مقاربة نقدية في رواية ( الشتات ) لمجدي جعفر

 


بقلم / بهاء الصالحي

................................


جاءت رواية الشتات لمجدي جعفر وهو روائي يمتلك أدواته وصاحب خبرة ولكن أن يأتي ذلك العمل في اطار مشروع خاص به تحت رعاية  نادي القصة سلسله الكتاب الفضي فذلك انر يستحق، وقد جاءت تلك الرواية كجزء ثاني من رواية (على شفا حفرة ) وهنا يكون السؤال المدخل للرواية ما هي الإضافة على مستوى النمط وعلى مستوى تركيبه العمل الروائي؟ علما بأن الرواية تتماسك مع رواية الأجيال التي أسس لها عبد الحميد جوده  السحار ونجيب محفوظ وفيهما يتداخل البناء الفني والأحداث الواقعية وبذلك يتفاعل المعرفي مع الشكلي، وذلك بحكم الحبكة الدرامية وأولية العمل على مستوى الريادة وبالتالي جاءت الثلاثية لرصد نماذج واقعيه تعكس التاريخ الاجتماعي لمصر وذلك بحكم المشروع الاجتماعي الذي أرق نجيب محفوظ وقت ذاك كنمط دفاعي وموقف سياسي مبطن تجاه الواقع الاجتماعي ما بعد 52 وبذلك جاءت الثلاثية ردا روائيا ودفاعا نفسيا عن ما قبلها والذي شكل وجدان الروائي وهو نجيب محفوظ.

ولكننا هنا بصدد تطور تقني وهي مغامرة حيث يكون البطل هو الواقع مع ذكاء الخاص  في خلق معادل موضوعي من خلال الشخصيات التي تجسد التيارات الاجتماعية حيث يكون النمط هو الأساس شريطة أن تكون الشخصية المعادلة للنمط قادرة على التمثل النفسي له وبذلك تكون اللغة الفنية موضع احترام، حيث التناوب ما بين الايجاز والاطناب بالنسبة للشخصية الواحدة خلال العمل نفسه، وكذلك صلاحية الأنماط لتماثل الثنائية الروائية حيث فكرة الصراع ما بين الخير والشر مع تباين درجاته وبذلك يصبح الواقع المتجدد هو البطل من خلال تطور الشخصيات من خلال  التكيف مع كل مرحلة، على أن تجد صدى الواقع خلال تلك الأحداث وذلك التغلغل في مفهوم المعرفي مع حرفية الخاص في امتلاكه لأدواته الإبداعية.

التناوب في الأحداث والمتمحورة حول قيم ثابتة تفيد حركتها في الإجابة عن سؤال محدد: لماذا تغير وجه الحياه في مصر؟ وما هي أسباب ذلك التغير؟ ولعل التأطير الزمني للرواية في بدايات القرن العشرين حيث مصير نوال بعد تطليقها واختفاء زوجها عصمت، هذا التمهيد والخيط الفاصل ما بين التخطيط لأجزاء الرواية كنوع من التغريب المقصود من الكاتب حيث لا يدع القارئ يستسلم لفكره فتنة السرد حيث قدرة السبك المصاحبة للحدوتة وهنا يقدم القاص مستويان من الوعي متجاوران:


نوال الصحفية في باريس وزوجها الفنان التشكيلي وكذلك مراد منير الاشتراكي ومريده محمد ابن هلال ابو حديده هنا الرهان على فكرة الوعي كصورة مكتملة، ثم يردنا القاص لمستوى آخر من الوعي النابع من ذلك التناقض الكامل في بنية الحياة الريفية من خلال عائلة العايق والتغيرات الكامنة من داخلها من خلال التحول في شخصية باسل من شخص مستهتر إلى مشروع زعيم يدعمه عمه عبده بك العايق الذي يمثل المثقف المحبط ولكنه يمتلك وعيه وقت الأزمه بدليل موقفه في ختام الرواية ممن  قتل مدحت بيك العايق.

تناقض آل العايق أنفسهم من خلال تحفظ باسل على بناء كنيسة في كفر العايق وهو أمر متوافق مع موقف سعدون ذلك العاجز الذي أدار العالم السفلي من خلال الاستعانه بأم الفقرية زائد سكسكة، هنا الإشارة لبذرة التعصب في بنية آل العايق وكذلك سعدون وأتباعه حيث يوافق ذلك تحفظ باسل لنصل في النهاية، لمقتل مدحت بيك العايق رمز التنوير، وبالتالي توافق نهاية الباب الأول مع الباب الثاني وذلك نوعا من الربط المنطقي وفقا لوحدة الهدف داخل عقل المبدع وذلك تأسيسا على أن العمل الروائي يتجاوز فكرة الحدوتة ليصل إلى مرحلة الحوار العقلي مع القارئ من خلال الشخصيات المرسومة بعناية حتى يتماهى معها القارئ لتبادل الوجود الصوري في الرواية مع الوجود المحقق من خلال الفكرة الموحدة المحركة للقارئ والمبدع، مع الفارق هنا أن نهاية حركة التنوير الأولى غير محسومة بينما حسمت وسط جو من الإبهام في الجزء الثاني من الرواية وبذلك اتفقت النهاية المضمرة في عقل ووجدان باسل وكذلك سعدون ليؤكد القاص على تاريخية فكرة التعصب لارتباطها بفكرة الازمة وليست فكرة التدين هنا الشكلية في وعي الطبقات الأقل حتى في وعيها وتوظيفها الدين في اتجاه المصلحة حيث الربط ما بين جرجس كمنافس لسعدون تجاريا وبالتالي ضرورة تشويه صورته لاستبعاده اجتماعيا.

= بناء الشخصيات من خلال تعدد الوجوه المعبرة عن حقيقة وقيمة معينة والدليل الأبرز على ذلك تجسيد فكرة المصلحة والتغذي على دماء الآخرين في شخصية سعدون الذي تتجاذبه ألامه وعجزه الشخصي ونجد صدى تلك الالام وذلك العجز الشخصي في استغلاله لأم الفقرية زائد سكسكه كأدوات للإفساد الاجتماعي، هنا تبقى فكرة تجسيد الشخصية وكونها مرآه للتطور الاجتماعي فعلى سبيل المثال تحول سكسكة من فاعل لجريمة قوم لوط إلى صاحب مقهى حيث يبيع المزاج وكلاهما يستمد الفائض من نقود الفقراء سواء بجسده الدنس أم بما يقدمه من مسكرات .

= تداخل طبقات السرد ما بين الجزئين في شخصياتهم ولكن الخط العام للسرد في مصر بعد موجة الروايات التاريخية كنوع من الرفاهية السردية فتأتي الرواية في عدد من الصفحات يتجاوز ال 400 صفحه وهو نوع من الأزمه في مسار الرواية العربية وذلك لأن المعرفي الخاص بالفترات التاريخية أصبحا متاحا وبالتالي يأتي في الروايات نوعا من الحشو إلا أن التخييل وادخال شخصيات تؤكد على فكرة اللو التاريخية،  وهنا المعرفي يعد نوعا من المأزق في اللغة الفنية الخاصة بالرواية المصرية الحديثة، ولكن روايتنا هنا لا تراهن على التاريخ بقدر ما تراهن على المردود الاجتماعي على الأحداث التاريخية وليس الحدث التاريخي في حد ذاته، ومن هنا نقترح طالما نتحدث عن مشروع روائي تقليل نسبه الحوار ما بين مدحت وعبده العايق حول دور مصطفى كامل ومحمد فريد ومن المقترح استبطان التاريخ غير المعروف في الثورات خاصه الجهاز السري مثلا على سبيل المثال في ثوره 19 والذي لم يلقي عليه الضوء سوى مصطفى أمين.

