مركز يافا الثقافي ينظم حفلاً لإشهار ديوان الشاعر فراس حج محمد





نظّم مركز يافا الثقافي على مسرحه في مخيم بلاطة، السبت 28.01.2023، حفلاً لإشهار ديوان الشاعر فراس حج محمد "على حافة الشعر... ثمة عشق وثمة موت". وذلك بحضور عدد من المثقفين والكتّاب ومدير وزارة الثقافة في نابلس السيد حمد الله عفانة. وابتدأ الحفل بالوقوف على أنغام السلام الوطني الفلسطيني، وقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء.

وخلال إدارتها للقاء، بينت الدكتورة لينا الشخشير بعض الجوانب الفنية في الديوان، وملامح التجديد الشعري فيه، لاسيما ما تركته شخصية الناقد من أثر في قصائد الديوان من ناحية موضوعية، واختلافه واتفاقه عن ديوان "وأنت وحدك أغنية"، وديوان "وشيء من سرد قليل".

بدوره، رحّب رئيس مركز يافا الثقافي تيسير نصر الله باسم مجلس إدارة المركز بالحضور، مؤكداً ضرورة التواصل لتنفيذ المزيد من الأنشطة والفعاليات الثقافية. وأضاف نصر الله، "يُشرّفنا إطلاق ديوان فراس حج محمد في مركز يافا الثقافي".

ومن جهته، توجّه عفانة بالشكر لمركز يافا الثقافي، مؤكداً أنّ المركز يستقبل الكثير من الأنشطة الثقافية كإشهار الكتب والدواوين، مضيفاً، أن مركز يافا الثقافي يُعدّ من أهم المراكز الثقافية في نابلس، وله دور في بناء أجيال، وله بصمة واضحة خاصة بالثقافة الوطنية. 

وفي مداخلتين نقديتين، توقف في الأولى الكاتب والمحامي الحيفاوي حسن عبادي عند الإهداء، كما ناقش حضور موضوعة الخمر في الديوان بشكل لافت، راصدا أربعين موقعاً، كما أشار إلى ما أسماه "متلازمة حرف الفاء" وحضوره في عدة قصائد، منبهاً أن حضور حرف الفاء مسيطر على الشاعر في كتبه الأخرى، ولاسيما كتابه "الإصحاح الأول لحرف الفاء".

أما الناقد الأدبي رائد الحواري فتوقف عند حالة التماهي بين الشاعر وبين النص، لافتا النظر إلى لغة الديوان السلسة، محللا بعض القصائد، مضيفاً أن: الديوان أقرب إلى مجموعة من الدواوين، ليس لأنه يأتي في مواضيع متعددة، وبلغات مختلفة فحسب، بل لأن كل قسم من الديوان يشبع القارئ ويملأه بالمتعة".

وقال الشاعر حج محمد، إنّ الديوان يتحدث عن العديد من القضايا التي تهم المثقف والأديب والأصدقاء، كما أنّ بعض القصائد في الديوان تتحدث عن فترة الحجر الصحي وانتشار وباء كورونا. وأضاف، أنّ اللقاء يُثري الفعاليات الثقافية المتنوعة التي تحرص على ديمومة الحالة الثقافية الفلسطينية وإبرازها. وذكر أنّ هذا الديوان هو إصداره الأدبي الخامس والعشرون.

وفي اختتام الحفل، ألقى الشاعر حج محمد مجموعة من قصائده، وأجاب على أسئلة ومداخلات الحضور حول الديوان. كما وقّع الشاعر حج محمد نسخاً من الديوان للحضور.


ـ29 يناير تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في نسختها الثامنة


جاءنا من وفاء نصري ـ

تشهد العاصمة القطرية الدوحة يوم 29 يناير 2023، حفل تكريم الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في نسختها الثامنة.

ويقام الحفل عقب اختتام فعاليات النسخة التاسعة من مؤتمر "الترجمة وإشكالات المثاقفة" الذي ينظمه منتدى العلاقات العربية والدولية بالدوحة، يومَي 28 و29 يناير، بمشاركة أكاديميين ومترجمين وباحثين من أنحاء العالم.

ويناقش المؤتمر على مدى يومين تُعقَد فيهما ستّ جلسات علمية، عدداً من المحاور، من بينها: الترجمة العربية-‏‏‏التركية، والترجمة العربية من اللغات الكازاخية والفيتنامية والرومانية والسواحلية وبهاسا إندونيسيا وإليها، وترجمة المؤلف لأعماله.. وإشكالات الترجمة الذاتية، ورواد الترجمة العربية في نصف القرن الأخير: دراسات تقييمية- تقويمية.

كما يناقش المؤتمر موضوعات تتصل بترجمة المفاهيم الفلسفية الغربية والعربية المعاصرة، وترجمة روائع الأدب العالمي إلى العربية، والحاجة إلى إعادة ترجمتها (دانتي، سرفانتس، شكسبير، دوستويفسكي، بودلير، غوته، جويس، بيكيت، حكمت، باموك)، وأخطاء المستشرقين في ترجمة التراث الفكري العربي وضرورة تصويبها، وترجمات الحديث الشريف والحاجة إلى إعادة ترجمته، وعثرات المترجمين وضرورة إيجاد هيئة علمية متخصصة لإجازة الترجمات النوعية، والترجمة وصناعة القواميس والذكاء الاصطناعي، والترجمة زمن الجوائح والأزمات والحروب.

وكانت لجنة تسيير الجائزة قد أعلنت في وقت سابق انتهاء الفرز الأولي للترشيحات التي تقدمت للجائزة، إذ تلقت إدارة الجائزة بنسسختها الثامنة لعام 2022 مشاركات من 33 دولة عربية وأجنبية، تمثل أفرادًا ومؤسسات معنية بالترجمة.

ورُشحت للجائزة في نسختها الثامنة أعمال من: مصر، والسعودية، ودولة الإمارات، والجزائر، والسودان، والصومال، والأردن، والعراق، والكويت، والمغرب، وتونس، وسلطنة عُمان، وسوريا، وفلسطين، ولبنان، وليبيا، وفرنسا، وكندا، وهولندا، ونيوزيلندا، ورومانيا، وإندونيسيا، وتنزانيا، وكازاخستان، وألمانيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا، وتركيا، والنيجر، وجنوب إفريقيا، وإسبانيا، ودولة قطر.

وشملت الأعمال المترشحة ميادين العلوم الإنسانيَّة المختلفة، ومن بينها: الدراسات الإسلامية، والأدب، والفلسفة، والعلوم الاجتماعية، والعلوم السياسية، والتاريخ.

وبحسب د.حنان الفياض، المتحدثة الإعلامية باسم الجائزة، حلّت تركيا في المرتبة الأولى من حيث عدد الترشيحات، تليها مصر والسعودية، ثم المغرب والعراق والأردن ودولة قطر. أما الجنسيات التي تصدرت الترشيحات، فهي التركية والمصرية والسعودية والسورية والعراقية والأردنية.

وتبلغ قيمة الجائزة مليوني دولار أمريكي، واعتُمدت اللغة التركية في الموسم الثامن لغةً رئيسة ثانية، بعد الإنجليزية التي اعتُمدت لغة رئيسة أولى في جميع مواسم الجائزة. واختيرت خمس لغات جديدة في فئة الإنجاز.

وعن اختيار اللغة التركية لغةً ثانية مجدداً بعد أن سبق اختيارها في الموسم الأول للجائزة (2015)، قالت الفياض إن هذا القرار جاء في ضوء تزايد ما يصدر من ترجمات من التركية إلى العربية ومن العربية إلى التركية في السنوات الأخيرة.

وأكدت الفياض أن الترشيحات عموماً تبشّر بأن مسيرة المعرفة الإنسانية مستمرة، وبأن حركة الترجمة تمثل الميدان الحي والجسر الذي لا ينقطع بين حضارات الشعوب وثقافاتها.

وعن الدور الحيوي الذي تلعبه الجائزة، أوضحت الفياض أن هذه المبادرة التي انطلقت قبل تسع سنوات أسهمت إلى حد كبير في تحقيق المثاقفة بين الحضارات، وفي دعم حركة الترجمة بالوطن العربي وحول العالم، مشيرة إلى أن ذلك يمكن تلمّسه في ما تشهده المعاهد العلمية والأكاديمية والأوساط الثقافية من اهتمام بالترجمة، فهناك إقبال على اقتناء الكتب المترجمة الفائزة واعتمادها في التدريس والبحث العلمي، وهناك حرص متزايد من طرف المهتمين على متابعة الجائزة في كل موسم، كما أن الإحصاءات تبين ارتفاع عدد الراغبين بالمشاركة في الجائزة، وازدياد اهتمام دور النشر بترشيح الأعمال التي تراها مناسبة ضمن فئات الجائزة الثلاث الرئيسة.

وتشمل فئات الجائزة لهذا الموسم: فئة جوائز الترجمة في اللغتين الرئيستين (الكتب المفردة)، وتندرج تحتها: الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية، الترجمة من اللغة الإنجـليزية إلى اللغة العـربية، الترجمة من اللغة العــربية إلى اللغة التركية، الترجمة من اللغة التركية إلى اللغة العـربية (خُصص لهذه الفئة 800 ألف دولار، توزَّع بواقع 200 ألف دولار لكل فرع؛ 100 ألف دولار للمركز الأول، و60 ألف دولار للمركز الثاني، و40 ألف دولار للمركز الثالث)؛ وفئة الإنجـاز في اللغتين الرئيستين (الإنجليزية والتركية) التي تبلغ قيمتها 200 ألف دولار؛ وفئة جوائز الإنجاز في ترجمات اللغات المختارة (الفرعية) من العربية وإليها، وهي: الرومانية، والكازخسية، والسواحلية، وبهاسا أندونيسيا، والفيتنامية (خُصص لها مليون دولار).

وتسعى الجائزة التي انطلقت عام 2015 إلى تكريم المترجمين، وتقدير دورهم في تمتين أواصر الصداقة والتعاون بين أمم العالم وشعوبه، وتشجيع الإبداع، وترسيخ القيم السامية، وإشاعة التنوع والتعددية والانفتاح، إلى جانب تأصيل ثقافة المعرفة والحوار، ونشر الثقافة العربية والإسلامية، وتنمية التفاهم الدولي. وهي تطمح إلى تأصيل ثقافة المعرفة والحوار، ونشر الثقافة العربية والإسلامية، وتنمية التفاهم الدولي، وتشجيع عمليات المثاقفة الناضجة بين اللغة العربية وبقية لغات العالم عبر فعاليات الترجمة والتعريب.

وللجائزة مجلس أمناء يتم اختيار أعضائه من جنسيات متعددة لمدّة سنتين قابلة للتجديد، ويقوم بتقديم النصح والمشورة، والإسهام في اختيار اللغات الأجنبية المخصصة للجائزة كل عام، والمشاركة في تقويم الأداء الإداري والعلمي للجائزة.

