الشَّاعرُ الأديبُ وَهيب نَديم وَهبَة ينالُ للمرَّة الثَّالثة جائزةَ ناجي نَعمان الأدبيَّة




وهي استِثنائِيَّةٌ هذه المرَّة، ولأدبِ الأطفال


جَمَعَت جَوائزُ ناجي نَعمان الأدَبيَّةُ للعَامِ الحَاليِّ 4321 مُتَسَابِقًا جاءُوا مِن 92 دَولةً، وَكتَبوا بإحدَى وأربَعينَ لُغَةً وَلَهجَةً. وقد ضَمَّ قِطافُ هذا المَوسِمِ (2025) جَوائِزَ نَالَها 85 فَائِزًا وفائزةً، وتَوَزّعَت على جَوائِز الاستِحقاق، وجَوائِزِ الإبداع، وجَوائِزِ التّكريمِ عن الأعمَالِ الكامِلَة، وجائزةِ نُبوغٍ واحدة، بالإضافة إلى جائزةِ استِثناءٍ واحدةٍ أيضًا مُنِحَت للمرَّة الثَّانية فقط منذ إطلاق الجوائز عامَ 2002، ونالَها الشَّاعرُ الأديبُ وَهيب نَديم وهبَة عن مَخطوطه في أدب الأطفال المُعَنوَن "رَوضةٌ وزَهرةٌ والخَيال".


ويكونُ الشَّاعرُ الأديبُ وَهيب نَديم وهبَة (فلسطين)، بجائزة الاستِثناء هذه، قد نالَ جائزةَ ناجي نَعمان الأدبيَّة للمرَّة الثَّالثة؛ ويكونُ الأوَّلَ في هذا المِضمار بين 1347 فائزًا بهذه الجوائز و41344 مُشارِكًا فيها خلال الأعوام الثَّلاثة والعِشرين الماضِيَة (2002-2025). فقد سَبَقَ لوهبَة أنْ نَالَ جَائِزَةَ نَاجي نَعمان الأدَبيَّةَ (جَائِزَةَ التَّكرِيم عن الأعمَالِ الكامِلَة) عامَ 2006؛ وجَائِزَةَ المِترُوبُوليت نِقولَّاوُس نَعمان للفَضائِلِ الإنسَانِيَّة (من ضِمنِ جَوائِزِ ناجي نَعمان الأدبيَّة الهَادِفَة) عامَ 2011. وصَدَرَتْ عندَها الإبداعِيَّةُ الفَائزَةُ بالجَائِزة، "مَفاتِيحُ السَّمَاء"، بِطبعَتِها اللُّبنَانِيّةِ الأُولى عن مؤسَّسة ناجي نَعمان للثَّقافة بالمجَّان.

وتَطايَرَ، منذ ذلك الحين، الغُبَارُ، وجَرَتِ السُّنونُ، ودَارَتِ "المَفاتيحُ" بينَ دُولِ العَالَمِ بطَبعَاتٍ وتَرجَمَاتٍ مُتعَدِّدَة. كما تَزامَنَ الإعلانُ عَن جَائِزَةِ الاستِثنَاءِ هذه مع صُدُورِ الطَّبعَةِ العَاشِرَةِ لِــ "مَفاتِيح السَّماء" بِاللُّغَتَين، العَرَبِيَّةِ والإيطالِيَّة، مِن ضِمن غِلافٍ وَاحِد.  

هذا، وستُنشَرُ قصَّةُ وَهيب نَديم وهبَة الفائزة بِجَائِزةِ الاستِثنَاء، والمَوسومَةُ "رَوضَةٌ وَزهرَةٌ والخَيالُ"، بالعَربِيَّةِ والإنجلِيزِيَّة، مع رسومِها، وبالكامل، في أَنطولوجيَا الجوائز لعام 2025 في موعدٍ أقصاه شهر تمُّوز المُقبِل، رَقميًّا ووَرقيًّا، وستصدرُ عن مؤسَّسة ناجي نَعمان للثَّقافة بالمَجَّان؛ على أمل أنْ تلقى القصَّةُ القَدْرَ وَالقِيمَةَ عينَهما في السَّاحة الأدبيَّة، تمامًا كَما جرى ويَجري مع ديوانِ "مَفاتِيح السَّماء".



يسوع الفداء”: صلاة شعرية معلقة بين الجلجلة والقيامة- قراءة تحليلية في قصيدة الدكتور حاتم جوعيه


بقلم : الكاتبة والناقدة رانية مرجية – مدينة الرملة  - 

  في زمنٍ أُطفئت فيه الشموع في القلوب قبل الكنائس، وفي عصرٍ باتت فيه الخطيئة تلبس أثواب الحداثة، وتُبرر القسوة تحت عباءة الواقعية، تنبعث قصيدة الدكتور حاتم جوعيه، “يسوع الفداء”، كأنها صلاة قديمة جديدة، تُستعاد لا من كتب اللاهوت وحدها، بل من عمق التجربة الوجودية، ومن وجدان مصلوب على أسوار هذا الشرق الجريح.