= بناء شخصيه المرأه عبر الرواية حيث توارت الشخصية الإيجابية مع انهيار نوال بعد التفريق القسري وكذلك التوسع في شخصيات العوالم خاصه ارتباط عبده بك بزوبا وتحويل زوبا لضحيه المدنية التي جاء بها الانجليز لمصر والمؤدية في النهاية للانتحار الأخلاقي والجديد هنا خلق العالمة الأيقونة حيث وفاء عبده بك لزوبة تلك الضحية المزدوجة للمدنية الإنجليزية وللمعلمة لواحظ.

يبقى التحدي الاكبر لمجدي جعفر في مشروع الروائي هذا أنه جاء ليعبر عن واقع الريف خاصه وأن نجيب محفوظ قد عبر عن واقع المدينة بما فيه الكفاية خاصه في الثلاثية وزقاق المدق، وهنا في المعرفي مدى انتشار القوات الإنجليزية في مديريات مصر وخاصه الزقازيق التي أوردها كساحه رئيسية للأحداث.

الرائع في تلك الرواية قدرته على نسج الشخصيات الهامشية وبيان عوامل تطورها خاصه في شخصيه زوبه وأم الفقرية وكذلك سعدون تلك الشخصية المحورية في الرواية، حيث يسير 

الخط الدرامي العام في الرواية ما بين عالم السادة وعالم الهامشيين بسلاسة دونما الحاجة للأيديولوجي وهو أمر يعكس قدرة القاص على ادراك الإنساني وما وراء الأحداث وبالتالي تأتي الرواية كمعادل موضوعي ومدخل انساني لتجاوز ازمه الواقع المعرفي المعاش والسائر في خطوط متوازية لا تتلاقى وبالتالي يظهر الغرض التنويري للرواية العربية.

ولكننا عندما نقرأ المشروعات الروائية فاننا مطالبين بقراءة الخط الصاعد ما بين درجات السلم لأعمال المشروع، هنا فكره الطابع العام كغرض معرفي وكذلك الخط الواصل ما بين الشخصيات من خلال القدرة على الفعل الدرامي والتوافق التداولي بينهما وهو أمر له عودة خاصة عند ربطه بعمله الأول (على شفا حفرة ).

وهنا أمر نستطيع الجزم به أن ذلك الطرح الذي يقدمه مجدي جعفر  يشهد بعمل متفرد خاصة مع تطور ودلالة العنوان حيث جاء العمل الأول كنوع من الصرخة التحذيرية لما سيؤدي إليه الجهل المتمثل في البركة وهي المعادل الموضوعي الشعبي للجب.

ثم يأتي العنوان الخاص بالعمل وهو الشتات كنتيجة طبيعية لذلك الجهل وظلم العلاقات الإقطاعية ممثلة في إبراهيم بيك العايق وكانت النتيجة الفعلية لذلك في هروب زوجتي مع العبد المكلف في خدمتها ولما جاء العنوان بتلك الصفة كان لزاما على الخاص تعدد البيئات التي يحيى خلالها أبطال الرواية فقد بدا النطاق الجغرافي مبتدئا بباريس حتى ضاق ذلك النطاق فوصل إلى كفر العايق، وهو نوع من الإدانة لنمط التثاقف الخاص بالأبطال وهو أمر كان من الممكن تجاوزه إذا كنا قد طورنا شخصية نوال إلا أن الفكرة في القصدية المرتبطة بالإحالة المعرفية التي قررها الكاتب في التنبيه في صفحه سبعة وإن حرص الكاتب على أن يجعل نسبة الإضاءة النفسية على شخصية نوال كنوع من خبرة السقوط ، هنا مهاره القاص خاصه وخبرة مجدي جعفر السردية التي تجعلنا نراهن عليه في المستقبل على أن يكون المردود الاجتماعي للأحداث الوطنية مرتهنا بشكل الريف كمعطى غائب عند معظم الروائيين الكبار دونما اللجاج الايديولوجي.

يأتي المشروع الخاص بمجدي جعفر كروائي معبر عن واقع الريف المصري وفي شريحة هي الأقوى في المجتمع المصري حيث التمايز ونسبة الوعي والواقع الخاص بمدينه ديرب نجم تلك المدينة التي أخرجت لنا عدد من الروائيين هنا نراهن على فكرة الأطراف المبدعة التي تثري المركز هنا تأتي قيمة مبدع بحجم مجدي جعفر له تاريخه الروائي وتاريخه النقدي وينتمي إلى حركه  ثقافية جديرة بالاحترام وان لم يسلط عليها الضوء في الواقع المركزي في القاهرة ولكننا هنا نراهن على التاريخ.

هو كتاب خلق عندنا الشغف فأعاننا الله على الانتظار.


نادي حيفّا الثقافيّ: المطران يوسف متى في الأمسيّة التّكريميّة للشّاعر وهيب نديم وهبة والكاتب والإعلامي نايف خوري



المطران يوسف متى يحيي الأديبين وهيب وهبة ونايف خوري، في أمسية تكريمهما.

لبّى سيادة المطران يوسف متى، مطران الروم الملكيين الكاثوليك في البلاد، دعوة نادي حيفا الثقافي للمشاركة في الأمسية التكريمية للأديبين وهيب وهبة ونايف خوري، التي أقيمت في 25.1.2024 في قاعة كنيسة يوحنا المعمدان في حيفا. 

وقال سيادته في كلمة مباركته: إن هذا الكتاب بما يحتويه، يعكس أفكار الكاتبين، ويعبّر عن وجهة نظرهما إلى الله الخالق، وإلى القديسين، وإلى عقائد الإيمان التي نتمنّى أن يتحلّى بها كلّ مؤمن بربِّ السّماء والأرض.

وتظهر المقالات في "سيأتي الضِّياء" أنها تعالج المعتقدات لدى المسيحيين والمسلمين والموحّدين الدروز، من منطلق العودة إلى الذّات الإلهية، والتّمسك بمبادئ المحبّة والخير والصلاح، حتى أن من يعمل بموجبها يخدم المعتقد السّماوي، والإيمان بالله الذي يترسّخ ويتعزّز في نفوس المؤمنين.   

هذا عدا عن المقطوعات الشعرية ذات الطابع الرّوحي والتكريمي للأماكن المقدّسة في القدس، والتي وردت على شكل حوار متناغم ومتناسق بين الكاتبين شعرًا وأدبًا. ويدعو الكاتبان إلى ممارسة الإيمان الحقيقي بالله الواحد وتطبيق هذا الإيمان قولًا وفعلًا.

 فالشكر والتقدير للمجلس الملي الأرثوذكسي في حيفا، ولنادي حيفا الثقافي ورئيسه المحامي فؤاد نقارة، وأعضاء النادي المحترمين، على متابعتهم نشر الكلمة، وتكريم المبدعين، أدامكم الله لما فيه الخير والمحبة. 

