأراذل القوم وأوباشهم، ويختار الرّوائح النتنة بدلَ رائحة  العطور والمسك والعنبر... 
   ((إنَّ العسلَ والشهدَ والزهورَ العطرة ترمزُ أيضا للوطنِ المعطاءِ والجميل والرائع... وأن الذي يحبُّ وطنه وَوُلِدَ وعاش فيه سنوات طويلة فمن الصعب عليه أن يتركهُ ويعيشَ في بلدٍ وقطر آخر.. وسيكونُ طعمُ الحياة ورائحتها هناك بالنسبةِ له كالجيف المنتة)) ... 
   وبعدها مباشرة طارت النحلة سالي عائدة إلى خليَّتها وهي تردِّدُ: "لا حريَّة لأحدٍ بعيدًا عن أهله وإخوانه وبيته".. 
وتنتهي القصّة هنا. وفي الجملةِ الأخيرة يلخصُ الكاتبُ فحوى وهدف ورسالة هذه القصة.. وهي حب الوطن والبقاء فيه، والتّشبُّث بترابه المقدس، وعدم الرحيل والهروب من الوطن رغم كل الظروف والصعوبات والمحن التي تواجه الإنسان في وطنه...
   والجملةُ الأخيرة من القصّةِ عبارة عن شعار يحملُ في طيّاته مضمونا وموضوعًا كبيرًا ومهمًّا.. فهي ترمزُ أيضا إلى الشعب الفلسطيني الذي بقي في وطنه وعلى تراب الآباء والأجداد، ولم يرحل ويغادر البلاد رغم كل الظروف والمحن والمآسي التي واجهته من عام 1984 إلى الآن .
***
تحليلُ القصَّة :  
   كُتِبَت هذه القصَّةُ بلغةٍ أدبيَّةٍ جميلة وراقية، وفي نفس الوقت سهلة وغير معقدة، وبأسلوب وطابع شائق، وهي ترفيهيّةٌ ومسليَّة من الدرجةِ الأولى ومفهومة للطفل- في جميع مراحل الطفولة- وفي نفس الوقت تصلحُ للكبار، وهي أيضا عميقة وثريَّة بأهدافها الساميَّة، وفيها أبعادٌ عديدة مثل: "الإنسانيَّة والإجتماعية والثقافيَّة والتربويَّة والفكرية والوطنيَّة والحكميَّة ..إلخ"
   وهذه القصَّةُ من أكثر القصص التي كُتبت للأطفال -محليًّا- تحملُ في طياتها  بالإضافةِ للجانب الترفيهي جوانب أخرى سامية وَمُهمَّة.. وقد كتبها المؤلفُ -الشاعرُ والاديب والناقد الكبير الاستاذ صالح أحمد - كناعنة -على ألسنةِ الحشراتِ للتسليةِ وللترفيه، وتحملُ اللونَ والطابعَ الساخرَ قليلًا، والمُبَطّن والمغلف بالتَّورية لأهدافٍ ومواضيع عديدة، وتذكرنا بكتاب (كليلة ودمنة) لعبد الله بن المقفع والذي كتبهُ على ألسنة الحيوانات كتوريةٍ، ويعالجُ فيه قضايا وأمور عديدة: سياسية وإنسانية واخلاقيَّة وغيرها.. وهذه الجوانب   والأمور موجودة في هذه القصَّة على شكل توريةٍ ورموز.. وبتوظيفات دلاليَّة. وسأتناولُ كلَّ جانب وموضوع هنا بشكل منفرد ومستقل. 

1 -  الجانبُ الترفيهي: وهذا الجانبُ يغطي ويهيمن على جميع صفحاتِ القصة، ويعطي للقصة جمالًا خاصًّا.

2 - عنصرُ التشويق: ويظهرُ هذا الجانبُ بوضوح من خلال أحداثِ القصَّة التي استعرضتُها، وكلُّ قارئ سواءً كان كبيرًا أو صغيرًا يحسُّ بهذه الشيء، في تسلسلِ مجرى الأحداث والحوار الدرامي الفلسفي والإنساني والإجتماعي فيها، والذي ينطبقُ على حياةِ الإنسان وعلى المجتمعاتِ ككل  في كل مكان وزمان.. وهذا يجعلُ القارئَ يقرأ هذه القصة والمستمع يستمعُ إليها بشغفٍ وحبٍّ ولهفة حتى نهايتها.. والعنصرُ التشويقي  والعنصر الترفيهي قد  يتشابهان في الهدف والوظيفة؛ لأنَّ في التشويق  ترفيه  وتسلية 
ومتعة للقارئ أو المستمع للقصَّة نفسيًّا وفكريًّا وعاطفيًّا..

