الكتابة بأصابع مبتورة بين حرب سابقة وحرب قائمة للدكتور: وائل محيي الدين

 


الأديبة: إسراء عبوشي| فلسطين 

الكتابة بأصابع مبتورة نصوص للأديب الدكتور: وائل محيي الدين، تقع في 2015 صفحة من القطع المتوسط، تحتوي 87 نصا صدرت عن المكتبة العربية للنشر والتوزيع عام 2020.

 في البداية يتحدث الكاتب عن الكتابة، يصف الحروف بالجمرات وانها قدر المبدعين، و رسالة عظيمة.

على الكاتب أن تتلون يده بدمه، وأحزانه وأحزان الآخرين، الكتابة نزيف يومي دون عناية مركزة، يبحث الكاتب عن الحروف الملتهبة ويمسك جمرتها وهي تشتعل، ينسج كفنه بقلمه، لتعبر عن مآسي المقهورين، ويخيط جراح المحرومين، على الكتابة أن تقلقل عروش، هكذا تكون الكتابة مباركة

 هذا النوع من الكتابة الذي يجسد الواقع الفلسطيني، هو وجع مكثف لا تستطيع أن تتصفحه وتخلد إلى النوم، الأصابع المبتورة ستخدش أحلامك.

 استطاع الكاتب بأسلوبه المتمكن، والسرد المتماسك، أن ينقل للقارئ كمية هائلة من الألم خلال النصوص المكثفة، التي تحمل الهم الوطني وتجعل القارئ يعيش ذلك الهم، ويحمله مسؤولية وطنية تغيره وتجعل منه إنسان آخر غير الذي كان قبل قراءة الكتاب، فهو يخاطب الوعي العام ويرتكز على الوعي السياسي والحالة الوطنية التي تؤثر بصلب حياتنا الاجتماعية والثقافية، يظهر ذلك جليا في نص "معضلة النصف"

وقد خدمت الصور المرفقة النصوص وصنعت ذلك التغير، بين العبارات القوية والصور المختارة بحرفية يكتمل مراد الكاتب، الصور تتكرر وكأنها التقطت في حرب غزة " طوفان الأقصى" وليست في الحروب السابقة

 قرأت "الكتابة بأصابع مبتورة" قبل  حرب " طوفان الأقصى" وعدت- من جديد- لأقرأها، كنت أقرأ إلى أن امتلأ ألما، فاغلق الكتاب على ألمي، فلم أعد أحتمل قراءة المزيد، فتهمس لي نصوصه بالعودة فأعود للقراءة بعد فترة، وأكمل من حيث توقفت، وذلك يحسب للكاتب الذي يجيد تصوير النصوص وسرد القصص، وتشويق القارئ ونبش ذاكرته وفكره معا، هو يقدم رسالة إنسانية تستحق القراءة والإحساس بها، وتحبس الشعور في ثناياها، لأنها صادقة وتنطلق من هم إنساني عميق، تعمل على تشظي الروح، هي نصوص مشحونة بالحزن، يسرح الفكر في فضاء النص حائرا في قدرة الكاتب على إنطاق الكلمات، وكيف أنه يجعل للأشخاص أجسادا وللمواقف نبضات

 عندما قرأتها قبل الحرب كانت أكثر ألما، وأشد قسوة، عشنا مع هذه الحرب أسوأ من يمكن تصوره، لم يعد يفزعنا ما كان يفزعنا سابقا، الحرب المصيبة الكبرى التي صغرت أمامها كل المصائب، البتر تكرر والهدم تكررالمجازر تكررت، أصبحت غزة الخيمة الكبيرة التي لا يعظم في عيوننا شيء إلا وضمته في خيمتها مرات ومرات، الحرب فجيعتنا الكبرى...

بعد اشتعال الحرب وَقع القراءة كان أقل وطئا على نفسي وروحي، مع أن عدد كبير من النصوص تتناول الحروب السابقة حيث يفرد مساحة كبيرة لأوجاع غزة، هذه الأحداث التي يقف القلم عاجزا عن الكتابة عنها كما يصفها الكاتب "احياننا الصمت فيه ألف حكاية"

 الأحداث تتكرر وقد توالت الحروب على غزة، والمشاهد ذاتها، أطفال تمزقهم آلة الحرب لأشلاء.

 وغزيون يواجهون البرد وغزيون بالعراء، يشعر الكاتب أننا مسؤولون عن كل ذلك، يتساءل: ماذا سنقول لأمهات نزفن أعمارهن وجعا وصدمة، وخيبة، ومهانة؟

 في دلاله على اتقاد الضمير لديه...

 وتأتي الأعياد خجولة ويصف الكاتب شعورنا بالعيد السابق حيث خجلنا من معايدة الآخرين بالعيد، وكم هي الأعياد التي فتحت الجراح، وأشعلت الحنين للراحلين والأسرى.

 يعطي الكاتب أنموذجا للكاتب الحر، حيث يكتب عن باسل الأعرج، المثقف المشتبك، الذي يستحق أن يتتلمذ على يديه كل كاتب وثائر، فهو أمير الثائرين، وأيضا الفدائي نشأت ملحم الذي كشف جبن العدو، وهشاشة جيش الاحتلال...

ويفرد مساحة في نصوصه للأسير الفلسطيني، ومعاناة أسرته بانتظاره، أفراح مؤجلة وطقوس خاصة، بوابات السجن أطلالهم الحزينة، ويساوي بين خيمة السجن وخيام النزوح، واصفا إياها بمخيمات الموت، ويساوي الحزن والموت كلاهما لهما سكرات.

ويذكر عدداً من الأسرى من ضمنهم الشيخ رائد السعدي الذي أمضى ربع قرن في سجون الاحتلال ويزيد.

ولينا الجربوني واصفاً إياها بالنخلة المعجونة من طهر وصلابة.

وكيف يتلقى الأسير خبر وفاة أقرب الناس إليه، حيث تلقى الأسير طارق قعدان وشقيقته الأسيرة منى قعدان خبر وفاة الوالدة أم محمود _ رحمها الله_  

الكاتب المحمل بهموم الوطن، ويجند قلمه لحريته، لن ييأس و يجد  طوق نجاة وأمل 

 ما دام هناك يوم آخر، يتجدد الأمل مع  كل صباح:

 أشتاقك أيها الفجر

يا بلسم الروح المتعبة

والقلوب المتيمة

وإصرار الفلسطيني على الحياة أمل ونجاة " سيظل الفلسطيني يحمل حقه فوق وجعه"

وفي نص "يخرج من تحت القصف عصياً"  

حيث يقول: 

يخرج من تحت الأنقاض عصياً ويقاتل

ويظل برغم القصف الدمويّ يقاتل

ويكللّ  كل جباه الأم بالغار 

هذا الكتاب غير مسبوق، دليلي على ذلك قدرته على جمع ومزج  المشاعر معاً، والتخاطر مع العواطف انظر إلى المعنى العميق في هذه العبارات " سأواصل الكتابة لأمي، وفي ظلالها تستريح الحياة على أمل العبور إلى الآخرة. 

"سأكتب لزينب التي فتحت لي  في جدارالعمر نافذةً تطلّ على الحياة، وأخذت بأحلامي إلى حيث يهوى القلب ويشتهي" 

وبين الأم والحبيبة ظل ونور مهوى القلب ونجاة للروح.

جمعية محترف راشيا تطلق كتاب الدكتورة عائشة شكر بعنوان “النقد وثقافة التجديد”. ورئيس الجمعية شوقي دلال ينوه بالكتاب والكاتبة

     


من خلال سعيها للوقوف الى جانب كافة المبدعين اللبنانيين وبمختلف المجالات أطلقت “جمعية محترف راشيا” لبنان كتاب الدكتورة عائشة شكر استاذة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية إصدارها الجديد بعنوان “النقد وثقافة التجديد” الصادر عن دار البيان العربي في مقر الجمعية راشيا الوادي وهو كتاب تحليلي مهم حيث وضَعَت له الكاتبة مُقدمة قالت فيها "تكمن أهمية النصوص التي درسناها في هذا الكتاب ليس بما تحمله من إيديولوجيّات وإن كانت مهمة ، إنما بكونها قراءة جديدة للعالم على مستوى الحدث الذي لا يتعامل معه كل الكتاب بالرؤيا ذاتها ، هذه النصوص بمعظمها قد حاولت أن تجدّد أسئلة الأدب وخصائصه وأنظمته، وأن تطرح أسئلة تعبّر عن كل ما يقلق أمر الوجود، إذ اهتمت بالعلاقة بين الذات والآخر، وأنشأت علاقة جديدة مع الله والوطن والإنسان ، كما رفضت المألوف ، فحوّلت التجارب الى قوة تقدم وعياً جديداً من أجل التحرّر والانعتاق، مستعملة لغة مغايرة في التعاطي مع الواقع . وهذا ما أسس لرؤيا تعبيرية جديدة ملائمة للمرحلة التي كتبت فيها ، فهي تعبّر ليس فقط  عن قدرة الكتّاب على تغيير شروط الإبداع ، إنّما عن وعيهم في تحمّل مسؤولية خلق عالمهم ومداه، وفرض رؤيتهم بطريقتهم المخصوصة".

من جهته نوه رئيس جمعية محترف راشيا شوقي دلال بالكتاب وما يحتويه من قيمة أدبية راقية تسلط الضوء من خلاله على مواضيع فكرية مهمة بأسلوب أدبي تحليلي نقدي راقي يدلنا على مكانة الأديبة الثقافية وما تقدمه من أبحاث”.. وشكر دلال الدكتورة عائشة شُكر على كتابها الجديد والذي يشرفنا إطلاقه اليوم من جمعيتنا وسوف نكون مع الكتاب والكاتبة في عدد من المحطات الثقافية”..

الدكتورة عائشة شكر وبعد تقديمها الكتاب لدلال شكرت “جمعية محترف راشيا” ورئيسها الصديق الرسام شوقي دلال على تزيين الكتاب بلوحة من ريشته وعلى إطلاق الكتاب من الجمعية وما تُشَكّل الجمعية من أهمية وطنية جامعة خلال مسيرتها الثقافية على مدى ثلاثة عقود ونيف ولا تزال الى جانب الثقافة والمثقفين على مساحة الوطن والعالم العربي”.


في الصورة: شوقي دلال والدكتورة عائشة شكر مع كتابها الجديد.


الترجمة مسؤولية ثقافية وأخلاقية: في نقد ترجمة كتاب " التخييل الذاتي" لإيزابيل غريل إلى اللغة العربية

  


بقلم: لبنى الصبح

اقتنيت كتاب إيزابيل غريل من باريس إبان صدوره عام 2014 لحاجتي إليه في أطروحة الدكتوراه، ولم تتح لي فرصة الاطلاع على الترجمة العربية للكتاب إلا مؤخرا في معرض الكتاب بالقاهرة. سبق لي أن سمعت تعليقات ساخرة عن الترجمة، لكنني لم أعرها أهمية. وبعد الاطلاع عليها قررت كتابة هذا المقال لعله ينقل إلى القارئ العربي مشاكل الترجمة خاصة عندما يقدم عليها أناس تعوزهم اللغتان معا (لغة الانطلاق واللغة الهدف).

****

تقديم:

الترجمة فعل ثقافي وحضاري يسعف على تقارب الشعوب وتفاهمها، ويُمكِّنُ بعضها من الاستفادة من بعضها الآخر لتدارك تأخرها وتخلفها. وهي أمانة على عنق كل مترجم لنقل المعاني من اللغة الأصلية إلى اللغة المترجم لها بدقة وأمانة. وفي هذا الصدد بين عبد الله العروي أن من بين الأسباب التي حفزته على إعادة ترجمة كتاب " الإيديولوجية العربية المعاصرة" هو كثرة الأخطاء التي تخللت الترجمة الأولى ([1])، وهو ما يحول دون فهم العقل الغربي على حقيقته. أليس من أسباب تعثر مسيرتنا الثقافية هو سوء الترجمة التي غالبا ما يقوم بها أشخاص لا يتقنون إلا لغتهم القومية. " لأني أرى اليوم أنها (الترجمة) أم المسائل فيما يتعلق بموضوع كتابي هذا، أي تحديث العقل العربي. لقد تكلمنا منذ عقود، ولا نزال نتكلم، على تعثر مسيرتنا الثقافية. نكثر من التحليلات والافتراضات، ناسين أو متناسين أم كل ثقافة تتحدد أساسا بمادتها. ما هي المادة التي تغذي أذهان كتابنا ومفكرينا؟ ما هو حظها من الفكر الحديث كما تعرفه الشعوب المتحضرة المحيطة بنا؟ لا نعني هنا ما يقرأه المثقف العربي في لغاته الأصلية، بل ما يقرأه معربا ذلك المثقف الذي لا يحسن إلا لغته القومية"([2]).

تستدعي الترجمة- علاوة على نقل المعنى بأمانة- تمكُّن المترجم من نظاميْ اللغتين المترجم منها وإليها، وتعرُّفه أسرار اللغة وبنياتها الداخلية، وقدرته على إيجاد ما يماثل صيغها التعبيرية في اللغة الهدف دون السقوط في الترجمة الحرفية أو التسانن (transcodage)، وتفوقه في ترك التأثير نفسه لدى القارئ على المستوى الدلالي والأسلوبي والتركيبي والعاطفي. يقول أمبرتو إيكو في هذا الصدد:"الترجمة تعني فهم نظام اللغة وبنية نص معين في تلك اللغة وإنشاء نسخة مكررة من النظام النصي والتي يمكن- تحت تأثير وصف معين- أن تنتج تأثيرات مماثلة لدى القارئ، على المستوى الدلالي و النحوي والأسلوبي والإيقاعي والصوتي والرمزي أو بالنظر التأثيرات العاطفية التي استهدفها النص المصدر"([3]).

ليست الترجمة من لغة إلى أخرى بالأمر الهين لتعذر المقايسة بينهما بحكم خصوصية كل لغة على حدة. وهو ما يقتضي من المترجم- علاوة على ما سبق ذكره- أن يقوم بعملية التفاوض ([4]) بحثا عن المكافئات المناسبة دون الإخلال بالمعنى الأصلي؛ وهو ما يتطلب منه دراية وحنكة لتعذر أحيانا الاهتداء إلى ما يقابل كلمة مؤطرة في سياق ثقافي معين.

وهذا ما يبين أن الترجمة ليست نقل لغة إلى لغة أخرى، بل هي نقل نسق ثقافي إلى آخر؛ ما يستحث المترجم على التوثيق بالتحري في الكتاب المترجم من الجوانب جميعها حتى يكون على دراية بسياقاته الثقافية ورهاناته المعرفية وعدته الاصطلاحية.

سياق المقدمة أملاه علي اطلاعي على الكتاب المترجم (التخييل الذاتي لإيزابيل كريل)([5]) الذي يتعذر قراءته لإبهامه وركاكته ، على عكس النسخة الفرنسية ([6]).والتي جاءت سلسلة وواضحة، وهو ما  حفزني- بالنظر لأهمية الموضوع- على قراءة هذه الترجمة قراءة نقدية للتأكد ما إن كانت سليمة وأمينة أو مخيبة للآمال المعلقة عليها.