يمتلكُ الفنَّان التَّشكيلي السُّوري جاك جوخدار طاقةً فنّيّةً خلّاقةً في فضاءِ النّحتِ والتَّشكيلِ الفنِّي


كتب الأديب والتشكيلي السوري صبري يوسف:

 

جاك جوخدار فنّان تشكيلي خريجُ كلَّيّة الفنون الجميلة مِنْ جامعةِ دمشق، قسمُ النَّحت، يمتلكُ هذا الفنَّان السُّوري البارع طاقةً فنّيّةً خلّاقةً في فضاءِ النّحتِ والتَّشكيلِ الفنِّي، لما لديهِ مِنْ خيالٍ جامحٍ ورؤيةٍ شاهقةٍ وخلّاقةٍ في تطويعِ الكتلةِ وتشكيلها تشكيلاً فنّيّاً مُبهراً، مُركِّزاً على الإنسانِ كموضوعٍ أساسيٍّ لمختلفِ أعمالِهِ الفنِّيّةِ، مُسقطاً عليهِ الكثيرَ مِنَ الرُّموزِ والأفكارِ والتّطلُّعاتِ والآفاقِ الهادفِةِ، فتولدُ منحوتاتُهُ بأسلوبٍ متميّزٍ، لما في أعمالِهِ مِنْ خصوصيّةٍ فنّيّةٍ وفيها مِنَ الحداثةِ الشَّيءُ الكثيرُـ يعملُ بغزارةٍ متميّزةٍ في فضاءِ النَّحتِ والتَّشكيلِ اللَّونيِّ، ولهُ باعٌ كبيرٌ في هذا الفضاءِ الفنِّي الشَّاهقِ، ويمتلكُ طاقاتٍ تشكيليّةً في بناءِ لوحاتٍ فنِّيّةٍ في غايةِ العُمقِ والتَّشكيلِ والبناءِ الفنِّيِّ، متوغِّلاً في آفاقِ الرَّمزيّةِ والتَّجريدِ بحداثويَّةٍ متجدِّدةٍ على الدَّوامِ. 

التقيتُهُ في عدَّةِ مَعارضَ مشتركة لَهُ مَعَ فنَّانينَ آخرينَ، وأتابعُ أعمالَهُ مُنذُ سنواتٍ في مرسمِهِ في هوسبي كونست هال، ودائما تراهُ متجدِّداً في أعمالِهِ، ومُواكباً الحداثةَ المعاصرةَ. فنّانٌ هادئٌ، مُمتلئٌ بالحيويّةِ والنَّشاطِ، والصَّبرِ في الاشتغالِ على منحوتاتِهِ برهافةٍ عاليةٍ، يُعِدُّ فِكرةً ما ثمَّ يشتغلُ على تنفيذِ فكرتِهِ، وفيما هو في أوجِ انشغالِهِ وغوصِهِ في العملِ، سرعانَ ما تولدُ لديهِ أفكارٌ جديدةٌ، فيصوغُها في البناءِ الفنِّيِّ للمنحوتةِ، يعملُ باستمراريّةٍ وهوَ مُستغرقٌ في عوالمِ العملِ بشغفٍ كبيرٍ، ويتواردُ إلى ذهنِهِ عبرَ خيالِهِ الخلَّاقِ، الكثيرُ مِنَ التَّفاصيلِ والأفكارِ الجديدةِ خِلالَ عمليّةِ تشكيلِ الكتلةِ الفنِّيِةـِ، مُستفيداً مِنْ ثقافتهِ الفنِّيّةِ العميقةِ ومِنْ خبراتِهِ، ومشاهداتِهِ لآلافِ الأعمالِ الفنِّيَّةِ، النَّحتيّةِ منها واللَّوحاتِ التَّشكيليّةِ بمختلفِ الأساليبِ والمدارسِ الفنَّيّةِ، وتشكَّلَ لديهِ رؤيةً فنّيَّةً خاصّةً بِهِ، وحالما نشاهدُ أعمالَهُ نجدُ فيها لمسةً جوخداريَّةً تُميِّزُهُ عَنْ غيرِهِ مِنَ الفنَّانينَ.   


وفي فضاءِ الرَّسمِ، تراهُ جامحاً في خيالِهِ، وعميقاً في رؤاهُ، فهو قادرٌ على الرَّسمِ في مرسمِهِ وباستمراريّةٍ مُدهشةٍ، كما يُمكنُهُ أنْ يرسمَ في مَنزلِهِ، وفي أيِّ مَكانٍ عندما تتوفَّرُ لَديهِ أدواتُ الرَّسمِ، ويرسمُ على أحجامٍ كبيرةٍ ومتوسِّطةٍ وصغيرةٍ، ولا يضيرُهُ أنْ يرسمَ بقلمِ الرَّصاصِ عندما تردُهُ فكرةٌ ما، أو يستهويهِ أنْ يعبِّرَ عمَّا يجولُ في خاطرِهِ، ويرسمُ بالحبرِ الصِّيني على الورقِ المقوّى، الكارتون، كما يرسمُ بالفحمِ، والتّلوينِ العادي الخشب، ولَهُ باعٌ طويلٌ بالرَّسم بالباستيل، ورسمَ العديدَ مِنَ اللَّوحاتِ الصَّغيرةِ خِلالَ فترةٍ قصيرةٍ بالباستيل،  وشغفُهُ الكبيرُ هو أنْ يرسمَ بالاكريليك والزَّيتي بقياساتٍ متنوّعةٍ، وهو في حالةِ تفكيرٍ إبداعيٍّ مُتجدِّدٍ، ويسعى إلى ابتكارِ تشكيلاتٍ فنّيةٍ جديدةٍ ورؤيةٍ جديدةٍ بأسلوبٍ مُتميّزٍ، ويساعدُهُ في تنفيذِ هذهِ الآفاقِ والطُّموحاتِ الفنّيّةِ ما لديهِ مِنْ مخزونٍ ثقافيٍّ فنِّيٍّ مُتجدِّدٍ وعميقٍ، فتولدُ اللَّوحةُ بينَ يديهِ بطريقةٍ انسيابيَّةٍ رهيفةٍ وكأنّهُ في حالةِ ابتهالٍ مَعَ بهاءِ الألوانِ، عبرَ تناغمِها وانبعاثِها فوقَ وجنةِ اللَّوحاتِ. حيثُ يجدُ سلواهُ في الرَّسمِ، عندما لا يكونُ بينَ يديهِ منحوتة معيّنة، فدائماً في حالةِ انشغالٍ في فضاءَاتِ الرَّسمِ أو النَّحتِ!


وفي فضاءِ النَّحتِ، وبما يتعلَّقُ في الكتلةِ، الفراغ، يتحدَّثُ عَنْ كيفيَةِ ولادةِ العمليّةِ النَّحتيّةِ وعلاقتِها بالكتلةِ والفراغِ، فهو يرى أنَّ كلَّ حجمٍ محسوسٍ هو كتلةٌ إيجابيّةٌ، والفراغُ هو الحجمُ غيرُ المحسوسِ، أو غيرُ الملموسِ، لكنَّنا نجدُهُ أي الكتلةُ غيرُ المحسوسةِ - عبرَ جماليّةٍ مُعيّنةٍ، والفراغُ كما يراهُ جوخدار يُحدَّدُ بينَ الظُّلمةِ والنّورِ، والهلامي والجامد. والكتلةُ السَّلبيّةُ، هي الفراغ المُحيط ُبالكتلةِ الجامدةِ، أي الكتلةُ الواقعيّةُ، المحسوسةُ والملموسةُ، وهذا الفراغُ المتشكِّلُ حولَ الكتلةِ المحسوسة هو أيضاً جزءٌ مِن الكتلةِ السَّلبيّةِ بما فيها الفراغ المحيط بالتمثالِ المحسوسِ. فهو يرى أنَّ الفراغَ المحيطَ بالكتلةِ الملموسةِ هو الّذي يشكلُّ الكتلةَ، التمثالَ، أو المنحوتةَ، لهذا فالفراغ لهُ دورٌ كبيرٌ في إبرازِ معالمِ المنحوتةِ. وفي هذا السِّياقِ أستطيعُ القولَ إنَّ الكتلةَ السِّلبيّةَ كإصطلاحٍ في التَّسميةِ هي ليسَتْ سلبيةً في تشكيلِ المنحوتةِ، بلْ هي العمودُ الفِقري في إبرازِ الكتلةِ الإيجابيّةِ الملموسةِ ولولا الفراغُ لما تمكَّنا مِنْ مشاهدةِ تفاصيلِ المنحوتةِ، وبهذا السِّياقِ أرى أنَّ الكتلةَ السِّلبيّةَ أو الفراغَ كتلةٌ موجودةٌ في جوهرِ تشكيلِ العملِ النَّحتي، لأنَّه لولا هذا الفراغ لَما تمكَّنا مِنْ مشاهدةِ المنحوتةِ بكلِّ تفاصيلِها ودقائق متفرِّعاتِها.