أما إدارة شؤون الجائزة فتتولاها لجنة تسيير تشرف على أعمال الجائزة وضمان شفافيتها، والفصل بين عمليات الإدارة وبين اختيار الأعمال المرشحة وتحكيمها ومنحها الجوائز. بينما يُسنَد تحكيم الأعمال المرشحة إلى لجان تحكيم دولية مستقلة، تضم أعضاء ذوي مكانة علمية رصينة ويتسمون بالموضوعية والحيادية، يتم اختيارهم من قِبل لجنة تسيير الجائزة بالتشاور مع مجلس الأمناء. ووفقاً للفياض، يمكن زيادة أو إنقاص عدد أعضاء كل لجنة بحسب الحاجة في كل موسم، كما يمكن الاستعانة بمحكمين ذوي اختصاصات محددة لتقييم الأعمال في مجالات اختصاصاتهم. 


الجذور والفنانة نهلة آسيا



بقلم وعدسة: زياد جيوسي 


   ما بين أول معرض حضرته للفنانة نهلة آسيا عام 2016م تحت عنوان: "الحنين الى الضوء" والذي قلت عن الفنانة في دراسة نقدية مطولة للمعرض: "انها فنانة تقف ما بين بوح الأمكنة وحزن الأمهات وجنون الطبيعة، فنانة تبوح روحها بحكاية عشق للوطن، حنين إلى الضوء، ضوء الحرية والجمال، ضوء الحلم والغد"،  وما بين المعرض الأخير في تشرين ثاني 2022م تحت عنوان: "جذور" كانت هناك قفزة نوعية بالفكرة والأسلوب والقدرات، بحيث شكل هذا المعرض والذي ضم في جنباته ستة وأربعون لوحة بصمة تأسيس لنمط وأسلوب جديد للفنانة لم أشاهده سابقا في المعارض التي حضرتها في أكثر من دولة عربية وغير عربية منذ عام 1972 حتى الآن، فلا يمكن لمن يحضر المعرض والذي كان في صالة جودار الرحبة للعرض في عمَّان، وسبق له أن شاهد معرض "الحنين للضوء" أن يغفل عن هذا الجهد التشكيلي الكبير في توضيح مشهد فني ارتبط بالأرض بشكل خاص في أكثر من بلد عربي، وهذا يؤكد مشاعر لم تفارق الفنانة الكرمية والفلسطينية الجذور وتأثير المشهد السياسي العربي عامة والمشهد السياسي الفلسطيني خاصة عليها، وخاصة لمن يقف وقفة تأملية أمام اللوحات ورمزياتها وألوانها. 


   حين ندقق باللوحات أكثر من مرة حيث زرت المعرض ثلاث مرات، نجد أنه لا يمكن اغفال الجهد التشكيلي الذي بذله الفنانة، فهي في معرضها هذا رسمت المشهد السياسي للمواطن العربي المرتبط بجذوره وتاريخه من خلال فكرة الجذور للأشجار والنباتات، وحولتها بريشتها إلى مواجهة مع كل الخراب الذي ساد المشهد العربي، فعبرت باللون والفكرة والمشهد العام والتخيل التأملي بالواقع عن ذاتها وعن المواطن العربي، وارتفعت عن السلبية التي يحياها المواطن عبر عقود طويلة، والتي زادها التمزق والخراب منذ عهد فكرة "الفوضى الخلاقة" التي أطلقتها وزيرة خارجية الولايات المتحدة، فكان الربيع العربي والذي أسميه الوبال العربي وما تركه من آثار ما زالت قائمة، فكانت لوحات الفنانة في معرضها "جذور" تعبير عن الربيع العربي القادم من خلال التمسك بالجذور. 

   من خلال تجوالي الطويل بالمعرض والتدقيق بهدوء في اللوحات وجدت أن الفنانة والتي اعتمدت أسلوب الكشط بالسكين في لوحاتها حلقت في آفاق ثلاثة لتوصل فكرتها وما يعتمل بداخلها، وإن كان الفصل بين هذه الآفاق ليس بالسهل لتداخل أسلوب العمل الفني وفكرة استخدام جذور النباتات والأشجار، وإخراجها من باطن الأرض لتصبح هي الامتداد والفضاء داخل وفوق الأرض، بحيث لا يرى المشاهد في الوهلة الأولى إلا جذور نباتات متشكلة ومتشابكة أمامه، وهذه الآفاق الثلاثة يستحق كل أفق فيها دراسة نقدية كاملة لكل لوحة، لكن سأضطر لأخذ لوحتين فقط من كل أفق تعبر نسبيا عن باقي اللوحات: 

الأفق الأول/ الأمكنة: وهذا الأفق كان من احدى عشرة لوحة من لوحات المعرض، وفيه ظهرت الأمكنة المختلفة في أكثر من دولة عربية ولكن الفنانة لم ترسم الأمكنة بالشكل المعتاد الذي يمكن أن يكشف المكان، فهي لجأت للرمزية في بعض اللوحات ومن ينتبه لهذه الرموز سوف يعرف المكان، فالفن التشكيلي من بين الفنون هو الأقدم في تاريخ البشرية الأكثر ملامسة لمحاكاة الواقع ويمتلك حرية كبيرة في التعبير عم في روح الفنان من خلال ريشته وأحاسيسه، فالفنان لا ينقل الواقع كما هو كما في فن التصوير الفوتغرافي ولكنه يضيف للمشهد أحاسيس ومشاعر من خلال رمزيات اللون والرموز المتداخلة في اللوحة إلا في الرسم التقليدي ، تاركة المجال للمشاهد لتحليل اللوحة وقراءتها، وقد اخترت لوحتين من هذه المجموعة للحديث عنها كنماذج تعطينا فكرة عن هذا الأفق وأسلوب وأفكار الفنانة.. 


   وفي اللوحة الأولى من المعرض نجد ما تحدثت عنه أعلاه بوضوح، حيث نجد أن اللوحة قامت على أسلوب التدرج من الأسفل للأعلى مع وجود بؤرتين شبه متصلتين بين المساحة السفلى من اللوحة والمساحة العليا، ففي المساحة السفلى من اللوحة نجد أن اللون الأحمر الداكن بتدرجاته هو ما يغلب على هذه المساحة، حيث نجد الأمكنة تداخلت مع الأشجار وكأنها الجذور في الأرض ولكنها مشتعلة كما هو الواقع في الوطن المحتل، وفي قلب هذه المساحة نجد البؤرة الأولى والتي أشبه ببحيرة بألوان فيها فرح تعلوها الطيور بلون الدم وهي تستعد للتحليق لغد أجمل وسماء أصفى، وفي المساحة العليا من اللوحة تتغير التعابير اللونية إلى ألوان فرحة حيث يغلب اللون الأزرق الفاتح المتمازج مع الأبيض على هذه المساحة بما فيها الأمكنة، وإن بقي الأفق مشتعلا كما النيران، وإن ظهرت فيه إشارات الغد المضيء من خلال الضوء باللون الأصفر كما لون الشمس، ونلاحظ خط أصفر يعلو التلال في المنتصف بإشارة رمزية لإشراقة فجر أجمل، ويلاحظ أن الفنانة استخدمت عدة أساليب في الرسم فما بين الكشط إلى الفرشاة إلى أسلوب التنقيط في تعابير ورمزيات وتكوينات لونية هادفة، وبؤرة اللوحة كانت أقل مساحة من بؤرة المساحة السفلية لكن المحيط المفرح كان أسلوب التعبير اللوني لما يجول في ذهن الفنانة. 

   اللوحة الثانية وهي الثالثة في المعرض وواضح أنها تشير إلى العراق وقد كانت من سبع مساحات عرضية تقرأ من الأسفل إلى الأعلى حيث رسمت بأسلوب التتابع حسب المراحل الزمنية، فالقسم الأول بالأسفل نجد الأمكنة يلفها اللون الداكن والعتمة حتى سماء هذه القسم وهي إشارة للظروف التي مرت على العراق، وإن لم تخلُ العتمة من بعض النقاط المضيئة التي ترمز للأمل الذي لم ينقطع والحلم المستمر، بينما في القسم الأعلى منه نجد انتقالة لونية الى اللون الأزرق المعتم ولكنه أقل عتمة بكثير من القسم الأسفل، ويبدأ اللون الأبيض الذي يرمز للفرح يظهر على الأمكنة، بينما بالقسم الثالث الذي يعلوه يصبح اللون الأزرق أقل قتامة وتتحول الأمكنة إلى رموز مسمارية تربط الحاضر بالتاريخ منذ عهد سومر والحضارة المشرقة في تاريخ العالم والعراق. 

   لتنقلنا ريشة الفنانة نهلة آسيا إلى مرحلة الفرح في القسم الرابع من تدرج اللوحة، حيث التكوين اللوني أكثر فرحا والأمكنة فيها يعلوها اللون الأبيض والنور وأشعة الشمس أعلى التلال، وبعدها مباشرة نجد في المقطع الخامس السهول باللون البرتقالي المتمازج مع الأصفر، وكأن اشراقة الفجر تطل عليها وتغسل الدم المنسكب في المراحل التي مر بها العراق، لننتقل بالتدرج في اللوحة للقسم السادس حيث الأمكنة تحيطها السهول والأشجار حتى سفوح التلال في الأفق، ليظهر بالقسم السابع أعلى اللوحة وفضاءها الجميل حيث الغيوم البيضاء وأشعة الشمس تزيل ما تبقى من العتمة، فروت الفنانة بريشتها حكاية العراق في سبعة مشاهد منفصلة ومتصلة في آن واحد فكانت التمسك بالجذور قاعدة الإنطلاق لغد مشرق. 


   ومن الجدير الإشارة أن باقي اللوحات التسعة تناولت المكان بأساليب مختلفة، ولكن الفكرة المشتركة أن هذه الأمكنة تعتبر الجذور لتمسك الإنسان في موطنه، وهذا ما نراه في لوحتها التي تشير إلى القدس ولوحة الدرج وغيرها، حتى الأمكنة من الطبيعة حملت نفس الفكرة مثل وادي رم في الأردن، فكانت اللوحات عن أفق الأمكنة تحمل في ثناياها تاريخ عميق وحضارات ضاربة بالقدم. 

   الأفق الثاني/ الطبيعة: وفي هذا الأفق عبرت الفنانة من خلال ريشتها عن الطبيعة ومكوناتها الطبيعية كما الأشجار والمساحات السهلية والتلال والصخور عن مفهوم فكرة الجذور في الأرض، وهذه المجموعة تكونت من أربع وعشرين لوحة بأساليب وتقنيات مختلفة مع المحافظة على الفكرة مما أنتج ابداعا مترابطا بشكل جميل، فالفنانة لم تبتعد كثيرا عن الواقع في الطبيعة في كل لوحات هذه المجموعة، ولكنها تمكنت من تحويل الإنطباع إلى فكرة جديدة مازجت بين الواقعية والإنطباعية لتوصلنا إلى فكرة الجذور من خلال أسلوب فني بروح فنان، فالفنانة سعت لخلق مساحات لونية فنية تقربها من المشاهد للوحات، بدون إغراق في الرمزية التي تمنع القارئ والمشاهد من فهمها ويشعر أنه أمام طلاسم يستحيل أن يفككها، وقد اخترت لوحتين من هذه المجموعة للحديث عنها..  