تنطلق هذه المقالة من سؤال يهم مدى احترام المترجميْن لمعاني الكتاب الأصلي لإيزابيل كريل، وانضباطهما لقواعد الترجمة المتعارف عليها، كما يسائل المراجعة لمعرفة ما أن كان لها دور في الرقي بالترجمة إلى المستوى المنشود أو إسهام في تحريف المعاني الأصلية والارتداد بالترجمة إلى الدرك الأسفل.

لا يقتصر الأمر على عدم تمكن المترجميْن من اللغة الفرنسية، بل يتعداه إلى ركاكة تعبيرهما باللغة العربية لعدم قدرتهما على تبيئ الترجمة باحترام ضوابط اللغة العربية، والحرص على عدم معاكسة المعنى الأصلي أو الإخلال بالسياقات الأصلية. فعلاوة على حرفية الترجمة وانزلاقاتها، أعاين أيضا وضع الكلام بين المضاف والمضاف إليه، والعطف بالإضافة، وربط النعت بغير المنعوت المقصود، واستعمال كلمات في غير موضعها، وعدم الدراية بمواقع الجمل الاعتراضية، وعدم الإلمام بقواعد همزة التسوية وغيرها من الحالات النحوية واللغوية.

       ونظرا لكثرة الملاحظات، أكتفي بالصفحات الأولى لإعطاء نظرة إجمالية عن سوء الترجمة في الكتاب باعتماد النقاط الآتية:

1-                 يتضح أن المترجمين تصرفا في النص الأصلي بمجانبة المكافئات المناسبة لسوء تقديراتهما من جهة، وعدم تحكمهما في ناصية اللغة الفرنسية وفهم أسرارها من جهة ثانية. وهو ما جعلهما يجانبان الصواب، ويعاكسان المعنى الأصلي. قد أجد العذر للمترجميْن ربما لقلة تجربتهما ولطابعها الغر، لكن اللوم على المراجع الذي كان عليه إن يتفطن لسوء الترجمة، ويعمل على تقييم أدائها، والرقي بها إلى المستوى المنشود.


2-    نورد النصين الأصلي والمترجم فيما يلي:

« Le nouveau roman du je, bâtard engendré au xx°siècle par la fiction (du latin Fingere :façonner)  et le réel) « le réel impossible » est officiellement baptisé en 1977 « autofiction » par Segre Doubrovsky sur 

la fameuse quatrième de couverture de son roman Fils ».P7

"فقد أصبحت رواية ضمير المتكلم الجديدة باعتبارها الشكل الهجين الذي نشأ خلال القرن العشرين بفعل التداخل بين التخييل (عن اللاتينية والذي يعني شكل أو كيف) والوقع (الواقع غير الممكن عند لاكان- تدعي ولأول مرة تخييلا ذاتيا وبصفة رسمية سنة 1977 من طرف سيرج دوبروفسكي الذي وضعها (التسمية) على ظهر غلاف روايته الشهيرة "الابن".ص.23

أكد منظرو التخييل الذاتي على فكرة الخلقة الغربية للتخيل الذاتي لأنها الابن غير الشرعي لأبوين مختلفين في هويتهيْما (التخييل والواقع). فهو- بهذه الصيغة- جنس مستولد ولقيط (Bâltard). أما التهجين - غير الوارد في السياق- فيُقصد به طريقة غريبة في تشابك الواقع والخيال للرد على دعاة الجنس الخالص أو الاختلاط (لا يمكن الجلوس على كرسيين دفعة واحدة، كما ردد فليب لوجون أكثر من مرة). يعود النعت " الشهير" على الصفحة الرابعة من الغلاف التي اكتسبت شهرتها من ابتداع جنس جديد، ومن الارتكاز عليه للتنظير لتوجه جديد في الكتابة عن الذات. يعنى باللفظ اللاتيني Fingere اصطنع وتصنع (Feindre-façonner) وليس " شكل أو كيف"؛ أي قدرة التخييل على تصنع الواقع واختلاقه.

3-إن عنوان رواية سيرج دبروفسكي جناسيٌّ في طبعه ومقصده. فهو يفيد الابن (Fils) بالنظر إلى علاقة السارد بأمه، ويفيد الخيوط( Fils)  السردية المتشابكة كما ورد في المقدمة. في السياق نفسه لم يتجشم المترجمان الرجوع الى رواية "الابن/ الخيوط" للتأكد من المقصود بخيوط الكلمات (fils des mots) عوض الترجمة الحرفية التي اعتمدها المترجمان بقيادة المُراجع (سلاسل الكلمات). وفي النص الذي سأستدل به عن " الأوراق" يتضح ان المترجمين ترجما حرفيا عبارة (Etre soi) دون التحري في معناها ومكافئها في اللغة العربية.

4-علاوة على الصياغة الركيكة للمترجمين، عمدا إلى ترجمة الكلمات حرفيا. لا تقصد إزابيل كريل بلفظ (Avalanche) المعنى القريري المباشر (انهيار الجليد) بل المعنى المجازي (كمية كبيرة من الأشياء، حدث جسيم ومزلزل). 

« Il était aussi l’auteur de livres fondamentaux sur les auteurs canoniques ( Corneille et Proust) et d’un écrit sur la nouvelle critique »p.8

"كان أيضا صاحب الأعمال الأساسية حول المؤلفين " الكنائسيين" ( كورناي وبروست) وصاحب كتاب حول النقد الجديد".ص25.

لم تقصد إزابيل غريل " المؤلفين الكنائسيين" بل "المؤلفين المكرسين" الذين يتمتعون بالقدرة على وضع قوانين وسننن أدبية جديدة (Canons littéraires) وتكريسها. ولا يقصد سيرج دوبروفسكي بعبارة (au soir de leur vie,p8) " في مساء حياتهم ص.25"(لم يتساءل المترجمان على من يعود الضمير "هم"؟ أيعقل أن يعود على غير العاقل؟) بل يعني خريف عمرهم أو بلوغهم من الكبر عتيا، ولا يقصد سيرج دوبروفسكي بعبارة (c’est un privilège réservé aux importants de ce monde,p8) "إنها  امتياز لما هو أهم في هذا العالم ص26" بل يقصد ما يلي: إنها امتياز مقصور على المرموقين أو المشاهير في هذا العالم. و لا يقصد بعبارة (J’écris recta ça tombe pile ,p9 ) " أكتب بانضباط سقوط إلى الوراء ص28" بل يعني ما يلي: أكتب بدقة وفي أحسن الأحوال. أكتفي بهذا القدر لكثرة العبارات والألفاظ المشوهة من هذا القبيل.

5-يترجم   المترجمان النص حرفيا دون فهمه في سياقاته المختلفة. وهذا ما جعلهما يضعان مقابلا مكيانكيا لحرف الفاء باللغة الفرنسية (°f) دون أن يدفعهما الفضول إلى البحث عن المقصود به. سبق لسيرج دبروفسكي أن تحدث أنه سيخصص مذكرة لهذياناته، ثم أشار في أكثر من موقع وخاصة في الصفحة 9 عندما صرح بـ"أن التخييل ( الخلق/ الأسلوب) والواقع  (الشيء)  يوجد في الأوراق (Feuillets) التي  تُنسخُ فيها أحلامُ الذات عينِها"،ص.9. ولهذا كان عليهما أن يثبتا حرف (و) الذي يحيل إلى الورقة.

6-تعمد سيرج دوبروفسكي عدم إثبات علامات الترقيم في هذياناته، لكن المترجمين- في غفلة من المراجع- تطاولا على اختصاص المؤلف بوضع علامات الترقيم في غير محلها وموضعها، ودون استيعاب الخلفية التي تتحكم في مقصد المؤلف بتأكيد الترابط العضوي بين مرضه النفسي وحصص العلاج النفسي، وبين حالته الوجودية وطريقته الخاصة في الكتابة؛ وهو ما أفضى به إلى استحداث جنس أدبي جديد يراهن على تخييل أحداث شخصية محض واقعية.

7- تُرجمتْ عبارة "ََAutofiction intrusive ou auctoriale"بالتخييل الذاتي المقحم والنظمي في حين المقصود هو التخييل الذاتي الذي يتدخل فيه الكاتب (Auteur) أكان كائنا ملموسا أم خياليا، وتُرجم عنوانُ كتاب فانصون كولونا بـ" التخييل الذاتي واضطرابات أدبية أخرى" في حين المقصود هو " التخييل الذاتي والهوس بأكاذيب أخرى"، وتُرجمتْ عبارةُ (introspection classique) ب" الاسترجاع الكلاسيكي" في حين المقصود هو "الاستبطان الكلاسيكي". لا تقصد إزابيل غريل" بعبارة " J’écris un TEXTE EN MIROIR un LIVRE EN Reflets,p9 " ما ترجمه المترجمان " أكتب نصا معكوسا، كتابا تحت الضوء " ص28، بل تقصد نصا في شكل مرآة كتابا في شكل انعكاسات" ...الخ. علاوة على ذلك وردت أخطاء كثيرة في إثبات أسماء الأعلام والتواريخ والهوامش وعناوين الكتب.

8- بما أن المترجمين لا يفهمان النص الأصلي، فقد عمدا على نقله حرفيا بطريقة ركيكة. أعطي أمثلة مع العلم أن الكتاب كله مكتوب بهذا الشكل. " منذ فرويد، والأنا تفر من نفسها. تجمع الذاكرة الواقع والتخييل، فيصبح المتكلم مفككا. لقد اعتبر التخييل الذاتي منذ البدء سيرة ذاتية أعيد النظر فيها من قبل التحليل النفسي" ص30.  " التمييز والتقسيم وسحق الذات في عالم خارج الأعراف التقليدية، حيث يمكن أن يخضع كل شيء فيه للمساءلة والتشكيك، تلقي الإنسان في عصر الشك، ومن هذه الخسائر تتكون نواة التخييل الذاتي....وتفضل بدلاً من ذلك التزام ضمير المتكلم الذي يعكس المجتمع الحالي بواسطة التعبير" ص. 31. "أن مصطلح التخييل الذاتي كان قد أحدث من طرف المؤلف قبل سنه 1975 ثم نسي"، "ف- 1635 (....)أكتب نصا معكوسا، كتابا تحت الضوء بالفعل أنا أكتب المشهد الذي رأيت، والذي أرى، هنا، يبدو الأمر قاسيا. جالس هنا على الإطلاق، هذا صحيح أطلاقا، سيتم النسخ مباشرة، أكتب بانضباط سقوط إلى الوراء. ص28.

9-تحتاج الترجمة إلى التحري في الموضوع واستقصائه قبل الإقدام على ترجمته ( ما يُصطلح عليه في مجال الترجمة بالتوثيق). يتضح من خلال الأخطاء الفادحة المشار إليها سابقا، أن المترجمين يلقيان الكلام على عواهنه، ويترجمان بلا تفكير ولا روية، ويستخفان بالقارئ إن لم نقل يستغفلانه مقدمين له بضاعة بائرة وفاسدة ومُدلِّسة. كان على دار النشر ( رؤية)- والحال هكذا- أن تعرض الكتاب على لجنة القراءة للتأكد ما إن احترم المترجمين لضوابط الترجمة. كما كان على دار النشر (أرمان كولان) أن لا تأذن بترجمة الكتاب إلا بعد التأكد من توافر المترجمين المزعومين على القدرات والكفايات المنشودة.

 استفحلت في العقود الأخيرة ظاهرة المترجمين المزيفين الذين يشكلون خطرا على المثاقفة بتشويه ثقافة الأخر، وإفساد الذائقة اللغوية،ومعاكسة المعاني الأصلية، واللهث وراء النشر والمال على حساب الجودة والنزاهة الفكرية. 

خاتمة:

في ختام هذه المقالة يتضح لي أن الترجمة مسؤولية ثقافية وأخلاقية جسيمة تستدعي شروطا علمية كثيرة لعل أهمها هي الأمانة العلمية، حتى يتحقق التواصل الفعال بين الشعوب، وتُروَّجُ المعارفُ كما هي دون تصرف أو تحريف. وهي تتطلب من المترجم أن تتوافر فيه جملة من المواصفات لنقل المعرفة من سياق ثقافي إلى آخر باعتماد الوسيط اللغوي المناسب، والتفاوض بحثا عن المكافئ الملائم.

إن الفشل في تحقيق هذا الشرط يؤدي لا محالة إلى سوء الفهم والتقدير بين الشعوب، وتشويه المعنى ونقل المحتويات بشكل خاطئ، وقد يفضي أحياناً إلى نتائج كارثية في بعض المجالات. لذا، يجب أن يكون المترجمون والمراجعون والمدققون اللغويون والمحررون على درجة عالية من الكفاءة والوعي بوظيفة الترجمة المثلى، وبتحمل المسؤولية حفاظا على سمعتهم العلمية وسمعة المؤسسات الأكاديمية التي يمثلونها. وهو ما يتطلب المزيد من الاستثمار في المجال المعرفي حرصا على تطوير مهارات الترجمة لتؤدي مهمتها في تقارب الشعوب وتوصلها وتفاهمها.


[1] -عبد الله العروي، الإيديولوجية العربية المعاصرة، ترجمة محمد عيتاني، دار الحقيقة، ط1، 1970.

[2] - عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، (صياغة جديدة)،  المركز الثقافي العربي،ط1،1995.

[3] -Umberto Eco, Dire presque la même chose expérience de traduction, Grasset, p.2003.

[4] - فيما يخص مفهوم التفاوض، ينظر إلى المصدر نفسه، ص. 18.

[5] - إزابيل كريل، التخييل الذاتي، ترجمة حنان أقجيح وفاطمة عبيد، مراجعة وتقديم سعيد جبار، منشورات رؤية عام 2017.

[6] -Isabelle Grell, l’autofiction, Armand Colin,2014.

فادي فوق العادي: قصة كاريكاتيريّة للأطفال


الإبداع؛ التجديد والتجريب وخلق عوالم ما بين الواقع والخيال. عقل الطّفل أسطورة خرافيّة. التّفكير والتّخيّل والتّصوّر والتّوهّم في تكوين عالمنا، والعلاقة مع الآخر والابتكار. خاصّة الأصدقاء وحوارهم المشترك والعلاقة بين بعضهم بعضًا. 

وكيفيّة التكيّف مع المحيط (البيئة)، وبكلّ ما يحيط بنا من جماليّات وأفكار، تلوّن عالم الطّفولة بالخيال



مضمون القصّة، المشاغَبة والمشاكسَة في المدرسة وخارجها. البسمة والفكاهة – والروح المرحة والكلمة الطيّبة، قصّة كاريكاتيرية ساخرة، بروعة جماليّة الرّيشة المبدعة... لتعلو البسمة فوق شفاه الأحبّة الصغار.

عنوان القصّة: فادي فوق العادي

تأليف: وهيب نديم وهبة

إصدار: أ- دار الهدى- عبد زحالقة- 2024

مراجعة وتدقيق: نايف فايز خوري.


قراءة في رواية "الشتات" 2023 للروائي مجدي جعفر

 

بقلم الدكتور / حاتم الشماع

رواية "الشتات" 2023 للروائي المصري مجدي جعفر، هي الجزء الثاني من مشروع روائي كبير، بدأ برواية "على شفا حفرة" التي صدرت عام 2011. هناك تشابك في موضوعات الرواية من التصوف والصراع المجتمعي والصراع من أجل الهوية والانتماء في بيئة ريفية مصرية. سأقوم هنا بقراءة مقتضبة للبنية السردية، وتطور الشخصية، والعناصر الموضوعية، والسياق الثقافي لـ "الشتات".

