الاتجاهات الحكائية في شعر أبي عرب


الباحث: عمر عبد الرحمن نمر


تستهدف هذه الورقة أشكال توصيل الرسائل عند الشاعر أبي عرب، من خلال الأغنية الوطنية التي كتبها ، ولحّنها ، وغنّاها ، لذا تتوخى هذه الورقة أن تجيب عن الأسئلة :

ما الرسائل التي حملتها أغاني أبي عرب؟

كيف تشكّلت هذه الرسائل؟ 

وبالتالي تتقاطع الورقة في الإجابة عن السؤال المركزي : كيف بنى أبو عرب أغنيته ؟ ما عناصرها؟ وكيف ترتّبت هذه العناصر؟ وعند الشروع بكتابة البحث ، لم أجد في المكتبة العربية أي أبحاث أو دراسات حول فنانٍ فلسطينيٍّ قضى عمره مناضلاً ، ولم أجد مرجعًا يشير إليه العنوان ... كل الذي وجدته هو ما اعتدنا قراءته من كتبٍ لنمر سرحان، والبرغوثي، وكناعنة ،  وكأنّ البحث التراثي العام قد توقف، وتوقف معه البحث في الأغنية الشعبية ، وآليّة بنائها ... وأمام هذا المعيق في قلة المراجع والأبحاث حول شعر أبي عرب وقصائده، عدت لما توفر من إبداعات الشاعر، القصائد والأغاني التي سمعتها ، وتأملتها ، وحاولتُ تصنيفها تبعًا لمعمارية بنائها، وخصائصها ، وطبيعة رسائلها .

من هو الفنان أبو عرب؟

أبو عرب ، إبراهيم محمد صالح ، شاعر ومنشد الثورة الفلسطينية ، ولد في قرية الشجرة ( بين مدينتي الناصرة وطبريا ) عام 1931.

اكتسب أبو عرب موهبته الشعرية من جده لأمه " الشيخ علي الأحمد " أحد وجهاء قرية الشجرة .

بعد نكبة 1948 لجأ أبو عرب إلى قرية كفر كنّا، ونتيجةً لشراسة المحتلين غادر أبو عرب كفر كنّا إلى قرية عرابة البطوف، ومكث فيها شهرين، ليتوجه بعدها إلى لبنان، ثم إلى سوريا، وتونس ومخيمات الشتات .

سنة 1948 استشهد والد أبي عرب خلال اجتياح الميليشيات الصهيونية لفلسطين، في حين استشهد ابنه ( معن ) سنة 1982 خلال اجتياح الصهاينة للبنان .

شهد أبو عرب في طفولته انطلاق ثورة 1936 ضد بريطانيا والصهيونية ، والتي كرّس لها جلّ أشعاره ، وأشاد بها وبمقاتليها وشهدائها .

أسس أبو عرب فرقته الأولى في الأردن سنة 1980، وسميت " فرقة فلسطين للتراث الشعبي " ، وتألفت من أربعة عشر فنانًا ، وبعد استشهاد ناجي العلي سنة 1987 - وهو أحد أقارب أبي عرب - تم تغيير اسم الفرقة إلى " فرقة ناجي العلي " .

ألّف أبو عرب ، ولحّن ، وغنّى أكثر من 400 أغنية وقصيدة ، محورها : الأرض، واللجوء، والشتات، والحرمان، وحق العودة، وتصوير النضال الفلسطيني ، والاحتفاء بالبطولة والشهادة . (1)

 ولعلّ في أغاني أبي عرب ما أسهم في الكشف عن صورة بناء المجتمع الشعبي، لأنها نبعت من صميم الشعب صورةً  وممارسةً، ولفظًا ولحنًا فهي أغنية حية " الأغنية الشعبية الحية ، تلك الأغنية التي نبعت من صميم الشعب لفظًا ولحنًا ، وتوارثها الشعب ... وأسهمت مع غيرها من أشكال التعبير الشفوي في الكشف عن صورة بناء المجتمع الشعبي " (2 )

نعم، إن المتأمل في أغنية أبي عرب يستطيع الكشف بسهولة عن صور بناء المجتمع ، المجتمع الفلسطيني الذي واجه قوى الظلم والظلام من احتلالٍ انجليزيّ، إلى هجمةٍ صهيونية ، قتلت العباد، واغتصبت البلاد، وشردت أبناءها إلى المنافي والمهاجر، نعم ، لقد ترجمت هذه الأغاني : أحوال الفقر والتشريد والحرمان ، واللجوء ، ثم النضال ضد المحتل من أجل تحرير الأرض، والعودة إليها .

عنوانٌ رئيس :

العنوان الذي لا تخطئه عينٌ في قصيد أبي عرب وأغانيه هو الأم، فلا تكاد مقطوعةٌ من مقطوعاته تخلو من ذكر الأم، فهي صديقة أبي عرب الأولى، وهي محاورته، وملهمته، يحكي معها أبو عرب ويحدثها ، يسألها فتجيب، وربما كان لهذه المركزية في النص ما يبررها، فقد استشهد أبو الشاعر وهو شابٌّ يافع ، فكانت الأم تمثل الوالدين له، ولعلّ في معاني الحرمان  والفقر ما يتلاءم مع الأم، فهي التي تحاول أن تدبر أمور البيت من غوائل الزمن، ولعلّ في الغياب والهجر والنفي والتشريد، ما يتلاءم مع الأم أيضًا، فهي التي كانت تعيش مع ابنها في غيابه، وتنتظر سلاماته ورسائله، كما تنتظر أن تلتقيه جسديًا .

" إن الصورة الطبيعية للأم في التراث الشعبي، وفي الحياة الواقعية هي صورة الأم الحنون، ذلك إن هذه الصورة تشمل الغالبية العظمى للأمهات، فالأم هي الحارس الأمين، والمربية النشيطة الدؤوب لأولادها، حتى إذا ما كبر الأولاد ظلّت الأم تحرص على مصالحهم، وتزودهم بالنصيحة والمساعدة المادية والمعنوية ما وسعها ذلك " . (3)

وفي هذا السياق التأويلي التحليلي نجد أبا عرب يتحدث مع والدته ، يحكي لها الحكاية ، يسألها، ويحاورها، فهي الأقرب له معنويًا على الأقل :

يا يمّه في دقّة ع بابنا .. يا يمّه هاي دقّة حبابنا  

يا يمّه هذول النشاما .. يا يمّه طلاب الكرامة

يا يمّه ما بنربى يتامى .. يا يمّه هي دقة فدائية (4)

يناديها نداء القريب ( يا )، ولك أن تتخيل الشاعر، وقد سمع دقاتٍ على باب بيته في الليالي المظلمة ، تفزع الأم عند سماعها الدقات، وتخاف من المجهول، لكن أبا عرب وبأسلوبٍ إخباريٍّ بسيط، يكشف لها السؤال المحيّر، ويطمئنها بأنّ هذه دقة فدائيين.

ومن هذه الأغنية ( يا يمّه في دقّة ع بابنا ) التي غناها أبو عرب، يقول : حدثت في سبعينيات القرن الماضي لشابٍ اسمه بلال ، حيث هجر بلال بلدته في بيت لحم ، إلى لبنان ، وهناك التحق بالعمل الفدائي ، تسلل بلال مع مجموعته ( 777 ) إلى فلسطين لتنفيذ عملياتٍ ضد الغزاة، بعد أن أنهى مهمته  فكر بلال أن يزور قريته في بيت لحم، ويرى أمه ويتفقدها قبل أن يغادر، دقّ الباب بعد منتصف الليل ، ردّت الأم : مين ؟ - أجاب : ابنك بلال ... لم تصدقه ، وكان قد أشيع عنه أنه استشهد ، وأقام له الأهل بيت عزاء ، لم تصدق الأم، واعتقدت أن الاحتلال ينصب لها كمينًا، ليكتشف المحتل من يتعاون مع الفدائيين ... لم تفلح دقاتُ بلال في فتح الباب، فذهب إلى الجارة، وأخبرها بالحال، ذهبت الجارة وبلال إلى بيت الأم وأقنعاها أنّ هذا بلالًا ... اقتنعت الأم، فتحت الباب، بدأت تقبله، وتقبله، وتقبل بارودته ... وبعد عودة بلال إلى لبنان التقى أبا عرب، وحكى له القصة ، فكتبها أبو عرب بروح الفنان وغنّاها. (5) ويحدث أمه، ويحكي لها، كيف تحول الفرح إلى حزن، والوطن إلى منفى، والحياة إلى فقرٍ مدقع، والعيد حتى العيد إلى ذكرى حزينة :

يا يمّه لو جاني العيد يمّه ... قلت العيد لصحابو

شو بنفع العيد ... للي مفارق حبابو ؟

يمّه .. يمّه .. يمّه .. آآآخ يمّااا 

يحكي أبو عرب لأمه عن مفاهيمٍ تغيرت من حالة الفرح والسرور إلى حالة البؤس والشقاء ... من حالة لمّ الشمل، إلى حالة التشرد والنفي... ويتابع أبو عرب :

العيد يا يمّا لما بلادنا بتعود ... وأرجع ع أرض الوطن وأبوس ترابو

ويسائلها ، بطريقةٍ مفجعة :

كيف يكون العيد ، وأولادي قسم منهم تحت الردم، والآخرون في البرد، ثم يقرر رغم الحزن والجراح :

عيدي يا يمّا ع حدودي ... الناس تعيّد إيد بإيد يا يمّااا ... وأنا بمسح بارودي...(6)

 هدّي يا بحر هدّي:

ما من شعبٍ تشرد أكثر من الشعب الفلسطيني، فقد كنت ترى العائلة الواحدة قد قسّمت بين أرضٍ احتلها الصهاينة في 1948، وأخرى احتلت في 1967، وقسم منها في الأردن، وآخر في الخليج العربي، أو في دول أوروبا شرقيّها وغربيّها، وأمام هذا الغياب الدائم، وظّف الفلسطيني الرسالة ( المكتوب )، وربما كان - مع بطئه - هو الوسيلة الوحيدة للاتصال، وقد قالوا: المكتوب ثلثا المشاهدة ... وقد راقت لشاعرنا هذه الوسيلة للتعبير عن شوقه، وحرمانه من زيارة وطنه، بل والسكن فيه، وهذه الوسيلة ( الرسالة ) تحدث فيها أبو عرب عن الوطن بحالاته كافة، وعلاقته بهذا الوطن في الحالات كافة أيضًا ... وملأ رسالته سلاماته وتحياته  للأهل ، وللتراب ، وللطير ، وللشجر .. فهو يمزج هذه السلامات بعناصر أخرى موجودة في المحيط ( شجر، وطير، وبيادر، وكروم، وفراشات ... إلخ ) لينتج من هذا المزيج صورًا تزخر بالعواطف، وتتزين بالمشاعر والأحاسيس، مما يتيح للمتلقّي أن يعيش هذه الصور  في ترحالية حالمة شجية، ملفوفة بالحزن والبؤس والشقاء ... 

يغني أبو عرب :

يا توتة الدار صبرك ع الزمان إن جار ... لا بد منعود مهما طوّل المشوار

هدّي يا بحر هدّي ... طولنا في غيبتنا 

ودّي سلامي ودّي ... للأرض اللي ربتنا 

سلملي ع الزيتونة ... وعلى أهلي اللي ربّوني

بعدا إمي الحنونة ... بتشمشم بمخدّتنا 

سلّم سلّم ع بلادي ... تربة بيي وجدادي 

وبعده العصفور الشادي ... بغرّد لعودتنا 

ودّي سلامي يا نجوم ... ع البيادر والكروم

وبعدا الفراشة بتحوم ... عم تستنظر عودتنا 

واحمل لبلادي سلام ... لخوالي وكل العمام

وبعده زغلول الحمام ... عشّو على توتتنا  (7)

 عند التأمل في هذا النص، نجد: 

1. أخذ النص طابع الرسالة، رسالة مرسلة من محب غائب لأهله وأرضه ، بما تتضمن هذه الأرض من عناصر ... لذا نجدها مكتظةً بالسلامات المرسلة والتحيات من مشرد مشتاقٍ إلى وطنه .

2. من بداية النص يقرر الشاعر أن الغياب قد طال، وظهر جور الزمان وغدره، وهنا وظّف الشاعر شجرة التوت المزروعة في الدار كي يخبرها بذلك .

3. يطلب أبو عرب من البحر أن يهدأ، وأن يبطئ أمواجه، وذلك إما كي يحمّله أكبر كمية من السلامات للأهل والوطن، وإما يطلب من البحر أن يهدأ ويستمع إليه ، ويصغي لمعاناته ، ولم يأتِ الشاعر بلفظة البحر صدفة، فالبحر هو أحد شهود المأساة، فهو الذي حمل اللاجئين من مساكنهم الآمنة إلى أماكن التشرد والنفي في أشتات الدنيا ...

4. يكرر الشاعر لفظة ( سلملي )، وهذا إن دل على شيء فإنه يشي باشتياقه، وحنينه لوطنه ، ومحبته له .

5. يمزج الشاعر في سلامه العناصر بعضها مع بعض، ليكوّن مزيجًا يتأتى عنه صورة مبتكرة غير مستهلكة ، من هذه الصور، فهو يسلم على: 

شجرة الزيتون؛ بما تمثله من امتدادٍ وأصالة، وعلى الأهل الذين ربّوه، ونلاحظ ظهور صورة الأم الملوعة ، المنتظرة ، التي تعيش ببؤس وقلق " بعدا إمي الحنونة .. بتشمشم بمخدتنا " صورة الأم التي تحمل وسادة أبنائها، وتتلمسّها، وتحسس عليها ، ثم تبدأ بشمّها من كل جوانبها ، وهذا يقتضي هطول دموع الأم، التي بلا شك تبلل المخدة. إنها صورة عاطفية حدّية ، تأتت من الطاقة التي استثمرها الشاعر في فعل الشمّ، والزيادة عليه " بتشمشم " .