   اللوحة الأولى: وفيها نجد الفنانة مرة أخرى تلجأ لأسلوب المساحات العرضية سبع مرات من الأسفل للأعلى، وتكرار رقم سبعة في العديد من اللوحات يشير للتأثر بهذا الرقم الذي تكرر بالأديان والحكايات التراثية وبالأساطير أيضا، فهناك من يعتبره رقم حظ وهناك ما يتعامل معه من زاوية الدين فقد تكرر في القرآن الكريم، إضافة لوجوده في كل الحضارات السابقة حيث تم منحه صفات روحانية اضافة أنه رقم، وهذه اللوحة تقع بين شريطين داكنين القاعدة والسماء، والقاعدة غير واضحة المعالم إن كانت مسطح مائي أو أرض وإن كان المشهد أقرب للبحر، يليه بالأعلى الشريط الثاني ويغلب عليه اللون البرتقالي وهو مشهد للطبيعة والأشجار وسهل تتمازج فيه التكوينات اللونية بين الأخضر والأصفر والبرتقالي، فكان الحقل أشبه بحقول القمح قبل الحصاد، ومزروع تسع أشجار أقرب لتكون أشجار زيتون رغم ابتعادها عن اللون الأخضر، ولفت نظري الشجرة الثالثة من يمين اللوحة بالنسبة للمشاهد، فقد تمازجت خطوط الأرض مع الشجرة وكأنها شعر منثور في الريح، بحيث أصبح شكل الشجرة أقرب إلى رأس امرأة، والشجرة تبقى أنثى دوما فربما قصدت الفنانة هذه الرمزية في اللوحة، وربما الصدفة لعبت دورها أيضا فكانت خطوط الأرض كأنها شعر امرأة متطاير. 

  بينما الشريط الثالث غلب عليه اللون الأخضر الفاتح المتمازج بالأصفر، وهذا التكوين اللوني يمنح المشاهد بهجة وراحة نفسية حين يتأمله فهي ألوان بداية الخصب، وحافة السهل من الأسفل مزروع فيها أيضا تسعة أشجار، فهل كانت صدفة أن تكرر أيضا رقم تسعة بشريطين من اللوحة بعدد الأشجار؟ بينما الشريط الرابع غلب عليه اللون الأخضر الأقرب للطبيعة فكان امتداد سهلي مع عدة أشجار يشير لمرحلة الخصب، بينما المساحة الخامسة باللون الأصفر الموشح بالأخضر وكأنه سهول القمح حين يقترب الحصاد، لتنقلنا مباشرة في المساحة السادسة إلى صفاء البحر وزرقته حيث الأزرق موشى بالأبيض، وكون الأزرق من الألوان الباردة يمنحنا شعور مختلف عن غيره قبل أن يبدأ أفق البحر بالعتمة، لتنقلنا بعدها بالمساحة السابعة إلى عتمة السماء وإن كانت أقل من عتمة قاعدة اللوحة، ويلاحظ أنه في وسط المساحة السابعة تقريبا نجد الشمس وقد توارت خلف هذه السحب الكثيفة وبالكاد تظهر باللوحة.. 

   فهل أرادت الفنانة في لوحتها هذه الإشارة إلى دورة الحياة؟ أم أرادت أن تشير إلى الجذور في الطبيعة من خلال الأشجار والأرض التي تمنح الخصب؟ 

   بينما في اللوحة الثانية نجد الطبيعة تجلى بصورة جميلة وكما اللوحة السابقة نجد تكرار فكرة المساحات السبع، ولكن هذه اللوحة قامت بكل مساحاتها على فكرة الجمال في الطبيعة بمساحات مختلفة ومتصلة بحيث شكلت فكرة واحدة من سبعة مساحات متمازجة، فالشريط الأسفل شكل القاعدة للوحة بلونه الأرجواني الفاتح الموشح بالأبيض حيث تنبت الورود وتتداخل الجذور في مشهد يبعث على الأمل، بينما في الشريط الذي يليه نجده بلون أكثر قتامة وأقرب للتربة السمراء الخصبة حيث نرى أن شكل الجذور هو من أعطى المساحة تكوينها وفكرتها والأرض تقسيماتها، والشريط الثالث مثل السهول بخصبها والرابع نهر تجري مياهه على شكل جذور من خلال تقنية الكشط بالسكين، والخامس شواطئ النهر الخصبة لنجد المساحة السادسة بلون حقول القمح مرة أخرى حيث تتدرج الفكرة حتى الخصوبة ويليها مشهد السماء الجميل والحافل بخيوط متشابكة كما الجذور للوصول إلى فكرة اللوحة، أن الجذور تمتد من الارض ولا تفارق سماء الوطن. 

   الأفق الثالث/ الجذور: وهو لب فكرة وإسم المعرض حيث تعمل الفنانة على تكثيف مشاهد تشكيلية تعتمد على الجذور كفكرة وكأسلوب في الرسم، وهذه المجموعة تتكون من إحدى عشرة لوحة كل لوحة فيها تمثل حكاية، وأكثر من لوحة منها حين ندقق في اللوحات نجد أن الفنانة أنسنت الجذور بانتصابها وشكلها وهذه رمزية رائعة دلالة على ارتباط الانسان في جذوره وبالتالي في الأرض التي تمتد فيها الجذور، ورمزية أخرى في هذه اللوحات أن الفنانة شكلت بريشتها وبأسلوبها الفني إمتداد الجذور من تحت الأرض إلى أعلاها، فكانت الجذور بشر وأمكنة وأشجار بدلالة أن الجذور هي الأصل، ومن لا يمتلك جذور في الارض يسهل اقتلاعه وموته، فلذا فشل الاحتلال بكل ما مارسه ويمارسه من اقتلاع الشعب من الوطن والأرض والذاكرة، فجذور شعبنا تمتد في هذه الأرض قرابة أحد عشر ألف عام، وفي إطلالة سريعة على لوحتين سترى الفكرة التي توصلت اليها بقراءة لوحات الفنانة: 

   اللوحة الأولى: وهذه اللوحة من اللوحات التي تركت أثرها في روحي وفيها نرى في القاعدة جذور قوية وضخمة الحجم منغرسة في الأرض، ومنها تصعد أشجار منتصبة القامة من أمام مكان أقرب لبيت تحفه الحقول وسنابل القمح المنغرسة في جذور الأرض، وأمام المكان نرى الانسان يفترش الأرض المغطاة بالقش والجذور، وقد تمكنت الفنانة بجدارة من إستخدام التكوينات اللونية وتمازجها، فكانت الجذور القوية بنية اللون كما لون التراب الخصب، والأشجار يانعة مثيرة للفرح بلونها وشكلها وخاصة مع قلب اللوحة الذي طغى عليه اللون الأزرق الفاتح المتمازج مع الأبيض، بينما مساحات الحقول تمازجت بين لون الأرض والأخضر والأصفر فخلقت فضاء جميل للوحة يرمز بوضوح لارتباط الانسان بالجذور. 

   اللوحة الثانية: وهي من اللوحات المتميزة والتي أحببتها كثيرا من لوحات الجذور حيث القاعدة للجذور تحت الأرض، وقد تميز التكوين اللوني في هذه اللوحة بألوان العلم الفلسطيني الأربعة، فكان اللون الأحمر على يمين المشاهد أقرب لمثلث، يليه تمازج للأسود والأبيض والأخضر من الأعلى للأسفل على شكل جذور، فكان العلم بما يرمز إليه هو الجذور المنزرعة في الأرض، لتخرج هذه الجذور من التربة على شكل أشجار ونباتات وخصب وحقول قمح مع بعض ملامح الأنسنة في الأغصان، فأكدت الفنانة في هذه اللوحة أن الشعب منغرس بجذوره الى الأعماق في الوطن المغتصب. 

   والخلاصة أننا نلمس بوضوح من خلال هذا المعرض التأكيد على دلالات الإنتماء للأرض العربية عامة والأرض الفلسطينية المحتلة خاصة، وهذا يدل على بعد واعٍ للفنانة وفكرها وريشتها فوثقت الوطن والفكرة من خلال الجذور، باعتبار التاريخ إمتداد للحاضر، والتي تمتد على مساحات اللوحات وتغطي فضائها بأسلوب الكشط بالسكين، وهذا يظهر للمشاهد أن الفن يحمل في طياته رسالة من خلال اللون والريشة تصل لروح المشاهد مباشرة، فتقدم لنا لوحات تمازج المكان والوطن والطبيعة ذات معانٍ حافلة بالأحاسيس والفكرة، فتثير الدهشة في روح من يتأمل اللوحات من الأولى حتى الأخيرة، ومما يدلل أن الفنانة في الفترة بين المعرضين تمكنت أن تتبوأ مكانة فنية خاصة في الفن التشكيلي، وتعبت على نفسها كثيرا وأثرت تجاربها السابقة وطورتها جيدا فصنعت لنفسها بصمة خاصة في فضاء التشكيل الفني، فأعطتنا إبداع من خلال فكرة الجذور التي لها أبعاد كثيرة من خلال الجذور والطبيعة والمكان، مؤسسة لفن وجمال متفرد بالتأثير. 

   الفنانة التي امتلكت قدرات جيدة وثقافة بصرية وإحساسا مرتفعا، تمردت في فضاء لوحاتها على التقليدي والمطروق بالفن التشكيلي، فكانت ريشتها في فضاء لوحاتها التي لم تعرف الفراغ حافلة بالتأثيرات النفسية ودلالاتها، فكان الفن لديها رسالة ووسيلة تحرر وطريقة مقاومة، من خلال استخدام فكرة الجذور على مساحات اللوحات فلم تترك مجالا للفراغ فيها، مستخدمة الرمز كلغة منصهرة مع التكوين اللوني والأسلوب، لتؤكد أن الإنتماء للجذور يحمي الإنسان من الإقتلاع من مكانه، فأي شعب بلا جذور يسهل اقتلاعه، وشعبنا وأمتنا تمتد بجذورها بالأرض الى احد عشر ألف عام منذ بنى كنعان مدينة القمر "اريحا" كأقدم مدينة حضرية في التاريخ. 

"ترانيم اليمامة"...لحظات طويلة في مساحات ضيقة


بقلم الأديب: حسان نزال    


بداية لا يُمكننا أن تتوهّم أننا تكتب نقدا أو نتناول كتابا بدراسة بحثية، كما هو الحال مع مؤلفات تخصصية أو مخرجات إبداعية أو كتب وأبحاث علمية أو أدبية أو تربوية..ذلك أننا بصدد نزف بالدم والدمع والعرق...نحن بصدد لحظات طويلة ومساحات ضيقة وآهات متّصلة ولوعات عميقة نزفتها ثلة من ماجدات شعبنا، خنساوات في المقدمة آثرن أن يسجلن للتاريخ فصولا من  المواجهة الطويلة مع الاحتلال..آخر احتلال في التاريخ..احتلال يكابر ويبحث عن كل ذريعة احلالية لتكريس سيطرته وهو يعرف أنه بحاجة إلى تحييد قيادات هذا الشعب ومبادريه ومؤمنيه حتى يسهل عليه ترويض البقية واستمرار مشروعه الاحتلالي الاستيطاني.

في الكتاب (ترانيم اليمامة) تم استدراج صاحبات النصوص للكتابة، وإجلاسهن على طاولة الحبر وهنّ الزاهدات به رغم أنهنّ مُفعمات بعميق التجربة، طافحات بالوجع والألم والصدق والثبات والصمود، التجربة صقلتهنّ وجعلت منهنّ نماذج إنسانية نبيلة، ولأننا كشعب نؤمن بأهمية نقل التجربة وتعليمها للأجيال فقد وجدت الأسيرات أنفسهنّ أمام ضرورة ملحة دفعتهنّ إليها ظروف موضوعية وعلاقات إنسانية صادقة. فكانتزميلتهنّ ابتسام أبو ميالة وربحي دولة رئيس بلدية بيتونيا وآلاء القاضي أمينة مكتبتها حاضنة لهذا العمل منذ بزوغه فكرته وحتى خروجه الى النور.