وفيما يخصُّ البدءُ في منحوتةٍ معيّنةٍ، فهو يرسمُ سكيتشات بأشياءَ يحسُّها ويراها مناسبةً للعملِ الَّذي سينحتُهُ،  لكنّهُ عندما ينحثُ المنحوتةَ، ينسى كلِّياً، الاسكيتش الَّذي أعدَّهُ، لأنَّهُ يدخلُ في عالمٍ جديدٍ، وخلالَ عمليّةِ النّحتِ، يجدُ تشكيلاً ومعانيَ وتقنياتٍ جديدةً، وتولدُ عدّةُ أفكارٍ وتتطوَّرُ العمليّةُ النَّحتيّةُ بحسبِ ما يتراءَى لَهُ في الخيالِ - المتداخلِ مَعَ الواقعِ، ومَعَ تداخلِ الأحاسيسِ، لأنَّ لكلِّ لحظةٍ تأثيرُها وحضورُها ولها تدفُّقُها وانبعاثُ ما ينبثقُ عَنِ الحالةِ المرافقةِ عندَ النّحّاتِ، ويتداخلُ الشُّعورُ مَعَ اللَّاشعورِ بمجرى واحدٍ ويولِّدُ انبعاثٌ جديدٌ غيرُ موجودٍ في بدايةِ العملِ النَّحتي، وهكذا نرى أنَّ السكيتش الّذي أعدَّهُ الفنَّانُ للبدءِ في منحوتتِهِ كانَ بمثابةِ الشَّرارةِ الأولى لانبعاثِ فضاءِ المنحوتةِ ولم يكُنِ الصِّيغةَ المتطابقةَ مِنْ تشكيلِها، بَلْ هي بمثابةِ الانطلاقةِ الأولى للبدءِ بالعمليّةِ الإبداعيّةِ، وهذهِ الحالةُ تقتربُ كثيراً إلى فضاءِ انبعاثِ القصيدةِ، حيثُ ينطلقُ الشَّاعرُ مِنْ إشراقةٍ ما، أو ومضةٍ ما، وهذهِ الومضةُ تقودُهُ إلى فضاءَاتٍ ما كانَتْ تخطرُ على بالِهِ لحظةَ انبعاثِ القصيدةِ، والنَّحّاتُ أيضاً انطلقَ مِنَ السكيتش كشرارةٍ أو إشراقةٍ أولى، ثمَّ بدأَ في انبعاثِ تدفُّقاتِ خيالِهِ مَعَ انبعاثِ مشاعرِهِ وربطِها مَعَ بعضٍ مِنْ آفاقِ واقعِهِ، وهكذا تولدُ المنحوثةُ عبرَ عدَّةِ عمليّاتٍ تجلِّياتيَّةٍ إلى أنْ يصلَ الفنَّانُ إلى مرحلتِهِ النِّهائيّةِ في بنائِها الفنِّي! 


وفيما هو في ذروةِ الانغماسِ في تشكيلِ العمليّةِ النَّحتيِةِ، يبحثُ النّحَّاتُ عَنِ الأحجامِ المناسبة، والكتلِ والخطوطِ، المنبثقةِ مِنْ تفاصيلِ تشكيلِ المنحوتةِ، ويعمِّقُ معانيها في بناءِ الشَّكلِ الَّذي أمامَهُ، ويبدأُ بعمليّةِ اللُّعبِ المدروسِ، وهذا اللُّعبُ أشبهُ ما يكونُ بالقفزِ فوقَ الماءِ على حدِّ قولِ الفنّان. وهذا القفزُ يتمُّ مِنْ نقطةٍ إلى نقطةٍ أخرى، وهذا اللُّعب المدروسُ يتوافقُ معَهُ الوهْجُ العفويُّ المتدفِّقُ والخيالُ المصاحبُ لتجلِّياتِ الحالةِ الإبداعيّة. 


يركِّزُ الفنَّانُ جاك جوخدار على الإنسانِ في معظمِ أعمالِهِ، فلا ترى منحوتةً مِنْ منحوتاتِهِ إلَّا وفيها تشكيلٌ أو ترميزٌ لإنسانٍ، والإنسانُ عندَهُ يحملُ معاناةً لعدّةِ أسبابٍ، ويستخدمُ في أعمالِهِ الفنِّيّةِ الرُّموزَ، للوصولِ إلى أهدافِهِ وطروحاتِهِ وأفكارِهِ مِنْ صنعِ المنحوتةِ، ولا يغفلُ تأثيرَ الكتلةِ وجمالياتِها بالفراغِ الَّذي يتركُهُ، ويجبُ أنْ يُشاهَدَ الجمالُ مِنْ جَميعِ الجوانبِ، مَعَ البحثِ عَنِ الحداثةِ في العملِ الفنِّي، وبناءِ عالمٍ فنّيٍ بأسلوبٍ خاصٍّ بالفنَّانِ، فهو يسعى لتحقيقِ خصوصيّةٍ فنِّيّةٍ وأسلوبٍ فنِّي يميّزُهُ عَنْ غيرِهِ مِنَ الفنَّانينَ.

تبقى المنحوتةُ عندَهُ مفتوحةً على آفاقٍ متعدِّدةٍ، لكنَّهُ يصلُ إلى مرحلةِ الاكتمالِ، أو الاشباعِ مِنَ العملِ الَّذي بينَ يديهِ، ويُصبِحُ لديهِ شغفُ الانتقالِ إلى عملٍ جديدٍ، وكأنَّ المنحوتةَ المبحوثَ عنها هي استكمالٌ للمنحوتةِ السَّابقة لها، وبالتَّالي النَّحتُ عندَهُ سلسلةٌ متواصلةٌ ومتداخلةٌ عبرَ المنحوتاتِ ككل، فالعملُ عندَهُ عبارة عَنْ مجموعةِ أفكارٍ متداخلةٍ ومترابطةٍ وتكمِّلُ المنحوتاتُ بعضُها بعضاً، في العديدِ مِنَ الجوانبِ، استكمالاً للوصولِ إلى الأهدافِ البعيدةِ، رغم تغيُّرِ وتنوُّعِ الأعمالِ.

يميلُ الفنَّانُ إلى العملِ على المنحوتاتِ الكبيرةِ والنُّصبِ التّذكاريّةِ، العملاقةِ، لما لديهِ مِنْ خيالٍ، مُتدفِّقٍ في بناءِ ونحْتِ هذهِ النُّصبِ الكبيرةِ، وقَدْ سبقَ ونفّذَ الكثيرَ مِنَ النُّصبِ التذكاريّةِ في ساحاتٍ عامّةٍ. 