بلاده ، وتربة آبائه وأجداده .

على العصافير والطيور التي تنتظر عودة الغياب .

على الفراشات الطائرة التي تنتظر عودة الغياب .

على البلاد ، والأخوال والأعمام .

على الزغلول، صغير الحمام، الذي بنى عشه على التوتة .

للبيادر والكروم : يطلب من النجوم أن تحمل سلاماته وأشواقه للبيادر والكروم ، والبيادر تحمل في معناها : الخير والعطاء، والسهر، والتعاليل، والحفلات الصيفية التي كانت تقام عليها، 

والكروم أيضًا تحمل معاني الخير والكرم والعطاء ...

وكأنّ الشاعر هنا يقارن بين حالٍ مضى، فيه السعادة والرخاء والفرح، وحالٍ قائمٍ فيه البؤس والشقاء والتعاسة .

6. نكاد نلحظ التماهي في سلامات الشاعر في رسالته، ولندقق بين كل صدر بيتٍ وعجزه:

    الزيتونة  أمي الحنونة ( وتتماهى الأم أيضًا مع الأرض والوطن ) .

     بلاد  تربة الأهل والأجداد .

     النجوم  البيادر والكروم .

     البلاد  الأهل، والطيور، والفراشات .

7. الملاحظ هنا أيضًا كيفية جمع الشاعر للقوى في معسكرين اثنين : معسكر أعلن عنه، يتمثل في: الأهل، والأرض، والزيتونة، والأم، والبلاد، والنجوم، والكروم، والبيادر، والطيور والفراشات ، كل هذا التجمع الوديع ، ضد معسكرٍ أخفاه، وهو معسكر الاحتلال والاستعمار، معسكر يغتصب أرض الإنسان ومقدراته ... ولا شك أن النصر سيكون في جانب المعسكر الأول ، طال الزمن أم قصر ...

8. في نهاية رسالته، يلخصّ الشاعر حال الوضع الماضي والحالي ، ويتخذ القرار :

وعهد الله وعهد الثوار ... ما بنسى حقك يا دار

ومهما طولنا المشوار ... راجعلك يا ديرتنا 

إذن ، لا بد من العودة ... وهذا ما افتتح به الشاعر نصّه، وكأنّ الرسالة دائرية ... إن هذا النوع من الرسائل الطربية يتيح للشاعر الاستطراد في التعبير، فهو يتسع لما شاء الشاعر من المعاني ، ولما أراد من الرسائل، ولمن أراد من المرسل إليهم ... والعنوان الرئيس هو ( التحدي ) .. في أجواء الطبيعة ، والرومانسية بشكلٍ عام .

وكما توسل أبو عرب البحر لحمل رسالته وسلاماته للوطن والأهل، فهو يتوسل الطير أيضًا لحمل هذه السلامات، لما تمثل من محبة وحنين، ولكنه في هذه المرة لا يتوقف عند بيته ، وشجرة التوت، وبيئته الصغيرة، بل يكبر هذا المحيط، ليشكل خارطةً لمدن الوطن وقراه في مناطقه المختلفة، فمن خلال (لسان الطير)، المعبر عنه، استطاع أبو عرب أن ينتج الصورة السلبية التي تلائم بُعد المشتاق، ولوعة الغائب،  وعدم قدرته على العودة إلى أرضه نتيجة قوانين المحتل : ففي زفرات الشاعر وآهاته، نرى الطير غير القادر على حمل الغائب إلى أرضه، ورغم هذا العجز فإن باستطاعته حمل السلامات والاشتياق ، أوووف ....أوووف... أوووف...

أنا لأبعث سلامي لطرف مِرسال ..

ودمعي ع فراق الوطن مُر سال ..

يا طير ال بالسما ع الوطن مرسال .. بعدها الدار تبكي ع الغياب 

يا طير يا طارش ع حمانا .. روح مرسال .. بعدها الدار تبكي ع الحباب...

وتكتب الرسالة بالدموع الحارة، والآهات، وتكون ممهورة بالتحايا والأشواق والسلامات ...

سلمّ ع عكا والجليل الغالي                    بير زيت وحيفا وعين غزال

ع القدس ويافا مع غزة وجبالي              ع نابلس ورام الله مع جنين

ع خانيونس رفح قلقيلي                      ع اللد ع طوباس ع الخليلي   

ع بير السبع لاقيني لاقيني                   ع طولكرم السيلة مع برقيني

ع طبريا أم الفحم بيسان                      دبورية مع لوبية وطرعان

ع الناصرة وصفد كنعان                     ع الشجرة ع البيرة مع حطّين (8)

ويرسم الشاعر في رسالته خريطة فلسطين التاريخية من خلال سلاماته، فيظهر في النص ذكر: عكا، والجليل، وبير زيت، وحيفا، وعين غزال، والقدس، ويافا، وغزة ... إلخ .

وهنا، وبواسطة الرسالة التي يتحدث أبو عرب من خلالها، نؤكد مرةً أخرى، إمكانية اتساع الدائرة، والاستطراد في الحديث، والمزج بين المدن والقرى في مناطقها كافة ( حتى القرى المهجرة : عين غزال، ولوبية والشجرة ... ) .

أبو عرب يرثي:

لم يترك أبو عرب شاردةً أو واردة تمتّ للقضية بصلة إلا وتحدث عنها، تحدث عن الاحتلال، وطرد الناس من بيوتهم، وتحدث عن المنافي والمخيمات، وحياة الشقاء والفقر والبؤس التي عاشها أبو عرب كما عاشها الفلسطينيون، ورغم كل هذه المعاناة تحدث أبو عرب عن حتميّة العودة إلى الوطن، وهو حقٌ شرعي لكل منفيٍ عنه مشرّد .

تحدث أبو عرب عن كل هذا بنثريّة بسيطة واضحة العبارة، يفهمها القاصي والداني ( وهذا كان في مقابلاته الشخصية مع الإعلام، وأحيانًا في مقدمة أغانيه وقصائده )  كما تحدث عن هذا، وعبّر عنه في قصائده وأغانيه وأشعاره، بلغةٍ تبُثّ حزنًا، وبصوت شجيّ يزيدها حزنًا ، ولوعة ... حتى ليحزن المتلقّي في طربه ، وبذا أصبح أبو عرب شاعر الثورة الفلسطينية ، ومنشدها ...

ويبلغ الحزن مدىً بعيدًا، حتى تحس الشاعر يندب وينوح، والمتلقّي يكاد قلبه ينفط، والدمع يسيل عندما يتحدث أبو عرب عن الشهادة في سبيل الوطن، وعندما يتحدث  عن  الشهداء، وسنعرض في هذا الجزء من الدراسة نماذج عن الرثاء عند أبي عرب، وسنتطرق إلى رثائه لابنه الشهيد، ورثائه للقائد الرمز ياسر عرفات، وللشهيد ناجي العلي، علاوةً على رثائه لوالدته ...

أ‌- في رثاء ابنه معن:

استشهد ابن الشاعر معن في اجتياح الصهاينة لبيروت 1982، وقد تحدث الشاعر عن صدمته عند تلقي الخبر ( مقابلة تلفزيونية مع الشاعر )، وعن معاناته وسيره بالسيارة أثناء القصف ليرى قبر ابنه ، الذي اشترك في معركة شرسة ضد الغزو الصهيوني، استشهد فيها ، كما استشهد معه سبعة من رفاقه ... 

بجملة تقريرية ، وبضمير ( أنا ) المتكلم يتحدث عن الشهيد، ويقرر بفخر أنه استشهد، ويظل مرتبطًاً بسلاحه حتى بعد استشهاده ، ويطلب من رفاقه أن يحملوه ويسندوه على خشب بارودته :

أنا استشهدت يا رفاقي احملوني      وعلى خشاب البارودة اسندوني

ويطلب منهم أن يتركوه في حفرته(قبره) ، ليقبل الثرى، إذا لم يستطيعوا حمله ، ونقله إلى أهله :

اتركوني بحفرتي قبّل ثراها           إذا ما فيكو لأهلي تشيلوني 

ثم تنتقل أنا الشهيد لتطلب وصايا عدة :

لأصحابه : أن يدفنوه تبعًا لقبلة الوطن، وهذا ينمّ عن مدى ارتباطه بالوطن حيًا وشهيدًا ...

أمانة تحققوا لنفسي مناها        وعلى قبلة وطنّا مدّدوني

وبعد هذه المقدمة ، التي خبّرت عن تجهيزه ودفنه ، ينتقل للأم ويوصيها :

وخلّي الوالدة تزيد برضاها      وعني قبّلوا ايدها الحنونة

حلم الليل لو طيفي نداها         ندتني وين انت يا عيوني ؟

ويجيبها صوت من السماء :

جاوبها صوت من عالي سماها       أنا استشهدت تا أوفي ديوني

وللأخت :

وخلّي الأخت تخفف بكاها        دموعها فوق جرحي يجرحوني

ويتساءل الشهيد عن عدم ظهور دموع الوالد عند سماعه خبر استشهاده :

وأبوي كيف دمعاتو خفاها        لما رفاق معركتي نعوني ؟

وتتماهى الأم في الوطن تبعًا لرؤية الشهيد ، وتكون هي المعادل الموضوعي للوطن :

يا أمي بلادنا بعشق سماها        مثل عشقي لعطفك يا حنوني  (9)

أما الأب فيجيب عن تساؤل ابنه الشهيد في مقطوعة رثائية أخرى، ويصف مشهد سماع الخبر، والصدمة الأولى ، ثم يعلن موقفه من الشهادة :

لما رجعوا يابا ربعك               وباللي صابك بلّغوني

ما سألتهم كيف موتك               في بطولتهم نعوني

حينها نشفت دموعي                ووقفت الرعشة بظلوعي

قالوا مات البطل صامد             ينتخي بعزة ربوعي

عندها رفعت راسي                 وراحت بصدري المآسي

يا ابني لأقسم في حرمة ترابك     ودمك هاللي عطّر ثيابك

فرحت يابا بنجاحك                 يوم حصلت الشهادة

إنه الفقدان المطلق، الموت، الذي يبعث على الحزن المتواصل، والبكاء والدموع، لكن ، وكما يقول أبو عرب ، إن الشهادة ضريبة يدفعها الفلسطيني تجاه تحرر وطنه، وبالتالي فهي شهادة فخرٍ وعز للشهيد وذويه :

ياللي فيك رفعت راسي         وقدمت عني الضريبي

اسمع امك عم تزغرد           وتصيح حيّك يا حبيبي (10)

ب‌- أبو عرب يرثي أمه:

ذكرنا فيما سبق علاقة الشاعر بوالدته، ومركزية هذه العلاقة في إبداع الشاعر، لذا يتحدث الشاعر عن مأساة الوحدة، إثر فراق والدته، والسهر والبكاء والدموع لفقدانها، وهو كما أسلفنا يعبر عن ذلك بعباراتٍ بسيطة مشحونة بالحزن، مبللة بالدموع، فهو ينادي دموعه ويستحثّها على الهطول، كي يشفي غليله ، وكأن الدموع يمكنها غسل أحزانه :

يا دمعة تحدّري بخدّي وسيلي        دعيني بالبكا أشفي غليلي

دعيني ساهر النجمات وحدي        وبكّي الليل ليلة بعد ليلي

على فرقتك يما انفطر كبدي         وبعد فراقها تايه دليلي

بعد هذه المقدمة الدمعية، يصور الشاعر مشهد الموت الحقيقي، حركة بعد حركة، وسكنة بعد سكنة :

ع فراش الموت نَهدي بعد نَهدي       ونفسها تنم عن روحها العليلي

ورغم موقف الموت ، يُظهر الشاعر التحدي والأمل، حتى في روح الوالدة المفارقة :

قبّلت يدها رفعتها بتحدّي              وصارت فوق أوطاني توميلي

ويدور حوار ، وكأنّ الجسدين عصيّان على الفراق، وتتأتّى صورة الشجرة ( بلد الشاعر ) :

قالت لي : شايفة هالوطن حدّي       الشجرة يافا مع أرض الجليلي

قلت لها : الأمل يمّا ما عاد يجدي    سراج الموت ع آخر فتيلي

وتلتقي العيون الحزينة، وتلتقي الدموع :

والتقوا دموعي ودموعها ع المخدة      كأنها عارفة الفرقة طويلي 

ويظهر العنفوان والتحدي وكأنهما سلاحان يقطّعان الظلام واليأس :

قلت : يمّي اسمعي يا أمي عهدي      ما عدت أعيش في غربة ذليلي

خلقنا للرجولة والتحدي                أبواب الموت دقّي وافتحيلي

يافا يافتي واللد لدّي                    ما برضى تعيش في حكم اسرائيلي

لأرجع ع أرض بيّي وجدّي           وما عدنا نعيش بغربة ذليلي   (11)    

إن المتأمل في هذا النص الجنائزي، يلحظ المعمارية الحزينة التي اتكأ عليها الشاعر، تلك البنية التي خففت من لوعة الفراق والفقد المطلق، فقد انبنت المقطوعة على  مقدمة، ثم تصوير لحالة الرحيل التدريجي ، ثم جاء الحوار بين الشخصيتين ، والذي أظهر نماذج من قوى الوطن ومدنه، وانتهى النص بالعهد المعتاد للشاعر، في حتميّة الانتصار والعودة إلى الوطن الذي غادره ... وخلاصة القول ، فقد استطاع شاعرنا تصوير وفاة حبيب قريب على قلبه في أرض الشتات والمنافي، وهنا يكون الموت مركّبًا .