يضم الكتاب نصوصًا لعشر أسيرات فلسطينيات تعرضن لعتم الزنزانة وسياط الجلاد وأساليبه القمعية على مدى سنوات طوال وفي فترات متفاوتة من الحقبة الاحتلالية المستمرة، الأسيرات: شريفة علي أبو نجم، وتغريد سعدي وعطاف عليان، وأريج عروق ، ولينا جربوني وجيهان دحادحة ونهاد وهدان ومنى قعدان وعهود شوبكي ومي الغصين) وكلّها أسماء عرفت بسيرتها المقاوِمة وصمودها في باستيلات  الاحتلال والتحقيق وتداولته عناوين الأخبار، وكل ما كان يتم تداوله كان ماتراه عين الرائي وتسمعه أذنه لا ما عاشته قلوبهن وقاومته أجسادهن وعقولهن.

   صحيح أن نصوص الأسيرات موضوعية وخلاصة تجاربهن الخاصة، لكنها تعني كلّ أبناء شعبنا الفلسطيني لأنها جزء من الرواية الفلسطينية لعلاقة الاشتباك الطبيعية التي يجب أن تسود بين الكيان المحتل والشعب المحتل، كما أنها جزء من سيرة المقاومة التي يجب تسجيلها، وهي فرصة لاستشعار التضامن الوطني والإنساني مع هؤلاء الماجدات وعدم تركهنّ نهْبا لمشاعر الخذلان والتخلي التي يحاول الاحتلال نشرها بهدف زعزعة ثقة شعبنا بمقاومته وتفكيك عرى الوحدة بين أطيافه وبَنيه، كما أنّ هذه النصوص ستبقى شهادة إدانة ومرافعة ضد هذا الاحتلال في كل محفل دولي وفي كلّ تاريخ. 

 في الكتاب تسرد شريفة أبو نجم قصة اعتقالها وجثةَ والدها الشهيد في ذات الناقلة الصهيونية وفي ذكرى ولادتها، وتروي فصولا من العذابات الجسدية والنفسية ومختلف أشكال الضغوطات التي طالتها وعائلتها  بهدف استدراجها للاعتراف أو السقوط في براثن الارتباط والخيانة، وتتحدث عن اعتقال أقاربها للضغط عليها وعن تلقي والدتها الحكم الجائر لخمسة عشر عاما مع الأشغال الشاقة رغم حداثة سنّها كما تبسط خبايا روحها وأسرار صمودها الأسطوري طيلة فترة التحقيق والحكم الذي أعقبته دون أن يضعف ذلك من عزيمتها 

كما تتحدث ابنة سخنين الفلسطينية في الداخل المحتل من فلسطيننا عام 1948م تغريد السعدي عن لحظات اعتقالها من البيت بذات الأساليب القمعية التي ينتهجها الاحتلال في الضفة الغربية وكيف استخدمَ أدواته التدميرية في البيت وحاول التأثير على صمودها حتى قبل بدء التحقيق وهو يقول لها على لسان قائد القوة المقتحِمة (خذي الكثير من الملابس، خذي خزانتك كلها معك فقد لا تعودين إلى البيت أبدا)، 

في قبسها من  نار عتصيون تتحدث الأسيرة عطاف عليان عن عذابات التحقيق والعزل ومكابدة الاتصال مع أهلها وهي التي عزلت ذات مرة لأربع سنوات التهمت خلالها كلّ كتب المكتبة فتقول: 

(كبابٍ صدئ أحاول فتح جفني، رأسي كصخرة سيزيف"شخصية اسطورية "أثقلت كاهلي،أشعر أنني فقدت السيطرة على جميع أعضاء جسدي،لا جفني يطيعني ولا ظهري أصبح سندي،ولا رأسي دليلي..) كما تروي قصص البوسطة والمحاكمات الهزلية ومحاولات كسر عزيمتها وجرّها للاعتراف أمام السجان وتروي قصة القوى الكامنة في داخلها والتي جعلت السجان في حضرتها كيانا هشّا وجعلتها صاحبة السيرة الخضراء رغم الختم الأحمر الذي طبع على ملفّها.

وهكذا يجد القارئ في كل نص سيرة وفي كل سيرة سفِر من الثبات الذي كان يقلب السحر على الساحر فيكشف زيفه أمام الضباط والجنود ومشغليهم، لقد استطاعت الأسيرات التغلغل في بنية الآخر الفكرية وهزّ قناعاته وتفكيك رؤيته المزورة للقضية الفلسطينية من خلال نقاشات متاحة أو صمود واضح مع السجانين والسجانات مما دفع بعضهم لترك عمله ودفع آخرين لإعادة النظر في ممارساته بعد أن شعر بأنه ليس أكثر من أداة قمعية ضد الأسير الفلسطيني عامة وضد الأسيرات بشكل خاص. ((  ــ ماذا تفعلين؟..فاجئتني المجندة بسؤالها كنت ظننتها قد ذهبت

ــ أصلّي صلاة المغرب.

ــ ماذا يعني ذلك؟

ــ يعني أصلي لله…"لم تكن نفس المجندة التي شاكلتني صباحا،يخيل الى انها من اصل روسي".

نحن نصلي خمس صلوات في اليوم … لا نتركها أينما كنا، نشحن أرواحنا التي نفخها الله من روحه في ادم عليه السلام نعبئ البطارية بهذه المحطات الخمس…،"لم يكن الحديث معها سهلا كونها لا تتقن اللغة العبرية أيضا "

انت من المهاجرين الروس؟… سألتها... ردت بالإيجاب

يهودية ام مسيحية؟

– ارتبكت قليلا- ثم اجابت يهودية…

قلت لها عام 1992 قامت إدارة السجن بعزلي الى مركز توقيف الجلمة"في حيفا"مع الجنائيات، التقيت بسجينة من أوكرانيا،...كانت تسألني كثيرا عن صلاتي،...اعترفت لي انها مسيحية ولكنها ادعت انها يهودية كي تهرب من ظلم روسيا، استغلت عدم كتابة الديانة في بطاقتها.

انت تكرهين اليهود؟…غيرت دفة الحديث.

انا اكره الظلم...الاحتلال ظلم كبير…الاحتلال ليس اليهود فقط بل يشمل من مهد لهم الطريق،...)).  عطاف عليان: قبس من نار عتصيون. 

النصوص كما ذكرنا تزخر بالوجع المخبوء في لغة عميقة متعددة الدلالات عميقة المعاني (ودّعت حارة تلو الحارة، قبلت جبين الطرقات، احتضنت ساحة المدرسة التي رسمت بها طفولتي الخجولة وهذه الصفوف المتلازمة التي علمتني أكثر من حروف الهجاء وودربتني على لغة هي أصل الحكاية،..) ص 35تغريد سعدي. كما أن السرد القصصي المتَّبَع في النصوص مُزيّن بصور بلاغية مؤثرة تظهر مستوى الثقافة العالية التي تتمتع بها الأسيرات ( ابتسامة دغدغت شفتي/ للعبادة في الشدة مذاق خاص، استشعرت قُربه الحبيب منك وتوجه كلي اليه،استشعرت معيته، استشعرت يديه تهدهد قلبي... نعم ربي أنت الأكبر أنت الأقرب/ غاب يوم الجمعة جارا أذيال السبت الثقيل على قلب الأسرى...إلخ

في السجن مزاليج الأبواب أنياب..والبوّابون ذئاب والمعتقلون جمادات في حضرة الثعالب كما تقول تغريد التي تكتشف في زنزانتها أن ماسورة الحمام هي التلغرام الاعتقالي والذي من خلاله تصلها رسالة تشهد بالحياة لمعتقل من مخيم جنين ظنه أهله شهيدا وفتحوا له بيت عزاء وهو يريدها أن تستغل زيارة محاميها لينقل لهم خبر وجوده في الزنزانة على قيد الاعتقال..ثم تفكر (أي حالة ضياع يعيشها هذا المعتقل؟!! كأنها تريد أن تقول: من يرى مصائب الآخرين تهون عليه مصيبته). 

القاسم المشترك بين كل التجارب التي يتضمنها الكتاب هو الخطوط العريضة لسياسة الاعتقال والتحقيق الاحتلالية، وعدم اختلاف تلك الأساليب والأهداف بين فلسطيني وآخر أو بين ذكر وأنثى: وفي مقدمة تلك الأهداف كسر إرادة المعتقل أولا والمسّ بكرامته وإثبات ضعف قدراته وعجزه عن الصمود كمقدمة لجرّه للاعتراف ومن ثم تحييده من صفوف المقاومة والرفض لوجود هذا الاحتلال:" 

ألقوني على الأرض وشحطوني : تقول منى قعدان"، كنت لا أرى أمامي سوى أشباح ضخمة حتى أجلسوني وشدوا وثاق يديّ بالمعاصم البلاستيكية وألجموا فمي بقطعة قماش، وأنا ما زلت أنظر أين أنا وما هذا الذي يجري، وإلى أين النيّة الآن؟ المشهد كان قاسيا، السماء بدأت تنذر بمطر قادم لا شيء معي، البرد يتسلل عبر أطرافي، بت أشعر بالوحطة والخوف وانتظار المجهول)... ومنى قعدان من المجاهدات المعرضة دوما للاعتقال والتوقيف وفي المرة السابقة التي ناقشنا فيها الكتاب في نابلس لم تكن موجودة لكنها اليوم بين أهلها وعائلتها وشعبها في عرابة ونتمنى أن تبقى بإذن الله. 

أشير إلى أن معظم الأسماء التي عبّدت صفحات الكتاب "ترانيم اليمامة" بقيت أسماء لامعة متداولة في الأخبار طيلة فترات اعتقالها ومتابعة قضاياها الوطنية كما خرجت من السجون لتشكل حالة وعي وطني وتساهم في ضحد الرواية الاحتلالية ونشر الرواية الفلسطينية عبر الكتابة في الصحف ووسائل التواصل كمنفذ إلى العالم، وعبر الانضواء في مؤسسات العمل الوطني السياسية والتنظيمية والأهلية، خاصة وهنّ خبِرن حالة الاعتقال وواجهنها بصلابة ويعرفن مدى حاجة الأسير لمن يعلّمه وينقل له الخبرة ويشدّ من عضده ويوسع مداركه خاصة عندما يكون وحيدا في عتمة الزنازين.وبعد فإن كتاب (ترانيم اليمامة) يعدّ جزءا من الجهد الوطني العام الذي تبذله مؤسسات فلسطينية متخصصة بشؤون الأسرى وغيرها من أجل الحفاظ على وحدتهم وصمودهم وما يميزه أنه كتب بأقلام نسوية شكلن رافعة للثبات ونموذج متقدم للمواجهة والصمود، كما أنه يشجع كل أسير وأسيرة على خوض غمار الكتابة عن التجربة لإغنائها وأعتقد أنه واحد من سلسلة مبادرات فردية أو جمعية تخدم قضية الأسرى ليس أقلها تبني شخصيات وطنية أو جهات تفاعلية لهذه الكتابات ونشرها والتي منها كذلك مبادرة (كتاب لكل أسير) الذي ينفذه المحامي الفلسطيني ابن حيفا (حسن عبادي).  