3 - الجانبُ الإنساني والإجتماعي: يظهرُ هذا الجانب والمجال بوضوح في  كلِّ مجرى أحداثِ القصَّة.. من خلال السردِ، ومن خلال الحوار الدرامي بين النحلةِ سالي وكبيرة العاملات، حيث يُظهرُ وَيُبرزُ الكاتبُ جوَّ المحبَّةِ  والألفة والمودة والتعاون المشرك بين أفراد خلية النحل، ويعطينا صورة رائعة للمجتمع الكامل والمثالي.. وأنَّ الإنسان لا يستطيعُ أن يعيشَ حياةً  طبيعية ومتكاملة وهانئة لوحدهِ، وفي انعزال عن مجتمعهِ وعن أهلهِ وأخوتهِ وأقاربه... وبعيداعن محيطه ومسقط رأسهِ.. 
   والقصَّةُ بشكل عام تدعو إلى الخير والمودَّةِ والمحبَّةِ والألفةِ والتعاون المشترك بين جميع أفراد المجتمع، كما في خلية النحل حيث يُضَحِّي الفردُ من أجلِ الجميع، ولكي يبقى النسيجُ الإجتماعي سليمًا ومعافًى وَمُشعًّا بالجمال والإبداع وبالحياة الرغدة والهانئة .

4 - الجانبُ التعليمي والإرشادي: يتحدثُ الكاتبُ في القصةِ بالتفصيل عن حياة خلية النحل، ويذكرُ كلَّ نوع من النحلِ في الخليَّة ما هي مهمته ووظيفته (العاملات والذكور والملكة) وكيف يتمُّ جنيُ الرحيق من الزهور وصنع العسل من قبل العاملات، وكيفية حياة النحل... ويتحدثُ أيضا عن  الذباب ونوع طعامه.. وهذه المعلموات البيولوجية الهامَّة يدخلها الكاتبُ إلى ذهن وعقل الطفل بشكل تلقائي ومباشرمن خلال أحداثِ القصةِ والطابع الحواري الذي فيها ..

5 - الجانبُ الفلسفي والحكمي: يظهرُ في عدة مشاهد ومواقف دراميّة في القصَّة، وخاصَّة في نهايتها.. وقد أشرت لهذا الأمر مسبقًا.

6-  الطابعُ الفانتازي الخيالي: القصَّة كلها من بدايتها إلى نهايتها فانتازيّة خياليّة (كتبت على لسان الحشرات) 

7- المستوى والطابعُ الفني والجمالي: هذه القصَّةُ على مستوى جمالي وفني عال وراق في كيفيَّةِ حبكها ونسجها، وبلغتها الجميلة المُنمَّقة، والتفنن في صياغة مشاهدها وأحداثها الدرامية، ويستشفُّ ويلمسُ هذا الشيء كلُّ قارىء ذكي ومثقف يعرفُ ما هو الأدب والإبداع، ويعرف أن يتذوق الأدب الجيد- سواء كان شعرًا أو قصة...
   وهذه القصَّة ليست تقريريَّة أو مجرَّد مقال سردي.. ولا نحسُّ كأنَّ أنسانًا يكتبُ موضوعا إنشائيًّا أو يقدمُ معلومات وتقريرًا لحدَثٍ معين، بل هي عمل أدبي فني متكامل ورفيع المستوى من جميع النواحي.. والكتابةُ للاطفال بحدِّ ذاتها هي أصعبُ أنواع الأدب، وليسَ كما يتوهَّمُهُ البعضُ: أنَّ قصصَ الاطفال هي أسهلُ جانِرٍ في مجالِ الأدب ومن السهل جدًّا الكتابة في هذا المضمار ..

8 -  طابعُ الإيمان: يظهرُ هذا الجانبُ والموضوعُ عندما يدورُ النقاشُ والحوارُ بين النحلةِ سالي التي ترفضُ العملَ والإنصياع لنظام الخليةِ، وبين كبيرة العملات، فتجيبها كبيرةُ العاملاتِ لتفحمها وتقنعها حتى تعدل عن   رأيها الخاطىء: إنَّ كلَّ فرد وكل مخلوق في الخلية خُلِقَ لعملٍ ولمجال وإطار معين، ويختلفُ عن الآخر حسب نوع  جسمه وقدراته وطاقاته... فالعاملات لهن وظائف معينة، والذكورُ لهم وظيفة محدّدة أيضًا لا تستطيعُ العاملات أن يقمن بها لأنهن لم يخلقن لهذا، والملكة أيضا لها دورٌ كبير ووظيفة لا يستطيعُ باقي أفراد خلية النحل أن يقوموا بها، وهي وضع البيض لإستمرار بقاء الخلية... فاللهُ خلقَ لكلِّ شخص ولكل كائن قدرات وطاقات تؤهله لمجال معين يختلف عن الآخر.. ويظهرُ في هذا الصَّدد وبوضوح حكمةُ الخالق وإبداعُهُ وقدرتهُ وعظمتهُ.