ج‌- يرثي القائد الرمز ياسر عرفات:

يبدأ أبو عرب نصه بالندب والنواح، فينادي الدنيا يناجيها، كما ينادي نسر السما، ويطلب منه البكاء ... ثم ينتقل في النصف الثاني من العتابا الحزينة إلى الحكمة، كل هذا بتوظيف ضمير المتكلم ( أنا ) ، وعلى لسان الشهيد :

     يا دنيا قرّبي صوبي وناحي             بكّي نسر السما عليّ وناحي

    والله وليفي اللي ما بييجيلي وأنا حيّ     شو لي فيه عند هيل التراب ؟..

ومن الوليف الذي قاطع أبا عمار ولم يزره، وهو حي، وتذكره فقط عند دفنه، يشتق الشاعر علاقة المرثي ببعض الناس ... والحكومات ، وهنا نشهد الاختلاف والتنوع في جو بناء المرثية، فالرجل قائد سياسي ورمز، فجع استشهاده الشعب كله، ونتيجة وضع الرجل، تتسع عناصر الرثاء لتحاكم بعض الناس :

    ما بدري ليش خِلّاني عادوني            أتوني ع زيارتي حتى يعيدوني 

    وبعض الناس في الماضي عدوني       أتوني ع زيارتي حتى يعيدوني

وتسافر المرثية إلى باريس ، حيث كان يتعالج القائد الذي أدرك أن طب فرنسا وقف عاجزًا عن علاجه ، لذا طلب من أصحابه أن يعيدوه للوطن، فتراب الوطن هو علاجه وشفاؤه :

    من باريس لبلادي عيدوني               أنا بشفى إذا شمّيت التراب

    ما لي طب بفرنسا عيدوني               أنا بشفى إذا بشمّ التراب 

ثم يرسم الشاعر لوحتين متضادتين، واحدة لأطفال الوطن الذين يمثلون الانعتاق، والحرية والأمل ، والثانية للأعداء الذين غدروه وسمّموه :

    أطفال الوطن بتغاوى باسمهم             نشامى ترى ويشفيني بسمهم 

    إذا الأعداء غدروني بسمّهم               لومي على أهلي والقراب

    إذا الأعداء غدروني بسمّهم               لومي على بعض حكام العراب

ويلوم أقرب المقربين :

    أنا لومي لومي ع الوليف ال هجر ودّو      جرحي بالقلب انزاد ودّو   

ويوصي بأن ترسل تعازيه لثوار العرب جميعهم في حال موته :

    أماني أماني أماني إن متت ودّوا             تعازي لكل ثائر بالعراب

ثم يتغير ضمير الخطاب من ( أنا ) إلى ( هو )، ويعمم الشاعر المأساة على بيوت الشعب كلها، ويطلب من الشعب أن يكونوا أوفياءً للقائد، فهو لم يتخلّ يومًا عن الحقوق، وبقي صلبًا، محافظًا على الثوابت ...

    فلسطين الحزينة مات خِلّا                   ياسر عن حقوقها ما تخلّى

    يا شعب بعهد ياسر ما تخلّى                 أمانة توفوا عهدو بالتراب 

وتلخص العتابا الختامية مشهد طائرة تحمل جنازة القائد، بعلمها الأسود، ويظهر في المشهد اللوم الأخير على العروبة وأنظمتها، تلك الأنظمة العاجزة عن حماية الرئيس، وهو محاصر في المقاطعة، ويموت ببطء أمام ناظريهم :

   لفّت طيارتك أسود عَلمها                        ولفلسطين ما أعطت عِلمها

   يا ويلي قدس مجروحة بتنادي على أمها       على أمها العروبة وما حدا لبّى الجواب (12)

نعم، لقد كانت الفاجعة كبيرة، وكان النص استثنائيًا، مزيجًا من النواح، ولوم الأصدقاء، والحكام العرب  وفيه إقرار بأن فرنسا عجزت عن علاج مرض الرئيس... وأخيرًا هبطت الطائرة المفجوعة في أرض المقاطعة في رام الله، ونزلت الروح تعانق أرض فلسطين .

    د- يرثي الشهيد ناجي العلي:

الشهيد ناجي العلي، الفنان، رسام الكاريكاتير الشهير، استشهد غدرًا في لندن سنة 1987 ، وهو من بلدة الشجرة المهجرة ( بلدة الشاعر ) ومن معارفه القريبين ... صدمه خبر استشهاده، وأسمى فرقته باسم ( فرقة ناجي العلي للتراث الشعبي ) تخليدًا للشهيد ...

اعتمد الشاعر في رثائه للشهيد على مقطوعة تراثية للشهيد، تأسست على اللازمة ( طلت البارودة والسبع ما طل .. يا بوز البارودة من الندى مبتل ) حيث حوّرها الشاعر لتصبح : ( طلت البارودة والبطل ما طل .. يا بوز البارودة من دمّو مبتل ) ...

وتأتي هذه المرثية على لسان الشهيد ( أنا الشهيد )، ويحمّلنا الشهيد أمانة، أن نرسل قطرات من دمه لتروي عشب فلسطين ... فالمناضل مرتبط بالوطن حيًا وشهيدًا ..

        أماني .. أماني .. أماني .. أماني بصدركم ياهلنا

                                      لو متت ودّوا قطرة من دمي تروي العشاب .. 

ثم تدور اللازمة : طلت البارودة ... وكأنها تعزز البكاء والنواح ... وتستدعي استمراره...

ثم يتحدث الشاعر عن حادث استشهاد ناجي العلي ، واغتياله غدرًا، ويأتي الحديث هنا على لسان بارودة الشهيد :

         صاحت البارودة تبكي على الفنان        وهو عم يشكي من غدر الخوّان 

ثم تدور اللازمة : طلت البارودة ...

ويتماهى الشهيد بالأرض، يتماهى بمخيمه ( عين الحلوة ) ، ويكون الدمع ..

ويظهر في المشهد الحزين خالد ابن الشاعر، ليكون الأمل ، وهو الذي يكمل مشوار والده :

         عين الحلوة ناجي دمعة عم تبكي         إذا بتعديها والقدس تنادي

         جودي يا حنوني بدمعك جودي           خالد نور عيوني ع قطع خدودي (13)

وتنتهي المقطوعة باللازمة : طلت البارودة والبطل ما طل ...

         لوحات تعبيرية :

في هذه اللوحات يتحدث أبو عرب عن مشاهد متعددة، يظنها المتلقي بادئ الأمر أن لا علاقة بينها، وأنها مشتتة، ولكن المدقق فيها يرى أنها صدرت من رحم المعاناة، وترعرعت في بيئة اللجوء والبؤس والشقاء، وهذا ما يجمعها، كما تجمعها الألفاظ البسيطة التي تصف المشهد، وتقطر حزنًا ودمعًا ودمًا .. لوحات تُعجز ريشة الرسام ... بعد ودما ودموع عيشتنا ، لنتأمل كيف صور الشاعر بكاء الليل فوق الخيمة، والأطفال تحت البرد، والجد المريض، والأخت الحائرة، والأيام تنقضي والبؤس يتفاقم : 

         شهر وسنة عم تمرق الأيام              والليل باكي فوق خيمتنا 

         وأطفال تحت البرد عم بتنام             خيمة وريحة الظلم عصفتنا

ولعلّ الصور هنا ليست مجازية أو خيالية، بل يمتح أبو عرب من الواقع، وينسج الصور التي تقرر الواقع، وتوثقه :

         وجدّي مريظ بتوكله الأسقام             أختي وأنا بنلوك دمعتنا

وتظهر الأم ، بحزنها ودموعها ، تحكي عن القدس، وعن خذلان الحكام العرب للفلسطينيين، ولذا فإنها تزيد الألم آلامًا :

          أمي حزينة دموعها أرقام                أرقام تحكي بعد نكبتنا

          تحكي عن المعراج يا إسلام             عن مهد عيسى وعن كنيستنا

وكأنه يحاور الأم ، ويقول إنه يرفض الذل ، وينادي بالثورة :

          نحنا يا أمي بذلّ ما بننام                  وردّ الردى والفدا عادتنا 

          لازم نفجر حمم من الخيام                ونسمع التاريخ صرختنا

وكأنه يهوّن على الوالدة، ويرحل الشاعر إلى رومنسية يصف فيها وطنه، وطن السعادة والفرح :

          ويا أمي أنا دمعة من الأيتام              ونوح الحمامة فوق تينتنا 

          وشبّابة الراعي ورا الأغنام              وعنّت عتابا فراق ديرتنا

          وتنهيدة الحصاد تالي العام               وموال من رجاد حقلتنا

          وبفيّ زيتونة معبعببين                    ريحة خبز طابون حارتنا

ومن الرومنسية إلى الثورة والتحدي مرةً أخرى، فهو يتذكر عملية دلال المغربي ( 1978 )، وفدائي يفجر الألغام في المحتل في عملية السافوي :

           يا أمي أنا صرخة دلال تصارع الإجرام      ع أرض حيفا وحَد ديرتنا 

           وزهرة فدائي فجّر الألغام                       بسافوي حتى الناس سمعتنا  

ويتحدث عن رجولة الفلسطيني وبسالته في تصديه للغزاة الصهاينة، فهو يذكر المتلقي بمعارك العرقوب ، والخيام ، وتبنين في لبنان ، كما أنه يذكره بمعركة الكرامة، التي خاضها الفدائيون بمساندة الجيش الأردني، وانتصروا فيها، ويذكره بمعارك الأغوار :

           قوموا اسألوا العرقوب والخيام                  تبنين تتغنّى برجولتنا

           فينا الكرامة تزايدت إكرام                      الأغوار عم تبكي ع سيرتنا

وفي نهاية النص ، وبناءً على معطيات الواقع ، يستخلص الشاعر النتائج، والتي أوردها على شكل نصائح لأمه :

            يا أمي  كفانا نعيش بالأوهام                   كذب ودجل ووعود حاجتنا

            حاجتنا نشكي الظلم للظلام                     ونبوس إيد اللي ذبحتنا

            يا أمي كفانا نعيش بالأحلام                    ما عاد بدها شرح حالتنا

            بدها رجولة وتضحية وإقدام                   بدها عروبة تصون ثورتنا (14)

إنه يرفض الوهم ، والكذب، والوعود الزائفة، وهذا الرفض تأتّى من تجربة هذا الشعب، نعم، كفى شكوى الظلم للظلّام، كفى ... كفى ... وكل ما يلزمنا من أجل التحرير والعودة هو الرجولة والتضحية والفداء ، كما أننا بحاجةٍ إلى حاضنة العروبة التي ننتمي إليها وتحمي ثورتنا ....

خاتمة: 

يشكل أبو عرب مدرسةً موسيقيةً متفردةً، بما تتضمنه هذه المدرسة من رسائل شعرية هدفها كل عربي بشكل عام، وكل فلسطيني بشكل خاص، حيث استطاعت مدرسة أبي عرب أن ترصد حال الفلسطيني المُهجّر من أرضه، وحال الفقر والحرمان الذي يعيشه، ومن ثم وثّق الشاعر هذه الصور، في نصوص موسيقية تطرب لها الأذن، رغم الحزن الذي تبثه، والبؤس الذي يشع منها...

لم يترك أبو عرب شاردةً ولا واردةً من عناصر القضية الفلسطينية إلا تحدث عنها، وذكّر بها، فقد تحدث عن الوطن الضائع، والمنفى البائس، وحتمية حق العودة، وقضى الرجل حياته ينتظر لحظة العودة للأهل والوطن والثرى...

لقد غنّى الشاعر، واتّخذ من المناضلين والشهداء والأسرى والمحرومين أبطالاً لقصائده، ونوّع في طريقة إبداعه رسائله، فقد اتكأ على الأم، وسما بها، حتى تماهت معانيها مع الأرض، وجاء بقصص إخبارية حملت الواقع، ونهضت به نحو المستقبل، فكانت قصص التأمل التي تضمنت معاني المقاومة والتحدي، والثبات على الثوابت، وفي مقدمتها حق عودة اللاجىء إلى وطنه... كما تحدث الشاعر عن سيرة الشهداء وتاريخهم، ووصف عمليات مواجهتهم مع المحتل واستشهادهم...

ومن الوسائل الأخرى التي نقل بها الشاعر رسائله، إبداعه للّوحات التعبيرية، تلك اللوحات التي تبدو للوهلة الأولى أنها مشتتة، لكن – في الحقيقة- يجمعها الحنين للوطن، وحياة الفقر والحرمان، وحياة البؤس التي يحياها اللاجىء...

نحن أمام قامة شعرية وطنية مميزة، وربما فريدة، وحالة إبداعية تمتلك طاقة هائلة في الوصف والتعبير، والإخبار والتقرير، أنتجت أكثر من 400 أغنية وقصيدة، كتبها الشاعر، ولحّنها، حتى إذا ما استوت على سوقها، أخرجها قطعاً موسيقيةً تشنّف الآذان، ومن المؤسف – وفي حدود اطلاعي - أن لا تجد بحثاً واحداً جدّياً عن أعمال الرجل؛ لذا فإن هذه الورقة المتواضعة التي بحثت في شعر أبي عرب، لتستحث الباحثين للعمل في إنتاج أعمال أبي عرب، جمعاً وتوثيقاً وتحليلاً، ليكون أبو عرب أنموذجاً رائعاً، كتب قضيته الفلسطينية بالكلمة الشعرية، والنوتة الموسيقية، وذلك في إطار من التفاعل بين الفكر النيّر والرؤية الفلسطينية الثاقبة... 