وأخيرا الشكر موصول لروّاد المكتبة على هذه المبادرة وللحضور الكريم ولوسائل النقل المرئي والمسموع..وأعتقد جازما أننا بحاجة لتوظيف هذا الكتاب وأمثاله في كل مدخلات ابلناء الفكري لأجيالنا الصاعدة لما يتضمنه من تجارب وخبرات تشحذ الهمم وتقوي العزيمة وتعين هذه الأجيال على مواجهة هذه التجارب التي قد يخوضونها بعزيمة واقتدار..

شكرا لكم ثانية والرحمة للشهداء والشفاء العاجل للجرحى وأمنيات التحرر لأسرانا البواسل في كل مواقع الاعتقال وباستيلاته. 

منتدى الأديبات الفلسطينيات يطلق المجموعة الأدبية" ترانيم اليمامة"




تقرير :سعاد شواهنة


منتدى الأديبات الفلسطينيات ومكتبة بلدية جنين العامة يطلقون المجموعة الأدبية" ترانيم اليمامة" دفق من روح أسيرات فلسطينيات و شغف للحرية

أطلق منتدى الأديبات الفلسطينيات ومكتبة بلدية جنين العامة في مركز الطفل الثقافي في جنين المجموعة الأدبية " ترانيم اليمامة" لمجموعة من الأسيرات الفلسطينيات اللواتي قدمن روح تجاربهن الإنسانية في زنازين القمع و الاحتلال، و شوقهن الإنساني و الروحي لضوء شمس يتسلل إلى عتمة السجن من نافذة ضيقة.

قدمت الأديبة " إسراء عبوشي " الندوة، وعرفت بالكتاب والكاتبات المناضلات، وشكرت الحضور على المشاركة، و صفات الشاعرة نعيمة الأحمد الكلمات في روح قصيدة تحيي فيها أسود المعتقلات البواسل، وأهدتها إلى المناضلين: كريم يونس، وماهر يونس... كما تناول الشاعر الأديب حسان نزال في قراءة تحليلية نقدية للكتاب، العناصر السردية التي وقفت الأسيرات في ظلها، كما أشار المحامي حسن عبادي إلى مبادرته "لكل أسير كتاب" وتحدث عن طقوس الكتابة ووجع القلم الذي ينزف في الأسر.

يمامات الكتاب يتحدثن: 

سلطت "منى قعدان" إحدى الأسيرات المشاركات في الكتاب ترانيم اليمامة الضوء على صورة المعتقل، والبؤس الذي يكابده المناضل فيه، و تسللت المناضلة أريج عرقاوي في حديثها من تجربتها النضالية في المعتقل إلى روح المرأة و ما تكابده من عناء روحي و إنساني شاق في الأسر. 

وقدم الكاتب عمر عبد الرحمن إضاءة نقدية حول المنجز الأدبي، ودعا إلى تجميع أدب المعتقل، وتصنيفه ليسهل على الدارس قراءته والبحث حول ماهية صياغة الأدب وما تعكسه تجربة الأسر مع تدافع سنوات السجن و ثقلها على الروح.

و تحدثت المناضلة هيام حمدان عن بتجربتها من اللحظة الأولى للاعتقال، ووصفت مقاومتها خلال التحقيق...ونوهت بأن الاحتلال الغاشم ما زال يحتجز جثة أخيها الشهيد منذ العام 1974.

أريج عروق، منى قعدان،تغريد السعدي،عطاف عليان،لينا جربوني، جيهان دحادحة، نهاد وهدان، عهود الشوبكي،مي الغصين أسيرات صنعن حرية من نوع آخر حين أطلقن العنان لكلمات سقفها السماء، مناضلات كتبن حكاياتهن و نقشن تجاربهن على لوحة الزمن… لسنا مجرد أسماء، وعلى هذه الأرض لنا وطن، كان يسمى فلسطين و صار يسمى فلسطين.

تقرير :سعاد شواهنة


صدور ديوان "قلب مصاب بالحكمة"


تقرير: فراس حج محمد

عن دار ببلومانيا للنشر والتوزيع في جمهورية مصر العربية، صدر مؤخراً  الديوان الشعري الأول للشاعر لطفي مسلم، وجاء الديوان تحت عنوان "قلب مصاب بالحكمة"، ويقع في (124) صفحة من القطع المتوسط، وسيكون الديوان متوفرا في معرض القاهرة الدولي لهذا العام في جناح الدار.

وفي تقييم خاص بلجنة تحكيم جائزة منف للآداب العربية، وقد سبق للشاعر أن تقدم للجائزة بهذا الديوان كتب أ. عاطف عبد العزيز الحناوي: "غلبة الحكمة على قصائد الديوان وفي هذا اتساق بين العنوان وبين محاور القصائد" وهو كذلك "كلاسيكي اللغة والتصوير"، واشتمل على "بعض الاقتباس من القرآن الكريم مثل قصة الخضر وخرق السفينة".

يتألف الديوان من (63) قصيدة ومقطوعة شعرية التزم فيها الشاعر الشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية، وتنوعت موضوعاتها ما بين الذاتي والوطني والإنساني إلا أنها كلها قد اتسمت بميسم واحد من "الحكمة" و"التعقل"، ولذا فقد غلب على هذه القصائد الإيقاع الهادئ والعقلانية في مناقشته للأفكار التي تناولتها. 

تناولت قصائد الديوان في الحديث عن بعض الشخصيات العربية التي كان حضور في الوجداني العربي، وأهمها قصة الطفل المغربي "ريّان أورام" الذي قضى نحبه بعد حادثة سقوطه في بئر عميقة، في حادثة مؤثرة تابعها ملايين المشاهدين عبر العالم، كما تحدث عن علاقة فلسطين بالجزائر، وعرّج على مئوية الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان واستشهاد شيرين أبو عاقلة، واستشهاد بعض المناضلين الفلسطينيين. 

عدا عن تناوله قضايا الحب والصداقة والعلاقة بالأب والأم وغيرها من القضايا الحياتية التي يحاول الشاعر أن يرسم صورة للإنسان الجميل في أخلاقه وتعاملاته مع الآخرين، وأن يعيش الحياة كما ينبغي، هادئا مطمئناً، بعيدا عن الحقد والحسد والتطرف الديني، متمتعا بخلق التسامح وحب الخير للناس.

وأما على المستوى الفني فقد اتسمت قصائد الديوان بما تتسم به قصائد الحكمة من الاهتمام بالموضوع وسبكه بلغة مؤثرة بعيدة عن التعقيد الأسلوبي والصور البلاغية، فجاءت لغته سلسة وأفكار القصائد مترابطة، تتخللها أبيات الحكمة المشتقة من الموضوع أو تنتهي بدرس حياتيّ بليغ ينصح الشاعر به قرّاءه.

والشاعر لطفي مسلم من مواليد قرية تلفيت في محافظة نابلس في فلسطين عام 1990، درس تكنولوجيا المعلومات في جامعة النجاح الوطنية، ويعمل إداريا في إحدى المدارس الفلسطينية. شارك مسلم كذلك في أمسيات شعرية متعددة، ونافس على عدة جوائز شعرية، وحاز على بعضها.


وفد من الشخصيات المقدسية يزور بطريريكية الأقباط للتهنئة بالأعياد المجيدة


القدس :- زار اول أمس  الإثنين وفد من الشخصيات المقدسية بطريركية الأقباط في البلدة القديمة من القدس،من أجل التهنئة بعيد الميلاد المجيد ورأس السنة الميلادية،حيث كان في إستقبالهم نيافة مطران الأقباط في القدس الأنبا انطونيوس والمطران عطا الله حنا،رئيس أساقفة سبسطية وسائر الديار المقدسة للروم الأرثودوكس والسيد تامر مليحة عضو مجلس بلدي الرام والسيد سيمون ازازيان،وفي الكلمات التي القها كل من نيافة المطرانيين عطا الله حنا والأنبا أنطونيوس  وعبد اللطيف غيث واسعد المسلماني ورتيبة النتشة وراسم عبيدات وسليمان مطر وتامر مليحة،اكد الجميع على وحدة شعبنا بمسلميه ومسيحيه،وهذا الشعب قدره واحد ومصيره واحد وهدفه واحد، وتطلعاته واحدة،وشددوا على ضرورة الحفاظ على السلم الأهلي والمجتمعي وتوعية الأجيال الشابة، بأهمية تعميق العلاقة والترابط بين أبناء الشعب الواحد،وهي مسؤولية الجميع،وكما أكدوا أيضاً على رفضهم لأية مظاهر وظواهر سلبية وعنصرية وطائفية ،وثمنوا عالياً الدور الكبير للأقباط  العرب  خاصة وللمسيحين العرب عامة في الجوانب القومية والوطنية  والحضارية،وفي هذا السياق اشادوا بمواقف الراحلين قداسة البابا شنودة الثالث والمطران هيلاريون كبوتشي..كما شدد الجميع على رفض وضرورة مجابهة كل الإعتداءات التي تقوم بها الجماعات المتطرفة وزعران المستوطنين على المقدسات الإسلامية والمسيحية وفي المقدمة منها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والمقابر والأديرة ...وفي الختام دعوا الى ضرورة استعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الإنقسام من أجل حماية وصيانة حقوق شعبنا في ظل ما نشهده من عدوان شامل على هذا الشعب وحقوقه وأرضه من قبل حكومة اليمين المتطرف والكاهانية اليهودية.

أقصوصة "زُغدة" لحسن سالمي


بقلم: الدكتورة سهيرة شبشوب: أستاذة مساعدة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس/ تونس.

مقدمة

يقول صبري حافظ: "ما أصعب الحديث النظري عن فنّ الأقصوصة" ، ولكنّه عندما يجد ألا مفر من أن يعرِّفها يكتفي بأن يقول إنّها فقط ذلك "الفن البسيط المراوغ المليء بطاقة شعريّة مرهفة وقدرة فائقة على تقطير التجربة الإنسانية" . وهو إذ يعرِّفها بهذا الشّكل، يبوِّئها مرتبة عالية في سلَّم النّصوص القصصيّة، في وقتٍ اِستحوذت فيه الرِّواية على المرتبة الأولى، بينما كان ينظر إلى الأقصوصة على أنها أدب من الدّرجة الثّانية، من جهة أنّها غير قادرة على الإلمام بالتّجربة الإنسانيّة، وأنّها مهما بلغت من اِكتمال، تبقى عاجزة عن بلوغ المرتبة العظيمة التي بلغتها الرِّواية. أما الحال فهو أنّ الحجم ليس هو المحدِّدَ للعمق القصصيّ، ذلك أنّ التوهج والتكثيف في الأقصوصة قد يمكِّنها من التّعبير عن أعمق التّجارب الإنسانيّة. 

ومن جهة ثانية كان يُنظر إلى الأقصوصة على أنّ ما يميزها عن الرّواية هو القصر، بينما هي جنس مستقلّ بذاته من جهة خصائصه الفنيّة.  