"الشتات" ليست مجرد سرد أدبي بل تحاكي حقبة تاريخية بعد سقوط الثورة العرابية وأيضا الاحتلال الانجليزي لمصر وسياسة الاحتلال التي عملت على سياسة "فرّق تسد" بين أفراد المجتمع المصري (المسلم والمسيحي). 

البنية السردية

تبدأ الرواية بمشهد حيوي وغامض حيث يصل رجل عجوز متهالك، موصوف بعبارات ناقدة بشكل ساخر " رث الثياب، ذقنه بيضاء مُرسلة بغير عناية، منكوش الشعر، مشتعل بالبياض، نتن الرائحة، محدودب الظهر، فمه مظلم مثل قبر، لا يستطيع أن ينطق جملة واحدة مكتملة المعنى، ولا يستطيع مستمعه أن يصبرعليه، ولا يحتمله ولو لدقائق."(ص1)، إلى قرية "العايق". ألقى وجوده وأفعاله اللاحقة بظلالها على القرية، مما أدى إلى ظهور جدل وخرافات مختلفة بين القرويين. إن تقديم هذه الشخصية يمهد الطريق لسلسلة من الأحداث التي تمزج الواقع مع ما هو خارق للطبيعة، وهو فكرة شائعة في أسلوب جعفر السردي.

يستخدم جعفر سردًا غير خطي، ويتنقل بين جداول زمنية ووجهات نظر مختلفة لبناء قصة متعددة الطبقات. لا تعمل هذه البنية على تعميق فهم القارئ للشخصيات فحسب، بل تؤكد أيضًا على الشعور السائد بالتفكك والتشرذم الذي يعاني منه الأبطال، مما يعكس الموضوع الرئيسي للشتات.

تطوير شخصية

الشيخ سعدون

ويعتبر الشيخ سعدون شخصية محورية يجسد التقاطع بين السلطة الدينية والتلاعب الاجتماعي. تم تصويره كشخصية تستخدم نفوذها للتحريض على الانقسام بين المسلمين والمسيحيين في القرية، وتسليط الضوء على قضايا التعصب الديني وديناميكيات السلطة. توفر أفعاله ودوافعه عدسة نقدية يستكشف من خلالها جعفر تأثير التعصب الديني على الوئام المجتمعي. ومثل هذه الشخصية يمكن أن نجدها في أي مجتمع سواء عربي أو غيره، وسواء في مجتمع مسلم أو غير مسلم، فمثل هذه الشخصية هي شخصية إنتهازية تظهر وسط مجتمع نسبة الجهالة فيه مرتفعة فيستغل تلك الهشاشة التي يعيشها المجتمع ويتبنى المعتقد السائد فيه ويبدأ بإدخال الخرافات والمعتقدات الجديدة بحسب تفسيراته التي تحرف ليس فقط المجتمع عن مساره وإنما تظهر جدلا واسعا داخل الدين وبذلك يظهر الانقسام الكبير داخل المجتمع الواحد. 

البنت الفقرية

تعتبر الشخصية المعروفة باسم "البنت الفقرية" محورية في استكشاف الرواية للتصوف والقوة. تدربت على الفنون المظلمة على يد الرجل العجوز، وأصبحت شخصية ترمز للخوف والانبهار في القرية. رحلتها من ضحية للإهمال المجتمعي إلى شخصية خرافية تستخدم قوة خارقة للطبيعة تعكس موضوعات الفاعلية والمقاومة ضد الهياكل الأبوية.

أبو رقبة

أبو رقبة، الشخصية المرتبطة بـ "البنت الفقرية"، تمثل الذكورة الريفية وتعقيداتها. علاقته بها، التي تميزت بمزيج من الهيمنة والرغبة والاعتماد في نهاية المطاف على قدراتها السحرية، تؤكد على ديناميكيات النوع الاجتماعي والتفاعل بين السلطة والجنس في القرية.

العناصر الموضوعية

التصوف وخارق للطبيعة

أحد أقوى موضوعات الرواية هو استخدام التصوف والظواهر الخارقة للطبيعة لتعكس القضايا المجتمعية. يؤدي إدخال الرجل العجوز للسحر إلى القرية إلى تعطيل النظام الاجتماعي وكشف التوترات الكامنة التي ذهبت مع الزمن. ولهذا الموضوع أهمية خاصة في سياق الريف المصري (العربي)، حيث يتقاطع الفولكلور والخرافات غالبًا مع الحياة اليومية.

الصراع الديني والاجتماعي

يتعمق جعفر في النسيج الديني والاجتماعي للقرية، ويصور الاحتكاك بين المسلمين والمسيحيين. ويتجسد هذا الصراع من خلال شخصيات مثل الشيخ سعدون الذي يستخدم الدين أداة للسيطرة والانقسام. تنتقد الرواية استغلال المشاعر الدينية لتحقيق مكاسب شخصية وما يترتب على ذلك من تفكيك المجتمع.

الهوية والانتماء

عنوان "الشتات" في حد ذاته يلمح إلى موضوع النزوح والبحث عن الهوية. تتصارع الشخصيات في الرواية مع شعورهم بالانتماء، سواء كان ذلك داخل مجتمعهم، أو في عيون أحبائهم، أو داخل الإطار المجتمعي الأكبر. تعكس الرواية تجربة الشتات الأوسع، ليس فقط بالمعنى الجغرافي ولكن أيضًا من حيث الاغتراب الثقافي والعاطفي.

الجنس والسلطة

ديناميات النوع الاجتماعي منسوجة بشكل معقد في السرد. إن تحول "الفتاة الفقيرة" من شخصية عاجزة إلى شخصية تتحكم في القوى الغامضة يتحدى الأدوار التقليدية للجنسين. تسلط قصتها الضوء على النضال من أجل الوكالة النسائية والطرق المعقدة التي يتم من خلالها التفاوض على السلطة في المجتمع الأبوي.

السياق الثقافي

إن "الشتات" لمجدي جعفر متجذر بعمق في الواقع الثقافي والاجتماعي المصري. يوفر المحيط الريفي، بعاداته ومعتقداته وهياكل السلطة الخاصة به، خلفية غنية للرواية. يجسد تصوير جعفر لحياة القرية الفروق الدقيقة في المجتمعات الريفية المصرية، بما في ذلك الترابط بين الدين والخرافات والحياة اليومية.

وتعكس الرواية أيضًا القضايا المعاصرة التي تواجه مصر، مثل التعصب الديني والنضال من أجل العدالة الاجتماعية. ومن خلال وضع هذه القضايا في سياق ريفي، يؤكد جعفر أن هذه ليست مجرد اهتمامات حضرية أو حديثة ولكنها تحديات واسعة النطاق تؤثر على جميع طبقات المجتمع.

الرمزية والصور

إن استخدام جعفر للرمزية والصور جدير بالملاحظة. على سبيل المثال، يثير وصف الرجل العجوز إحساسًا بالانحطاط والهلاك، ويرمز إلى الفساد والانحدار الأخلاقي الذي يجلبه إلى القرية. إن تحول "البنت الفقيرة" إلى شخصية ذات قوة من خلال إتقانها للسحر يرمز إلى إمكانية المقاومة والتغيير داخل الهياكل القمعية.

القرية نفسها، التي كانت في البداية مكانًا للبساطة والروتين، أصبحت نموذجًا مصغرًا لقضايا مجتمعية أكبر وهي تتصارع مع الاضطرابات الناجمة عن الاضطرابات الغامضة والاجتماعية. يعكس هذا التحول في شخصية القرية موضوعات الرواية الأوسع المتعلقة بالتغيير والبحث عن الهوية.

اللغة والأسلوب

يتميز السرد الروائي لـ جعفر بجودته المشاعرية (الغنائية) وقدرته على إثارة إحساس قوي بالمكان والشخصية. إن استخدامه للهجة والتعابير المحلية يضيف أصالة إلى السرد، ويمنح القارئ معنى أعمق قادم من السياق الثقافي للقرية. ويجسد الحوار، على وجه الخصوص، إيقاعات وفروق دقيقة في الخطاب الريفي المصري، مما يعزز واقعية الشخصيات وتفاعلاتها.

خاتمة

"الشتات" لمجدي جعفر هي رواية غنية ومعقدة تنسج معًا موضوعات التصوف والصراع الاجتماعي والبحث عن الهوية على خلفية الريف المصري. من خلال السرد متعدد الطبقات، والشخصيات المقنعة، والسرد المثير للذكريات، تقدم الرواية استكشافًا عميقًا للقوى التي تشكل الحياة الفردية والمجتمعية. إن قدرة جعفر على مزج ما هو خارق للطبيعة مع ما هو اجتماعي، وبصيرته الثاقبة في الطبيعة البشرية والديناميات المجتمعية، تجعل من "الشتات" مساهمة كبيرة في الأدب المصري والعربي المعاصر.

د . حاتم الشماع



جمعية محترف راشيا تُكرم مديرة ثانوية الإمامين الجواد والكاضم (ع) السيدة سعاد مراح الموسوي في علي النهري والرسام شوقي دلال يُشيد بمسيرة المُكرمة

 


جرياً على عادتها في تكريم المميزين في لبنان كَرّمت "جمعية محترف الفن التشكيلي للثقافة والفنون" و"تجمع البيوتات الثقافية في لبنان" مديرة ثانويتي الإمامين الجواد والكاضم (ع) السيدة سعاد مراح الموسوي وافراد الهيئة التعليمة في قاعة الثانوية علي النهري البقاع وبحضور مهندسة التراث مسؤولة شؤون الطلاب في الجمعية منطقة بعلبك وفاء جعفر واساتذة وطلاب الثانوية وحشد فني وإجتماعي وتربوي بقاعي.

بداية مع النشيد الوطني اللبناني والى كلمة مقدم اللقاء احمد رمضان الذي اشاد بهذه الخطوة شارحاً تاريخ الثانويتان التربوي ونجاحاتهما 

والى كلمة رئيس الجمعية وامين عام التجمع شوقي دلال حيث قال "نأتي اليوم الى هذا الصرح التربوي العريق الذي نوجه من منبره تحية محبة وإجلال وتقدير لروح مؤسسها سماحة العلامة السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله من خلال جمعية المبرات الخيرية ولنكرم إدارة ومعلمي الثانويتين وعلى رأسهم المديرة المميزة السيدة سعاد مراح الموسوي وهي السيدة التي راكمت النجاحات عبر سنوات عملها التربوي مع مجموعة من المعلمين والمعلمات المميزين في الحقل التربوي وقد اثمر ذلك نجاحات باهرة رأينا قسماً منها اليوم في معرض الفنون والرسم لطلاب الثانويتين ونو يضاهي بمستواه الفني كليات الفنون في الجامعات ، ومن هذا المنبر ادعوا وزارتي الثقافة والتربية الى إحتضان هذه الطاقات الفنية وإقامة معرض لهذه الرسوم في بيروت حتى يتسنى للبنانيين وطلاب لبنان رؤية هذا النتاج الفني المهم"..

من جهتها شكرت مديرة الثانويات السيدة الموسوي هذا التكريم الذي يعني لها الكثير من جمعية محترف راشيا العريقة في نشاطاتها على مستوى الوطن ورئيسها الفنان شوقي دلال  وهو المتابع لنشاطاتنا ومسيرتنا منذ سنوات وسنبقى على الوعد نقدم كل ما فيه تطور ورعاية للطلاب في شتى المسائل التربوية والفنية خاصة مواكبة التطور العلمي الحديث"..

وفي الختام قدم دلال ووفاء جعفر الدرع التكريمي للسيدة الموسوي ثم جولة على المعروضات الفنية التي شملت مختلف التقنيات الفنية وهي من تنفيذ طلاب الثانويتين


مجموعة رأس الدمّ للشاعر شوقي مسلماني

 


– إياد كعوش. 


" رأس الدم" ــ دار الشنفرى ــ تونس ـ رأس الحكمة، يغوص في تفاصيل الحياة الكثيفة و يأتينا بالتأمّل: "حقّ الزهرة أن يطوف النحل حولها"، "النسيان ذاكرة أصليّة"، "إمعان النظر  عصب الإنارة"، "فقدان الثقة موت آخر"، "أخرجُ إليّ أم أخرج عليّ"؟.. وهنا نماذج من المجموعة: 


العزلةُ 

خروجٌ آخر. 

..

 

الصادقُ 

روايتُه واحدة 

المُختلِقُ  

روايتُه روايات.  

..


الحقيقة    

بحجمِ الكون 

وحتى نفهم الحقيقةَ 

بإطلاق 

يجب أن نفهمَ الكون 

بإطلاق 

وإلى أن نفهمَ الكونَ 

بإطلاق 

يجب أن نقرّ  

أنّ الحقيقة نسبيّة. 

..


العِلمُ شكٌّ  

الدينُ يقين.  

..


العِلمُ أرضيٌّ 

الدينُ سماويّ.  

..


كلُّ احتمالٍ 

هو مِن احتمالاتِ الصدفة 

كي لا يكون الملل أكثر. 

..


مضتْ قرونٌ وقرون   

وهو لا يريد أن ينسى 

لا يريد للموتى أن يرتاحوا  

لا يستطيع أن يفكِّر على نحوٍ آخر؟ 

المنطقُ ذاته، الحكايةُ ذاتها، تكرار، تكرار    

لماذا يصرّ أن يأتي من الماضي؟ 

ممّا يشكو؟ أين عقلُه وخيالُه؟.  

..


روايةٌ أرضيّة 

وروايةٌ سماويّة.   

..


نصفُ الوجه تيهٌ آخر  

والنسيانُ ذاكرةٌ أصليّة.  

..


الظلامُ 

ليس قليلاً  

الظلامُ 

مترامي الأطراف.   

..


جرادٌ 

بحجمِ إنسان 

يقف مستقيماً 

على 

ساقين. 

..

 

ما للنسِرِ 

يحلّقُ عالياً 

حتى بالكاد بعدُ يُرى؟  

قالت طيورٌ لبعضها 

وهي لا تدري أنّه يحلِّق عالياً    

لكي يراها جماعةً وينقضّ 

على المفرد. 

..


يعتقدُ 

حسَنُ النيّة 

أنّ الخيرَ 

ينزل 

لا 

يصعد. 

..


في العَقدِ الأوّل 

من القرنِ الحادي والعشرين 

رجعوا إلى سيرتهم 

في جنوبِ لبنان ـ 2006 

وبعد أقلّ من سنتين رجعوا 

في غزّة ـ فلسطين المحتلّة ـ 

إنّهم يقتلون أهلك، يفلّتون عليهم الوحوش ـ  

في الغضبِ الأكثر يُفكِّر إذا سرٌّ يستترُ 

خلف احتفاءِ البعض 

بأعيادِ الميلاد ورأسِ السنة 

بالزينةِ والمفرقعات 

التي تفتن الجميع خصوصاً الأطفال 

واحتفاءِ البعض بإعلانِ الحربِ على غزّة؟ 

كميّاتُ الرصاص المصبوبِ على غزّة 

لا تقلّ ولا تزيد 

إنّها بكميّة النازيّة في النازيّين الجدد..  