جنّة وهيب نديم وهبة المتَخَيّلة *


د. نبيه القاسم

مُنذ اللَّحظةِ التي طُرِد فيها آدمُ وحواءُ من الجنّة ظلَّ الأمل يرافقُهما في رحمته تعالى، وأنّ عودتَهُما إلى الجنّة مجرّدُ وقت، ويعود كلّ شيء إلى ما كان.


لكنّ السنوات والعقود والقرون تمرُّ والأملُ لا يتحقّقُ، وحزن الإنسان يزداد، وخوفه يكبرُ، فيحاولُ إِيجادَ السّبُلِ البديلة لتُوفّرَ له الأمانَ والطمأنينة. ووجد أخيرًا في الدّيانات السّماويّةِ ما يُعيد له الأملَ برحمة الرّب، هذه الدّيانات السّماويّة التي أمَّلَتْهُ بالجنّة الموعودة، ولكنّ الوصولَ إليها ليس بالأمر السّهل، حيث على الإنسان أنْ يلتزمَ بالكثير من القيود المكبّلةِ التي قد تَعافُها نفسُه.

وظلّ هناك مَن يسعى ويعملُ لخلق الجنّة التي يَرْتئيها الأفضلَ للإنسان المعذّب في حياته على الأرض. 

فبنى أفلاطونُ جمهوريّتَه، وبعده قام القديسُ أوغسطين بتخيّل الجنّة التي يُريد، ثم كانت مدينةُ الفارابي الفاضلة، ويوتوبيا توماس مور. وقام أبو العلاء المعري بتجاوز الواقع وانتقل بخياله ليخترقَ حدودَ الجنّة والنار، ويلتقي بالعديد من سكانها في كتابه "رسالة الغفران" وتبعَه في ذلك دانتي في "الكوميديا الإلهية".


"الجنّة" لوهيب وهبة، ليست مجرّدَ رحلة يقوم بها ويعود، كما في رسالة الغفران للمعري والكوميديا الإلهية لدانتي، وليست مدينةً فاضلة يُخْتارُ حكامُها وتُسَنُّ تشريعاتُها ويُفرَزُ سكانُها كما في جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة، وإنّما هي سَبْقٌ في تَرسيم الجنّة، وتحديدِ مَعالمها، ورَصْد جغرافيّتها. جنّة قائمة يسودها العدلُ والأمان. المحبّةُ ميّزةُ أهلها، والعدلُ نبراسُ مُديريها، كلّ شيء يسير فيها برَوِيّة وتَبصّر ويقين، لا يُظلَمُ أحدٌ، ولا يُهمَل، كلُّ واحد يأخذُ ما يستحقّ.


رحلةُ وهيب إلى الجنّة... هدفُها هدايةُ الآخرين الرّاغبين القادرين على اتّباع الشّروط للوصول إليها، جنّة ليستْ كالَّتي وعدَتْ بها الدّياناتُ السماويّة. جنّة لا يدخلها أحدٌ بوَساطة، ولا يفوزُ بها آخرُ لعَلاقة. وإنّما هي لمَن "كانوا في الأرض البِرَّ والخيرَ والنّورَ والحبَّ. كانوا نُصْرةَ المظلوم ومُحاكمةَ الظالم. الذين سُرِقتْ أَرضُهمُ، حُرِثَ زرعُهمُ، أُكلَ رزقُهمُ، هُدِّمَتْ بيوتُهم، قُتِلَ أولادُهمُ، نساؤُهمُ، شيوخُهم، سُرقَ أغلى مَا يملكونَ، سُرِقَ الوَطن... وصبروا وعملوا الصَّالحاتِ. هم الَّذين عادوا إلى المكان الموعود، إنّ اللهَ لا يُخلفُ المِيعاد." (ص57)


وهيب وهبه ينطلقُ في رَسمه للجنّة من مُعتقده التّوحيديّ، حيث أنّ الإنسان قد عَبَرَ كلَّ الأدوار منذ أبدع الرّبُّ الكونَ بقوله: كُن فكان. ورافق الرُّسلَ والأنبياءَ في نَشر الدّيانات السّماويّة، وآمن بما دَعَت إليه من تَوحيد الخالق الواحد الأحَد. ساعيا لبلوغ النهاية ولقاءِ ربّه في دَوْر الكَشْف. مُلتزمًا بتوقيع العَهْد على نفسِهِ بإطاعة الرَّبِّ.

 

حدّد دَوْرُ الكَشْف أهميّةَ ما قام به الرّسلُ والأنبياء الذين أتَوْا مُحَمَّلينَ بالرِّسالاتِ السَّماويّة لهداية البشر إلى اتّباع طريق الخير، وعبادةِ الرَّبِّ. لكنّ فشلَهم في تثبيت الإيمان لدى كلِّ متَّبعيهم، وارتدادَ الكثيرين، واستشراءَ الشَّرّ بين النَّاس، وتحكّمَ القويّ الغنيّ بالضّعيف الفقير، والابتعادَ عن الإيمان بالرّبّ الواحد الأحد، وعبادةَ المال، والسّعيَ وراء السلطة وملذّات الدنيا، كانت البرهانَ على أنّ ما هو قائم لا يمكنُ أن يستمر.

 

في دور الكشف حيث تجسَّد اللهُ على الأرض تحدَّدتِ الشروطُ لبلوغ المرتَجى، ووضحَتِ السُّبُلُ الَّتي يجبُ السَّير فيها، وطُلِبَ من كلِّ مُستجيبٍ أن يكتبَ ويوقّعَ العَهدَ الَّذي يُلزمُ فيه نفسَه. في دور الكشف أخذ سيّدُ الزَّمان والمكان، ومعه الأربعة حدود الطَّاهرين البرَرَة مسؤولية الوصول بكل مستجيبٍ صادق إلى جنّة الله الموْعودة.


حتَّى تصلَ الجنّةَ، عليكَ اجتياز البوَّابة الخضراء حيث سيّد الزَّمان والمكان، ولتصلَ إليها يمكنُ ذلك عن طريق أيٍّ من البوّابات الأربع الَّتي يتكفّل بها الحدودُ الأربعةُ. وإذْ تدخلُ البوابةَ الخضراءَ يعني أنّك فزتَ بالجنَّة حيث هناك "لا توقيت، لا زمن، لا أسماء للأيام، ولا تواريخ. العقل إمام الزَّمان وسيّد المكان، وتاج الحضرة. كل شيء يتحرّك بأمر العقل، بفعل العقل" (ص42)


ويعود وهيب من رحلته إلى الجنَّة بعد تنقّله في أرجائها ورَسم معالمها ووصف حياة سكانها، ليكونَ الهادي والمرشد لكل مَن يرتقي به الإيمان لبلوغ الجنَّة، يعود وهو يحمل الحكمة نورًا يهتدي بها، "فالدُّنيا الفانية لا تتمّ لمؤمن، ولا تدوم سعادةٌ لإنسان، الأرض امتحان الخالق للمخلوق، وكل الأرض وما عليها متاع الزّوال، والنعمة هي الجنّة" (ص83-84)

  

هذه هي جنّة وهيب وهبة التي فصّل في ترسيمها ووَصْفِها، حيث لا يدخلُها أحدٌ بغير رضا وقبولِ سيّد الزَّمان والمكان والأربعة حدود الَّذين أشارَ إليهم بالألوان الخمسة.


تلك هي مقدمة الطبعة الخامسة لمسرحة القصيدة العربية (الجنة) الصادرة عن دار الربيع المصرية 2023 - بقلم - رائد النقد الفلسطيني - الدكتور: نبيه القاسم.

صدرت الطبعة الرابعة والخامسة بالعربية والإنجليزية - الترجمة للشاعر المصري: حسن حجازي حسن.

المراجعة والتدقيق: الدكتور: صفا فرحات - الغلاف يمنة حسن حجازي الطبعة الخامسة 2023.


جامعة MUBS تتوج اهتمامها البيئي باتفاق نموذجي معGogreen بلدية عاليه





وقعت جامعة MUBS فرع عاليه عقد تعاون بيئي مع شركة  Gogreen بالتعاون مع بلدية عاليه، وهو عبارة عن خطة خمسية للفرز النفايات.

ووقع الاتفاقية في مبنى بلدية عاليه عن الجامعة رئيسها الدكتور حاتم علامة وعن البلدية رئيسها وجدي مراد وعن الشركة رئيسها رائد الريس.

حضر التوقيع عدد من أساتذة الجامعة ومسؤولين من  Gogreenوفعاليات من البلدية.

وتضمنت الاتفاقية آلية عملية يشارك فيها أساتذة وطلاب الجامعة للحفاظ على البيئة، والعمل على الحدّ من التلوث خاصةً بظل أزمة النفايات انطلاقاً من عاليه، لتمتد إلى كافة المناطق اللبنانية، للوصول إلى الهدف الرئيس وهو الفرز من المصدر، وستوضع استراتيجيات مستدامة تخدم أهداف الجامعة والشركة وبلدية عاليه.

وأكد د. حاتم علامة أن هذا الاتفاق يترجم الخطة الخمسية الأخيرة التي وضعتها الجامعة، منذ تواجدها في عاليه عام 2010، وقد قدمت الجامعة منذ تأسيس فرعها في عالية انشطة الخدمة الاجتماعية ، وقد كان الاستاذ وجدي مراد وفعاليات المنطقة في موقع الدعم والمؤازرة.

وأكد أن الجامعة تهتم بموضوع البيئة في الكثير من الاختصاصات من ضمن عملية التوعية وتطبيق نموذج للتعليم والبحث وتقديم الخدمات بالاشتراك مع البلدية والجمعية.

وأشار إلى اهتمام الجامعة من خلال تأسيسها مركز  NWM (الشبكة الوطنية للرعاية) وهي عنصر جداً مهم.

وأوضح قائلاً: إن أهم فصل موجود ضمن إطار الجامعة لخدمة المجتمع والشراكة مع المجتمع، فنحن مؤسسة تعليمية في عاليه تضم قرابة 650 طالباً، و يتعامل معهم فريق عمل متكامل.

فأولاً نحن نريد أن نضيء على أهمية هذه النقطة ومركزيتها

ثانياً نريد أن نجعل من الجميع أن يكونوا فريق عمل، وموجودين معنا للعمل على هذه القضية، ويعتاد طلابنا من خلال الجامعة الانخراط في العمل من أجل المجتمع.

وركز على أن: عاليه تحتضن المشروع بالتعاون مع رئيس بلديتها والأستاذ رائد الريس وكل الفريق الموجود هنا، لننطلق بمشروع عمليات الفرز. بأوسع مدى من خلال الفروع الأخرى. لتشمل كل لبنان.

نقابة الإعلاميين العرب تقيمُ إفطارا جماعيًّا وأمسية شعريّة في شهر رمضان في قرية البعنة - الجليل





       أقامت نقابة الإعلاميين العرب بإدارة  الدكتور عادل شمالي  والشاعر الأستاذ علي تيتي إفطارا جماعيًّا  مساء يوم السبت ( 15 / 4 / 2023 ) في منزل الشاعر علي تيتي  في قرية  البعنة  حضرهُ  عددٌ  كبير من  الشعراء والكتاب والمثقفين والإعلاميين .

        بعد الإفطار أقيمت أمسية  شعرية شارك فيها  مجموعة من  الشعراء والزجالين والأدباء المحليين .  ومن الشعراء والأدباء الذين شاركوا في هذه الأمسية : الشاعر والإعلامي الدكتور حاتم جوعيه والكاتب الدكتور مروان مصالحة والشاعر الدكتورعادل  شمالي  والشاعر الزجلي عطا الله  معدي  والشاعر الأستاذ يوسف ابو خيط والشاعرعلي تيتي..وأخرون.

          والجدير بالذكر أنه قد حضر هذا الإحتفال مجموعة من المصورين والإعلاميين من عدة مواقع ووسائل إعلام وغطوهُ إعلاميًّا . 


جمعيَّة السباط للحفاظ على الثقافة والتراث الفلسطيني - الناصرة تقيمُ إفطارا جماعيًّا وأمسية ثقافية فنية في شهر رمضان المبارك

 





    أقامت جمعية السباط  للحفاظ على الثقافة والتراث الفلسيطيني - الناصرة  -   بإدارة الباحث والمؤرخ  الأستاذ خالد عوض إفطارا جماعيا  في قاعة الجمعية مساء يوم الخميس(13 / 4 /2023) حضره عدد كبير من الشعراء والكتاب والضيوف من مدينة الناصرة  وبعض القرى والمدن المجاورة .   بعد الإفطار بدأ البرنامج الفني والقراءات الشعريَّة .  تولى عرافة البرنامج  مدير الجمعية السيد خالد عوض . 

       شارك في القراءات الشعرية كل من : الشاعر الدكتور حاتم  جوعيه  والأديبة الشاعرة زينا الفاهوم  والكاتب والأديب عامر عودة  والفنان وليد جبالي .  

  وأما الفقرة الفنية الغنائية فشارك فيها :الفنان المتألق عماد برانسي والطفلة الموهبة  أسيل عواد وبمرافة عازف العود  باسل  صافية  وعازف  القانون  سعيد جرايسي  .  

    والجدير بالذكر ان جمعية السباط  ستقوم بعد عيد  الفطر في العديد  من النشاطات والفعاليات  الثقافية والفنية .     