وحولَ شغفِهِ وقدراتِهِ في تنفيذِ النُّصبِ التُّذكاريَةِ الكبيرةِ، يقولُ: "كلُّ نُصبٍ كبيرٍ يتطلَّبُ، ماكيت، أي مُجسَّماً صغيراً، كي يشاهدَ الكتلة - الحجم بشكلٍ محسوسٍ وملموسٍ كي ينفِّذَها بحجمٍ كبيرٍ، وأثناءَ تنفيذِ الماكيتِ، أو المجسَّمِ الصَّغيرِ إلى الحجمِ الكبيرِ، في هذهِ الحالةِ، يقومُ الفنَّان بدارسةِ الموقعِ الهام، بحيثُ يكونُ هناكَ انسجامٌ بالشَّكلِ والمضمونِ، والحجمِ، وهذا يتوقَفُ على المادّةِ الّتي سينفِّذُ فيها العملَ، وغالباً ما تأخذُ طابعاً هندسيّاً فنِّيّاً مُتناغماً ومُناسِباً للمكانِ الَّذي سيُعرَضُ فيه. 

وأمَّا اهتمامُ الفنّانِ فيما يتعلَّقُ بالرَّسمِ وفضاءَاتِ هذهِ العوالمِ الفسيحةِ في التَّشكيلِ الفنّي، لَهُ علاقةٌ وطيدةٌ بطاقاتِهِ الفنّيّةِ، المعشَّشةِ في أعماقِهِ، وقد تنامَتْ هذه العوالمُ الفنِّيّة منذُ التحاقِهِ بكلِّيّة الفنونِ الجميلة، ثمَّ بدأً رحلةَ العطاءِ في فضاءِ الفنِّ على مدى عقودٍ مِنَ الزَّمانِ، وهو يرسمُ لمُتعةٍ خالصةٍ، ولِما لديهِ مِنْ شغفٍ عميقٍ في تجلِّياتِ انبعاثِ الألوانِ فوقَ نصاعةِ البياض، ويرى في رِحابِ جُموحاتِ الرَّسمِ، حاجةً عميقةً للتعبيرِ عَنْ مَشاعرِهِ وأحاسيسِهِ وتوجُّساتِهِ، وما يجولُ في خاطرِهِ مِنْ أفكارٍ وطُموحاتٍ يُريدُ أنْ يجسِّدَها فوقَ بياضِ اللَّوحاتِ، ويرى أنَّ الرَّسمَ جزءٌ مِنْ وجودِهِ في الواقعِ، ويترجمُ الكثيرَ مِنْ آفاقِ تطلُّعاتِهِ، وللرسمِ علاقةٌ في انبعاثِ الدَّوافِعِ والغرائزِ والقيمِ والأفكارِ الخلَّاقِةِ، والحَالاتِ الانفعاليّةِ الخاصَّةِ بالمشاعرِ الإنسانيَّةِ. ويرتكزُ الرَّسمُ على مدى ما يمتلكُ الفنَّانُ مِنْ موهبةٍ، لأنَّ الفنَّ هو بالأساسِ ينبعثُ مِنَ الموهبةِ المعشَّشةِ عندَ الفنَّانِ على أنْ يحافظَ على هذهِ الموهبةِ من خلالِ صقلِها، كما ينبعثُ مِنْ جانبٍ آخر مِنَ فضاءِ الفطرةِ أيضاً، وللثَّقافةِ الفنِّيّةِ والخبراتِ الحياتيّةِ، علاقةٌ عميقةٌ في تطويرِ العمليّةِ الفنِّيَّةِ، وللتجربةِ الفنِّيّةِ والتَقنياتِ والأساليبِ المتنوّعةِ عندَ الفنَّانِ تأثيرٌ في تمازجِها مَعَ بعضِها بعضاً وينتجُ عَنْ تفاعلاتِها عملٌ فنِّيٌّ جميلٌ. 


يرسمُ الفنّانُ جاك جوخدار بالزّيتي والأكريليك، والباستيل، وبموادَّ عديدة أخرى، محاولاً إدخالَ تقنياتٍ جديدةٍ في لوحاتِهِ، منطلقاً مِنْ فضاءِ التّجريبِ، لاعطاءِ فضاءَاتٍ فنّيَّةٍ جديدةٍ للوحاتِهِ بأساليبَ متنوِّعةٍ، مُستفيداً مِنْ خِبراتِهِ وثقافتِهِ وخيالِهِ وشغفِهِ، وهو فنَّانٌ غزيزُ الانتاجِ وعميقُ الخيالِ والأفكارِ ولديهِ روحُ المغامرةِ والتَّجريبِ والرَّسمِ في مُعظمِ الأوقاتِ الَّتي تتطلبُ شغفاً ورغبةً في الرَّسمِ، خاصَّةً عندما تتوفَّرُ لديهِ أدواتُ الرَّسمِ فيرسمُ بشغفٍ عميقٍ متدفِّقاُ في انسيابيّةِ ألوانِهِ بمواضيعِهِ المختلفةِ بأسلوبٍ أخّاذٍ، تصبُّ في فضاءَات الحداثةِ!

يستخدم الرُّموز في لوحاتِهِ، كأحدِ أساليبِهِ المتَّبعةِ، وهي عاريةٌ أو بعيدةٌ عَنِ الرَّسائلِ المباشرةِ للمتلقِّي في ترميزاتِهِ، لهذا تحملُ لوحاتُهُ عدَّةَ تفاسيرَ، ويستطيعُ المشاهدُ أنْ يقدِّمَ تحاليلَهُ وتفاسيرَهُ وفقَ ثقافتِهِ وقدراتِهِ على التَّحليلِ وما يوحي إليهِ العملُ الفنِّي مِن ترميزاتٍ متنوِّعةٍ، يمكنُ الولوجُ عبرَها في تقديمِ الكثيرِ مِنْ المعاني الّتي عبَّرَ عنها الفنّانُ عبرَ تجلِّياتِ بوحِ الألوانِ وتناغُمِ ترميزاتِهِ.

ويركِّزُ الفنّانُ في الرَّسمِ أيضاً على الإنسانِ كأحدِ أهمِّ أهدافِهِ، لأنَّ الإنسانيَّةَ في إطارِها العام هي مِنْ أهمِّ أهدافِهِ الَّتي يتوخّاها مِنْ لوحاتِهِ، لهذا دائماً تراهُ يرسمُ أعمالاً تتعلَّقُ بطريقةٍ أو بأخرى بالإنسانِ، يترجمُ معاناتَهُ، أوجاعَهُ، جراحَهُ، حُبَّهُ، حنينَهُ، وكلَّ ما يخطرُ على بالِهِ مِنْ أحاسيسَ تتقاطعُ مَعَ أحاسيسِ المُشاهدينَ والمشاهِداتِ بصيغةٍ أو بأخرى!