كلُّ جورج حبش 

كلُّ أبي علي مصطفى، كلُّ غسّان كنفاني 

كلُّ محمود درويش، فدوى طوقان، ليلى خالد 

سميح القاسم، إدوارد سعيد 

إميل حبيبي، ناجي العلي 

كلُّ أمّ فلسطينيّة 

"غيفارا" غزّة 

الكلّ 

كلّ أبطال فلسطين، كلّ أبطال غزّة  

وتنزف غزّة؟.

..


شراسةٌ في نصّ 

تسونامي في فنجان  

وقد رِقّة في نصّ تنقل جبلاً 

من مكانٍ إلى آخر. 

..


أن تحبسَ إمرأةً في قعرِ البيت ـ 

أن تحبسَ أمّةً في أدنى سلّم المدنيّة. 

.. 


يتعاملون برؤية 

مع مَنْ يتعامل برؤية 

مع ما هم يرون  

مصّاصو الدماء محترِفون 

في الإعلان 

عن حاجتِهم إلى طيّعين. 

.. 


إمعانُ النظر 

عصَبُ الإنارة.   

.. 


مئات القتلى 

وأكثر مِنْ ألفي جريح 

في غزّة ـ 

40 كلم طولاً، 10 كلم عرضاً ـ 

مليون ونصف مليون 

أعلى كثافة سكّانيّة في الأرض..   

غبارٌ هذا المجتمع الدولي 

350 كلم مربّع 

واحةُ كرامة في 14 مليون كلم مربّع ـ رمل  

يا مليون ونصف مليون موتوا جوعاً،عطشاً ومرضاً 

حربٌ بلا هوادة هي ضدّكِ يا غزّة 

يا غزّةَ "غيفارا غزّة"، يا غزّة الفجر الآتي 

مِنْ أقصى هذه العتمة لكِ السلام 

يا غزّة هاشم 

دمُكِ منارة.  

.. 


أسمعُ نبضَ الصخورِ الصمّاء:      

الرجلُ الشجاع هو إمرأةٌ شجاعة. 

.. 


المُدرِك   

يتهيّب أن يكون موضع شكّ   

المُدرِك  

 لا يتصالح مع ما يُنتِجُ القهرَ. 

.. 


قالَ الثعلب: 

"ليكن خمٌّ للدجاج" 

وكان ما قالَ الثعلب 

وكان خمٌّ للدجاج 

وقالَ الذئب: 

"ليكن للخرافِ سياج" 

وكان ما قالَ الذئب 

وصار للخراف سياج 

وهذا يقول وذيّاك يقول. 

.. 


الظلّ 

يركض على الحيطان  

ولا هذا المتهالِك في الطريق. 

.. 


جعلوا كلاً منّا 

يلاكمُ كلاً منّا. 

.. 


قلاع وحصون 

تُسوّى بالأرض.  

.. 


يعتقد 

أنّ الألمَ يريد 

أن يتّصل   

أصواتٌ منذ الطفولة 

تحتضنُ بعضها كأنّها تنصهر  

الحياةُ ترقّ، تشفّ، وذاتها تلدغ أو تنهش.  

.. 


مَن عادتُه النهش سيَنهش  

ولو هو حتى في المِحراب.    

.. 


يمزّقهم مصّاصُ الدماء 

ولكنّهم يغرزون أظافرَهم بوجهه. 

.. 


"جنكيز خان 

آخِر العصور القديمة 

مفتتحاً العصورَ الجديدة 

حياتُه شكّلتْ نهرَ دمّ 

فاصلاً نهايةَ عصورٍ 

بحبِّها وحربِها، بمائها ونارِها 

وبدايةَ عصورٍ 

بحبِّها وحربِها، بمائها ونارِها 

ونورِها وظلامِها 

وكم يشعرُ إنسانُنا بعدُ أيضاً 

بالإنكسار". 

.. 


انخفضَ منسوبُ الوعي الطبقي ـ   

ارتفعَ منسوبُ طنينِ الذباب الأزرق. 

.. 


ترتيبُ حياةٍ 

صناعةٌ عمياء.    

.. 


وكثيراً يُقالُ أخيراً   

ما كان يجب أن يُقالَ أوّلاً. 


السردية الريفية: قراءة في مشروع مجدي جعفر الروائي


بقلم أحمد محمد عبده

انطباعات وإشارات سريعة:

ـــ أعماله الروائية السابقة: أميرة البدو ولها اتجاه سياسي ينتقد الوضع العروبي 2000/ زمن نجوي وهدان ولها تجاه اجتماعي سياسي ينتقد تداعيات عصر الانفتاح في مصر 2010/ على شفا حفرة الجزء الأول في السردية الريفية 2011, يوم في حياة كاتب سيرة ذاتية عن الكاتب كامل الكفراوي 2022/ الشتات الجزء الثاثي في السردية الريفية 2024 

ـــ  الرواية التي تأتي في أجزاء, الشخصيات فيها مثل جينات العائلة الواحدة, منها مايصمد من جيل إلى جيل, ومنها ما يتنحى في الطريق.

ـــ  فدائما تتكشف الأمور في الروايات ذات الأجزاء, اللاحق تطوير للسابق/  ورواية الشتات فيها تطوير مُطرد لأحداث وشخصيات رواية على شفا حفرة, يمكنك أن تقرأ كل رواية منفصلة عن الأخرى. 

ـــ  مشروع مجدي جعفر في الروايتين, يتمثل الأنثربولوجي/ والميثولوجي,  في أعمق صورهما, القرية البكر, ربما قبل أن نعرف المصطلح  

ـــ في رواية ( على شفا حفرة ) أسس الكاتب لخطوط عريضة ستمشي عليها الرواية, إلى أن تعبر إلى الجزء التالي وهو ( الشتات ). 

ـــ بداية نقول أن ( على شفا الحفرة ), هو الوضع الذي كانت عليه مصر عقب هزيمة عرابي.

ـــ بدأت على شفا حفرة بأسطورة المكان, البركة, النداهة أشهر خرافة في القرى, فانتازيا لموقف جنسي للشاب العشريني مع الكلبة الحسناء!, الشاب في الظاهر التصق بكلبة, لكن في اللامرئي هو مع حورية! صورها السارد مثل "البدر في ليلة اكتماله" 

ــ تطورت البركة في رواية  شفا حفرة لتنشأ على أطرافها قرية في رواية الشتات, وفي كلاهما تنشط الخرافة والسحر والجنس والأسطورة.  

ـــ  فكرة استصلاح خورشد باشا 1000 فدان, إبتدعها الكاتب كشيء لزوم الشيء,  وفكرة موفقة من خورشد باشا, حيث بنى فيها بيوتا ليجمع فيها شتات عائلته, التي تبعثرت كعقاب لها لمساندتها أحمد عرابي.

ـــ أبو كلبة مات منذ اللحظة الأولى للحكاية في رواية على شفا حفرة, لأنه فتش السر!, وفي الثقافة الشعبية من يبوح بسر العفاريت يموت, أو يحدث له مكروه, نكتشف بعد قليل, وبانتقالة ناعمة, أنها المرأة/ التي كانت فيما بعد أم الفقرية: تكلمي يابت, انطقي يابت, والله لم يمسسني بشر( الجني غواني وياما غوى نسوان كتير غيري ) 

ـــ هذه الكلمة أشعلت النار في صدور الرجال, فهم يتركون نساءهم ويغيبون عنهن  بالشهور, في السخرة وفي التراحيل:  مين أبوه يابنت؟ قولوا أبوها, وكمان بنت!, سموها فقرية, ثم تصول الفقرية وتجول في رواية الشتات.

ــ  ومن أبي كلبة مع الكلبة, الحسناء, والتي هي في الأصل تلك المرأة من لحم ودم, في شفا حفرة, أنتجت تلك العلاقة البنت الفقرية/ إلى أبي رقبة في الشتات مع تلك الفقرية وعلاقة جنسية من نوع آخر,الأولى في البركة فانتازيا, والثانية في الزريبة واقعا.  

ـــ  مجدي جعفر ظل يدفع النص في الروايتين ــ على شفا حفرة والشتات ـــ نحو عوالم فانتازيه, تجاوز فيهما الواقع لأقصى استطاعة, اخترق سطح الواقع بجدارة, فسيطرت الواقعية السحرية على الروايتين. 

ـــ لملمة عائلة العايق بدأت من شفا حفرة, على يد النهري العايق,  ولملمة عائلة العايق فيها رمزية لما حدث من محاولات للملمة الوطن المبعثر بعد هزيمة عرابي. 


ــــ  ونحن أمام رواية الشتات, تساءلنا, ما المقصود بالشتات هنا؟/ ظننا أن المحور الأساسي في الرواية هو (لم الشتات) لعائلة العايق,  بعد أن تم تشتيتها وتفريقها نتيجة مساندتهم لثورة عرابي/ اتضح أن الشتات هنا هو شتات وتمزق حياة المجتمع, في التعليم وفي المحاكم وفي الأحزاب وغير ذلك, وفيه إسقاط على الحاضر الأكثر تمزقا

ــــ  في الشتات: وبمناسبة بناء مدرسة, يقول عبده العايق  لمدحت العايق: دعني أُدخل الفرحة على قلب عمي في قبره,  فلولاه لظلت عائلة العايق في شتات إلى يوم الدين استطاع عمي النهري أن يجمعهم ويعيد توطينهم. 

ـــ  البطل؟ لا بطل في الروايتين, الموضوع المُعالج هو البطل/ وربما أميل أكثر تحديدا, إلى أن البركة ــ دون المكان كله ــ هي البطل فيهما, ففيها وعليها وحولها تشكلت أحداث الروايتين, المباشرة وغير المباشرة, كما بدأ ونشط حولها وفيها نشاط الشخصيات, الباشا استصلح الأرض والرعاع مارسوا السحر/  الحدث؟ لا حدث رئيس في الروايتين, الموضوع المُعالج هو الحدث/  الزمن؟ الروايتان فترة تقترب من القرن, من الخديوي سعيد حتى الحديوي عباس الثاني وثورة 1919, أما المكان, فهو واقعي, منطقة مُسماه, من المنصورة حتى الزقازيق.   

ـــ والرواية تقوم على كيانين أساسيين: عائلة خورشد باشا/ عائلة العايق, باقي الشخصيات تدور وتتفاعل في فلكهما, وفي نفس ثقلهما.  

ـــ  من خلال أكثر من 30 شخصية!, الرواية تعالج أرضية مفروشة بالفساد بكل أشكاله, وأجواء مظلمة, كان له نظير في ذلك الزمن في أوربا, الإقطاع والسحر والدجل وسيطرة الكنيسة على الحكم, وهذا ما انشغلت به نوال.  

ـــ أسماء الشخصيات تتواءم إلى حد كبير مع طبيعتها وثقافتها ووضعها الاجتماعي.

ـــ الكاتب يستفيض في السرد الواقعي أحيانا: فى التأصيل لعائلة أحمد عرابي, وعند نوال وهي تتحدث عن الثورة الفرنسية والبلشفية والمقارنة بثورة مصر والحملة الفرنسية, وهي جوانب معرفية مطلوبة في الرواية.

ـــ البِركة هي مختصر لحياة أهل القرى في ذلك الزمن,  مصدر  الجن وحولها يمارسون الدجل والسحر, في ( على شفا حفرة ) كانت منخفض أرضي/ تحولت إلى بركة, وجدناها في الشتات قرية على هامشها بقايا بركة/  والحقيقة إن البركة بكل أساطيرها وغواياتها وخرافاتها, هي ناتج الأحوال السياسية والسلطوية التي شكلت حياة الريف, على طول الزمن.  

ـــ  خطاب الرواية الأساس هو مناقشة الحياة الاجتماعية التي خلقتها وشكلتها الحياة السياسية, تعشيق الأبعاد السياسية في الأبعاد الاجتماعية,  فدائما السياسي هو من يُدير ويُشكل الاجتماعي.

ــ  السياسة هي التي تشكل أحوال المجتمع, الاحتلال والقصر وتواطؤ القصر مع المحتل, والإقطاع والعائلات الكبرى, والعِرق التركي المتغطرس, والحرب العالمية الأولى, كل هذا شكل أسوأ حياة عاشها الشعب المصري.

ـــ الراقصة زوبة هي الوطن المستباح من الاحتلال مرة, ومن أهل البلد يتلاعبون بها مرة.

ـــ الرواية تبث عدة رسائل وإسقاطات, منها العنصرية البغيضة/ التعصب وخلق التوتر بين عنصري الأمة/ الدجل والسحر/ إلقاء الضوء على أحوال المجتمع القديم/ الهوية في خطر/ لماذا الحب ينمو في باريس ويذبل في مصر؟ وكل هذا له ظلال اليوم.

ــــ ظهر التدرج التاريخي من حقبة لأخرى بنعومة واضحة, الخديوى عباس الثاني والقوى الوطنية والمقاومة وسعد زعلول والمنفى/ البعد السياسي في الرواية سيطر إلى حد كبير.

ـــ (على شفا حفرة ) موضوعها بعثرة العائلات وتشتيتها عقب ثورة عرابي/ والسخرة وضيق المعيشة والهروب منها وسع دائرة الشتات/ يقوم النهري بك العايق بجمع العائلة, دائما يقول(أنا لايهمنى إلا أن تجتمع العائلة) 

ـــ  تجمع لشتات آخر, جاء في الفصل الثاني من رواية ( على شفا حفرة ), وهو تزويج بنات خورشد باشا الثلاثة لصبيان المرحومة حكمت هانم شقيقته, وهي زوجة النهري العايق.

ـــ الجزء الثاني من ( الشتات ) بدأ بسكسكة الشاذ جنسيا, وانتهى بسكسكة صاحب المقهى, وكان بينهما مسيرة طويلة للتاريخ.  

ـــ نشعر بمفهوم الكاتب حين نقرأ ( في مصر قلة قليلة تملك وأغلبية كاسحة لاتملك) ونقرأ( يأخذ أرض جده الواسعة ليوزعها على الفلاحين) ليظهر توجه السارد/ الكاتب نحو الناصرية والاشتراكية.

رواية الشتات تقوم على مجموعة من الخطوط المتوازية: 

ـــ  القهر الاجتماعي والسياسي ويمثله البعض من عائلة الباشوات/ الخط الوطني ويمثله عائلة العايق وبعض الأشخاص/ الخط الإنساني ويمثله النهري العايق ونوال وعصمت/  خط الانتهازية والأنانية ويمثله الشيخ سعدون/ السحر والدجل والفقر والجهل وتمثله أم الفقرية والفقرية وأبو رقبة وغيرهم/ خط الجهل والجبروت والعنصرية يمثله إبراهيم العايق وصفوت العايق / الاستنارة يمثلها مدحت العايق وعبده العايق/  الخط السياسي, الكلام عن الثورة العرابية والثورات العالمية, وممارسات الاحتلال في مصر, وجاء في معالجات سردية, كخلفيات للمشهد الاجتماعي 

اللغة والحوار:

ـــ  اللغة في ( على شفا حفرة ( مبسطة للغاية, والحوار بالعامية, وفي ( الشتات ) فصحى مخففة, لكنها أعلى درجة من ( على  شفا حفرة ), الحوار بالفصحى المخففة,  باستثناء بعض الكلمات التي لاتناسب الشخصية, مثلا: عبده الزيني يقول: أنا بالكاد../  وزوبة تقول: لم يشبهُ شائبة/  سعدون يقول لا بأس,  فقرية تقول من أخمص قدمي/ وأمها تقول بين الفينة والفينة, كما تقول: أنا لا أميل ولا أهفو إلى رجل. لكن يتسق الحوار في الغالب مع الشخصية, وميزة كبرى عند الكاتب استخدامه لكلمات ومصطلحات أيقونات من تلك البيئة.  