   

إتحاد الأدباء القطري يقيم إفطارا جماعيا في شهر رمضان الفضيل






خبر للنشر من : الشاعر والإعلامي الدكتور حاتم جوعيه  - المغار -  الجليل  -

          أقام  الإتحاد القطري للأدباء الفلسطينيين  إفطارا جماعيا مساء  يوم  السبت ( 8 / 4 /2023 ) في قاعة بردايس  في قرية  كفر مندا حضره عدد كبير من أعضاء إتحاد الأدباء وضيوف من خارج الإتحاد .  وبعد الإفطار تحدث  في البرنامج الإحتفالي  الأستاذ  محمد هيبي الأمين العام للإتحاد  ثم الدكتور بطرس دلة  الرئيس الفخري لإتحاد الأدباء .. وكانت هناك  فقرات فنية  وقراءات  شعرية  شارك  فيها  كل من : الشاعر الدكتور حاتم جوعيه والشاعرالدكتور أسامة مصاروه والشاعر نظمت خمايسي والشاعر الزجلي عطا الله معدي والشاعر الأستاذ علي هيبي  والشاعرة  ليلى حجة  والشاعر علي تيتي   وآخرون .   


فعل الكتابة - شغف الذات بالحكي..في المجموعة القصصية " مدارات امرأة " للأديب: محمد حسين

 



بقلم الناقد : عقيل هاشم


( الاهداء : إلى الذين قذفتهم الأمواج في حضن الحصارات المتشابهة وأرهقتهم حقائب سفر اللقاء المحمولة على اكف المسافات )

الأديب الفلسطيني محمد حسين  عرفته الساحة الثقافية ساردا بارعا  ,والمتتبع له يجد ذلك المثقف الملتزم والناقد المؤثر في طرحه ومشاكساته التي تؤثث روح الحكي.

ربما يكون السرد قد شكّل الجزء الأوفر من تجربته، لذا فهو لا يكتفي بكتابة القصص او كتابة الرواية وقول الشعر, هذا الشغب في الكتابة  إنما هو الهاجس الذي يسكنه وجعله يعزّي روحه أكثر، ويطلق العنان لنفسه في الإسهاب لتفسير ذاته. إنها محاولة جادة للكتابة وتعبير عمّا يدور بخاطره ربما يكتفي بالبوح لنفسه عندما يضيق صدره , و يمكن أن يكون تعبيرا عن حالة شعورية تلح عليه فتجبره على قصها على الورق هي صور المشاهد الحياة اليومية والتي أسهمت في ولادة قصصه المستعرة ,

 ظني هذا القلق الدائم والذي ما يزال يلازمه ككاتب مشغول بهموم الوطن-المرأة/الانسان /الوجود/ الحرية ,ولا يمكن لها أن تنتهي ابدا  وستظل مستعرة  بعد الإنتهاء من الكتابة وأدرك أيضا أن كل ما يسعى إليه قد يستحصل عليه لاحقا من الذاكرة ,هذا هو سحر الكتابة.

وإذا كان نمط الكتابة "التجريب" أصر الكاتب أن يتمثله , والذي يحبل بصنوف شتّى من الإبداع والإبتكار، هو لأجل خلق ذائقة جديدة تكافح المرجعيات التقليدية والمحافظة والمرتعدة من التغيير والعبور إلى عالم المغايرة والحداثة .

لا باعتبارها رؤية جماليّة فحسب ، وإنّما كمفهومٍ فكريّ يُوجّه فعل الكتابة من الداخل ويجعلها تفتح لنفسها آفاقًا تخييلية جديدة، ولا تقف عند المُتعارف عليه من أنماط الحكي وتقنيات السرد وفتنة الشكل، بقدر ما تُكسّر فتنة الشكل السردي وتفرض مُعاينة جديدة في تشريح الواقع وفق شخصياتٍ يائسةٍ تعيش على حافّة البؤس والتّرحال. 

إذْ يستلهم الكاتب في نصّوصه تقنيات أجناسٍ فنّية وتوظيفها داخل القص، سيما حرصه الشديد على مفهوم التصوير والعمل على بلورته داخل نصّ أدبي عن السر الكامن في سرد قصصه وعوالمها الفكريّة وأساليبها الجماليّة، 

الكاتب محمد حسين إبن المخيمات  قد امتطى صهوة الكتابة  , وكان هذا الكشف واضحا من خلال أعمال إبداعية مقتفيا أثر الحكي بمعاول أكثر عمقا استلهمها من اطلاعه الواسع على أدب الواقع –أدب اليوميات  .

يطل علينا بعمل جديد مجموعة قصصية بعنوان (مدارات امرأة ) والصادرة من دار دلمون الجديدة 2023 بالتعاون مع أكاديمية دار الثقافة في بيروت - التقديم للكاتبة اسراء عبوش جاءت فيها (يحتاج الإنسان للاتزان للدوران في مدارات امرأة ,يدور الكاتب بالقارئ حول الحياة , المرأة قد تكون الحياة نفسها وقد تكون شريكة الأمل , وقد تكون رفيقة الطريق , يقدم الكاتب المرأة بشفافية ,تجدها في نهاية بعض القصص تهمس برفق , تربت على الكتف الموجوع وتستمر بالبوح)

أقول الكاتب هنا كان راصداً ومسائلاً هذه المرة عن حيوات ومآسي يعجز اللسان عن وصفها، مقتحما ممرات غائرة ، وجروح لم تندمل بعد . قصص تنتمي للكتابة الصادمة، يعيش القارئ بين ثنايا سطورها، بين انسيابية كلماتها وجرأتها.

 إن مبدع هذا العمل بحق كاتب مهموم، متحرِّق، توشك أن تسمع أناته وخفقان قلبه في كل فكرة ينقدها وفي كل جملة قصيرة يسطرها، إنه عمل يستحق منا أكبر من وقفة.

اشتغل الكاتب على محكي متداول (المصائر) ، وتخييل مستمد من واقع المخيمات يتعرض المواطن خلالها لأبشع أنواع الاستلاب إنه النموذج الذي يخضع لسلطة القهر؟, 

القصص مشحونة بدلالات مهمة، أراد من ورائها الكاتب تمرير رسائل مشفرة، وتسجيل أدق التفاصيل عنها، 


رحلة في رواية/ رحلة إلى ذات امرأة




بقلم: زياد جيوسي 

    "رحلة الى ذات امرأة" هي الرواية الأولى للكاتبة الألقة صباح بشير وإن صدر لها كتاب مشترك مع الكاتب جميل السلحوت تحت عنوان "رسائل من القدس" إضافة لمقالات قراءات أدبية منذ سنوات عدة، والرواية من منشورات الشامل للنشر والتوزيع/ نابلس- فلسطين من273 صفحة من القطع المتوسط، لوحة الغلاف للفنان القدير جمال بدوان وقد عبرت اللوحة عن الرواية وعنوانها بشكل جيد، فعلى لوحة الغلاف الأولى امرأة ذات شعر منسدل حتى أسفل الظهر تسير حافية القدمين على الشاطئ الذي يحتوي القليل من العشب مرتدية ثوب أبيض، وأمامها الأفق والسماء والغيوم تنعكس عليها أشعة الشمس فتمنحها جمالا متميزا، وخلفها قفص طيور مفتوح برمزية لخروج المرأة من سجن المجتمع إلى فضاء الحرية، وفي السماء تحلق النوارس فوق الماء، بينما الغلاف الأخير كان عبارة عن وجهة نظر مختصرة بالرواية والكاتبة بقلم الكاتب الأستاذ محمود شقير وهو من أهم الأقلام الفلسطينية والتي لخص رأيه بآخر عبارة بقوله: "رحلة إلى ذات امرأة" رواية تفضح بؤس المجتمع الذكوري الذي يعيق تطورنا الاجتماعي، وتفضح في الوقت ذاته قمع المحتلين الذين يحتجزون أحلامنا، ولكن إلى حين". 


   نجد أنفسنا نقف أمام رواية اجتماعية بامتياز دارت حول أربعة محاور هي: 1- المحور الذكوري سواء من ناحية سلبية أو إيجابية  2- المحور النسائي ومعاناته من جانب وعدم الوعي بالسلوك من جانب آخر. 3- المحور المجتمعي العام والخاص. 4- محور الوطن وتأثيراته. 


   وضمن هذه المحاور المتداخلة في الرواية كما الحياة تمكنت الكاتبة بشكل عام من السيطرة على مفاهيم وقوانين السرد الروائي، فقد تمكنت في روايتها من موازاة الحياة المجتمعية هذه الموازاة التي وصلت إلى حد التطابق مع مشكلات اجتماعية يعاني منها المجتمع الفلسطيني، فهي من خلال تجسيد الموازاة بين خيال الكاتب وواقع الحياة تجعل القارئ يخرج من فكرة أنه يقرأ قصص من الخيال وتجعله يشعر أنه يقرأ قصص إجتماعية من واقع الحياة، قصص مليئة بالألم الذي ركزت عليه الكاتبة واستفاضت في وصفه، ونادرة الفرح ولا يتم الاشارة اليه إلا بإشارات عابرة وسريعة كما زواج ابنة حنين، ولكن أيضا نجد الكاتبة أتقنت في روايتها قانون التتابع وهو قانون مهم بالبناء الروائي من خلال متابعة شخوص الرواية الرئيسة والثانوية من لحظة تحديد المسرح الأول الرئيس للمكان الأول في القدس ثم المسرح الثاني للمكان في باريس فالمسرح الثالث الثانوي في لندن، فتتابعت أحداث الرواية بشكل متتابع للحدث في الأزمنة والأمكنة وليس على شكل الاسترجاع والاستعادة، إلا في البداية لتضيء على المسرح الأول وعلاقتها به منذ الطفولة المبكرة. 


   تمكنت الكاتبة بجدارة من وصف المسرح الأول بدقة وخاصة في لحظات البداية للرواية في القدس والتي لها مكانة خاصة في قلوب الجميع، مما يجعل القارئ أكثر اهتماما بمتابعة القراءة وعدم التوقف وخصوصا بعد أن ينتقل من المشهد الوصفي الأول بجماليته وعبق القدس فيه، لأحداث الانتفاضة الأولى وهو الزمان الأول للرواية ومن خلال حنان الراوية للرواية، التي أشارت بوضوح كيف أن الانتفاضة فجرت ثورة في مواجهة الاحتلال بدون خوف، وفي المقابل تعطلت الحياة والدراسة في المدارس وإن كان التعويض من خلال التدريس الشعبي كما تعطلت الجامعات حتى أن الراوية لم تتمكن من اكمال الدراسة إلا لاحقا وبعد سنوات، فالانتفاضة الفلسطينية الأولى كانت حدث مهم في القدس كما كل المناطق المحتلة، وعمليات القمع بالرصاص مقابل الحجارة بحيث تقول: "لماذا رأيت الحجر أقوى من البندقية يومها؟" كما اشارت لمفهوم المقاومة وقالت: "البعض يظن أن المقاومة في حمل السلاح، كم بسيط هذا التفكير"، وكيف تودع الأم ابنها الشهيد بالأهازيج. 


  لتنقلنا الى المشهد الوصفي للواقع والفضاء المجتمعي وإشكالاته، وتجول بالقارئ بالتأثيرات النفسية ودلالاتها لدى شخوص الرواية والتي تكمن خلف سلوكهم، ومن بعض ما أوردت الكاتبة في هذا المجال قانون العيب المتوارث الذي يحد من حياة الفتيات منذ الطفولة ولا يطبق على الأطفال الذكور، وما تحدثت به عن والدتها وكيفية التعامل مع أطفالها ضمن هذا القانون الذي يجعل البنت في قمقم خوفا من ألسنة الناس بعكس الولد المسموح له بالخروج واللعب مع أترابه، مستخدمة الأمثال الشعبية المتوراثة حول ذلك، اضافة للحديث عن الزواج التقليدي بدون أن يعرف الزوجين بعضهما وتأثيراته اللاحقة التي تدمر الأسرة حين يذوب الثلج ويظهر المرج، وكيف تعاني المرأة ان تزوجت وسحقها قطار الزواج وإن لم تتزوج سحقتها الألسنة بأنها عانس، وعن سيطرة بعض النساء على الأزواج والأبناء وسحق شخصياتهم، وكيف تسلم الفتاة القرار لأبيها بينما هو يسمح لها باتخاذ القرار، والانتباه لعيوب الآخرين والاغفال عن العيوب الذاتية بقول الراوية حنان: "هكذا نحن البشر، ننتبه لأخطاء غيرنا ولا ننتبه لأخطائنا" إضافة للإشارة من خلال بعض الشخصيات للعلاقة الطيبة بين سكان القدس بغض النظر عن الديانة اسلامية أو مسيحية، وتورد صديقتها ماري المسيحية الديانة لتشير للتعايش المسيحي والمسلم في القدس المستمر منذ أن تسلم الخليفة عمر مفاتيح القدس ورفض ان يصلي في كنيسة القيامة، حتى لا ينازعهم عليها أحد وصلى بالمكان الذي بني عليه مسجد عمر بجوار كنيسة القيامة.  


  هناك تناقض في شخصية الراوية وربما يعود ذلك لصغر سنها ومحدودية تجربتها في الحياة وطبيعة أسرتها المحافظة وخاصة الأم، فهي كانت تمتلك القرار بالزواج من عمر أو رفضه ولكنها تركت القرار لوالدها، وهي كانت تعرف أن عمر انسان تقليدي وغير واع وغير مثقف ولا تشعر تجاهه بمشاعر الود ولا الحب، ورغم ذلك لبست له ليلة الدخلة قميص نوم مثير باللون الأحمر بدلا من الابيض الذي نصحتها بها أمها، فهل قصدت الإثارة الجسدية له؟، وحين أثير وتهيج رفضته مما أدى لعملية اغتصاب تحت تأثير الهيجان الجسدي وقلة الوعي، فهو لم يستطع المقاومة أمام جمالها واثارتها له في الليلة الأولى، ويلاحظ أنها تحمل مسؤولية كل شيء لزوجها وأنه بوجه الحمل الوديع أمام الناس وعصبي جدا في بيته، متناسية أنها أصبحت زوجته شرعا وقانونا وتتهرب لعدة شهور من العلاقة الزوجية الخاصة، وفي المرات القليلة التي حصلت لم تشعره أن هناك أنثى في سريره، فكيف سيكون تعامله معها وخاصة بمستوى تفكيره؟ وبالنسبة لتدخلات أمه فالراوية تعرف مسبقا أن الأم مسيطرة على الزوج والابن من اللحظة الأولى فكيف كانت تتوقع موقف من زوجها وهو تحت سيطرة الأم؟ ولاحقا مزق لها كتبها وحرقها فهو يعتبر القراءة مضيعة للوقت. والمرأة بنظره مهمتها الطبخ والكنس والسرير والانجاب وخاصة للذكور. 