وعندما نستعد لقراءة أقصوصة يجب أن نضع في اِعتبارنا أنّنا سنقرأ نصًّا مخصوصا مختلفا عن الرّواية بمفهومها التّقليديّ المعروف. فإذا كانت الرّواية نصّا يقوم على المثلّث الأرسطي المعروف، فينطلق هادئا وتتأزّم فيه الأحداث شيئا فشيئا في اِتّجاه العقدة لينحدر شيئا فشيئا في اِتجاه النهاية، فإن الأقصوصة تنطلق مأزومة مشحونة بالتّوتّر. إن بداية الأقصوصة بؤرة تتجمّع فيها خيوط اللّعبة القصصيّة وترتسم الفكرة التي يكون على القارئ تتبُّعها وتبيّنُ مآلها من خلال كلّ التّفاصيلِ الآتية. وتكون النّهايةُ البديلَ البنائيَّ للعقدة الرّوائيّة، فهي البؤرة التي تتجمّع فيها كلّ عناصر الحبكة. هي لحظة الكشف والتكشف على حد تعبير صبري حافظ. وهي "كالقنبلة التي تلقى من طائرة يكون هدفها الأساسي هو المسارعة بإصابة الهدف بكل طاقتها الاِنفجارية" . ويفسر فرانك أوكونور غياب الذروة تفسيرا ماديا جدليا إذ يرى الأقصوصة صورة الجماعات المقهورة التي تتحرك من البداية إلى الكارثة . 

ولا وجود لموضوعات كثيرة متشعّبة، فالأقصوصة تتميّز بما أسماه "إدغار ألان بو" بـ"وحدة الأثر" ، التي تتحكّم في القارئ من بداية الأقصوصة إلى نهايتها. وقد بدا لنا أنّ وحدة الأثر تتحقّق من خلال وحدة المكان ووحدة الزّمان ووحدة الشّخصياّت ووحدة الأحداث من جهة، ومن خلال طرائق إجراء السّرد والوصف والحوار من جهة أخرى. واِنطلاقا مما ذكرناه آنفا، سنحاول قراءة أقصوصة "زغدة" لنستجلي بعض خصائصها الشّكليّة.

1- بنية الأقصوصة

تتضمّن "زغدة"  ثمانية مقاطعَ سرديّةٍ، والحكاية فيها بسيطة جدا، مفادُها أنّ جدّة تخرج لحضور عرس في الصّحراء لكن يضيع حفيدها الشّقيّ فينقلب العرس إلى مأتم وفي النّهاية يقع العثور على الصّبيّ التّائه.

ولم يُضع المتكلّم وقته في التّمهيد للأحداث. فقد اِنطلقت "زُغدة" ببداية متوتّرة، فمنذ السّطر الثّاني نجد عباراتٍ تنذر بـ"الكارثة"، فإضافة إلى أنّ الجّدّة رفضت صحبة حفيدها لما آنست فيه "من شقاء غريب لا ينتهي عادة إلا بمكروه"(ص1)، تشدُّ اِنتباهَنا عبارتان، أولاهُما عبارةُ "شقاء غريب" وهي تُعِدّ القارئ لتلقّي أحداث غيرِ مألوفةٍ وتشدُّه كي يبحث عن موطن الغرابة، وثانيتهما عبارة "مكروه". وهي عبارة لم توضع عبثا ففي قانون الكتابة الأقصوصيّة تُعَدُّ مثل هذه العبارات قرائنَ، على القارئ أن يأخذها بعين الاِعتبار ويتَتَبّعها لأنّها هي مدار القول كلِّه، لا سيَّما أنّ جملة أخرى أشدَّ إيحاء ستلفت الاِنتباه إذ ستكتشف الجدّة أنّ المحظورَ قد وقع، فحفيدها خرج فعلا مع القافلة. تقول: "فلما اِقتربنا من المضارب برز لي وعلى وجهه اِبتسامة شيطان"(ص1)، ثم نجد في الصفحة نفسها حديثا عن "بئر عميقة ضرب حولها سور قصير من الحجارة والطين"(ص1). وبما أنّه يفترض أنّ الأقصوصة يجب أن تكون خالية من الزوائد وأن تكون مكثفة، يتوقع القارئ أن البئر عنصر قصصيّ سيساهم في تطوير الحبكة لولا أنّ المتكلمة وهي الجدّة تقضي على هذا التوقّع بقولها معلّقة على البئر "سرت في خاطري صورة حفيدي وهو مدقوق العنق في قعرها" (ص1). ويبتعد هذا القول بالقارئ عن تصوُّر إمكانيّة أن تكون للبئر تلك القيمة الفاعلة في الحدث، لكنّه يضعه على درب الخطر، ومن ثمَّ على طريق البحث عن إمكانيّات أخرى أو أخطار أخرى، فيولِّي وجهه شطرَ قرائنَ أخرى قد تقوده نحو اِكتشاف لغز النّصّ. 

وعلى هذا النّحو تسير الأحداث بسرعة وتوحي بأنّها تتجِّه نحو مصيرٍ فاجعٍ سيلقاه الصّبيّ الشّقيّ الذي تاه في الصّحراء وأشرف على الهلاك، فنجده وقد أحاطت به مجموعة من الكلاب تستعدّ لاِفتراسه. وفي لحظة النّهاية، وهي اللّحظة التي تنحلّ فيها العقدة، تلتقي عناصر الحبكة كلُّها فتعثر الجدّة على حفيدها التّائه ويكون الاِنفراج. وهكذا نرى أنّه لا أثر للبناء الثلاثيِّ لأنّ الأزمة اِنطلقت مع البداية، ولأنّ النهاية هي في ذاتها لحظة تأزم واِنفراج في آن واحد. وإضافة إلى هذه البنية الغريبة تتميّز الأقصوصة بخصائص بنائية أخرى منها وحدة الأثر.

2- وحدة الأثر

هي أحد أهمّ مقوّمات الأقصوصة، التي بلورها إدغار ألان بو، باِعتبارها تحقّق خاصيّة القصر في هذا الجنس القصصيّ الذي، على حدّ تعبير صبري حافظ، "لا يسمح بأي حال من الأحوال بالتراخي أو الاِستطراد أو تعدد المسارات ويتطلب قدرا كبيرا من التكثيف والتركيز واِستئصال أي زوائد مشتتة. ولا يسمح بجملة زائدة أو عبارة مكرورة أو حتى إيضاح مقبول" . إنها تتعامل مع قارئ ذكي، منتج لا مستهلك، وهي تعوّل على القارئ كي يفكّ شفرات القول ويفهم ما بين طيّات السطور. وتتحقّق وحدة الأثر من خلال المضمون الحكائيّ وكذلك من خلال القصّة . فمن جهة الحكاية تتسم الأقصوصة بوحدة المكان والزمان والشخصيات ووحدة الموضوع. 

فعندما ننظر في المكان نجده واحدا غير متعدد فهو صحراء. فلم يخرج بنا السرد نحو أماكن أخرى كما يقع في الروايات. لقد اِنطلقت الأحداث في الصّحراء واِنتهت في الصّحراء. أما الزّمان فغيْر ممتدٍّ إذ لم يتجاوز اليومين، فقد خرج الموكب صباحا ثم جنّ الليل(ص1) ثم نجد "الشمس تطل على الكون في اِستحياء"(ص2). وإن هذا الحيز القصير يساعد على تقليص المساحة النّصيّة كلِّها فلا مجال للتّمديد والإطالة. 

ولا نكاد نجد شخصيّات كثيرة، فما عدا الجدّة والحفيد اللّذين يمثّلان الشّخصيّتين الرّئيسيّتين، نجد شخصيات أخرى، بعضها مفرد وبعضها جمع. أمّا الشّخصيّات المفردة فهي رفيق الصّبيِّ، والرجل الذي اِلتقى به في الصّحراء، وهما شخصيّتان تدوران في فلك الشّخصيّة الرّئيسيّة ولا وجود لهما خارج مسارها. أما باقي الشّخصيّات فتظهر في شكل جمعيّ مثل "الرعاة" "النسوة" "الصبية" "الرجال" وهم يفعلون بشكل جمعيّ كقوله "تحلق الرجال أولا حول جفان كبيرة"(ص2) أو قوله "جعلت النسوة شيئا من الأدم على فضلتهم"(ص2). وبهذا لا تؤثر كثرة هذه الشّخصيّات في حجم الأحداث واِتّساعها واِمتدادها، تلك الأحداث التي نرى أنّها لا تعدو أن تكون حدثا واحدا يتمطّط على مدى النّص حتى أنّه يمكن تلخيصه في سطرين أو ثلاثة. فالأقصوصة تدور حول جدّة يضيع منها حفيدها في الصّحراء فتلتاع وتبحث عنه إلى أن تعثر عليه في النهاية. وجلي أنّ كل الأعمال التي قامت بها الشّخصيّات إنّما تتعلّق بهذا الحدث الرّئيسيّ. 

ومن جهة القصّة نجد أنّ وحدة الأثر تتحقّق عن طريق أنماط الخطاب. فبالنّسبة إلى السّرد نجد أنّ الحكاية وردت على ألسنة مجموعة من السّردة، منهم سردة بضمير الأنا ومنهم سارد مجهول (Anonyme). ونلاحظ أنّ السردة بضمير الأنا شخصيّات تنتمي إلى العالم القصصيّ وهي متجانسة الحكي (Homodiégétiques) وهي أطراف في القصّة فاعلة فيها. وقد دشّنت الجدّة السّرد في المقطع الأوّل وواصلته في المقطع الخامس وختمته في المقطع الثامن، وفي الأثناء تناوب سردة آخرون على الكلام، فنجد الحفيد يسرد المقطع الثاني، وعابر الصّحراء يسرد المقطع الرّابع، والصّبيّ يسرد المقطع السّادس، واِمرأة أعرابيّة تسرد المقطع السّابع. أما السّارد المجهول فهو سارد غير متجانس الحكي (Hétérodiégétique) لا علاقة له بما يجدّ من أحداث ولا أثر له داخل العالم القصصيّ وإنما هو يسرد من موقع متعال. وقد تولَّى هذا السّارد السّرد في المقطع الثّالث بقوله مثلا "وجد نفسه في ركبهم دون أن يعود إلى جدته أو يستأنس برأيها..كانت نفسه منفلتة من كل قيد، حاملة بين أقطارها طاقة من الحركة والصخب لا تستوعبهما إلاّ الصّحراء.."(ص2). 

وقد يتبادر إلى الذّهن أنّ تعدّد السّردة قد يفضي إلى كثرة الأحداث وتنوعّها وتشعّبها وترهّلها، لكن الواقع ينفي ذلك، ذلك أنّ السّردة ينخرطون في السّرد بكلّ اِنسجام حتى لكأنّهم واحد، فكل سارد يواصل السّرد من النّقطة التي بدأها سابقه لكن تتغيّر فقط زاوية الرؤية. والسّردة، رغم تعدّد وجهات نظرهم ملتزمون بالخطّ السّرديّ، فلا أثر لمعلومة مكرّرة مُعادة ولا لحدث جانبيٍّ يخرج عن مسار القصّ. وقد يبدو طبيعيا أنّ الجدّة ستحكي فقط قصّة حفيدها التّائه، لأنّ هذه القصّة استقطبت كلّ مشاعرها واِستنفدت كلّ طاقتها، كما قد يبدو طبيعيّا أنّ الحفيد سيقتصر على أن يحكي قصّة توهانه في الصّحراء، لأنّها حكاية مصيريّة كادت تفضي به إلى الهلاك، ومن الطبيعي أنّ السارد المجهول يحكي قصة الصّبيّ الذي "وجد نفسه في ركبهم إلخ..."(ص2)، لأنّه وهو ملتبس بكيان آخرَ، له بعض خصائص المؤلّف، ملتزم بالعقد الأقصوصيّ الذي لا مجال فيه للتّراخي، ولكن من غير الطّبيعيّ أنّ بقيّة السّردة الذين لا علاقة لهم بالصّبيّ ولا بالجدّة اِلتزموا بدورهم بهذا الخطّ السّرديّ ولم يخرجوا عنه، فاِتّفقت الرّؤية السّرديّة مع الحكاية، وتمّ التّبئير على المكوّنات الأساسيّة للقصّة وتحديدا الصبيّ. فنجد سارد المقطع الرّابع، وهو عابر السبيل، يدشّن السّرد بالحديث عن عثوره على الصّبيّ بقوله "أطل علي من بين ثنايا السراب(...)حسبته حيوانا في البداية"(ص3). ونجد الأعرابيّة تتحدّث في مطلع حكايتها عن كلاب "تضرب حصارها حول صبي يحاول إحاشتها بالحجارة وبإثارة الغبار في وجوهها"(ص5). 