يستخدمُ الفنَّانُ التَّشكيلي المبدع جاك جوخدار في تقنياتِهِ الفنِّيّةِ في فضاءِ الرَّسمِ، التَّجريدَ برهافةٍ عاليةٍ، والرّمزيّةَ بكلِّ ما تحملُ مِنْ عُمقٍ في تجسيدِ عوالمِها، والتَّعبيريّةَ بكلِّ ما فيها مِنْ تقنياتٍ باهرةٍ، وتصبُّ أساليبُهُ الفنِّيّةُ المتنوّعةُ في فضاءِ الحداثةِ والتَّجديدِ في البناءِ الفنِّي للوحةِ، وهناكَ تمازجٌ بالواقعيّةِ في بعضِ الأعمالِ ويتمُّ توظيفُها مَعَ الرَّمزيَّةِ والحداثةِ، ويَهُمُّهُ رسمُ النِّسبِ المثاليّةِ في بناءِ اللَّوحةِ، وتوزيعِ الألوانِ بطريقةٍ يخدمُ عبرَها الموضوعَ، ولا يركّزُ على تقنياتِ العملِ الفنّي، بقدرِ ما يركِّزُ على رزانةِ العملِ الفنِّي في البناءِ والتَّكوينِ، وتشكيلِ اللَّوحةِ، مُحافظاً على تطلُّعاتِهِ، ورؤاهُ الفنّيّةِ، فهو فنّانٌ يعرفُ ماذا يقدِّمُ للمشاهدِ ولنفسِهِ، حيثُ تنبعِثُ اللَّوحةُ عندَهُ مِنْ عدَّةِ مساربَ فنّيّةٍ إبداعيّةٍ، وكأنَّهُ في حالةِ بحثٍ عَنِ التَّجديدِ والتَّحديثِ والإبداعِ الخلَّاقِ، مَعَ الإيمانِ بفلسفةِ صنعِ الحدثِ مِنْ دونِ التَّأثُّرِ فيهِ، وإيجادِ الصَّدمةِ الوجدانيّةِ للمتلقِّي ليأخذَها معَهُ إلى زمنٍ طويلٍ، على عكسِ العمليّةِ الاحتكاريّةِ، الّتي تريدُ مِنَ الإنسانِ فقط الاحساسَ الانفعاليَّ اللَّحظيَ، المؤقَّتَ، ولهذا لا توجدُ في مَنْ يؤمنُ برسالةِ الفنِّ أشياءُ هامشيّةٌ، بَلْ السَّعيُ إلى تثبيتِ الحقيقةِ، ويجنحُ الفنَّانُ جاك جوخدار نحوَ فضاءِ التَّجريدِ الممزوج بتعبيريّةٍ مُحدثةٍ، مَعَ تجلِّياتِ وحشيّةِ الألوانِ، ولا يغفلُ الأهدافَ الّتي يسعى إلى تعميقِها ونشرِها والتَّعبيرِ عنها بأسلوبٍ خلَّاقٍ عبرَ فضاءَاتِهِ الفنِّيَّةِ المُتنوِّعةِ.  


ستوكهولم: آذار 2024

صبري يوسف

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم


نادي حيفّا الثقافيّ: د. مازن البابا في الأمسيّة التّكريميّة للشّاعر وهيب نديم وهبة والكاتب والإعلامي نايف خوري

 


يشرفني أن أقف أمامكم للحديث عن إبداع أدبي فلسطيني جديد.

عنوان الإبداع "سيأتي الضياء"، أي سيأتي النور، فهذا بحدّ ذاته يأخذنا إلى منبع النور، النور السماوي والإنساني. وكما قال جلال الدين الرومي: "أبقِ عينيك على النور لتعبر كل هذا الظلام."

 يطلّ علينا وهيب في البداية بضيائه مبشرًا ومستبشرًا من خلال إيحاءات من سورة يوسف، ليطلب منا أن نبقى على الأرض وألا نخاف لأن الأمل - الضياء، سيلقانا من خلف الهموم والضباب. نظرة تفاؤلية يوجزها الأستاذ فتحي فوراني بأن "الضياء سيأتي، وأنه سيشق طريقه ويخترق عتمة الليالي الحالكة ليصنع فجرا مشتهى".

كيف لا ومن وحي وهبة إلى وحي الخوري، الذي يحطم فيه الوهم حيث الحلم يخرج من رحم الوهم، كما لو كان حقيقة، إلى الأمل والآمال.

ومن الأمل إلى تحقيق الأماني، وبأنشودة لا تترك بصمة نورانية إلا واتخذت ذريعة للوطن السليب، وأنه كان العبور إلى ضفاف الحنين يؤدي حتمًا إلى الوطن الأم، لتستقرّ الروح الهائمة، ومن وهبة إلى الخوري حيث نفهم حقيقة تتجسّد فيها الآمال التوّاقة للعودة إلى البلدات المهجّرة، وإن هُجرت فأمّ الزينات باقية في الذاكرة الجمعية، وما زال المكان خالدًا ينتظر عودة الأبناء، ويبقى صامدًا فوق ركام مسجد تعلوه مئذنة، ويكون لنا قصّة الوطن والتهجير والخيام، متمنيًا ليقول: "فأما يحقّ لهذا النسر أن يعود؟ ليشدّ الخوري على يد وهبة ويردّ عليه: "يا أمّ الزينات طوبى لأبنائك الذين لا ينسون ويتغنّون لترفض مئذنة المسجد أن تنحني وتبقى عالية شامخة لتلامس السماء".

 إن عشق الأديبين لهذا الوطن والأمل في العودة يومًا على القرى المهجّرة، تبقى بلسان خوري اسم إقرث، أملًا وضياءً وتفاؤلًا، يحملهم في صدره ولا يتوانى ولو بالتكلّم ليجد فيها متنفسًا؟

ومن أمّ الزينات وإقرث ينقلنا الأديبان إلى حيفا عروس البحر قبل بزوغ الفجر، وحينما تصحو الشمس على قبّة عبّاس الذهبية، ما زال الخوري يحنّ وأمّه إلى إقرث، ويتلاقى وهبة في الحنين بروحه والخوري ليسأل هل من عودة إلى إقرث؟

ومن مئذنة أم الزينات إلى كنيسة إقرث المهجّرة ومقبرتها يبعث خوري في النفوس، رغم صلف الجنود وكبريائهم، الأمل، ويهبّ وهبة قائلًا: ولم تأتِ القصيدة ولم يعد أهل إقرث! بينما تعود العصافير إلى أعشاشها من براري حيفا لتسكن إقرث".

إن اللغة التي يستعملانها هي لغة الإيمان، و"توأم الروح" إن صحّ التعبير، يلتقيان روحيًا مع البعد الإيماني من منطلق واحد، ويأخذان النصّ الإنجيلي موجهًا كالقيامة والميلاد، التسابيح وبخور الكنائس.

وعبارات قرآنية "يحيي ويميت" ويضعان الأمل في يد الله ليخلّصهما من هذا "التطهير القسري، يا نازحين من الورد إلى المنافي". ومن سؤال "من خانك أو حالفني". والحديث عن الخيانة واغتيال الفرح ليلبس أقنعة القداسة؟ ومناجاة هذا وذاك وبأني عشت في وطني وكفني في كفي، فالموت في بلاد الأنبياء نعمة، ومن الموت إلى الحياة يخرج الخوري مع الأمل الكبير ليقول: "لا بدّ من الطين أن يعجنه إنسانًا جديدًا".

وفي مكان آخر نلتقي وهبة يستعمل كلمة خوري كما قالها السيد المسيح في جبل التطويبات بعبارة: "طوبى لمن جعل بصره بقلبه وليس بعينه". ليرد عليه الخوري: "هل إزهاق الروح شريعة؟ فقدنا الإنسان الذي هو الحياة. من له أذنان للسماع فليسمع". والرومي يقول بهذا: "الإيمان أن ترى النور داخل قلبك حتى لو كانت عيناك لا ترى إلا الظلام".

النور والضياء هما بوصلة أديبينا حيث ينهيان بالنغم السماوي ليلاقيا وجه الرب "يا ربي ما أجملك" وهي الروح التواقة "تحمل غصنًا، ترسم وطنًا، وبين الشجرة المائتة كما العمر، يقول خوري أيتها الروح الهائمة لا لن تموتي، بل انتفضي".