  وتحدثت عن رفض فكرة الطلاق بطلب من المرأة واعتباره عار يلحق بالمرأة وأسرتها رغم سوء الحياة الزوجية واضطهاد المرأة، وأشارت إلى الغيرة القاتلة بين بعض الأخوات، والقتل تحت شعار جرائم الشرف والتي هي أبعد ما تكون عن الشرف وعن الدين أيضا وتعلن رفضها لما يسمى شرف الأنثى وتعتبره وهم وخدعة، اسماء ابنة الجارة اصبحت أنموذج مهم من المعاناة الاجتماعية والتي احبت ولم تتزوج حبيبها وأجبرت على الزواج من كهل ولكنها حصلت على الطلاق بعد معاناة مع طليقها ومع والدها السكير، وتمردت على اهلها وقررت الزواج من حبيبها الأول ورفض اهلها فقتلها والدها حرقا حيث "فضّلوا تعذيبها وموتها حرقا على زواجها ممن تحبّ!" تحت حجة الشرف، وإن كان هذا التمرد مع السلوك والخروج الليلي متبرجة غريب عن مجتمع القدس المحافظ وخاصة في ظل الانتفاضة. 


   وأشارت بشكل  جيد إلى دور الأب المثقف الايجابي بدعم ابنته والوقوف إلى جانبها رغما عن موقف الأم المحافظ والتقليدي، ولكن في المقابل أهملت الاشارة لأي دور لشقيقها وإن اشارت لزوجته إشارات عابرة، علما أنه من المفروض أن الأخ هو السند الأكبر لأخته في الغالب،كما اشارت لانعدام الوعي بموضوع انجاب البنات بدون الذكور وتحميل المسؤولية للمرأة من قبل الزوج وأهله في موضوع انجاب البنات والرغبة بالأولاد ليس مسألة شاذة بمجتمعات فلسطين، فكيف حين يكون الزوج وأهله بلا علم ولا ثقافة؟ فمن الطبيعي ترداد الأمثال الشعبية المسيئة لانجاب البنات وللزوجات، وهذا كان يجب الانتباه له من الراوية، رغم انها بسبب ظروف الانتفاضة لم تكمل دراستها الجامعية إلا بعد سنوات ولكنها تمتلك ثقافة جيدة من خلال حبها للقراءة ووعي والدها وثقافته وكذلك الأم رغم تربيتها التقليدية. 


    ولفت نظري ترك الزوج لعمله ففي بداية الرواية وحين الخطوبة قالت الراوية ان عمر لا يعرف في الحياة سوى العمل ولا علاقة له بشيء آخر كالثقافة والموسيقى الخ.. فكيف أهمل عمله وأصبح بلا عمل يقضي وقته بلعب الورق والتسلية مع اخوانه وأصحابه ويرفض البحث عن عمل وهو يحتاج المال لمصروفه ولبيته وهو مدخن شره أيضا؟ بحيث أصبح يعتمد على مساعدات والد زوجته!! كما أشارت الرواية الى النظرة التي ما زالت قائمة عند الغالبية بأن الاولاد الذكور هم عزوة الأب وسنده ومشروع اقتصادي لجلب المال، ورفض الأزواج التقليديين فكرة تعلم الزوجة واعتبارها فقط خادمة في البيت ومتعة بالسرير حتى لو تم ذلك بالقوة التي تعتبر إغتصابا، والاستناد لأحاديث شريفة وآيات قرآنية مجتزأة بدون وعي لها، كما أشارت الراوية إلى الكثير من القضايا الاجتماعية المهمة بين ثنايا الصفحات، فكانت الرواية سلسة وواقعية وبلغة قوية ولكن سهلة ومن أحداث عرفنا بعضاً منها، فنرى أن الكاتبة عملت على ملء الفراغ بين هذه الحكايات لتصوغها بشكل روائي مستخدمة الخصائص التقنية للرواية بجدارة من خلال الأحداث التي مرت بها حنان الرواية للرواية وشخصيتها الرئيسة.  


   تمكنت الكاتبة بروايتها من اظهار الألوان المعتمة والمخفية في المجتمع المحلي ومنها الحب العذري بين حنان والشهيد خالد الذي استشهد في الانتفاضة فوأد الاحتلال قصة الحب قبل أن تتبرعم وتنمو، وتسليط الضوء على العديد من المشكلات الاجتماعية مثل ما يسمى بالعنوسة ورغبة بعض النساء اللواتي يعتبرهن المجتمع عوانس وهو تعبير رديء وسيء بالحصول على زوج حتى لو كان متزوجاً، ولجوء البعض منهن الى دفع الزوج المنشود لتطليق زوجته الأولى وتدمير أسرة تحت تأثير عوامل نفسية في السيطرة وتحقيق الرغبة، وتعدد الزوجات والطلاق ورفض المجتمع له حتى لو كانت الحياة الزوجية على حساب كرامة المرأة ومن خلال اضطهادها من قبل زوجها ومن حماتها أحيانا، أضافة لتسليط الضوء على الجهل المتفشي لدى العديد من أبناء المجتمع ذكور وأناث بعدم الوعي والتعلم والثقافة، فتثبت بعض النساء نفسها من خلال سرقة زوج امرأة أخرى، والذكر من خلال اضطهاد المرأة وكأن الرجولة هي كذلك. 


  وأوردت العديد من النماذج للنساء سواء سلبية أو ايجابية كما شخصية أم ابراهيم التي استشهد زوجها في حرب 1967 وهي شابة صغيرة، ولكنها صمدت وقاومت وربت ابناءها ومنهم الشهيد خالد الذي استشهد في الانتفاضة، لم تكن متعلمة ولكنها صمدت رغما عن كل الضغوط عليها وخاصة من كانوا ينظرون اليها أنها فريسة سهلة الصيد، وكيف حوربت حنان من أخواتها حين نالت الطلاق وكيف حاربها طليقها وأسرته بإطلاق الاشاعات عليها والمساس بشرفها حتى أصبحت زميلاتها في العمل ضدها وتم انهاء عملها رغم تفوقها فيه، فالمؤسسة والتي تعمل بها ومن المفترض أنها مؤسسة لحماية المرأة، تكون ممن تضطهد حنان وتفصلها بسبب هذه الشائعات المغرضة، مما أوقع حنان بالضيق المادي والوحدة في المجتمع فتقرر الهجرة إلى أوربا والعمل هناك لتحظى بحياة كريمة وتتمكن من تغطية مصاريف ابنتها في دراستها الجامعية وغربتها، وهذا ما يؤكد أنه في مجتمعنا المرأة هي عدو المرأة، وأن مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة بالمرأة قد فشلت بتحقيق اهدافها، وأن المعنيين فيها كان يهمهم الحصول على المال والدعم ولا يهمهم البرامج التوعوية؟ 


    هذه الهجرة التي تنقلنا إلى أوروبا وإلى فرنسا المسرح الثاني ونماذج من العرب هناك أو الأجانب، واختلاف الحياة والتعامل بين الناس ومع ذلك ظلت روحها محلقة بالوطن الذي غادرته فتقول: "مع كل مساء كنت أرى الوطن، لا أذكر أنني استلقيت يوما على الفراش دون أن أراه، أحمله في قلبي أينما حللت وارتحلت، بكل ما يحويه وبكل ما يملكه من ماض وتاريخ وحاضر" وتكمل الحديث عن القدس بالقول: "آه لو ترتدي الطريق إلى القدس روحها، وتشارك أبناءها الذين غادروها رغبتهم في إيجاد الدرب اليها، فتفيض بالدفء عليهم، وتقود خطاهم إليها حرصا على بقائهم وبقائها"، وفي هذه الفقرة تؤكد الكاتبة على ضرورة التمسك بالوطن والتجذر فيها، فمن أهداف الاحتلال تضييق الحياة على السكان لدفعهم للهجرة من الوطن عامة ومن القدس خاصة. 


   وفي هذه الغربة وفي مؤتمر انتدبت لتغطيته اعلاميا بحكم عملها تعرفت على د. نادر رجل الاعمال الذي أعجب بالراوية في المؤتمر وتعارفا وعرض عليها الزواج ووافقت بعد ان شرح لها حكايته مع طليقته التي تهمله ولا تهتم الا بالعبادة والصلاة!!، والسؤال هنا كيف وافقت الراوية فورا على الزواج؛ وهي صاحبة تجربة مريرة ومطلة بحكم عملها السابق على تجارب كثيرة بدون ان تعطي نفسها مهلة للتأكد من كلامه، متأثرة بكلامه المعسول ووسامته مكتفية انها شعرت بالصدق في عينيه؟ وقد عاشت معه العام الأول من الزواج وسافرت معه الى لندن أسبوعين حيث عاشت بسعادة كبيرة، ولم يكن يشوش العام الأول وسعادته سوى سهره الليالي مع أصدقائه وعودته ثملا وهي تتلهى عن ذلك بالعمل بالصحيفة الرقمية، وحين تعاتبه يبتلع العتب ويزيله بكل لطف ورقة، حتى اعترف لها أنه أفلس ماليا وسيسافر للكويت لأنه سيخسر البيت وكل شيء لصالح الرهن المصرفي، ويترك البيت تحت بند السفر ولا يرد على رسائلها ولا اتصالاتها لمدة أسبوعين تعيش فيها حالات من القلق والألم والتعب الصحي والنفسي، حتى تفاجأ من الشرطة أن نادر كسب ثروته من القمار وخسرها في القمار وأفلس وقتلته عصابة يدين لها بالمال وهي تظن أنه رجل أعمال كبير. 


   وتعتبر  الرواية من أجمل أنواع السرد النثري، وإن لم تكن معروفة في السابق بشكلها الحالي وعرفت في الغرب في وقت متأخر، وبدأت في المنطقة العربية بعد الترجمات للروايات الغربية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وعرفت الرواية بأشكالها المختلفة من السيرة الذاتية وصولا للرواية الغرامية والمجتمعية والسياسية والعقائدية والتوثيقية التاريخية، على شكل مجموعة من الأفكار والصور التي دارت في ذهن الكاتب وعبر عنها بالكتابة بأسلوب قصصي طويل وجميل، فتمكنت الكاتبة من ايراد شخصيات ثانوية بتأثيرات متعددة على الرواية وبأدوار مختلفة فمنها من له دور مهم ومنها عابر ولكن ليضفي على السرد الروائي جمالية وتصورات أخرى ولا يقصرها على الحدث المجتمعي بتناقضاته وقسوته، فنجحت الكاتبة بالحبكة القصصية والتنقل بين السرد والحوار والحديث مع النفس من خلال شخصية الراوية، والمفهوم البنيوي للراوية وهي الشخصية الرئيسة في الكتاب. 


   كما تفاعلت مع بناء الزمن الروائي بمفاهيمه النفسية والعلمية والطبيعية والدينية مميزة بين الزمن الروائي والزمن الخارجي للرواية، أضافة لاعتمادها قانون الإخبار والتطور وقوانين التطور المجتمعية من خلال نظام وأشكال ومظاهر السرد، ومن خلال السيطرة على العناصر في الرواية منذ العرض الأولى وصولا لمرحلة التأزم أو عقدة الرواية حتى الوصول للوضع النهائي، فنجحت الكاتبة بشخصية الراوية والموقع للشخوص والبناء الروائي والرؤيا التي تراها، فالرواية عبارة عن رسالة موجهة للمجتمع من خلال السرد، مركزة على الأبعاد الفكرية ومستوياتها لدى الشخوص ومدى تأثير المتوارث الاجتماعي عليهم، هذا الموروث الذي نراه يتغلب على الشرع وعلى القانون، مركزة أيضا على الجوانب العاطفية لدى شخوص الرواية سواء العاطفة البسيطة أو المركبة والمعقدة، ممتلكة شروط العمل الروائي من حيث وحدة الفكرة وتقنيات السرد والحوار بمستوياته اضافة للشروط الأخرى فتمكنت من خلق الحالة المنسجمة بين الكاتب والمتلقي. 


   من أصول الرواية كما اسلفت المكان والزمان وهنا كان مسرح الوطن وفرنسا ولندن كمسرح عابر، وأيضا الراوية حنان كشخصية رئيسة لم تترك المجال لشخصية أخرى أن تبرز بشكل موازٍ في الرواية بما فيها ماري صديقتها، اضافة لوجود العديد من الشخصيات الثانوية التي تراوحت أدوارها بين شخصية عابرة وشخصية مؤثرة، فنلاحظ اختفاء أي دور لشقيقها وهو الأخ الوحيد والمفترض أنه سند لها كما والدها، بينما زوجته وردت مرتين عبور عابر لم يترك اثرا، وشقيقتها هبة لم يكن لها دور سوى الحديث عن عقدها النفسية بإشارة عابرة بحيث لو غابت لم تترك أي أثر على السرد الروائي، والنساء اللواتي وردن في المقابلة كنماذج نسائية كانت مهمة ولكن جرى سلق الموضوع من خلال المقابلة والاستماع، وباقي الشخصيات الثانوية باستثناء شقيقتها غادة وطليقها عمر وزوجها نادر شعبان وصديقتها ماري وابنتها شروق والتي كانت فقط ابنة بدون دور أساس في الرواية، فكانت هناك شخصيات عابرة كانت الصدفة التي جمعتها بها وليس لها اثر كبير على الرواية وبعضها كانت نماذج نسائية من معاناة المرأة كوالدة الشهيد من زاوية وطنية وأسماء العاشقة المتمردة. 