9- الجانبُ الوطني والقومي: إنَّ معظمَ القصصِ المحليَّةِ التي كُتِبت للأطفال قد تخلو من هذا الجانب، والأسبابُ معروفة للجميع، وخاصة الكتب والمؤلفات التي يصدرُها الكتابُ والشعراءُ الذين يعملون في سلك التعليم  وفي المكاتب والوظائف الحكوميَّة في الداخل، وحتى الذين يكتبون النقدَ  الأدبي والذين يتبوَّءُون الوظائف السلطويّة في شتى المجالات والمرافق،  وخاصة المحاضرون في الجامعات، فيبتعدون عن كلِّ  فكر وحِسٍّ وإنجاز  وإبداع وطني، ويتجاهلون عن قصد كلَّ كتاب وكل ديوان شعر يصدر لشاعر وأديب وطني صادق ومناضل حتى لو كان في القمَّة، ولا يكتبون عنه كلمة واحدة، وذلك حرصا على وظائفهم من قبل السلطة كما يبدو، وهنالك العديد من الأمثلة على ذلك.. ولا حاجة هنا لذكرها.. وينطبق هذا الامر أيضا على معظم وسائل الإعلام المحليّة عندنا في الداخل- السلطويّة أو المستقلة شكليًّا، والمسيَّرة والموجّهة من قبل السياسةِ السلطويّة والتي  تدور في إطارها وتمتثلُ لنهجِهَا المعادي لقضايا الشعب الفلسطيني العادلة،  ولكلِّ  فكر ولكلِّ عمل أدبي وثقافي وطني إبداعي.. ولقد صدر عندنا العديدُ من الأعمال الأدبية والشعريَّة الراقية -محليًّا-  لكتاب وشعراء وطنيين   مناضلين شرفاء وصادقين، ولم يكتب عن هذه الأعمال وعن أصحابها الشرفاء حتى الآن أيُّ نُوَيقِدٍ محلي من الذين أعنيهم.. والذين سيكون مآلهم  ومصيرُهم غدا مزبلة التاريخ بإذن الله.. ولن تنفعهم وظائفهم السلطوية التي حصلوا عليها مقابل جبنهم وتخاذلهم وصمتهم الطويل.. وانحرافهم عن الخط الوطني والإنساني الشريف. 
    وأعودُ إلى القصةِ وللجانب الوطني حيثُ يظهرُ واضحًا ومشعًّا في عدةِ مشاهد ومواقف في القصة منها، مثلًا :
   عندما يتحدثُ ويصف الكاتبُ خلية النحل وجوَّ المحبة والتعاون الموجد فيها، و يريد أن يقول: إنَّ الخلية تمثِّلُ الوطنَ المُتكامل بكلِّ شرائحهِ ونسيجهِ الإجتماعي وأبعادِهِ التكامليّة.. وعندما تتركُ النحلةُ سالي خليتها لتبحثَ عن حياةٍ أفضل وحرية أوسع.. فتجد العكس؛ حيث لا تستطيع أن تعيشَ لوحدها، فترجعُ مرغمة إلى خليتها بعد ندم كبير.. 
   ويريدُ الكاتبُ أن يقول: إن الوطنَ هو كل شيء للإنسان، والإنسان بدون  وطنه لا يساوي أويعني شيئًا حتى وإن حقّقَ نجاحًا ماديًّا كبيرًا في بلاد  الغربة.. فالطعامُ الذي تتناولهُ الذبابة دائما وهو الجيف المنتنة -كما ورد في القصَّة- وطلبت من النحلةِ سالي أن تشاركها في هذا النوع من الطعام ولم تستطِع؛ لأنها غير معتادة على هذا النوع من الطعام، ويرمزهذا إلى الحياة المادية والنجاح المادي وجمع الأموال في الغربة وبناء القصور والفيلات واقتناء السيارات الفخمة والباهضة الثمن...إلخ، ولكن كل هذه الأشياء والأمور المادية  في بلاد الغربة هي مثل الجيف لا تساوي شيئًا، ولا تحقق  السعادة الحقيقيَّة المثاليَّة للإنسان الذي يعيش بعيدًا عن وطنه. وخليةُ النحلِ هي الوطنُ الجميلُ والرائعُ والسَّاحر والمُشِعُّ بالخير والسعادةِ والمحبة والوداد.. والعسلُ والرحيقُ هو الحياةُ الجميلةُ والهانئة والإستقرار النفسي  والسعادة الروحية والنفسيَّة التي يعيشها ويحسُّ بها الإنسان داخل وطنه  وبين أهلهِ وأحبابه وأصدقائه، ولا شيء في الدنيا بإمكانه أن يكون بديلا للوطن، وكلُّ الإنجازات المادية وحتى المعنويّة التي يحققها الإنسانُ خارج وطنهِ وبلاده وهو يعاني المرارةِ والألم ونار الإغتراب والبعد... هي كالجيف المنتنه - ( طعام الذباب  والديدان) .  