حزمة الجنس والسحر:

ـــ  الجنس يمشي مع القارئ في الروايتين, حتى أم الفقرية الخمسينية المشبوبة مع عمال البناء/ الجنس والدعارة التصقا بالمدينة حصريا, ربما الماكياج والعري واللغة الجريئة, غير الخجولة, كان لها دور في تلك الفكرة/  القرية على وجهها برقع وطرحة وشال وجلباب طويل وخجل فطري كاذب, ومن الخطأ أن نظن أن القرية مبرأة من الدنس, حقول الذرة بيوت سرية, عشش الدجاج بيوت سرية, التعريشة في الغيطان بيوت سرية, أسطح الدور المتجاورة  وماعليها من حطب وصوامع غلال بيوت سرية ( محمد ابن هلال البسيوني والبنت صباح نموذجا), ففي القرية مناخات للجنس مثل المدينة/ ولييس مجرد هجوم محمد ابن هلال أبو حديدة عليها في برج الحمام فقط, ولكن التصوير النفسي الذي صوره الكاتب للبنت الخرساء الصماء, أثناء ممارسة القط أو البس مع البسة, واحتراق مشاعرها, وأيضا احتراق مشاعر محمد وهو واقف يتلصص عليها تارة, وعلى المنظر الجنسي الحيواني تارة أخرى.

ـــ  يقولون: الله خلق القرية.. والإنسان صنع المدينة/ فالقرية فيها الدنس البشري, من ناحية أخرى نجد الفطرة الطاهرة: الكلب ينط على الكلبة علنا, والحمار على الأتان علنا, وتذهب المرأة ببطتها لذكر البط عند جارتها لكي يخصبها.. أيضا عيانا بيانا.  

ـــ مشهديات جنسية عالجها الكاتب بشبق: الشاب العشريني  وممارسته الجنس مع الكلبة الأسطورة/ صباح المُعاقة جسديا, وتجربة البِسة مع البِس,  وكأن هذا المشهد أيقظ فيها المشاعر الحسية/ فكلما غرس البس أسنانه في رقبة البسة تتحسس قفاها الناعم, وتتساءل مع نفسها: لماذا لا تفر البسة من أمامه؟/ مشهدية موقف البنت معزوزة مع أمها / أمها تنفي عن زوجها مقدرته الجنسية. وهو صحيح, في حين نساء الحارة شافوا العض والخربشة في جسدها, فيتوهمن أنه من فعل زوجها معها, لكن في الأصل هو من الجن, فقد عشقت البركة, تستعني بجن البركة عن زوجها أحمد الضعيف/  مشهدية الفرس والفرسة كانت الفرسة تصرخ وتئن تحت الفرس/ عصمت فعل نفس المشهد مع نوال, تصوير الأماكن الحساسة عند نوال بالحديقة الغفل, لذلك عصمت صار لايحب الحدائق المهذبة, طلب من أبيها عم عبده ألا يقلم ويهذب أشجار وحشائش الحديقة. 

ـــ الفصل الأول في (الشتات ) بدأ بالسحر والجنس, الفصل الثاني بدأ بالشذوذ الجنسي مع سِكسكة.

أبعاد اجتماعية:

ـــ العنصرية البغيضة: تابوه الباشوات: لا زواج من الرعاع/ القهر الجسدي والنفسي/ عالم السحرة والدجالين/  الطبقات المهمشة لها شكل لممارساتهم الجنسية والعاطفية/ ولطبقة الباشوات شكل لممارستهم الجنسية والعاطفية

ـــ الكلافين عند عائلة العايق يترفعون على الناس بقربهم من أفراد العائلة 

ـــ  الفصل الأول في ( على شفا حفرة ) الأحوال الاجتماعية : جرجس يداري ورقة اللحمة حتى لا يراها الناس فيحسدوه.

ـــ المولد يعتبر سوق القرية والفضاء الذي يمارس أهلها كل أنواع الأنشطة, المباحة والمحرمة, وارتبط المولد بالرواج الاقتصادي الذي صنعته زراعة القطن.

ــــ تقاليد وأعراف عائلات الباشوات, توازي تقاليد وأعراف ومفاهيم الطبقات الدنيا, كلاهما يعيش في جهل من نوع معين, والنوعين ضد مايحدث في فرنسا من نور, فتقول نوال " كل شيء طاله التغيير إلا أنتِ ياعزبة صفوت" 

لقطات درامية مُشعة:

ـــ المأساة وقمة الدراما أن يُرغم صفوت باشا عبده الزغبي لإرسال خطاب لابنته نوال في باريس مفاده أن أباها واقع تحت التعذيب بسببها, وتنتهي المواجهة عند ص 51 بطريقة درامية سينمائية رائعة.

ــــ الخطاب الذي وصل لنوال من أبيها المغلوب على أمره تطوير للرواية, وهو حدث مفصلي في الرواية, واجهت نوال صفوت باشا حماها بجرأة القطة التي تدافع عن صغارها, وتقول له: أنت كذاب.

ـــ  كان من الطبيعي أن يعقب هذا المشهد الدرامي الكلام عن محمد ابن هلال ومنير مراد والحديث عن التحرر والثورات, فيبدو عليه التمرد, عقب قهر نوال وإذلالها وطلاقها من عصمت, ونلاحظ هنا أن نوال كانت حبه القديم ووجدها فرصة.

ـــ نبوءة نوال وعصمت زوجها وهي تتحدث مع احمد ابنها, ربما هو من سيقوم بالثورة القادمة ويوزع أراضي الإقطاعيين على الفلاحين, لا بد هي إرهاصة لثورة يوليو 52, وربما هو ما يعالجه الكاتب في الجزء الثالث.   

ـــ من إلمام الكاتب/ السارد بخبايا السرد, لم يأتِ بصيغة خطاب نوال لأبيها عبده الزيني, فمحتواه لابد سيكون هو نفس محتوى الخطاب الذي أرسله أبوها لها, القارئ سيتخيل ماذا سيكون, كما تخيلت نوال في الغربة أبوها, من كلمات الخطاب!, وهو مربوط في ذيل الحصان يجره في شوارع العزبة.  

ــــ فلاش باك ص 39 , عقب صدام نوال مع صفوت باشا, وكأن السارد/ الكاتب يؤكد على العلاقة الوثيقة بين نوال وعصمت, ولها الحق في الدفاع عنه لأنه ترك القصور والمال والجاه في سبيلها, ومدى السعادة بينهما, وقد هدمها صفوت باشا حماها

ـــ  الطريقة التي مات بها النهري العايق, وحكمت هانم تأتي له في صورة فراشه لتأخذه للأخرة, عالجها الكاتب بطريقة سحرية رائعة, لحظة صلاة الجمعة, وافتتاح المسجد الذي بناه, والخطيب يخطب ويُثني عليه, تظهر له المرحومة زوجته حكمت هانم, في   هيئة فراشة, تناديه ويناديها: جي لك ياغالية, وتفيض روحه كأنها نسيم.   

ـــ زوبة الراقصة يتناوب عليها جنود الاحتلال ويعطونها المخدرات الوطن المستباح في غيبوبة

حزمة الدجل والخرافة والتعصب:

ـــ صناعة الولي, الشيخ عبد العاطي في ( على شفا حفرة ), يبني مقاما لأحمد الضعيف, يتحول من أحمد الضعيف إلى أحمد الطيب ليصير وليا صاحب كرامات, وخليفة للسيد البدوي, سهولة إنشاء الولي ومقام له في القرى, أيضا سهولة تدشين الساحر والدجال,  جرجس يساهم في الضريح تقربا للمسلمين, نموذجان للدجل والانتهازية: الشيخ عبد العاطي في ( على شفا حفرة ), والشيخ سعدون في (الشتات ).

ـــ شيخ المسجد في الشتات مستنير ويرفض التحريض ضد النصارى/  شيخ المسجد في ( على شفا حفرة ) متعصب وتعصبه كان مجاملة لعائلة النهري.   

ـــ سعدون استخدم الدين لمحاربة جرجس في لقمة عيشه, في الروايتين محرض ومحراك شر,  وفي شفا حفرة يسمي دكانه بقالة الإسلام/  وبعد بناء المدرسة تستفحل فيه شخصية الانتهازي. 

ـــ في شفا حفرة  الشيخ عبد العاطي رأى في المنام أن أبا الأنوار : قال له روح ياعبد العاطي وادفنوه مكان مقتله ــ  المقصود أحمد الضعيف ـــ  وأقيموا له مقاما, ثم راح  يُنصِّب نفسه خليفة لصاحب المقام, راسه براس خلفاء البدوي والدسوقي,  ويوم مقتله يكون ذكرى لإقامة مولد له.

ـــ  الوعي الجمعي عند المسلمين لايتقبل بناء كنيسة ( أجهض خبر بناء الكنيسة فرحتهم ببناء المدرسة)

ـــ بدايات بناء كنيسة كانت في ( على شفا حفرة ) قام بها هاني جرجيوس, قهره وداسه بالحصان عبد الوهاب العايق, كنيسة في قرية العايق ياكلب؟

تطورات وتحولات: 

ـــ أول تطوير حدث لشخصية من شخصيات شفا حفرة, وظهرت في الشتات, هي شخصية الفقرية, حينما تعلمت السحر وصار مهنة لها مع أبو رقبة (أول من داعب أنوثتها )

ـــ نوال من خادمة في قصر صفوت باشا إلى زوجة عصمت ابن الباشا, ثم مثقفة تتحدث عن فولتير وجان جاك روسو, وصحافية وناشطة سياسية.  

ـــ وتتعلم الفرنسية, وتعمل في جرنال فرنسي, قابلت مصطفى كامل وأجرت معه حوار, مثقفة وتناضل من أجل مصر والعالم الثالث, صارت انسانة مختلفة تماما, تقول ( يا إله الحب العظيم)

ـــ عصمت باشا ونوال يحلمان بالحرية والعدالة/ محمد ابن هلال يحلم بالحرية والعدالة ولم تتحقق أحلامهم, مدحت باشا يحلم بالتنوير والعدالة, هو نفسه واقعنا المُجهض دائما

ـــ محمد ابن هلال مع البنت صباح في برج الحمام في شفا حفرة / وفي الشتات تتطور شخصيته ليكون ثائرا ومتمردا وحزبيا, يحلم بالحرية/  من مقاول أنفار, لواحد يتكلم عن الاشتراكية العلمية وماركس ولينين والآحزاب!  

ـــ  الاستطرادات التاريخية, وفي تحليل شخصية نوال مثلا, وثقافتها ونشاطها والثورة الفرنسية ممكن نتقبله, على سبيل تجسيد ورسم الشخصية, والبعد المعرفي من صميم فن الرواية.

ـــ عبده بك العايق شكَّل مجموعة سرية تقاوم الانجليز بالسلاح

ـــ من التحولات أيضا بوار تربية وتجارة الخيول عند عائلة العايق

أخيراً: 

ــــ  في الشتات: المقطع رقم ( 11 ) ص 135 مبني على أم الفقرية الخمسينية, و(شكشكات جسدها), وقد طال الكلام عنها طوال الرواية.

ــــ الجزء 12 ص 141 مبني على لواحظ, وزوبة عارية ومشهد الجنس مع عساكر الانجليز وعبده العايق  يهجم عليهم, والمخدرات والبغاء الرسمي, عولجت هذه المشاهد طوال الرواية, الكاتب/ السارد يريد التركيز على أن الاستعمار غيَّب الشعب بالمخدرات والجنس يقول عبده العايق: (ماذا أنتم فاعلون بنا يا أولاد الكلب؟) 

ــــ هذا الجزء ليس فيه سوى تدشين شخصية باسل, إعدادا لمستقبل ثوري تنويري له, وورد فيه التبشير بعرابي آخر 

ـــ الجزء 13 والأخير على مقهى سِكسكة جدالات بناء الكنيسة وتنتهي بمقتل مدحت بك شهيد التنوير

ـــ ما أريد قوله من سياق الأجزاء الثلاثة أن الرواية سقط منها عنصرين مهمين هما نوال وعصمت, لو أفسحت لهما الرواية هذه المساحة, لتنتهي بهما الرواية؟

ـــ ومع ذلك, ولأنه مشروع يأتي في أجزاء,  فربما كل من يسقط في هذا الجزء من شخصيات " أو يتنحى بطريقة الجينات", ادخره الكاتب للجزء التالي.  


مكتبة المنارة العالمية تُتوّج (النهر) بفيض العناية والصوت العذب




بنشيد جريان (النهر) ينساب بالصوت العذب، تفاصيل القصّة.. الإبداعية الإنسانية ورفعها وتنصيبها في المنارة – التي تضيء العالم بأصواتها الرائعة. 


لمكتبة المنارة:

السيادة للكلمة، العظمة لمكتبة المنارة العالمية. التحية لمديرها المحامي: عباس عباس.. والتقدير الكبير للطاقم المهني، التقني، بإدارة: محمد اكتيلات والنخبة المميّزة العاملة بكل جهد واجتهاد، لرفع مكانة أدبنا المحلي إلى العالمية. 


نبذة عن قصة النهر:

النهر؛ كيف يغيّر مجرى حياة عائلة بكاملها! كيف تتحوّل لعبة صغيرة إلى لعبة كبيرة في ملاعب الحياة. هل هي المصادفة؟ أم القدر الذي يكتب لنا مصائرنا ونرى واقعنا قد تغير.. تبدّل من النقيض إلى النقيض. قد أرهقني السؤال؟ عن الإعاقة. هل هي مصدر التحدّي والتصدّي والقوّة.. أم الانطواء والسكينة والهدوء.. أم الإرادة؟ هكذا ورد سؤال البداية لقصتي – النهر. قصة تدخل في كل التفاصيل الصغيرة، وتكوين النسيج الإنساني العائلي الفريد، الذي يجعل من النقص أو الإعاقة، أو فقدان أي قدرة لإحدى الحواس - قوّة وعظمة ونجاحات، بفضل التربية الصالحة والعاطفة المتدفّقة، المتجلّية في قمّة الإنسانية. أورد هذه السطور للتعريف بقصتي الجديدة (النهر) لكي أقول للعالم (ما زال الإنسان - فينا رغم الحرب والقتل والدمار).

بكل قدرة وجبروت وقوّة.. اندفاع جريان النهر (كان التحدي للإعاقة) المكانة للكلمة الطيبة والأسرة الفاضلة والتربية الصالحة.

قصّة النهر للأطفال والناشئة - تطرح قضيّة إنسانيّة مركّبة (ما بين المحبّة المطلقة لمساعدة الآخر، وبين التربية المدروسة وفق القواعد والنظم، لخلق أسرة مثقفة قادرة على مواجهة العالم) هنا بالرغم من أن الطفل معروف أصمّ يتحدى كلّ الصعاب ويصل بفضل التربية إلى درجة الدكتوراه في علم الإشارات.