    وفقت الكاتبة باختيار العنوان فالرواية تدور حول ما يدور في ذات المرأة فكانت الرحلة الى ذاتها، والتنويه في بداية الرواية أن الشخصيات خيالية حتى لو تطابقت مع الواقع، كان لا بد منه كون الكاتبة عملت فترة طويلة في مؤسسات المرأة وعرفت قصصا كثيرة فكان التنويه مهم حتى لا تتهم الكاتبة بالحديث عن أشخاص حقيقيين ويسبب لها اشكالات شخصية وقانونية، ويلاحظ أن الراوية بدأت بالحديث عن الانتفاضة الأولى والتي إنتهت باتفاقية اوسلو ومن بعدها تشكيل السلطة الفلسطينية، وأشارت لتأثيرات الانتفاضة ولكنها تجاهلت المرحلة اللاحقة تماما، رغم أن التأثير على الأرض الفلسطينية عامة وعلى القدس خاصة كان كبيرا، حيث تضاعفت عمليات هدم البيوت الفلسطينية، والاستيلاء على غيرها كما في الشيخ جراح وتضاعف حملة الاستيطان والاعتداء على الأقصى الشريف في محاولات قوية لتهويد القدس والسيطرة على مقدساتها، وربما كان هذا التجاهل مرده رغبة الكاتبة بإبقاء الرواية في إطار المشكلات الإجتماعية وعدم التوسع بمسائل سياسية وغيرها. 


   وفي ظل الظروف التي تعرضت لها بمقتل زوجها كان قرار العودة للوطن هو القرار الجميل كخاتمة للرواية مع الأمل ببدء حياة جديدة تتجاوز المراحل السوداوية السابقة فتقول: "فجأة تناهت إلى مسمعي أصوات مناجاة تنبعث من كل مكان، تتسرب إلى نفسي الثكلى وتناديني من بعيد: أيها الفلسطيني.. تعال وانزع غربتك الملطخة بأوجاع الحياة، تأكد من نبضات مدينتك ولا تغادرها، فهي تتألم بصمت، وتشعر بفقدان أبنائها كلما طال غيابهم عنها"، وتنهي روايتها بالقول: "أغلقت أبواب قلبي بإحكام وفتحت أبواب العقل على مصراعيها"، وأنهي حديثي عن الرواية بالقول أنني قد تشرفت من قبل الكاتبة الألقة صباح بشير أن أحظى بشرف تقديم روايتها الأولى التي قرأتها مرتين وهي مشروع رواية قبل الإصدار وباستمتاع وشغف، فأهمس للكاتبة صباح بشير: سعدت بقراءة روايتك والتقديم لها فقد وجدت الرواية وقعا كبيرا على روحي، فمبارك من القلب والأمنيات بمزيد من الألق. 


تأملات في ديوان "وصايا العاشق" للشاعر نمر سعدي

 


بقلم: محمد  علي الرباوي / شاعر وناقد من المغرب


1

     هذه تأملات في عمل شعري للشاعر نمر سعدي، وليست دراسة نقدية. التأمل "استغراق ذهني، أو حالة يستسلم فيها الإنسانُ لما يَمُرُّ في خاطره من معان وأفكار...". ذلك بأن طبيعة وصايا العاشق هي التي أملت عليَّ أن أختار التأمل خاصة وأن أشجار العمر تقترب في خطوها من التمانين خريفا؛ لهذا لن يجد القارئ الكريم تتبعا دقيقا للمكونات الجمالية لهذا الديوان، ولن يجد تحليلا لأشعاره الجميلة. وقد رَكَّزَتْ هذه التأملاتُ على العنوان أساسا، ومنه انطلقت إلى القصائد عبر الإيقاع، وعبر تجليات بعض النصوص الغائبة. 


2

     ابتدأت علاقتي بالشعر العربي الفلسطيني مع الشاعر إبراهيم طوقان، ثم مع جيل محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، ومعين بسيسو، وعز الدين المناصرة... كان شعر هذا الجيل، في أواخر سنوات الستين، وطيلة سنوات السبعين، شعرا ثوريا تَغْلُب على أكثره اللغةُ المباشرة التي رَحَّبَ بها النقدُ الأيديولوجيُّ أيما ترحيب، وكانت قصيدة درويش، سجل أنا عربي، خير نموذج معبر عن ذوق تلك المرحلة. ثم جاء جيل أحمد دحبور  محاولا الارتقاء بهذه اللغة إلى الشعر بدل الصراخ.

     هذة الأسماء القوية التي ذكرتُ، حجبت عن القارئ العربي شعراء فلسطينيين آخرين قد يكون شعرهم في مستوى كثير من شعر هؤلاء الأعلام. وهذا حجب عني أيضا التعرف على الأصوات الجديدة التي هجر الكثيرُ منها القصيدةَـ والقصيدة الحرةَ؛ إذ وجدوا،  ككثير من الشعراء العرب  الجدد، في قصيدة النثر الشكلَ الشعري القادرَ على احتضان همومهم التي تشكلت مع سنوات التسعين، من القرن الماضي.

     نمر سعدي واحد من الأصوات الفلسطينية التي تسلمت نارَ الشعر من الأجيال السابقة، وخاصة جيل محمود درويش. تعرفتُ إلى شعره، في بعض المواقع الإلكترونية. واقتربت من جمره المحرق الجميل، من خلال ديوانه "وصايا العاشق"، ومن خلال هذا العمل تولدت هذه التأملات:

     أول ما لفت انتباهي في هذا الديون وجودُ ثلاثة أشكال من الشعر العربي قلما تجتمع في دواوين الشعراء المعاصرين. هذه الأشكال هي: القصيدة، والقصيدة الحرة، وقصيدة النثر. وعادة ما تتكئ لغةُ القصيدة، في مجملها، على اللغة التراتية. في حين تنفتح القصيدة الحرةُ، في أحسن نماذجها، على اللغة الحداثية. فيصبح للشاعر من خلال ممارسته هذين الشكلين وجهان مختلفان. ولعل نزار قباني أبرزُ الشعراء العرب الذين مارسوا الكتابة بالشكلين بوجه واحد. والشاعر نمر سعدي، في هذا، سار في ركاب شاعر المرأة. فقد أدرك أن كتابة قصيدة بروح قديمة تُذَكِّر بالفحول السابقين، لا يدفع بالشعرية العربية إلى الحياة. ولهذا وَحَّد بنجاح، لغة أشكاله الشعرية، وأثبت من خلال هذا أن الشكل الأول ما يزال صالحا، وقادرا على التعبير عن رؤانا المعاصرة.

3

     تشتمل هذه المجموعة على خمسة قصائد متفاوتة الطول. وتحمل القصيدةُ الرابعة عنوان "وصايا العاشق". وقد أخذ الشاعر هذا العنوان، وجعلَه عنوانا كبيرا لهذه المجموعة. وسنقف عند هذا العنوان من حيث لغتُه، ومن حيث تركيبُه، ومن حيث وزنه.. 

      - اللغة: 

   1- يتألف هذا العنوان من كلمتين: (وصايا) و (العاشق). الكلمة الأولى جَمْعٌ لكلمة (وصية). وهي ما يَهَبُهُ الإنسان، وهو حي، إلى إنسان آخر، أو إلى جهة ما، على أن يتم تنفيذ هذه الوصية بعد وفاته. ولكن الشاعر لم يَرْض بالمفرد، فاختار الجمع، مفضلا (وصايا) على (وَصِيّات)؛ لكثرة استعماله، ودورانها. ولكونها أيضا تفوح من ينابعه روائح زكية من القداسة الدينية: (وصايا الرسول، وصايا لقمان لابنه، وصايا الملوك، وصايا الآباء لأبنائهم خاصة...). لكن من هو الواصي في هذه المجموعة؟ ومن هو الوَصِيّ؟. قد نميل بسرعة إلى اعتبار الشاعر هو الواصي، ولكن الْمُوصَى له لا نعرفه. ونحتاج إلى تصفح النصوص؛ لعل اسمه يبرز بين الكلمات. وفعلا تصفحنا هذا العمل الشعري قصيدة قصيدة، وبيتا بيتا، ولم ينكشف لنا  هذا الموصى له. أهي الأنثى التى تحضر بقوة في أناشيد الديوان؟ ومن تكون هذه الأنثى؟ من تكون هذه الحبيبة؟ أهي الأرض؟ أهي الوطن؟ لماذا أخفى الشاعر عنا حقيقة المخاطبة في النص؛ أي الموصَى لها؟ وأخفى عنا أيضا مضمون الوصية؟ وبهذا الإخفاء تحقق الشعرُ. حيث يدنيك، عند القراءة،  من المرغوب، لكن ما إن تقترب من الإمساك به حتى يبتعد عنك، وتبقى تطارده في مجاهل صحراء تُغري بالبقاء في سمائها الصافية الغامضة.

     2- (العاشق): اسم فاعل من فِعْل عَشِق. والعشق إفراطٌ في محبة المحبوب، هذا العشق الجارف الذي ملأ  قلب الشاعر / العاشق، هو من أملى عليه أن يترك له وصاياه؛ لأنه يواجه من أجل محبوبه مكابداتٍ قد تنقله في أي لحظة من لحظات حياته إلى دار البقاء، وكأني به عنترة الذي حملَه عشقه إلى تقبيل السيوف، وهو في ساحة الوغى، يحارب عدوه ؛ لأنها لمعتْ كبارق ثَغْرِ حبيبته المتبسم. 

     - التركيب:

     يتألف هذا العنوان من مُسْنَدٍ، ومسند إليه. لكن لم يظهر من العنوان سوى المسند. أما المسند إليه فغائب. وغيابه هو الذي ساهم في كوننا لم نتعرف على مضمون الوصايا. نحن إذن أمام جملة إسمية فقدت أحد ركنيها. إن هذا المسند إليه، رغم غيابه، قابل للحضور بالصيغة التي نريد؛ لهذا، رغم الغياب، ورغم الفقد، فالمعنى متحقَّق، والحياة قائمة.

     - الوزن

     تصدر العنوانَ تفعيلةٌ تتألف من ثلاثة مقاطع: مقطعان طويلان يتصدرهما مقطع قصير.  هذه التفعيلة تحتل جسدها كلمةٌ واحدة، هي (وصايا). هل يعني هذا أن الشاعر أراد أن يكون عنوانه موزونا؟  على أي بحر؟ أهو الطويل؟ أهو المتقارب؟ أو الوافر؟ لو أراد المتقارب، أو الطويل لاستعمل (المحب) بدل (العاشق) الذي يتألف من مقطعين طويلين يتوسطهما مقطع قصير. فالعاشق إذن كلمة تحمل وحدة وزنية  تبدو مقلوبة الوحدة الوزنية للوصايا. لكن وحدة الوصايا هي الأصل، ووحدة العاشق هي التابعة. لكن الشاعر أرادها حية لتستقبل وصاياه. إذن بقي أمامنا الوافر. هذا الوافر تفعيلته الثانية فقدت  مقطعين طويلين، أو فقدت مقطعين قصيرين، فمقطعا طويلا، ولا تتحقق ملامح الوافر إلا بمعالجة هذا الفقد. كأن نقول مثلا (وصايا العاشق الحرِّ) أو... ولكن الفقد مع ذلك يبقى حاضرا؛ لأن هذه الجملة الوزنية بحاجة إلى قسيم في وزنها ليتشكل البيتُ. 

4

     يتفق التركيب اللغوي والعروضي على وجود حالة من الفقد، وهذا سينتشر صداه في نصوص الديوان كما سيتضح في الآتي:

     يقوم التركيب اللغوي، والعروضي على عنصرين اثنين: المضاف والمضاف إليه/المتقارب والمتدارك. العنصران في التركيب يعطيان المعنى، رغم غياب المسند إليه الذي ظلت هُويته في ذهن الباث، والعنصران العروضيان يتحقق بهما دائرة المتَّفِق. والدائرة رمز  للحياة.

        نحن إذن بهذه القراءة للعنوان نكتشف أننا أمام زوجين بهما تتحقق الحياة: 

        مضاف/مضاف إليه

        فعولن/ فاعلن

       البيت المنتظم/البيت الحر/

      الموزون/غير الموزون/

      الوضوح/ الغموض/

      الإفصاح بالغائب/ إخفاء الغائب ........

      ومن خلال هذه الزوجية تبدو لنا ملامح المعشوقة التي كانت الوصايا لها. وسنقتصر على الزوجية الثانية والزوجية الأخيرة: 

     -: فعولن فاعلن

     نحن أمام عنصرين عروضيين لا يجتمعان في العروض العربي؛ ولهذا اعتبرنا هذا التركيب الوزني مقدمة للوافر، واعتبرنا أن هذا الوافر يشكو من فقد أجزاء منه ليتحقق البيت. هذا الفقد يتجلى واضحا في خَرْمِ كثير من أبياب نصوص هذه المجموعة. 