ولم يخطئ أميرُ الشعراء أحمد شوقي عندما قال :
( وطني لو شغلتُ بالخلدِ عنهُ      نازعتني إليهِ في الخلدِ نفسي )
                                    ***
الخاتمة : 
   إن هذه القصَّة ناجحة وعلى مستوى عالٍ من جميع الجوانب والمقاييس النقدية والموضوعيّة والذوقيَّة، وتجتمعُ فيها كلُّ الأسس والركائز الهامَّةِ لتجعلَ منها عملًا إبداعيًا مميَّزًا ورائدًا للأطفال وللكبار.. 
   كتبَ ونسجَ الكاتبُ أحداثهَا  - كما وردَ أعلاه - على لسان الحشرات  وأدخل فيها عنصرَ الحوار (ديالوج) بشكل مكثَّف ومتوازن.. ليضيفَ للقصَّةِ أضواء وألوانًا وجماليَّة خاصة وحيويَّة وديناميكيَّة وحياة نابضة... ينسجمُ ويتفاعلُ معها كلُّ من يقرؤها أو يستمع إليها، وخاصّة الطفل الصغير  فيعيشُ بدورِهِ أجواءَ القصَّة بحذافيرها وبشكل تلقائي، ومع كلِّ مقطعٍ   ومشهدٍ من  فصولها وأحداثها يوظفُ الكاتبُ فيها بعضَ الحشرات) (النحل والذباب)) كدلالات ولأهداف معيَّنة، ويرمزُ بالنحلةِ سالي والتي هي بطلة القصة والمحور الأساسي فيها إلى الشاب الغض والمراهق والطائش والعاق والمتمرِّد على عائلته وعلى جوِّ ونمط حياةِ الأسرة والمجتمع الذي لا يعحبهُ، فيترك البيت ويخرج ليعيش حياة إنفرادية ومستقلَّة يتوقعها أفضل وأحسن، وذلك قبل أن يكتمل نضوجهُ الفكري والجسدي، وقبل أن يكتسب أي تجربة وخبرة بالحياة، وقبل أن تصقلهُ وتهذبهُ الخطوبُ والدُّهور.. فيصطدم بالواقع المرير، ويواجهُهُ الكثيرُ من الصعوبات والمضايقات، ويتدهورُ وضعهُ كليا (المادي والنفسي والصحي والإنساني) ولا يجد من يسعفهُ ويخرجهُ من الدوامةِ والحلقة اللولبيَّة التي وضعُ نفسه فيها بإرادته، فيضطر إلى أن يرجعَ إلى إهله وبيته.. ويفرح أهله كثيرًا بعودته، ويأخذونه بالأحضان.. ويعيش من جديد بين أسرتهِ  معزَّزًا مكرَّمًا ومدللًا.. 
   والجديرُ بالذكر أنَّ قصّة النحلة سالي، وخروجها عن عالم الخلية، تُشبهُ  كثيرا قصَّة الولد الضال التي وردت في الإنجيل، والذي لاقى الكثير من الصعاب والأهوال في بلاد الغربة، لدرجة أنهُ صار من شدَّة الجوع يشتهي ويتمني أن  يأكلَ ثمارَ الخروب التي كانت تأكلها الخنازير، فيضطر بعد  رحلة إغتراب -وبمحض إرادته- أن يرجع إلى أهله وإلى العز والدلال الذي كان يتمتع به، ويعيش حياة رغيدة  كأولاد الملوك ..   
   وترمزُ النحلةُ سالي أيضًا إلى كلِّ إنسان لا يعرفُ قيمة وطنهِ ويفتقرُ للمشاعر الوطنيَّة الجيَّاشة، فيترك الأوطانَ ويغترب طمعًا بوجود فرص عمل متوفرَّة في الخارج وحياةٍ أجمل وأفضل مما في وطنه، ولكنه في الغربةِ يذوقُ الأمرين، ويخيبُ ظنهُ كليًّا، وتتهاوى أحلامهُ "الدونكيشوتيَّة"  فيضطر للرجوع إلى بلاده ووطنه لينعمَ بالدفءِ والحنان والحب بين أهله  وعائلته، والذي كان يفتقدهُ كليًّا في الغربة ...
    وتنتهي هذه القصة نهاية إيجابَّة جميلة وسعيدة (كقصة الولد الضال) برجوع النحلة سالي إلى خليتها ومسقط رأسها ووطنها الأول.. فتدخلُ نهايةُ القصَّة على هذا النحو البهجة والغبطةَ والسرورَ والأمانَ والإسقترارَ النفسي إلى قلب ووجدان الطفل البريء .