الأديبة شهربان كتبت عن النهر:  

عندما تعانق البذرة المغلّفة بالظلام، ضوء الشمس وتمتصّ عطر التراب وماء الحياة، تصبح بذرة صالحة، حيّة تُرزق، تغمرنا بخصب المواسم، ولولا هذه المصادفة العجيبة، التي جمعت الراوي مع معروفٍ، الصبيّ حلو الشمائل، الأبكم والأصمّ، ووالدته الأرملة، التي كانت مستعدة أن تفعل له المستحيل كي تمنحه حفنة فرح.. ويحتضن الراوي العائلة المحتاجة، ويدعمها بكل ما لديه من قدرات وإمكانيات بعد أن يمنح الأم عملا ومأوى، ويرعى موهبة الصّغير في فنّ الرسم والتّصوير، ويعزّزها، فهو رجل مثقّفٌ، يدرك قيمة الإبداع وقيمة الإنسان المُبدع، ويدرك إن الأيام دولٌ، وأنّه مهما شيّدنا من بنايات وعمارات، فإنها آيلة للاندثار والخراب، كما لا يبقى في النهر إلاّ حجارته، فلا خلود سوى للأدب والفنّ والجمال.. وقد ينسى جهابذة الاقتصاد وأصحاب البورصة، أن سعر الدقيق في زمن هوميروس، كان قرشًا، أو قرشين، ولكنهم لن ينسوا الإلياذة.. ولوحة الموناليزا وحدها تجذب سنويًا تسعة ملايين زائرا لمشاهدتها في متحف اللوفر؛ ومقطوعة الدانوب الأزرق ليوهان شترواس خلّدت اسم النهر للأبد؛ إذن الإنسان تخلّده الموهبة مهما اختلفت مشاربه وأصوله.. كما يخلّد النهر مجراه، ورعاية الأولاد الموهوبين واجب وطني، واجتماعي، حسب اعتقادي، يحسّن فرص اشتراكنا وحضورنا في النظام العالميِّ الجديد. ولذلك يصرّ الراوي، السيَد باسم، هو وعائلته الكريمة على عرض كل لوحات معروف في معرضٍ فاخر، وتكريمه قبل أن يسافر للدراسة والبحث، وتقديم رسالة الدكتوراه ضمن بعثة جامعيّة، تدرس مهارات لغة الإشارات ومهارة الهجاء بالأصابع، الأبجديّة المبكرّة لدى الأطفال – ص 55 لأنه يدرك أن ملايين البشر بحاجة لهذه الدراسات القيّمة ولذكائه الفذّ.


الأديب نايف خوري يقول:

هذه الشريحة البشرية من ذوي الهمم والتحدّيات، تحتاج إلى اهتمام عالمي وليس أقاليمي أو جغرافي فقط، وهذا بالذات ما فعلهُ المبدع وهيب وهبة بطرح قصّة النهر، التي تطرق أبواب العالمية بالإنسانية المطلقة، والروحانيات السماوية، والتربية ومساعدة المحتاج، ورفع قضيّة الانسان المعاق إلى مصاف العالميّة.. 

لقد برع صديقي وهيب بإثارة عنصر المفاجأة وفيض المشاعر، حين علم أن معروف يعاني من الصمم والبكم.. وازداد هلعًا حين سقط الصبي في النهر.. فينشغل العالم كلّه لإنقاذ الطفل من النهر ومن الهلاك.. ولكن أفكاره كلّها وكامل اهتمامه ينصبّ لإنقاذ من سقط في النهر.. وتغمره المحبّة ويزداد حنينه لمعانقة هذا الطفل، الذي أسقط دميته في النهر وبقي هو سالمًا معافى.. 

إن النزعة الرومانسية تثير في النفس العواطف الجيَّاشة.. إنها روح أخي وهيب، الرقيقة، الحساسة، العطوفة، المتواضعة، المُحبّة.. هذه روحه بالمواقف العادية، فكم بالحري في موقف أمام طفل أصم وأبكم!!؟ أراه يكاد ينهار في هذه الحال، يذوب تعاطفًا وينساب حنانًا وعطاءً كمياه النهر المتدفّق.. إن الروحانيات تأسر قلب وهيب، وتشغله عن أمور الدنيا، فما بال العالم يتغاضى، يتجاهل، يبتعد عن التفكير والاهتمام والعناية بذوي الهمم؟؟ هل بدأنا نرى تيارات محلّية وعالمية تولي ذوي الهمم عنايتها، وتبعدهم عن هوامش المجتمعات، إلى مركز الاهتمام، وبؤرة القدرات التي يتحلّى بها كلّ ذي همّة؟؟ إن هؤلاء هم جزء لا يتجزّأ من المجتمع، فكيف نلقي بهم جانبًا؟ لم يكن مجتمعنا في السابق يعي مكانة ذوي الهمم، بغضّ النظر لأي إعاقة، فيعاملهم بالدونية، والنبذ والتحييد، ويعتبرهم جسمًا ساقطًا غير متكامل. لكن أهل الحضارة تنبّهوا لأفراد المجتمع، الذين قد يفقدوا إحدى حواسّهم، أو أطرافهم، أو ميزاتهم العادية، لأن هؤلاء ولدوا خلقة الله، ولا لذنب اقترفوه، أو إثم اقترفه ذووهم كما كان يعتقد، حتى ظهر من بين ذوي الهمم، أولئك الذين تفوّقوا على أبناء المجتمع، بذكائهم وقدراتهم وإنجازاتهم وعلومهم، فظهر منهم العلماء الأفذاذ، والنوابغ والناجحون والمنجزون.. ولذا ينبغي إفساح المجال، والإتاحة والدعم والمساندة والتشجيع، وتشريع الأبواب والقوانين لذوي الهمم العاديين، كي يشقّوا طريقهم ويعيشوا في المجتمعات بكرامة واحترام وتقدير، بكافّة المستويات والصعد، وبكلّ المجتمعات والفئات المجتمعية. وعلى ضوء الوعي المحلّي والعالمي لذوي الهمم ومكانتهم، فسوف نشهد لهذا النهر جريانًا في لغات عالمية عديدة. 


قصة النهر:

المؤلّف: وهيب نديم وهبة

اللغة: عربية

القارئ: أحمد صالح

دار النشر: أ- دار الهدى، عبد زحالقة.

سنة النشر: 2024

فئة الكتاب: للأطفال والناشئة.


الرابط لقصة (النهر) بالصوت العذب.

https://arabcast.org/books/5616-%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B1


جماليات السرد في رواية "الشتات" للكاتب مجدي جعفر





الكاتبة الجزائرية: د. فريدة إبراهيم

مدخل تمهيدي

تدور أحداث رواية "الشتات"في قرية العايق التي أسسها "النهري العايق" أحد شخصيات الرواية وقد شاركت عائلته في ثورة عرابي وبعد هزيمته عاقب المحتل الانجليزي والخديوي باشا عائلة العايق، فجردت من أملاكها وألقابها المتوارثة باعتبارها سليلة أسرة علوية، فتشتت في أنحاء البلاد. فيما بعد استطاع "النهري العايق" استعادة أمجاد عائلته ولمّ شملها حول البركة الواقعة بين الزقازيق والمنصورة، واستصلح الأرض، وزرع شجرة القطن، فتجمع الناس حول البركة التي صارت تسمى قرية العايق، وحول البركة نسجت حكايات عجيبة.

غاص الكاتب في العالم المثيولوجي لأهل القرى، المليء بحكايات الجن والعفاريت، وبالتوازي مع ذلك رصد فترات تاريخية مختلفة للوطن منذ الاحتلال الانجليزي والخديوي باشا، وقيام ثورة عرابي وما تلاها من محاولات للتخلص من الاحتلال، كما طرح قضايا التفاوت الطبقي، والصراع القائم بين أطياف المجتمع الواحد؛ مسلمين ومسيحيين. 

تنقسم رواية "الشتات" إلى فصلين، وكل فصل ينقسم إلى وقفات مرقمة، واعتمدت في سردها على تقنية الراوي الخارجي الغائب عن القصة التي يرويها، يحلل دواخل الشخصيات ويصفها من الخارج، يروي بضمير الغائب وهو عليم بكل شيء، ولا يبرر مصدر معلوماته ما يؤدي أحيانا إلى إسقاط القناع عنه، ليكشف صوت المؤلف، لذلك يقرنه "توماشفسكي" بالمؤلف(1). يتنازل الراوي في مواضع كثيرة للشخصيات ليسلمها زمام السرد مما يقلل من هيمنته، لكنه يظل محافظا على وظيفة تأطير السرد والتعليق عليه. ما يلاحظ على الرواية أنها لا تعتمد على بطل واحد، فكل شخصياتها تتضافر لتقدم الأحداث وتدفع بها إلى الأمام حتى بلوغ النهاية.

سندرس في رواية "الشتات"بعض التقنيات الفنية التي تشكّل سمات مهيمنة تضفي على السرد جمالية واضحة، وسنستعين برواية"على شفا حفرة"كلما استدعى الأمر ذلك باعتبار أن هذه الأخيرة تمثل الجزء 

1

الأول المكمل لرواية "الشتات". سنركز في دراستنا على: العتبات النصية من خلال البدايات والنهايات الروائية، ثم دور المكان ودلالته في الرواية من خلال المكان/الوطن، المكان كقيمة اجتماعية، المكان الطارد، وعجائبية المكان، وأخيرا، جمالية اللغة الروائية من خلال لغة السرد، ولغة الحوار.


أولا/ العتبات النصية

تمثل العتبات النصية، مداخل مؤطرة لاشتغال النص وتداوله، بحيث تمنح القارئ تصورا مسبقا للنص(2) والعتبة حسب"ج.جينيت" هي كل ما يجعل من النص كتابا يقترح ذاته بصفته كذلك على قرائه، وبصفة عامة على الجمهور(3)، وتشمل: الغلاف، العنوان، الإهداء، التصدير، البدايات، النهايات...


1/ جماليات البداية الروائية في روايتي "على شفا حفرة" و"الشتات"

تمثل البداية الروائية مفتتح النص الذي قد يحمل نواة النص الروائي ككل، أو يكون تمهيدا لما سيحدث لاحقا، وينبغي على البدايات الروائية أن تجذب القارئ وتحفزه على مواصلة القراءة(4)، وربما هذا ما فطن له كاتب رواية "الشتات"، و"على شفا حفرة"، فالبدايتان متميزتان ولن أبالغ إذا قلت بأنهما كانتا السبب في جذبي إلى العملين لإكمالهما في فترة وجيزة. 

والحديث عن البدايات الروائية، يطرح قضية نقدية إشكالية، تتمثل في افتقاد الناقد أو الباحث إلى معايير وضوابط نصية دقيقة تشكل مرجعية يمكن الاستناد إليها في البحث عن حدود البداية في الخطاب الروائي(5)، فقد تطول البداية الروائية، فتمتد إلى فصل كامل، وقد تقصر فتكون عبارة عن الجملة الأولى، أو الفقرة الأولى من الرواية. 

ومن منظورنا الخاص رأينا أن الجزء الأول من رواية "على شفا حفرة" المقسمة إلى ثلاثة أجزاء، يمثل البداية الكلية للروايتين معا لأنه جاء كتمهيد احتوى على لمحات تعريفية بشخصيات الروايتين والتعريف بالأماكن، وببعض الأحداث التي سيفصل فيها لاحقا. تمتد البداية الروائية في رواية "على شفا حفرة"من الصفحة السابع إلى الصفحة السادس والسبعين، حيث يقدم الراوي منذ الجملة الأولى المكان الذي تجري فيه أحداث الروايتين، وبالتالي يمكن تسميتها بالبداية المكانية، فهي تقدم وصفا للبركة، وكيف تشكلت عبر العصور إلى أن صارت تسمى قرية العايق، يضفي الراوي على وصفه للمكان مسحة من 

2

الغموض منحت السرد طابعه الجمالي المميز، ليحقق بذلك وظيفة الإغراء وجذب القارئ منذ الوهلة الأولى. يقول:"لا أحد يعرف تحديدا سر هذا المنخفض الأرضي الكبير، في تلك المنطقة التي تقع ما بين المنصورة والزقازيق... يمتلئ بالماء الراكد أبدا، لا تنقص منه السنون، ولا يجف ولا يتبخر ولا أحد يعرف كيف يتجدد ليحافظ على منسوبه ثابتا؟...َمن قائل بأنه منذ أيام محمد علي...منذ أن بدأ في شق الترع، وحفر المصارف، فتسرب الماء من الترع والمصارف إلى هذه الأرض المنخفضة، وتشكلت البركة، ونمت أشجار الغاب.."(6). ثم يقدم شخصيات الرواية:"أم الفقرية" وحكايتها مع الجني الساكن في البركة ووالد ابنتها"الفقرية"، شخصية"عبده العايق"، وعمه "النهري العايق" وزوجته وأولاده، وشخصية جرجس التاجر المسيحي، وشخصية معزوزة زوجة أحمد الطيب وحكايتها مع الجني الساكن في البركة الذي تقتله لتحرر زوجها منه إيذانا منها بتطهير المكان من دنس شوه القرية، وألحق الأذى بأهلها.

يتصف المحكي الافتتاحي في رواية "على شفرة حفرة" بالطابع العجائبي الموغل في المثيولوجيا الشعبية التي تؤمن بعالم الجن والعفاريت الذين يسكنون البركة ويستدرجون النساء والرجال، فتكثر الحكايات والقصص العجيبة التي يتناقلها أهل القرية. 

تمتد هذه القصص العجيبة إلى البداية الروائية لرواية "الشتات" التي تشغل الصفحات الست الأولى

منها، حيث نغوص مع الكاتب في عالم السحر والشعوذة مفتتحا الرواية بقدوم شخصية مجهولة إلى القرية ، يقول الراوي في الجملة الأولى:"طبّ على القرية، لا أحد يدري متى؟ ولا كيف؟"(7)، وهي جملة تثير حالة من الغموض والتساؤل، وقد انتقى الكاتب فعل"طب"من العامية المصرية لما لها من وقع على القارئ المحلي، ففعل"طب" يوحي أن القادم جاء فجأة، وينفتح الفعل على الزمن الماضي حين جاء هذا الرجل المسن إلى القرية، دون أن يدري أحد متى جاء أو كيف، والمتعارف عليه أن أهل القرى يعرفون الداخل إلى قريتهم والخارج منها، فمن هو هذا المجهول الذي يصفه الراوي:"رجل مسن، رث الثياب، ذقته بيضاء مرسلة بغير عناية، منكوش الشعر، مشتعل بالبياض، نتن الرائحة،محدودب الظهر، فمه مظلم مثل قبر...أشاع العم جرجس بأنه ساحر"(8). يتعمّد الكاتب إدخال قارئه في عالم الحيرة والتساؤل، لما له من دور في جذب فضول القارئ لمواصلة القراءة، وبذلك تكون البداية الروائية قد حققت وظيفتها، وكسبت ثقة القارئ.

3

2/ جماليات النهاية الروائية في رواية "الشتات"

تمثل النهاية عَتَبة خروج للنص، وهي من أهم العناصر الفنية التي تسهم في إنجاح الرواية، لأنها تشكل البؤرة التي تتجمع فيها معظم عناصر العمل الروائي(9). وإذا كانت البداية الروائية تجذب القارئ وتغريه بمتابعة القراءة، فإن بعض النهايات الروائية تُشرك القارئ في كتابتها واختيار نهاية توافق مرجعياته المعرفية.