     لننظر مثلا في النص التالي :

 (السُّنْبُلاتُ الخُضْرُ في صدري

ونهر  زنابق حمراء في يدك التي تهتاج في البلور 

يا لبراءة العصفور في جسدي

ويا لقواي حين كدمعة تنهار فوق رخامك

المعذب بالندى والطين)

        هذا النص على الكامل، وزعه الشاعر على خمسة أسطر. ينتهي السطر الأول بتفعيلة ناقصة، جعلتنا نربط السطر بالكامل الأحذ. وحَذَّ الشيءُ انقطع آخرُه، وحَذَّ اللحمَ قطعها بسرعة. وفي العروض الحذذ هو حذف الوتد من آخر التفعيلة. إذن فنحن في عروض هذا البيت أمام فقد آخر.

     السطر الثاني على الوافر، لكن هذا الوافرَ فقد شيئا من أوله، وهو فقد يبيحه العروضُ، إذ أعطاه اسم الخرم. إذن نحن دائما أمام (الفقد) الحاضر في باقي الأسطر. 

     لماذا إلحاح الشاعر نمر سعدي على هذا الفقد الذي دَلَّ عليه أولا عنوانُ المجموعة تركيبا، وعروضا؟ إن هذا تعبير عميق عن نفسية الشاعر الفلسطينيِّ. كلُّ أسرة من أسر أهل فلسطين فقدت العديد من أبنائها، وفقدت، إلى جانب هذا، جزءا من أرضها التي استوطنها العدو الغاشم. فَدَبَّ الإحساس بالفقد إلى الشعر في تعبير خفي جميل. لكن الشاعر، ككل أبناء فلسطين، يعيش على أمل العودة. ولَمِّ الشمل بالأرض، وبالأهل. فجاء الخرم في هذا المقطع قابلا للجبر. فإذا ربطبنا السطر الأول بالسطر الثاني اختفى الحَذَذُ،  وغاب الخرم. وبهذا نلحظ أن أسطر هذا المقطع مترابطة فيما بينها، مشكلة بيتا طويلا على الكامل، فالكامل وَحَّد هذه الأسطر، كما وَحَّدَ الأملُ الكاملُ قلوبَ الفلسطينيين.

     الغريب أن القصيدة الحرة الأولى التي أخذنا منها هذا المقطع، موزعة على أربعين مقطعا. لكل مقطع رقم. وقد سَلِمَ المقطعُ الأولُ من الخرم، لكن المقاطع الأخرى لَحِقَ أولَ كل مقطع من المقاطع الباقية. وحين نستعين بالعروض نكتشف أن الخرمَ هنا يُجبر بربط المقاطع في ما بينها؛ لتصبح المقاطع المتفرقة في الظاهر جسدا واحدا. وهذا يؤكد دائما أن في لاوعي الشاعر يسكن حلمُ الوحدة، وحلم العودة إلى الأرض، وإلى الأهل. 

5

     الإخفاء والإفصاح: هذه الزوجية حاضرة على مستويات عديدة في هذه المجموعة الشعرية، فالأنثى التي يخاطبها الشاعر في نصه الأول، وفي باقي النصوص، لا ندري أهي امرأة؟ أهي أرض؟ ولكن من خلال الزوجية الأولى يتبين لنا أن (فلسطين) هي المخاطبة. لكن الشاعر فَضَّلَ أن يكون ضمير المخاطبة مبهما، وهذا ما يتطلبه الشعر الحق. وقد زرع في النص علامات عديدة تشير إلى كنه المخاطبةـ وهذا سيزكيه ما يأتي:

1      النص الغائب بين الإخفاء والتجلي

     لم يقتصر الشاعر على اللغة الصناعية في شعره؛ لأنه مولع بإخفاء الدلالة إخفاء بلاغية، فاستعار اللغة الثقافية، باعتبارها مكملةً للغة الصناعية. هذه اللغة الثقافية أسميناها في هذا المقام النص الغائب. هذا النص ساهمت استعارتُه بنجاحٍ على جعل القصيدة تكتسي عمقا يسمح بتعدد القراءة.

     جاء هذا النص الغائب، في هذا الديوان، على مستويين: مستوى التجلي ومستوى الإخفاء. 

المستوى الأول:

     يُصَرِّح الشاعر، في هذا المستوى، بأوراق الغائب/الحاضر، وقد يربك هذا التصريحُ القارئَ، خاصة إذا لم يكن ذا ثقافة واسعة، فيضطر إلى ترك النص؛ للخروج منه إلى منابعَ تُنير له المستعار. ومن أمثلة هذا: أنكيدو، وشمشون، وأورفيوس، ويهوذى، ورقصة سالومي، وديك الجن، وعشتار، وتروبادور، والنرفانا، وكافكا، والهوملس، وإرمياء، ورامبو، وإريكا، وTed Hughes ونرسيس، وتبريز، وامرؤ القيس (...). هذه الاستعارات التي قد يغيب أكثرُها على القارئ، تخدم المعنى: (أنكيدو  شخصية أسطورية في بلاد ما بين النهرين/ شمشون من شخصيات العهد القديم القوة الهائلة /أرفيوس بطل أسطوري من الأبطال الخارقين/ يهوذا هو التلميذ الذي خان  يسوع وسلمه لليهود بمقابل/الهوملس= الشريد، المهجر، المتشرد Homeless/  إرمياء أحد أنبياء بني إسرائيل / نرسيس الجميل إسطورة إغريقية / إريكا مدينة ساحلية شمال شيلي / السمندل / لوركا / إلزا / قابيل / إرم /...الخ

     أغلب هذه الاستعارات مرتبط بفلسطين، مما يؤكد أن الأنثى، في أغلب النصوص هي حيفا/ هي فلسطين.

     المستوى الثاني: مستوى الإخفاء 

     وأنا أرى أن هذا المستوى هو الأرقى في الشعر عامة، ذلك بأن المستوى الأول كان يغلب على شعر بدر شاكر السياب، والثاني كان يغلب على شعر صلاح عبد الصبور، في هذا المستوى تختبئ الاستعارة وراء اللغة، ولا تُشكل حاجزا أمام المتلقي؛ للاقتراب من المعنى. ذلك بأن القارئ العادي سيكتفي بالظاهر من النص؛ ليقبض على المعنى في درجته الدنيا. أما إذا أدرك ما وراءه فإن النص سيبيح له بأغلب أسراره.

     لنقرأ هذه النصوص التالية:

1 فقلتُ لها لا تبكِ عينكِ إنما نحاول حبا أو نموت فنعذرا

2 فهذا الملك الضِّلِّيل

3 يصيبني ضجر من المدن الحديثة والبحار 

 4 واعطني قلبا لكي أنسى

   وأذهبَ في طريق البحرِ

     يحضر في هذه النصوص الشاعرُ امرؤُ القيس حضورا مختفيا، عبر علامات تدل عليه. وعلى القارئ أن يمسك بها. وقبل أن نتحدث عن هذه العلامات، لا بد أن نشير إلى أن الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة  هو، في تقديرنا، أول من استعار قناع الشاعر الضليل داخل الديوان الفلسطيني، وذلك في أحد ديوانيه (الخروج من البحر الميت) و(يا عنب ياخليل)، مركزا على خروج امرئ القيس إلى أرض الروم. فَقَدْ فَقَدَ امرؤ القيس ملكه، بعد اغتيال أبيه. وتنفيدا لوصية هذا الأب، طاف بين القبائل العربية، وديارها. ولما لم يجد النصرة منهم، راح إلى بلاد الروم في سبيل الدعوة إلى قضيته، لكنه توفي وهو في طريق العودة . وهذه الحال التي كان عليها امرؤ القيس هي الحال نفسها التي يعيشها الفلسطيني.

        وذكرنا الشاعر عز الدين المناصرة لا يعني بالضرورة تأثرَ الشاعر نمر سعدي به؛ لأن تاريخ امرئ القيس مشاع لكل الشعراء. المهم هو هل أحسن الشاعر استثمار هذا التاريخ.

     حين نتتبع سيرة امرئ القيس ورحلته نكتشف أنها، كما سبق أن قلنا، تتطابق ورحلات الفلسطيني بحثا عن السند. ففي النص (1) و(2) حضور امرئ القيس تحت اسم الملك الضِّلِّيل،  وجاء حضوره من خلال رائيته الشهيرة:

بَكَى صَاحِبِي  لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَنَا 

وَأَيْقَنَ أَنَّا لاحٍقَانِ بِقَيْصَرَا  

فَقُلْتُ لَهُ لا تَبْكِ عَيْنَكَ إِنَّمَا 

نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوت فَنُعذرا

     استعار الشاعر نمر البيت الثاني من الرائية؛ لأن هذا البيت يشعر القارئ بأن الشاعر يتحدث باسم كل فلسطيني مقيم بفلسطين، أو مشرد في بلاد العالم. لكن امرأ القيس هاجر؛ من أجل استرجاع الملك الذي ضاع منه، لكن الشاعر نمر سعد (أو الإنسان الفلسطيني)، في هجرته، يحاول استرجاع الحب الذي فقده.

     النصان (3) و (4) لا يفصحان عن وجود الملك الضِّلِّيل؛ لأن الرحلة فيهما ارتبطت بالسندباد. لكن المشترك بين الشخصيتين هو: الرحلة / البحار / الأهوال المصاحبة للرحلة. وبهذا يتشابك القناعان؛ ليشكلا قناعا واحدا تحدث من خلاله الشاعر نمر سعدي.

     لننظر في النصوص التالية:

1 كَيْ أَصِفَ اخْتِلاجي مَرَّةً

أَوْ أَقْصُصَ الرُّؤْيَا عَلى أَحَدٍ سِوايَ

فَلا يُصَدِّقُ مَا جَنَتْهُ يَدايَ مِنْ طَلْعِ الْغُبار

2 لا تَقْوَى عَلَيْكِ أَصابِعُ الْجَمْرِ

التي قُدت من الإسفلتِ

3 وَانْسَحَبْتِ كَظَبْيَةِ النُّورِ الصَّغيرةِ مِنْ مَخالِبهمْ تَمائمُ عطركِ لوعتٍ الذئابَ فلا تَزالُ هناك من آثامها تعوي

4 قُدت خمرةٌ حمراءُ من حَجَر لتشرخَ جسمَ مرآةِ الزمان اللولبية

5 وَالرؤيا ستُحرقني إذا كذَّبتُ

6 مُرّي كي أَقُد بمقلتيَّ قميصَ أحلامك

7 قَدَدْنَ من الخَلْف قمصانَه

8 يُلقي قميص الثرى في وجه مغتربِ

9 كان نرسيسُ أصغر إخوتهِ  

كان أجملَهم في قرارة قلب أبيهِ

وكانوا يحبونه حين تأوي الفراشاتُ

ليلا إلى ورد عينيهِ (...)

     يحضر في هذه النصوص النبيُّ يوسف عليه السلام، حيث نجح الشاعرُ في جعله قناعا له، ولكل فلسطيني يؤمن بأن الغائبَ عن بلده لابد سيعود، كما حدث لهذا النبي.  وأن الحزين سيفرح كما فرح النبي يعقوب الذي حمل القميصُ إليه ريحَ ابنه.   وأن الكرب سيُرْفَع كما رُفع عن يوسف. وأن بعد العسر يسرأ كما جاء في القرآن الكريم. لكن حضر بهذه النصوص شخصيةٌ من أساطير اليونان وهو نرسيس، فما علاقة نرسيس بيوسف؟ 

     من خلال النص نكتشف أن الشاعر استعار علامات تخص النبي، ثم بنى عليها شخصية نرسيس الذي يتصف بالجمال. وهي صفة تخص أيضا يوسف عليه السلام. وهذا واضح من قول صواحب امرأة العزيز ( ما هذا بشرا). وحَدَّثَنا الشاعر أن نرسيس أجملُ إخوته، كما كان النبي. وهذا يجعلنا نقول إن الشاعر نمر جعل من قناعي  يوسف ونرسيس قناعا واحدا، كما فعل مع امرئ القيس والسندباد.

     ما علاقة هذا القناع بالشاعر أو بالفلسطيني؟

   رأى يوسف عليه السلام في المنام وهو صغير رؤيا. قَصَّ رؤياه على والده الذي فهم رموز مارأى ابنه. هذه الرؤيا تُبَشِّر صاحبَها بالوصول إلى الملك، بعد مكابدات سببها غدرُ الإخوة، حيث  التعرض للسجن، و لإغراء المرأة. كل هذا ينطبق على الفلسطيني الذي يحلم بالعودة إلى وطنه، والذي حطت على كلكله مكابداتٌ  جراء غدر الأحبة، وغدر الجيران، والأقارب.

     وفي النصوص السابقة علامات أخرى كقميص الغواية، وقميص إرجاع البصر ليعقوب عليه السلام

   يضاف إلى شخصية يوسف شخصية أخرى مكملة للتاريخ الفلسطيني وهي موسى عليه السلام:

وتَهْوي في جحيمكِ.. 

عُشبةٌ في الماءِ قلبي

ليسَ تعصمها الهشاشةُ من نجومكِ.


6

      1- تبين من خلال هذه التأملات، أن هذه المجموعة الشعرية، تنطوي على بنية عميقة وذات بعد تراجيدي، وهي بنية الفقد التي تجلت أولا في العنوان على مستوى لغته، وتركيبه، وعلى مستوى وزنه. وتجلت البنية نفسها في النصوص الشعرية.

     2- ظاهرُ الديوان مضلل. فحضور الأنثى في أشعاره يدفع إلى الاعتقاد بأننا أمام غزل في امرأة ما، لكنَّ تأملنا في العنوان، وفي النصوص، بَيَّن أن بنية أخرى  تختفي خلف النصوص الغائبة؛ إنها بنية الوطن/فلسطين. وبهذا يكون الشاعر قد خص فلسطين بهذا العمل الشعري الجميل دون صراخ. 

***