وخلال السّرد يبدو أنّ كلّ الجوانب الأخرى المحيطة بالسّردة غائبة وكلّ شواغلها باِعتبارها شخصيّات بقيت غامضة بالنّسبة إلى القارئ، فلا شاغل عدا الصّبيّ التّائه.

ولا عجب فهذا العالم التّخييليّ يصدر عن كيان أكبر هو الذي يحرّك خيوط اللعبة السردية، والذي يحاول أن يحكم الإمساك بها من خلال أولئك السردة الخاضعين كلّهم لسيطرته. وهو يبدو واعيا تمام الوعي بما تتطلّبه الأقصوصة من وحدة أثر.

وعندما ننظر في الوصف نجد أنّه وظيفي يتناول الموصوف في بعد واحد من أبعاده ذلك الذي يرتبط بالحدث الرئيسيّ. فإضافة إلى اِختيار الصّحراء مكانا للأحداث، وهذا يساعد على تأزّم الأحداث بما أنّ الصّحراء ترتبط في المخيال الجمعي بالضياع والموت، فإن هذا المكان بدا واقعيا وتخييليًّا في آن واحد لأنّه اصطبغ بوجهة نظر السّارد، فلم يهتم المتكلّم بتحديدها جغرافيّا وتوبوغرافيّا بقدر ما اِهتمّ بتحديد الصّفات التي تساعد على تنامي الأزمة، فقد وصف اِتّساعها بقوله: "الأرض هنا بلون واحد، يقصر الطرف عن أرجائها..عند آفاقها البعيدة سلسلة جبال محيطة.."(ص1). وهذه العبارات "لون واحد، يقصر الطرف عن أرجائها، آفاقها البعيدة، سلسلة جبال" ترسِّخ في ذهن القارئ فكرة أساسيّة يسعى المتكلّم إلى جعل القارئ يسير على وحيها عند القراءة، حتى إذا جاء الحدث المهمّ وهو ضياع الصّبيّ، وجد له فيها مبررا، فاِتّساع المكان يسهل الضّياع. ومن الأوصاف التي تزيد المكان تأثيرا في الأحداث أنّه بدا مرتعا للذئاب المفترسة و"الهوام"(ص1)، كما نجد أسماء أخرى نُعتت بها الصّحراء من قبيل "الخلاء(وردت مرتين)، والمتاهة(وردت 4 مرات)، واِرتبط وصفها أيضا بالضّياع والقيظ والجحيم(ص3)، فالصّحراء غادرة فيها جرف هار عميق الغور (ص5). وهي ترتبط بالرّمضاء والموت(ص7). فالوصف إذن لم يخصَّ من هذه الأمكنة سوى ما يمكن أن يخدم الأزمة، حتى لكأنّنا بالمكان، على حد تعبير صبري حافظ، "قد حدد جماليا وأسر في قبضة مجموعة من الكلمات واِنتقيت مكوناته بعد أن اُستبعدت منها مكونات أخرى" (ص29). 

وذلك هو شأن الزمان، فالوصف كله اِنصب على الظواهر المثيرة فيه. فنجد أنّ "الليلة كانت قمراء يرقص في أرجائها النسيم"(ص1). فهذا الليل الجميل سيغري الصبي بالخروج للّعب مع أقرانه، ومن ثم سيكون مؤديا إلى حدث ضياعه. ويعمد السارد بعد ذلك إلى تصوير طلوع الشمس "التي أخذت ترتفع منذرة الكون بالجحيم"(ص2). وهو يفصل القول فيها تفصيلا ذا دلالة فيقول:"السماء عليها ثوب رمادي ينذر بالقيظ"(ص2). ثم يتحدث السّارد عن الهاجرة(ص5) وعن الرّمضاء(ص6)، فهو يوظّف الزّمان في تطوير الحبكة، فالشّمس الحارقة اِرتبطت بحدث الضّياع والخوف، أما وصف الشّمس وهي في طريقها نحو الغياب في قوله: "الشمس بدأت تنزل عن عرشها"، فيتزامن مع حلّ العقدة ومع الاِنفراج، ذلك أنّ الجدة ستلتقي أخيرا بحفيدها في تلك الفترة من اليوم. فالزّمان إذن عنصر بنائي في الأقصوصة يرتبط بها أيّما اِرتباط ويساهم في تطوير الحركة القصصيّة، ولا أثر فيه لعناصر زائدة.

وإذا أمعنّا النظر في الشّخصيّات، وجدنا أنّ السّردة لم يحيطونا علما إلا بصفاتها التي لها علاقة بالأزمة، فالصّبي لأول مرة يزور الصّحراء(ص1)، وهذا سيبرر عدم خبرته بمسالكها وضياعه بها، وهو أيضا "لما يبلغ الثامنة"(ص1)، وهذا سنّ يحيل على حبّ اللّهو مع نقص الوعي وعدم النّضج، وهو أيضا يتّسم بـ"شقاء غريب" واِبتسامته "اِبتسامة شيطان". هذه الصّفات التي ميّزت الصّبيّ تفسِّر ما سيقوم به من أعمال. ثم إنّ الوصف الذي ظهرت به شخصيّة الجدّة منذ البداية يتماشى مع ما ستعيشه من أحداث مقلقة، فقد بدت منذ البداية في حالة اِرتياع تامّ من صحبة حفيدها فهي تصوّر مشاعرها قائلة:" فتوجست خيفة". ثم تصف الجدّة حالتها بعد ذلك مؤكدة حلول هذا التوجّس فتقول بعد أن عاد الرّعاة دون حفيدها: "فهوى قلبي وركبتني فاجعة أفقدتني الوعي"(ص4). لا أثر إذن لوصف هامشيّ، مجانيّ. وكلّ جزئية تخدم ذلك السّير الحثيث نحو النّهاية. 

وعلى هذا النّحو نفسه كان السّرد وظيفيّا. وقد نعثر على أحداث تبدو لنا زائدة من قبيل قول الجدّة: "وجدناهم نصبوا خمس خيام في ساحة فيحاء"(ص1)، لكن عندما نتأمّلها نجد أنّها في الحقيقة تبني رؤية للعالم المنقول على أساسها سيتمّ تلقِّي الأثر، كما تبرر سهو الجدة عن حفيدها فقد تشتت اِنتباهها وتركيزها بفعل حركة نصب الخيام حتى لم تعد تقدر على وضع حفيدها تحت رقابتها. وكذلك شأن تلك الأحداث التي وردت على لسان الصّبيّ مثل قوله: "نحن الصبية لم نكف عن الركض واللعب بأرجل حافية رغم تحذير الكبار مخافة أن نلدغ أو نلسع..لكننا كنا نمضي على شريعتنا إلخ.."(ص2) أو قوله: "العشاء طبخته النسوة على أحطاب الصّحراء فاَستغرق منهن وقتا طويلا، سيما وأنّ اللحم كان قاسيا كالمطاط، اِقتطعنه من ذبائح "قارحة""(ص2)، أو قوله: "تحلق الرجال أولا حول جفان كبيرة، تكدس فيها اللحم والكسكس(...) وراحوا يعبون منها عبا(...) في الوقت الذي كنا نحاش فيه نحن معشر الصبية عن الطعام كما تحاش الكلاب"(ص2). مثل هذه التّفصيلات هي التي شكّلت المعنى، لأنّها بيّنت أنّ العلاقة بين الصّبيان وبين الكبار بدت مقطوعة، فالصّبيان بدَوا مهمّشين وغير مرغوب فيهم ومجتثّين من عالم الكبار، لذلك عمدوا إلى بناء عالمهم الخاصّ الذي لا يكون عادة إلا مفارقا لعالم الكبار، ناشزا عن نظامه وتقاليده، صادما لهم وغامضا لا يمكن فهمه. فالصّبيان يجدون الأفق ضيّقا مع أهاليهم فينظرون إلى السّماء التي تبدو لهم أوسع مما كانوا يرونه في المدينة(ص1)، فينساقون وراء هذا الاِتّساع لعلّه يقودهم إلى عالم أفضل.

وإذا كان السّرد يركز على مثل هذه التّفاصيل، فإنّ السّردةَ في المقابل يتغاضون عن تفاصيل غير ذات قيمة، اِنطلاقا من أن "الفن اِختيار، وعلى الفنان أن ينتقي فيغضي عن كل ما لا يفيد موضوعه" حسب ما يراه موباسان . لذلك بدا النّصّ عموما خاليا من الزّوائد مليئا بالفجوات والفراغات من خلال اِعتماد الإضمار (Ellypse)، والسّرد المؤلف(itératif) لا سيّما في بيان التّحول في الزّمان كما في قوله: "وعندما جنّ الليل"(ص1)، فقد تمّ السّكوت عن الأحداث التي وقعت بين الغروب واِشتداد الظّلمة. ويتجلّى ذلك أيضا في قوله: "فلما مرّ من الزّمن زهاء الساعة إلخ"(ص6). ومن النّماذج عن السّرد المؤلّف ما نجده في المثال التّالي: "نحن الصبية لم نكف عن الركض واللعب بأرجل حافية، رغم تحذير الكبار مخافة أن نلدغ أو نلسع.. لكننا كنا نمضي على شريعتنا، لا نسمع لهم قولا، ولا نبالي منهم زجرا.."(ص3). إن ما ورد في المثال يسرد أحداثا تكرّرت وامتدت على زمن طويل لكنّ السّارد أجملَ القول فيها. وقد اِختزل السارد كذلك، بواسطة السّرد المؤلَّف، ما وقع على مدى ليلة كاملة في فقرة صغيرة هي التّالية: "ولا أذكر كيف بت تلك الليلة..لعلي لم أنم مع جملة الصبيان..أو لعلي اِفترشت معهم الأرض في العراء، ولم نصب من الكرى إلا نزرا قليلا..بعد أن ركضنا طويلا إلخ"(ص2). ويبدو هذا طبيعيّا لأنّه، على حدّ تعبير موباسان، "يلزمك مجلد كامل لكي تروي ما يحدث لشخص واحد في يوم واحد" .