تنقسم النهايات الروائية إلى نهايات مغلقة، وأخرى مفتوحة، وقد تميزت الروايات التقليدية بنهاياتها المغلقة التي عادة ما تكون نهايات سعيدة مثل انتصار البطل، أو نهايات تعيسة كأن يموت البطل. وفي أواخر القرن التاسع عشر شهدت الرواية تحولا ملحوظا باتجاه النهايات المفتوحة، وشكل ذلك تجديدا فنيا أنتجته الدوافع الأدبية المستمرة للتخلص من التقاليد(10). 

في النهايات الروائية المفتوحة، تُترك الرواية بدون حل، أي دون نهاية، إذ يَسمح المؤلف لقارئه أن يشاركه في تخيل نهاية للأحداث تكون وفق مرجعياته المعرفية، وبذلك يكون المؤلف قد نجح في التواصل والتفاعل مع قارئه وهو ما نعتقد أنه تحقق في رواية "الشتات"، يقول الراوي:"انطلق الناس، كل الناس، نصارى ومسلمين، في كل اتجاهات. ولم يمض وقت طويل حتى رأوا عبده بك العايق فوق فرسه، بجلباب رث بال، وشعر منكوش ومهوش، وذقن طويلة ومهملة،عيناه تسحان الدمع، و"ريعو الجن"  مربوط في ذيل فرسه"(11).

لا يبدو أن رواية "الشتات" قد كتبت نهايتها بشكل واضح، وإن كان المؤلف قد هيأ لها السبل، وترك للقارئ أن يخمن بأن القبض على القاتل، ربما سيذلل الصعاب لاستكمال بناء الكنيسة مثلما بني المسجد والمدرسة. إن إلقاء القبض على القاتل من طرف"عبده العايق" يمثل إيذانا بعودة هذا الأخير إلى مجرى الأحداث بعد أن كان قد اعتزل الناس وزهد في الدنيا بسبب موت المرأة التي أحبها، وهذا يعني أيضا أن الرواية ستستكمل أحداثها في أجزاء أخرى قادمة كما أخبر الكاتب في التنويه الذي صدّر به روايته. 

يمكن القول، بأن الرواية رغم نهايتها المفتوحة على أكثر من تأويل، إلا أنها تحمل نواة الإيجابية، وإن لم تذكر ذلك صراحة. 

ثانيا/  دور المكان ودلالته في رواية "شتات"

يمثل المكان الإطار الذي تجري فيه أحداث الرواية، وتتحرك فيه الشخصيات ويتجسد فيه الزمن، ويظهر المكان من خلال وصف الأشياء التي تشغله. يعد الوصف عنصرا أساسيا في الرواية عموما، وقد احتفت به الرواية الواقعية بهدف بناء ديكور وتحديد إطار عام للأحداث وللشخصيات معتمدة على الوصف 

4

الاستقصائي، ما يجعل القارئ يرى العالم الروائي نسخة قريبة للواقع(12)، لكن الرواية الحديثة أضفت على المكان أبعادا جديدة، فلم يعد مجرد خلفية صامتة تُرسم عليها الأحداث، بل صار بنية مشحونة بالدلالات التي تسهم في تطور الأحداث "وخلق المعنى داخل الرواية"(13)، واعتمدت الرواية الحديثة على الوصف الانتقائي.

يحتل المكان في رواية "الشتات" أهمية كبرى، وقد لا نبالغ إذا قلنا بأنه أدى دور البطولة في الرواية، فبوصف المكان استهلت الرواية سردها كما رأينا سابقا، ومن أجل المكان حاربت بعض الشخصيات المحتل لتستعيد منه الوطن كما فعل أفراد من عائلة العايق، وهربت"نوال" وزوجها من القرية حين تحولت إلى مصدر تهديد. 

1/ المكان/الوطن 

تمثل قرية العايق المكان الأساس الذي تجري فيه أحداث الرواية، ويبرز المكان كعنصر فعال مرتبط بمصير الشخصيات، فبعد الشتات الذي أصاب عائلة العايق، استطاع "النهري العايق" الأب أن يلم شمل عائلته من جديد حول البركة الراكدة التي حولتها الحكايات إلى مسكن للجن والعفاريت الذين يلحقون الأذى بالنساء والرجال، لكن إرادة الإنسان تمكنت من أن تقهر الخرافة وتطهر المكان من الدنس وتحوله إلى مصدر رزق للناس، بعد أن استصلح "النهري العايق" الأراضي وغرس شجرة القطن فتجمع الناس من كل مكان حول البركة يبحثون عن عمل في أرضه، ومنح للمكان اسم عائلته، فصارت تسمى قرية العايق، تبدو قرية العايق وكأنها المعادل الموضوعي للوطن الذي يتطلع كل فرد وطني لإعادة بنائه على أسس العدالة والمساواة ونشر قيم التسامح بين أطيافه بعد أن يطرد المحتل منه، يقول"عبده العايق" لعمه "النهري العايق":"قل لي يا عم، ما فكرتش تسمي القرية الجديدة التي تشكلت حول البركة والتي هي أصلا طرح لشجرة القطن..أول وطن تخلقه هذه الشجرة"(14). وبعد موت "النهري العايق" أكمل أولاده بناء هذا الوطن، فشرع"مدحت العايق" في بناء مدرسة ومسجد وكنيسة، وهي فضاءات مكانية محملة بدلالات رمزية موحية؛ فالقرية يعمها الجهل والأمية، والتحريض بين مسلمين ومسيحيين، فكان "مدحت العايق" صورة الشخصية المشرقة التي تتغيا مساعدة أبناء القرية لينهلوا من العلم، لكن ذلك لن يكون سهلا، إذ ظهر الصوت الرافض ممثلا في عمه"إبراهيم العايق" الذي رفض تعليم أبناء الفلاحين لأنهم 

5

خلقوا للعمل في الأرض وليس للتعلم، وهناك صوت"سعدون" الرافض لبناء الكنيسة بحجة أن القرية لا يسكنها إلا القليل من المسيحيين. في الأخير تبنى المدرسة، ويبنى المسجد ويبقى الصراع قائما حول بناء الكنيسة إلى آخر الرواية، حيث تأخذ منحى دمويا. 

2/ المكان كقيمة اجتماعية دالة  

جاء وصف المكان في رواية "الشتات" في أغلبه انتقائيا، حيث يختار الكاتب بعض العناصر القليلة الدالة على أبعاد المكان، وإذا كان الكاتب لم يهتم بوصف المكان بشكل تفصيلي، فإنه شحنه بدلالات أسهمت في تطور أحداث الرواية، وخلق المعنى فيها، يقول"عبده العايق":"هل أقمنا تلك الأسوار العالية لنجعل بيننا وبين الناس جدرا سميكة وعالية؟ ما كل هذه الارتفاعات؟.. .كان عمي النهري... قد أحاط الفلل والقصور والسرايات والحدائق بسور لا يتجاوز ارتفاعه المتر، كان هذا الارتفاع يسمح لنا أن نراهم ويروننا، كانت هناك مساحة من التواصل، حتى جاء عمي إبراهيم ومد السور، وارتفع به إلى هذا الحد، أصبح جدارا عازلا بيننا وبينهم"(15).

يطرح الكاتب هنا، قضية التفاوت الطبقي التي تعتبر من أهم ثيمات الرواية، فالأسوار العالية تدل على الفصل بين طبقتين اجتماعيتين؛ طبقة الأغنياء التي تتوارى خلف أسوار عالية تبعدها عن طبقة الفلاحين والفقراء الذين يعيشون في معزل عن هؤلاء، ولا يحق لهم الاقتراب منهم وإن حاولوا ذلك سيعاقبون، مثلما حدث لنوال المرأة الفلاحة التي تجرأت وتزوجت ابن الباشا، فنالت عقابها.

3/ المكان الطارد

 يؤثر المكان الحكائي في باقي عناصر البنية السردية، ويتأثر بها باعتباره مكونا سرديا؛ فالمكان يظل فراغا بلا معنى إذا لم تخترقه الشخصيات وتضفي عليه سماته، وبدورها تتأثر الشخصيات بالمكان فتنجذب إليه أو تهرب منه، لذلك عُدّ بمثابة المرآة العاكسة لحالتها الشعورية(16) ، كما يسهم المكان في تغير وجهات نظر الشخصيات اتجاه العالم، فشخصية "نوال" الفلاحة ابنة خادم"صفوت باشا"، التي تسكن في عزبته مع والديها تمردت على أعراف مجتمعها الذي يمنع زواج الفلاحة من ابن الباشا، وتزوجت من ابن "صفوت باشا"وهربا إلى فرنسا. في فرنسا تغيرت شخصية "نوال"، إذ تشبعت روحها بهواء الحرية من خلال ترددها على المكتبات ودور السينما والمسارح، وصارت نظرتها للعالم تخضع لقيم المكان الذي تعيش فيه، فكيف سترى قريتها إذا عادت إليها؟ نجح "صفوت باشا" في استدراج"نوال" بعد أن هددها بإيذاء والدها فعادت إلى قريتها وحين رأتها انتابها الشعور بالنفور والازدراء من المكان تقول: 

6

"لم يطرأ تغير كبير على العزبة، نفس العشش والأخصاص، والأكواخ الحقيرة، والدور الفقيرة المتراصة..، الأزقة الضيقة، والشوارع الملتوية. سراي الباشا بعيدة ومنعزلة، محاطة بالأسوار العالية، وأهل العزبة يعيشون على مسافة غير بعيدة من السراي حياة بائسة. تقول في نفسها:  كل شيء في العالم طاله التغيير، إلا أنتِ يا عزبة صفوت لماذا لم يزحف التغيير إليك؟"(17)، يأتي وصف الشخصية للمكان معبأ بشعور الكراهية والازدراء من أكواخه الحقيرة، ودوره الفقيرة والحياة البائسة التي يعيشها أهله، بل ويصير المكان عبارة عن ليل طويل، يقول الراوي:"الليل في عزبة صفوت طويل طويل"(18)، وهو ما يعكس مشاعر "نوال" التي تعيش الخوف والترقب من حدوث خطب ما ليقينها من أن"صفوت باشا" لم يتغير وإن تغير كل العالم، والدليل أن سراياه مازالت بعيدة ومنعزلة، ومحاطة بالأسوار العالية التي تفصل بين عالمين؛ عالم الطبقة الثرية، وعالم الطبقة الفقيرة.

4/ عجائبية المكان

منذ البداية يقدم الكاتب البركة التي تدور فيها الأحداث بشكل مخيف، حيث يغوص في عالم الخوارق 

والعجائب ليهيئ قارئه لاستقبال ما سيأتي من حكايات تفوق خياله البشري، والبركة كما وصفها عبارة عن أرض منخفضة تتجمع فيها المياه الراكدة المتسربة من مياه الترع والمصارف،"وحول البركة، انطلقت الحكايات: منها أن الجان يسكنها، وله أفاعيل. وغير واحد من أهل القرية سحبته النداهة.. يسير الواحد منهم خلفها مغيبا، يدخلان البركة لا يعود بعدها أبدا. وأن المردة تخرج من البركة في الليل، يبدأ المارد بحجم القزم، ولكنه سرعان ما ينمو، ويظل يكبر، ويكبر، طولا وعرضا، حتى يصبح بحجم جبل"(19)، ثم يشرع الراوي في تقديم تفاصيل تلك الحكايات العجيبة التي حدثت لبعض الشخصيات، وبحضور عالم الجن والسحر يكون السرد قد جمع بين عالمين متباعدين؛ عالم الواقع الذي يستند إليه السرد من خلال الأحداث التاريخية والاجتماعية، وعالم اللاواقع الذي يضفي على السرد طابعه العجائبي اللامألوف. 

يتداخل مفهوم العجائبي باعتباره شكلا تعبيريا، مع مفهوم الفانتاستيك والغرائبي والأسطوري..ورغم بعض الفروقات التي يضعها النقاد بين هذه المصطلحات، إلا أنها جميعها تشترك في الدلالة على الشيء الخارق واللامألوف، ويهمنا هنا الشكل العجائبي، فلكي تتحقق الظاهرة العجائبية في الخطاب السردي حسب "تودوروف" لا بد من أن تبنى على قاعدة الحيرة والتردد المشترك بين الفاعل(الشخصية) والقارئ حيال ما يتلقيانه، فحيرة القارئ وتردده بين تفسير الخطاب السردي إن كان طبيعيا أو فوق طبيعي هو ما يمنح العمل الأدبي صفة العجائبي، ويضيف بأن الأحداث غير الطبيعية في الرواية لا بد من أن تنتهي 

7

بتفسير فوق طبيعي، وأن يقبل القارئ وجودها كما هي، لأن الرواية إذا انتهت إلى تفسير طبيعي، أي وجدت حلا طبيعيا بعد حدوث أحداث ذات بعد فوق طبيعي فإنها تنتمي إلى الأدب الغرائبي، وليس العجائبي(20)، وهذا ما تجسد في رواية"على شفا حفرة"، حيث دخل "أبو كلبة" في حوار مع الجنية التي تراءت له على هيئة امرأة فأدخلته في جو من الحيرة والتردد والدهشة ليستسلم لها في النهاية، أما شخصية "معزوزة" التي كانت تتردد على الجني في البركة، فقد قتلته في النهاية، وحررت زوجها، ولا شك أن كل هذه الأحداث العجائبية لا يمكن تفسيرها.

نخلص إلى أن المكان في رواية "الشتات"، لم يوظف كخلفية للأحداث، أو مجرد أبعاد هندسية تحدد موقعه، إنما جاء محملا بدلالات أسهمت في تطور الأحداث وخلقت المعنى في الرواية.


ثالثا/جماليات اللغة في رواية "الشتات"

تمثل اللغة العنصر الرئيسي في بناء النص الروائي، والأداة الأساسية للتعبير عن جمالياته، يرى"جان كوهين"بأن اللغة تشكل المادة الأساسية لوجودنا الثقافي والحضاري، وبالضرورة هي الأساس في عملية الإبداع الفني، لذلك فإن لكل أديب طريقة في استخدام الكلمة وتركيب الجملة"(21). 

1/ لغة السرد

أول ما نلاحظه على لغة السرد في رواية "الشتات" اعتمادها على الشكل التقليدي الإخباري الذي ينتجه الراوي الخارجي المهيمن على السرد. جاءت لغة السرد سهلة، واضحة، فصيحة، حققت وظيفتها الأساسية؛ الوظيفة التواصلية الإبلاغية، حسب تقسيم "ر.جاكبسون" لوظائف اللغة، لذلك لم تهتم باللغة الشعرية إلا فيما ندر، كما أنها كثيرا ما تتكئ على المفردات والجمل العامية، فتبدو مزيجا من الفصحى والعامية لتنتج لغة بعيدة عن اللغة الفصيحة وقريبة من الواقع الذي أُنبتت فيه شخصيات الرواية لتعبر أصدق تعبير عن واقع القرية. 