وفي الشقّ الثاني – مناجاة الروح

يبدأها الخوري بالصلاة وأصل معناها والقول في حضرة الآب ليقدّم له الحساب، ليؤكّد وهبة له: "القلب دونك، ودون صلاتك صحراء. وأما الخوري فيناجي ربّه ويقول: "فأنت السعادة، وأنت المحبة، وأنت الخير والكمال والاكتمال".

لينتقل الخوري إلى شرح أدبي عن ناسك قدّيس اسمه يوحنا السلّمي، توفي عام 600م. وله حكم وأقوال كثيرة. منها: "في قلوب المتكبّرين تنشأ أقوال التجديف وفي نفوس المتّضعين تأمّلات سماوية، وسأترك للقارئ العديد من هذه الفضائل التي جاء ذكرها في سلّم فضائل هذا الناسك القدّيس. وأما رجل التوحيد، ويا لها من متعة، يرافق الخوري بمشواره ويقول له: "وتأخذني معك، أدخل خيمة التاريخ، عباءتي الشمس، والصحراء يدي وأصابعي أودية دائمة الجريان بالحبر والكتابة. وينعت هذا القديّس بالصوفي وكلام السّيد يتقدّمه ليقوم بنشر رسالة الإنسان في العدل والمحبة.

ومن القداسة إلى القيامة، حيث الحدث الأعظم بنظر الخوري على مرّ التاريخ، حيث يطمح كما لو كان تلميذا من تلاميذ السيد المسيح، وهو العامل المتأمّل، المفكّر المسؤول عن تصرفاته ومن وحي الإيمان إلى الصديق والأخ وهبة: "ليس لي إلا أن أقول ليباركك الربّ في السماء. ويردّ الخوري: "أنت يا أيها الأنا، لذا أوازيك بنفسي، كتبت كمؤمن وليس كمسيحي.. هذا هو الإيمان بالله أو بالحبيب أو أي نبي"، ويرد وهبة ليذكر النبي إيليا والمحرقة والبهائيين، ومقام أبي عبد الله سيدنا وغيرهم، ووحدة الإيمان بالروح حيث يقول وهبة: "توأم الروح، التقينا على مفرقين من عقيدة وعلى المبدأ الواحد، الله الوطن والإنسان".

ومن كنيسة القيامة إلى رحاب المسجد الأقصى، إلى لوعة الحزن وجرح مشاعر المؤمنين هناك. ووهبة يعترف: "لست بخير، الآن أعرف كيف يسحقون هذا التاريخ، وكيف يصبح أبناؤنا أشباه دمى أمام تاريخ وحضارة الآخرين".

من مسجد الأقصى إلى القيامة إلى الجلجلة يطوف الأديبان القدس، أزقّتها وشوارعها، فالخوري في القدس يعاني مع شعبه كما عانى السيد المسيح آلام فلسطين كلها، ووهبة يستمع لخطبة الجمعة وقدّاس الأحد، ويكتب "مات قدّيس الإنسان". ليختلف معه بالمحبة الصادقة، الخوري ليقول: "لا أتفق معك أخي وهيب، لأن الشاعر المبدع يحيا في شعره خالدًا ولا يموت اليوم ولا غدًا".


الجانب الفني والفلسفي للكتاب

يشابه الكتاب في مواضيعه أعمالًا كثيرة من حيث الحوار بين اثنين، أو مناظرة أدبية أو فلسفية. ومنها رسائل درويش والقاسم مثلا. أضف إلى أعمال تاريخية مشهورة كرسالة الغفران والكوميديا الإلهية، وإن كانت الدلالات والمواضيع مختلفة، ولكن كعمل أدبي فهو جدير بالاستحقاق والقراءة.

ولكن موضوع الكتاب بحدّ ذاته، أودّ أن أركّز على الجانب الفلسفي الإيماني والديني. فكما نعلم، هناك الفترة ما قبل الحداثة، والحداثة وما بعدها.

وإن كان أكثر من فيلسوف ساندَ فكرة التنوير والأنوار الداعية لاستعمال العقل دون الإيمان، والآخر فكرة الأخلاق الإيمانية.

فألا ننجذب إلى مملكة الناس بدلًا من مملكة الرب، والثقة المفرطة في العقل وقدرة الإنسان على المعرفة اليقينية، دفعت بالفكر إلى مزيد من السير خلف نظام التفكير والقيم المادّية.

إننا أمام عمل أدبي جديد، ينافي ما جاء في دين الرسائل، والذرائع الديكارتية، والتفكير في الغايات النهائية للحياة ومعناها، كما جاء بلسان روجيه غارودي.

إن هذا الدفع للتعلق الشديد بالحياة الدنيا أورث نتائج كبرى، منها: المخدّرات والتسلح والفساد، فالمخدرات بدلا من بخور أديبينا أصبحت بخور الإنسانية ونشر روحها الأخلاقية. 

وإذا كان وهبة يذكر أباه في إحدى قصائده، فهو يحترم الوصايا العشرة: أكرم أباك وأمّك. أما في عصر التنوير، باتت الأسرة ترزح تحت تحوّل نوعي وخطير في مستوى أنماط الأسرة في الغرب، وهذا بحدّ ذاته أدى لانطلاق الإنسان المعاصر من الضوابط والمقاصد الأخلاقية للأسرة والزواج.

 ففيما مضى، قدّست التعاليم المسيحية العائلة المكوّنة من الأب والأم والأولاد، واعتبرت الرابطة مقدسة، وحرّمت الكنيسة الطلاق من أجل الحفاظ على هذا الكيان الاجتماعي. وأما زمن ما بعد الحداثة، بات يؤمن بأشكال غير معهودة من الأسرة كالزواج المثلي، مما أدّى إلى تآكل أخلاق الأسرة.

بينما المؤلفان يحملان البعد الروحاني وقيم الإيمان بالمعنى الحضاري، لكن تملأ الغرب حجب الغفلة عن القداسة، قلب الإنسان وروحه، وتمنعه من الاتصال بالدين لبناء الإنسان، ولكن صلاتهم الإيمانية تقرّ ما قاله تشي جيفارا إن الإنسانية صلاة أيضًا لها حسناتها أفضل من ركعات المنافقين.

 وأما اللغة بلسان أديبينا، فهي سهلة التناول، عملا بقول غرامشي "اللغة هي الشعب" ونحن كشعب إن حافظنا على لغتنا من العبرنة والشرذمة فسوف نحافظ على كياننا ووجودنا، لأنه في ذاكرتنا الجمعية واللا شعورنا بها المبني كاللغة، هكذا نحافظ على ما تبقى لنا في هذا الوطن، رغم تعدي المؤسسة الحاكمة على لغتنا كما في قانون القومية العنصري.

 وحينما قال أحدهما في قصيدته: ما أجمل وجهك يا رب، نجد "كانط" يقول في نقد العقل الجدلي: "أفضل النوايا لإقامة الجنة على الأرض، إنما تنتج فقط في جعلها صحيحًا، ذلك الجحيم الذي يجهزه الإنسان لأخيه الإنسان، وهذا ينقلنا لفكر مبدعَينا اللذين يقولان بهذا المعنى: "مآسي الإنسان لم يسببها الله بل الإنسان ذاته". فأهل أم الزينات وإقرث والعديد من قرانا ومدننا هجّرت، وهذا صنيع يد الإنسان الغاصب ذي الأخلاق البهيمية. 


كلمة الأستاذ فتحي فوراني في الأمسيّة التّكريميّة للشّاعر وهيب نديم وهبة، والكاتب الإعلاميّ نايف خوري

 


وهيب نديم وهبة- نايف فايز خوري سيأتي الضياء.