ويمكن القول إن تعدّد السّردة ساهم في تحقيق الاِختزال، فالسّارد يجد نفسه محصورا ضمن مساحة نصّيّة قصيرة عليه أن يسرد خلالها كلّ ما لديه، لذلك لا يتوسّع في السّرد. إنّه يكتفي بالأحداث المهمّة البارزة، لأنّ ساردا آخر سرعان ما يحلّ محله ليواصل السّرد عوضا عنه. 

ومن الأشياء التي لا يتوسّع السردة في عرضها كذلك، أقوالُ الشّخصيّات، فيتولّون الحديث عوضا عنها، وذلك بتسريد خطاباتها، فكثُرت الخطابات المسرّدة(Narrativisés) كما في قول الجدّة "رفضت صحبته في البداية"(ص1)، فهذا الذي يبدو حدثا ليس سوى حوارٍ جرى بين الجدّة والصّبيّ، فالصّبيّ يطلب والجدّة ترفض فيعيد الكرّة وتجدِّد هي رفضَها مرّاتٍ، لكنّ السّاردة قدّمته مسرودا. ومثل هذه الحوارات كثيرة في "زُغدة" من قبيل ذاك الذي دار بين عابر السّبيل وبين الصّبيّ الذي وجده تائها في الصّحراء. يقول: "فسألته عن أصله وفصله وسبب خروجه وحيدا في مثل هذا الحر، فأخبرني أنّه جاء من المدينة، يشهد عرسا مع جدته، وما لبث أن تاه وسط الصّحراء الغادرة"(ص4)، أو قوله :"وكنت عرضت عليه الركوب فأبى"(ص4).

بل إن ثمّة خطابات تمّ حذفها كلّيّا ولم تقع الإشارة إليها لكنّها تتجلّى من خلال الأحداث حين تقول الجدّة مثلا عندما برز لها حفيدها فجأة عند بلوغ المضارب في الصحراء:" فتوجست خيفة لكني غالبت مخاوفي وضممته إلى صدري"(ص1). لقد وجدت الجدّة نفسها فجأة أمام حفيدها الذي رفضت أن تصطحبه. وهذا الموقف المفاجئ يفترض أن الجدة توجهت بكلام ما، إلى حفيدها ولا يمكن أبدا أن تضمّه إلى صدرها دون أن تنحوَ عليه باللاّئمة.

إن الأقصوصة إذن تسير بصمت فلا نكاد نسمع سوى أصوات السّردة أمّا الشّخصيّات فقلّما تتكلّم عدا في بعض الخطابات المباشرة(directs) القليلة جدّا، إذ نجد حوارا بين الصّبيّ وأقرانه(ص3)، ثم آخرَ بين جمع من النّاس وبين الجدّة(ص4) ثم نجد خطابا أحاديّا بين إحدى الشّخصيّات وبين الصّبيّ حين تمّ العثور عليه(ص6)، وحوارا أخيرا بين الصّبيّ وجدّته، فالصّبيّ قال: "جدّتي !!"، والجدّة أجابت: "أيّها الشقي...". وهي كلّها حوارات تتّسم بصفتين، فهي مقتضبة من جهة، وهي أيضا غير مجانيّة، بمعنى أنّ لكلٍّ منها وظيفة في الحبكة القصصيّة. ويبدو أنّ هذا يندرج ضمن الخطّة السّرديّة التي وُضعت على أساس الوعي بخاصيّة القصر في النّص الأقصوصيِّ.

خاتمة

بدا لنا إذن كيف اِقتطعت هذه الأقصوصة جانبا من حياة، وكيف عرضته عرضا صادما منذ البداية ثم تدرجت به برفق نحو النّهاية التي بدت مجمعا لكلِّ التوتّرات. ولا يحسّ القارئ بأنّ النّصّ يتشعّب أو يتعاود، فالمكان واحد والزّمان واحد والأحداث واحدة والشّخصيّات قليلة، ولا أثر لزوائد في الوصف أو الحوار أو السرد تعطِّل مسار القصة. لكلّ التفاصيل قيمة في تحقيق الهدف الذي رسم منذ البداية. وكلّ جزئيّة محسوبةٌ تخدم مسارَ القصّ.


                                               المصادر والمراجع

المصادر

"زغدة"، ضمن المجموعة القصصيّة "زُغدة " صادرة عن دار الاتحاد للّنشر والتوزيع سنة 2016.

المراجع

أوكونور (فرانك): الصوت المنفرد، مقالات في الأقصوصة، ترجمة محمود الربيعي، الهيأة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993.

مجلة فصول، مج 2، العدد الرابع، 1982: 

                                   -حافظ صبري: مقال "الخصائص البنائية للأقصوصة" 

                                       - نادية كامل: مقال"الموباسانية في القصة القصيرة". 


Allan Poe (Edgar): Review of Hawthorne's Twice-Told Tales.

https://commapress.co.uk/resources/online-short-stories/review-of-hawthornes-twice-told-tales/

Allan Poe (Edgar): The Philosophy of Composition, 1848, (publié en Octobre, 2009).

https://www.poetryfoundation.org/articles/69390/






"بَعْدَ أَنْ كَبُرَ الْمَوْجُ" مَجْمُوعَةٌ قَصَصِيَّةٌ للشّاعرة والأديبة هُيَام مُصْطَفَى قَبَلَان

 


امال عود رضوان ـ رام الله – حيفا الكرمل


مع بداية عام 2023، تصدر الشاعرة هيام مصطفى قبلان مجموعتها القصصية  "بَعْدَ أَنْ كَبُرَ الْمَوْجُ"، عن دار الوسط للنشر في رام الله، لتتوّج عامها الجديد بأحد إبداعاتها المميّزة، وقد استهلّت مجموعتها بقصّة تحت عنوان "أفقد نفسي"   :

"كيف بي لا أهوى السّفر، وأنت من علّمتني أنّ الأسفار تريح الفكر، وتُعلّقنا من أهدابنا كالنّجوم، بعيدًا عن الأرض".


جاءت المجموعة في 120 صفحة من القطع الأقلّ من المتوسّط، وضمّت بين دفتيها 22 نصًّا قصصيًّا، وبلغة شاعريّة مميّزة، حملت عناوين القصص التّالية:


"أفقد نفسي، شغف، ثرثرة، أشتهيك يا موت، العار، جمرٌ وأمرٌ، ضوءٌ متكسّر، سربُ ضجيج، بعد أن كبر الموج، لوم، ذاكرة العسل المُرّ، نقراتُ الكعب العالي، منفضة، رهان، طائرُ النفايات، دون خيار، فوق سرير أبيض، وفاء، مغفرة، هودج الأحزان، خطيئة، وهناء".


   واختتمت الشاعرة هيام  مجموعتها القصصيّة بما ورد على الغلاف الأخير:


" الشّوارع مزدحمة، والباعة يتجوّلون ساعات الفجر في الحارات ككُتّاب القصيدة، يُعبّرون عن وجودهم بالهزيمة، تسقط كلّ الأقنعة، وما الشّاعر سوى بائعٍ مُتجوّل يحمل الكشكول، ويركل الحمار برجله. فيما شكلت لوحة الغلاف: لينا صقر مصطفى .


    يا للدّنيا الغرورة!

اللّحظات فيها عابرة هاربة، الموجة تتملّص من بين يديّ كلّما عانقت أوراق الرّحيل، عطشي ينبح، وجسدي ينبح دون اكتراث بالمطاردة.


   أُقاوم الطُّعم، أرنو من صخرة شهدتْ قراءاتي الأولى وامتصّت نهدَ الرّمال، وأُقرّر ألّا أتبعك، وأن أدخل غرفتي الصّغيرة المتعمشقة على جدرانها أحلامي الورديّة، ويسكنني ليلي وحدي..


  أشرب قهوتي، أطالع أخبار الصّباح وحدي، أتسكّع على الأرصفة، تثيرني كلماتُ وأشعار (كافكا)، أعاشر روحًا شهقتني،  وأعود لتلك الطفلة الشّقيّة الّتي تسكنني، لحقيبتي المدرسيّة، لأوراقي، لقصصٍ مثيرة لامست أهدابي، واعتصرها الدّمع"..


هيام قبلان والسّيرة الذّاتيّة

الاسم: هيام مصطفى قبلان، أديبة وشاعرة

السّكن: قرية عسفيا / جبل الكرمل /فلسطين

رقم الهاتف: 00972523765121    

ايميل: heam.mustafa@yahoo.com

مراحل دراستي:

    أنهيت المرحلة الابتدائيّة والإعداديّة في عسفيا، والمرحلة الثّانويّة في مدرسة راهبات الفرنسيسكان الطليان في النّاصرة، والتّعليم الأكاديميّ للّقب الأوّل في التّاريخ العامّ، في جامعة حيفا 1978، وللّقب الأوّل في اللّغة العربيّة وأدابها في الكلّيّة العربيّة حيفا 1985.

دورات استكمالي بموضوع التربية الخاصّة والعامّة في الكلّيّة العربيّة حيفا 1980، وموضوع ترابيا (العلاج عن طريق الفنون) في كلّيّة أورانيم 1995.

إصدارات:

1. آمال على الدّروب 1975  شعر، مطبعة العتقي - حيفا.

2. همسات صارخة 1981 شعر، دار المشرق - شفاعمرو.

3. وجوه وسفر 1992 شعر، دار المشرق - شفاعمرو. 

4. انزع قيدك واتبعني 2002 شعر، مطبعة البلد سمير أبو رحمون- جديدة المكر، الجليل.

5. لا أرى غير ظلي 2008 شعر، بيت الشعر الفلسطيني - رام الله. 

الأعمال النّثريّة: 

6. بين أصابع البحر/  نصوص أدبية 6 199، دار المشرق- شفاعمرو

7. طفل خارج من معطفه/ قصّة قصيرة 1998 دار اسيا - القدس

8. رواية رائحة الزمن العاري ط1، 2010 دار التلاقي، القاهرة ط2، 2012، دار الريشة، نابلس  

إنجازات أدبيّة أخرى:

1. مشاركة بأنطولوجيا مترجمة من اللغة العربية للفرنسية، طبعت في باريس، تضمّ 50 كاتبة وشاعرة من العالم العربيّ، ونماذج إبداعيّة من إعداد وإشراف الشّاعرة السّوريّة مرام المصريّ.

2. مشاركة في كتاب (المرأة وتطوير السّرد العربيّ) نماذج لروائيّات وقاصّات من العالم العربيّ - إعداد النّاقد والباحث المغربيّ محمد معتصم .

شاركت في مهرجانات: شاركت في مهرجانات: 

1. مهرجان الدّبلوماسيّة في المغرب . 

2. مهرجان أيّام القصيدة الذّهبيّة في تونس.

3. مهرجان تراثيّ هُويّتي في تونس.

4. معرض الكتاب في القاهرة منصّات شعريّة. 

5. معرض الكتاب في الإسكندريّة منصّات الشّعر والقصّة والنّقد.

6. ملتقى زرهون للشّعر مولاي إدريس، ملتقى مريرت المغرب، ملتقى تيفلت المغرب. 

7. مهرجان الشّعر تطوان في المضيق المغرب وغيرها ..!

    شاركت في مهرجانات دولية غربية : 

1. مهرجان الشعر الدولي في مدريد أسبانيا

2. مهرجان الشعر والسياسة في نيو كاسل ألمانيا.


    شاركت في أمسيات عديدة  داخل البلاد وخارج البلاد:

  الأردن، مصر، باريس، المغرب، تونس ودول أخرى!