تتنوع الأساليب التعبيرية في محكي الشخصيات بما يوافق محيطها الاجتماعي ومستواها الثقافي ومرجعيتها الدينية، فالشخصيات المسيحية تقول:"أقسم بالعذراء وبيسوع وبكل الآباء العظام"(22)، وكذلك الشخصية المسلمة تعبر بما يوافق ثقافتها ومرجعيتها الدينية، يقول الشيخ ضياء:"والله أنا ألاقي الأمرين من الدراسة"(23)، تؤدي هذه الأساليب التعبيرية دورا هاما في إثراء لغة السرد، وتعدد خطاباته. 

8

ولم تكتف الرواية بذلك، بل نوعت في استخدام تقنيات وأساليب أخرى في صياغة بنيتها اللغوية منها، الاستعانة بالرسائل، والتنويع في استخدام الضمائر، والتفاعل النصي.

أ/الاستعانة بالرسائل

تعد الرسائل شكلا من أشكال التواصل بين الشخصيات، وقد ظهرت الرسائل مع شخصية "نوال" التي سافرت مع زوجها إلى فرنسا، ومن هناك كتبت لوالدها رسالة لتطمئِنّ عليه، وبعد استعراض تفاصيل حياتها مع زوجها المحب لها، تقول:"والدي الحبيب..والدتي الحبيبة، أنتظر رسالةً منكما توقِفانَني فيها على أخباركما وتطمئناني عليكما"(24)، أسهم خطاب الرسائل في تقديم معلومات لم يذكرها الراوي، وفضّل تقديمها عبر تقنية الرسائل كتنويع في تقديم السرد من خلال إشراك الشخصيات في نقل معلوماتها ومن ثم التنويع في لغة السرد وتعدد مستوياتها،كما أسهم خطاب الرسائل في تنويع الضمائر، حيث جاء السرد بضمير المتكلم الذي يساعد على لغة البوح والتداعي وإظهار حقائق النفس الدفينة للشخصية.

ب/ التنويع في الضمائر 

يهيمن على السرد في رواية "الشتات" الراوي العليم بكل شيء الذي يروي بضمير الغائب، وأحيانا يتنازل للشخصيات فيسلمها زمام السرد. تُعَبِّر الشخصيات بصوتها فينتقل السرد من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم الجمع، أو المفرد الذي شغل جزءا من صفحات الرواية، إذ نجد شخصية "نوال" وهي شخصية نامية تطورت خلال أحداث الرواية، وإن كان تطورها قد نُقل إلى القارئ عن طريق السرد الإخباري، استطاعت "نوال" أن تخرج من ظلمة القرية إلى أنوار فرنسا، وأن تتعلم اللغة الفرنسية وتصير صحفية، وتشبعت بالحرية حتى ظنت أنه بمقدورها أن تتصدى للباشا، وراحت تردد بينها وبين نفسها مقولة عرابي التي جاءت بضمير المتكلم الجمع، فحضر بذلك صوت عرابي:"لقد خَلَقَنَا الله أحرارا، ولم يَخْلُقْنَا تراثا أو عقارا، فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُوَرَث ولا نُسْتَعْبد بعد اليوم"(25).

لا بد من الإشارة هنا إلى أن التحول الذي طرأ على شخصية "نوال" وذكرته في رسالتها لوالديها، لم يكن مقنعا فنيا، فلا يكفي أن تعدد للقارئ المكتبات والمسارح الفرنسية التي زارتها ليقتنع بما صارت إليه الشخصية، وكان يمكن للقارئ أن يصاحبها إلى فرنسا، ويعيش معها جزءا من مراحل تحولها من فتاة جاءت من القرية إلى المدينة، إلى امرأة مثقفة. 

9

ومن الشخصيات التي عبرت بضمير المتكلم المفرد، شخصية "عبده العايق" الذي يبوح بما يعتريه متسائلا إن كان "صفوت باشا" سيؤذي والد "نوال"، يقول:"لقد أقسم لي، ولا أظنه يحنث في قسمه، ولكن بربي لو أذاه لن اسكت، سألقنه درسا لن ينساه أبدا"(26). يؤدي تنويع الضمائر في الرواية إلى تكسير خطية السرد، وتعدد الأصوات الساردة، ومن ثم تعدد مستويات اللغة وخطاباتِها. 


ج/ التفاعل النصي

منذ أن شاع مصطلح التناص في حقل الدراسات الأدبية، والبحوث تتوالى للكشف عن مختلف العلاقات المتحققة داخل النص، الأمر الذي أدى إلى تعدد المصطلحات التي تتناول العلاقات بين النصوص، فقد عُرِف التناص بالمتعاليات النصية عند الناقد الفرنسي"ج.جينيت" الذي أغنى حقل التعامل مع النصوص الأدبية وتداخلها، أما الناقد المغربي"سعيد يقطين" ففضل مصطلح التفاعل النصي لأنه أعم من مصطلح التناص، حيث يغدو التناص عنصرا واحدا من أنواع التفاعل، ويعد التفاعل النصي أحد مميزات النص الأساسية التي تحيل على نصوص سابقة عليه أو حاضرة، ويأتي على مستويين؛ مستوى مباشر، وهو ما يرد بلغة النص السابق الذي ورد عليه، كالاقتباس والتضمين والاستشهاد، ومستوى غير مباشر، يُستنبط من النص ويدعى بتناص الأفكار أو المقروء الثقافي، أو الذاكرة التاريخية التي تستحضر تناصاتها بمعناها، لا بلغتها وتفهم من شفرات النص(27). 

انفتح نص رواية "الشتات" على العديد من النصوص التاريخية والدينية، والأمثال الشعبية.. ما يبين المرجعية الثقافية والفكرية للكاتب، تحضر المتفاعلات النصية الدينية من القرآن الكريم، ومن السنة النبوية على شكل اقتباسات أو تضمينات لمعانيها، حيث يمتح الكاتب من المخزون الدلالي"للنص الغائب" ويطعّم به النص الروائي، مثل استحضاره لقصة سيدنا موسى عليه السلام في الآية التي يميزها 

بعلامات التنصيص،"إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين"(28)، يتكئ السرد على هذه القصة ليدعم ما قام به "خورشيد باشا" خال أبناء"النهري العايق" حين مرض، حيث طلب من ثلاثة منهم أن يتزوجوا بناته الثلاث مستحضرا المثل الشعبي القائل:"اخطب لبنتك ولا تخطب لابنك"(29)، ليدل المثل الشعبي بطريقة مباشرة على المغزى المراد. كما يتضمّن السرد آيات قرآنية تحضر بمعناها لا بلغتها، وتفهم من خلال شفرات النص كقوله:"يرزقنا الله من حيث لا نحتسب"(30). كما يتفاعل النص الروائي مع نص الحديث 

10

النبوي الشريف، يقول:"وفي الخيل العزة، والخير معقود بنواصيها إلى يوم القيامة"(31)، لأن اقتناء الخيل وتربيته مهنة آل العايق التي اشتهروا بها. 

ولأن الرواية اعتمدت في جزء منها على المادة التاريخية، غلبت على لغة السرد، اللغة التقريرية التوثيقية التي تسعى إلى تبليغ رسالتها محققة وظيفتها التواصلية، وقد حضرت المتفاعلات النصية التاريخية لتروي التاريخ وتمثلاته الواقعية الماضية بطريقة فنية تخضع للتخييل، تجسد ذلك في الوثيقة التي تضمنها السرد وميزها بعلامات التنصيص لتحافظ على صيغتها الأولى، فهي بنية نصية مستقلة يمكن استخراجها والتحقق من مدى مصداقيتها إن كانت أصلية، أو تخيلية، والوثيقة هي صيغة التوكيل الذي وقّع عليه المصريون سنة 1919 ليمنحوا "سعد زغلول"ورفاقه مشروعية تمثيلهم والتحدث باسمهم لإحياء القضية المصرية، لكن الانجليز اعتقلوا سعد ونفوه مع رفاقه، فكانت تلك شرارة اندلاع الثورة، ونص التوكيل:"نحن الموقِعين على هذا أنبنا حضرات: سعد زغلول و.... في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا السعي سبيلا إلى استقلال مصر.."(32)، تأتي هذه الوثيقة لتعزز النص الروائي بشواهد تاريخية هامة لفترة محددة من تاريخ مصر. 

نخلص إلى أن المتفاعلات النصية التاريخية والدينية، والأمثال الشعبية بما تمتلكه من تنوع في اللغة، وما تختزنه من دلالات، قد أسهمت في تعدد مستويات لغة السرد وأكسبته طاقات دلالية مضاعفة، ما يضفي على اللغة تميزها.

  2/ لغة الحوار 

يعد الحوار من أهم التقنيات الفنية في الرواية إلى جانب السرد والوصف. يضطلع الحوار بالعديد من الوظائف منها: التعريف بطبيعة الشخصيات، وكشف دواخلها ورؤاها المختلفة، ومستوياتها الثقافية والاجتماعية من خلال ما تخبر به بلغتها الخاصة بعيدا عن سلطة الراوي. 

تزخر رواية "الشتات"بالحوارات الخارجية بين الشخصيات لتوهم بواقعية المحادثة وصيغت أغلبها بالعامية. تنوعت أساليب الحوارات بين الحوار المباشر الذي يؤطره الراوي بفعل(القول)، وهو الأسلوب الغالب في الرواية، والحوار الحر المباشر الذي يوحي وكأن الشخصيات في عرض مسرحي تقابل الجمهور مباشرة، حيث يغيب الراوي المؤطر تماما، وأحيانا يحضر الحوار غير المباشر حيث يدمج الراوي حوار الشخصية في سرده مع التنويه بأن الشخصية هي التي تقول. ومن أمثلة الحوار المباشر حوار"نوال" مع أمها التي

11

لجأت إلى المشعوذة لتنقذها من الحزن بعد طلاقها وحرمانها من ابنها. يقول الراوي"ثارت نوال في وجه أمها:

ــ سحر إيه ؟ وجني إيه يا أمي؟

وألقت بالأحجية من الشباك، وألقت بحلة الماء التي جاءت أمها لتحممها بها.

بكت أمها وقالت:

ــ صدقيني يا بنتي قبل أن أتكلم حكت لي حكايتك.

ـــ حكاية إيه يا أمي؟ومن بالقرية كلها لا يعرف حكايتي؟هنا لا أسرار،لا خصوصيات،الكل مقروء"(33).

كما هو واضح يمزج الكاتب اللغة الفصحى بالعامية ليُنتِج خطابات توافق المستوى الثقافي والاجتماعي للشخصيات وهو ما يثري لغة الحوار ويضفي عليها تميزها. ومن أمثلة الحوار الحر المباشر الذي يأتي دون تأطير من الراوي وهو قليل في الرواية، الحوار التحريضي الذي دار بين رواد مقهى القرية الرافضين لبناء الكنيسة ويتزعمهم"سعدون".

ــ سنكون أضحوكة القرى والعزب والكفور والنجوع من المنصورة الى الزقازيق.

ــ لم يبق أمامه إلا أن يقوم بتزويج المسلمة للنصراني.

ــ قادر يعملها

ــ هذا الرجل يسافر بلاد الفرنجة كثيرا، بِيَغسلوا أدمغتهم، ويَسْقوهم النصرانية

ــ يعني لا يوجد بالقرية من يستطيع أن يرده عن الذي في دماغه، ويوقفه عند حده.

ــ ومن قادر على رده أو مراجعته، الذي كان يستطيع أن يفعل ذلك، مات أو قتل، إنه إبراهيم بك"(34)

كما تحضر في رواية "الشتات" الحوارات الداخلية، أو ما يسمى بالمونولوج وهو تقنية من تقنيات تيار الوعي في الرواية الحديثة، حيث تنتقل الشخصية من الوعي إلى اللاوعي من خلال أسلوب مباشر حر تبوح فيه بما يعتريها من مشاعر، مثال ذلك مونولوج"عبده العايق" الذي يحاور نفسه بضمير المتكلم وهو يتساءل:"هل ظلمتها؟ حاول مدحت ابن عمي أن يثنيني عن عنادي.."(35)، ويستمر في البوح عن مكنوناته في محاولة منه للوصول إلى الحقيقة التي تخص المرأة التي أحبها وخانته. 

شكل الحوار الخارجي في رواية "الشتات" بنية أساسية وسمة فنية بارزة، فقد أدى وظائف عدة من بينها، كسر شلال السرد المنهمر للراوي الخارجي، التعريف بشخصيات الرواية التي تعبر بصوتها عن آرائها وبلغتها التي جاءت في أغلب الحوارات بالعامية وبدرجة أقل اللغة الفصحى.

خلاصة

يمكن القول، إن رواية "الشتات" استمدت جماليتها من المزج المحقق بين عوالم العجائبي، والتاريخي، والاجتماعي، فأكسبها ذلك تعدد مستويات لغتها، وخطاباتها، وأصوات شخصياتها، ولا شك أن ذلك يوفر المتعة المطلوبة لكسب ثقة القارئ.

12


الهوامش

 (1)انظر، عبد الله إبراهيم:المتخيل السردي،(مقاربات نقدية في التناص والرؤى والدلالة)،المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1 ،1990،ص119

(2)انظر،حميد لحمداني:عتبات النص الأدبي،مجلة علامات في النقد،السعودية،ج،46، 2002، ص23

(3)

G.Genette:Seuils,coll poétique,Edition du Seuil, Paris,1987,p4   

(4) انظر، ديفيد لودج:الفن الروائي، تر:ماهر البطوطي، المجلس الأعلى للثقافة، ط1،2002، ص9

(5)انظر، عبد الملك أشهبون: البداية والنهاية في الرواية العربية، رؤية للنشر والتوزيع،القاهرة، ط1، 2013،ص21.

(6) على شفا حفرة، ص7

(7)و(8 ) الشتات، ص11

(9) انظر، البداية والنهاية في الرواية العربية، ص232

(10)انظر، والاس مارتن:نظريات السرد الحديثة،تر:حياة جاسم محمد،المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، دط،1998، ص108

(11 ) الشتات، ص154

(12)انظر،آلان روب غرييه:نحو رواية جديدة، تر:مصطفى إبراهيم مصطفى،دار المعارف،القاهرة ، دط،دت، ص129

(13) حميد لحمداني: بنية النص السردي(من منظور النقد)،المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر،الدار البيضاء، ط3، 2000 ، ص70

(14) على شفا حفرة، ص55

(15) الشتات، ص18

(16) انظر، حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي(الفضاء الزمن الشخصية)،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، بيروت،لبنان،ط2، 2009،  ص30

(17) الشتات، ص45

(18) السابق، ص49

(19) على شفا حفرة، ص8

(20)انظر، شعيب حليفي:شعرية الرواية الفانتاستيكية، المجلس الأعلى للثقافة،دط،1997،ص ص50،51 

(21) انظر،جان كوهين: بنية اللغة الشعرية، تر:محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال المغرب،ط1 ، 1986، ص40

(22) الشتات، ص11

(23) السابق، ص112

13

(24) السابق، ص23

(25) السابق، ص31

(26) السابق، ص26

(27) انظر، فريدة إبراهيم بن موسى: زمن المحنة في سرد الكاتبة الجزائرية،دار غيداء،الأردن،2011، ص196 

(28) الشتات، ص74

(29) السابق، ص67

(30) السابق، ص74

(31)السابق، ص76

(32) السابق، ص97

(33)السابق، ص57

(34) السابق، ص150

(35)السابق، ص141