أرى تحت الرماد ميلاد نور فتحي فوراني الأخوات والإخوة أسعدتم مساء وبهاء وضياء سيأتي حتمًا.. حتمًا سيأتي الضياء.

هذه الفاتحة تصلح لأن تكون خاتمة مسكًا أختم بها كلمتي في هذا المساء الثقافي. ففي هذا الزمن العبثي لا بدّ من المشاكسة تماشيًا مع ميزان العدالة المائل.. وانسجامًا مع إيقاع السمفونية العبثية المشاكسة التي تلقي بظلالها على المشهد. وبعد لن أقوم بعملية الحفر في أرض التاريخ لكي أمسك بطرف الخيط وألقي الضوء على بدايات “أدب الرسائل”، ولن أعود إلى أبي العلاء المعري و”رسالته” والجاحظ وسرديته ولن أقابل باقي فرسان الرسائل الذين أرسوا قواعد هذا الضرب من الفنون النثرية. 

سأستقل بساط الريح وأحط رحالي في ميادين اللحظة المعاصرة. سألقي لمحة خاطفة تطلّ على عناوين مختلفة من “أدب الرسائل” التي تتزيّا بالزيّ الحديث، وسألتقي بكوكبة من الفرسان الذين يرتدي معظمهم الزيّ الفلسطيني.

ألتقي بداية بجبران خليل جبران وميّ زيادة يحملان “الشعلة الزرقاء” ويشقّان الطريق نحو عالم الرسائل. وفي المحطة التالية يستوقفنا مصطفى صادق الرافعي الذي يحمل “باقة من الورد” الجوري القادم من حدائق الياسمين. خطوة صغيرة.. فنلتقي أمامنا خيمة الأدب الفلسطيني.. تشدّنا بألوانها الأربعة.. نتوقف عندها فنلتقي غسان كنفاني العاشق الفلسطيني الرائع يناجي معشوقته المبدعة غادة السمّان. من هناك نشدّ الرحال إلى شمال الوطن.. فنعرّج على قرية البروة وصديقتها رامة الجليل، هناك نلتقي محمود درويش وسميح القاسم يجلسان معًا تحت زيتونة راموية ويتشاطران البرتقالة اليافوية الذهبية ويجريان حوارًا ممتعًا بين “شطري البرتقالة”. وإلى جانب هذا التوأم يقف محمود شقير المقدسي وحزامة حبايب تحت عريشة واحدة حالمين بـ”أكثر من حب”، ثم نصل إلى الثنائي الجميل جميل السّلحوت وصباح بشير وهما يتبادلان الرسائل القادمة من “زهرة المدائن وإليها”، فنقرأ ونستمتع ونعيدها مثنى وثلاث. وفي المحطة ما قبل الأخيرة.. وقبل نهاية المسيرة.. نلتقي المبدعَين وهيب نديم وهبة والفراشة المشاغبة آمال رضوان عواد وهما يداعبان “نوارس الدهشة”.

أما في هذا المساء فنلتقي الثنائي وهيب ونايف.. يحملان منجزًا جديدًا له مذاق خاص خارج لتوّه من طابون “أدب الرسائل”. 

هذه برقيات ذهبية صغيرة هي جزء من حكاية طويلة يعزّ عليها أن تنتهي.. ففي انتظارنا مواعيد مشتهاة.. وسيكون “نادي حيفا الثقافي” شاهدًا حاضنًا ومشرفًا على هذه المواعيد الخضراء.

الإخوة والأخوات نحن أمام َعملٍ متفرّد له نكهةٌ مميزةٌ تنضوي تحت لواء “أدب الرسائل”. فتحْتَ سماءٍ واحدةٍ يتلاقى المبدعان الأديبُ والشاعر فيُبدعان دنيا حافلةً بمواضيعَ شتّى يسودُها التآخي والمحبة والحميمية وعبادةُ الإلهِ الواحدِ تحت سماء زرقاء واحدة. وفي هذا العملِ نلتقي أماكنَ وعناوينَ تشكّل خارطةَ الوطن وجذوَرها التي تَضربُ عميقًا في رحم التاريخ والحضارة.. نلتقي حيفا وإقرث والقرية المهجرةَ أمّ الزينات وجبلَ الكرملِ والمسجد َالأقصى والكنيسةَ وديرَسانتا كترينا وغيرَها. كما نلتقي رموزًا دينيةً لاهوتيةً تشكلُ في مجموعها جزءًا من تراثنا الديني ِّ الإنساني. نلتقي السيدة مريمَ العذراءِ ويسوعَ الناصريَّ والقديسَ يوحنا السلمي والنبيَّ الخضر وغيرِها من الرموز. وفي الفضاء الثاني من كتاب “سيأتي الضوء” نلتقي نصوصًا من الحواراتِ اللاهوتيةِ الفلسفيةِ التي تغلبُ عليها أجواء الأناجيل المقدسة.

في حوار بين المبدعَين وهيب ونايف “يلتقي الاثنان على مفرقَين من عقيدةٍ وعلى المبدأ الواحدِ: الله والوطن والإنسان. ويسيران معًا على درب الآلام “فيحملان الصليب ويسيران على طريق الجُلجلة إلى كنيسةِ القيامةِ.” وهذا المزيجُ من المضامين الملونةِ أنبت نثرًا أشبهَ بالشعر أو عملًا أدبيًّا ينتمي- في القسم الأول- إلى ما اصطُلح على تسميته بقصيدة النثر. وفي إطار الفن الأدبي فإن هذا العمل الوجداني الثقافي ينضاف إلى عمل أدبي سابق موسومٍ بالعنوان “رسائل- وهيب نديم وهبه وآمال عواد رضوان” الخارجِ من الورشةِ الإبداعيةِ لصاحبَيها وهيب وآمال. ويحفلُ هذا المزيجُ الإبداعي باللونَين (النثر والشعر) وحِوارياتٍ أدبيةٍ تتمرد على الرتابةِ التي تسيطرُ على بعض الأعمالِ الإبداعيةِ. ورَغم الغيومِ المارقةِ يؤْمن المبدعان وهيب ونايف أن الضوءَ سيأتي وأنه سيشقُّ طريقه طوفانًا يتدفّق ويخترقُ عتمةَ الليالي الحالكة ليصنعَ فجرًا جديدًا مشتهًى. 


** أخيرًا.. لا بدّ من “أخيرًا” أخيرًا نختتم بما بدأنا.. تعالوا نتفاءل بالخير.. لعلّنا نعثر عليه في مسيرة العذاب التي ناءت بكلكلها علينا فأتعبتنا.. قالت العرب: تفاءلوا بالخير تجدوه. 

ستأتي تباشير الضياء حتمًا وتشقّ طريقها عبر الغيوم السوداء.. فلا بدّ من طلوع فجر نشتاق له.. وهو طالع حتمًا.. ولا بدّ لليل أن ينجلي.. ولا بدّ للقيد أن ينكسر.. تفاءلوا بالخير.. ولا بدّ أن تجدوه فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.. 


** تحياتي إلى الصديقين المبدعَين وهيب ونايف المثابرين في دفع مسيرة الإبداع وإثراءِ المشهدِ الثقافيِّ بكل ما هو ممتعٌ وجميلٌ وجديدٌ.

تمنياتي لكما بالمزيد من العطاءِ الإبداعيّ في دنيا الأدبِ والشعر والثقافةِ.. وأبدًا على هذا الطريق نحو الأجمل والأروع.

نادي حيفا الثقافي حيفا- 25-1-2024