ليست القصيدة نشيدًا فصحيًّا يُتلى في مواسم العيد فحسب، بل هي فعل إيمان، ومرآة شعريّة تُجسِّد مسار الفداء من مذود بيت لحم إلى خشبة الجلجلة، مرورًا بالدموع والمسامير والصليب، وليس انتهاءً بالقيامة، التي لا تتحقق عند الشاعر إلا حين تُفكّ قيود المقهورين، ويستعاد رجاء   الشعوب الظامئة للخلاص.                                                  

المسيح كحلم وجودي: بين التجسد والتحرير                           

يفتتح الشاعر قصيدته بنداء ينتمي إلى نبرة الابتهال لا الخطابة:   

يا إلهَ الفِدَا وحُلمَ الوجودِ                                        

جئتَ بالحُبِّ والسَّلامِ الوطيدِ                   

هنا يُستدعى المسيح لا كرمزٍ لاهوتي مجرد، بل كحلم وجوديّ، كحقيقة تجسّدت وسط فوضى الخلق، لتعيد للكون توازن                         

فـ”الفداء”  في رؤية الشاعر ليس عقيدة محصورة في الكتب، بل ممارسة يومية تُترجم في الحب اللامحدود، والسلام المتجذّر، والانبعاث من رماد الجمود.                                                                         

بين الميلاد والقيامة: تواتر الضوء في مفاصل القصيدة :              

يمرّ الشاعر في سرد شعري لا يخضع لمنطق الخط الزمني الصارم، بل يخضع لانسياب النور بين المحطات المقدسة.                              

كانَ  في  مذوَدٍ  وفي  بيتِ  لحمٍ                                   

حَمَلُ الرَّبِّ… مُدْرَجًا في المُهُودِ                      

إنه حمل الله، لكنه أيضًا الطفل البشريّ، الذي اختار مذودًا لا قصرًا، وفقرًا لا غِنى، ليبدأ رحلته نحو الصليب .                               

وفي مشهد الميلاد، كما في مشهد الفداء، يعيد الشاعر بناء العلاقة بين السماء والأرض، بين المجوس الذين أتوا من البعيد بنور النجم، وبين الراعين الذين سمعوا البشرى في البراري، وكأن القصيدة تصير جسرًا بين الأعالي والمُهمّشين .                                                     

الصليب: طهارة الألم وجغرافيا المقاومة                             

ما يجعل القصيدة ذات طابع نبويّ وإنسانيّ، هو تحويل الصليب من أداة عذاب إلى أيقونة خلاص، ومن سلاح قهر إلى راية مقاومة روحية     

واحتضنتَ الصَّليبَ دونَ انحناءٍ                                     

دمُكَ الغالي قد بذلتَ بجُودِ                        

في هذه الأبيات، يتجاوز يسوع صورة الحمل الوديع ليصير بطل الفداء، لا بحدّ السيف، بل بعمق الجُرح .                                            

وهو لا يقاوم الشرّ بشرٍّ مضاد، بل يحتضن الموت لينتصر عليه، ويستحيل الدم النازف ماءً حيًّا يغسل به الخطايا، كما يغسل العطاش في الصحارى المعنوية.                                                            

اللافت أن الشاعر يصرّ على حضور الصليب لا كذكرى بل كمعاشٍ    يوميّ:                                                                         

وصليبُ الفداءِ  ما زالَ رمزًا                                    

لعذابِ الشعوبِ … بل للصُّمودِ                     

إنه الصليب الفلسطينيّ، الصليب العراقيّ، الصليب السوريّ، الصليب الأرمني، الصليب العربيّ، الصليب الإنساني، المصلوب في كل بلدٍ نُكبت فيه الحقيقة، وجُلدت فيه الكلمة، وسُفك فيه الطهر باسم الرب أحيانًا،  وباسم السوق أحيانًا أخرى.                                                

يسوع كقصة حب راديكاليّة للإنسان                                      

يمضي الشاعر في عرض المسيح كذروة للحب الإلهي، لا ذلك المترفع عن الأرض، بل المتجسد في كل مظلوم وجائع ومصلوب :              

أنتَ   عَلَّمتنا   المَحبَّةَ    بذلٌ                                   

دونَ  أخذٍ  تبقى  وَدُونَ  حُدودِ                    

بهذا البذل، ينقلب منطق العالم: فالذي يعطي هو المنتصر، والذي يغفر هو الأقوى، والذي يُحبّ دون شروط هو المُخلِّص.                              

وفي قلب هذا المنطق، تنبثق رؤية شعرية للمسيحية لا كمجموعة تعاليم بل كعقيدة فعل، وعقيدة تجسّد: حيث المصلوب  يسكن في كل إنسان  منتهَك الكرامة، والمسيح لا يقوم إلا حين ننهض عن غفلتنا.            

رؤية سياسية باطنية حين تصير القصيدة فعل مقاومة :              

ورغم غياب المباشرة السياسية، إلا أن القصيدة تحمل خطابًا نضاليًا ضمنيًا، يربط الفداء بالتحرير، والقيامة بالخلاص الجمعيّ :           

                     “منكَ يرجُو الخلاصَ ..هلْ مِنْ مُجيبٍ

والصَّدَى تاهَ  في الفضاءِ المَديدِ             ”

تُطرح الأسئلة الكبرى بصوت الشعوب لا الكهنة، وتُنادى السماء من الأرض، وكأن القصيدة تستنطق يسوع المصلوب في وجع الشعوب العربية.                                                                   

نعم، هو المسيح الفلسطينيّ، لا بالهوية الجغرافية وحدها، بل بالتاريخ الذي ما زال يعيد صلبه في القدس ورام الله وغزة وحيفا.            

الأنوثة المقدسة: مريم كأم ومعنى وأرض : -                 

لا ينسى الشاعر أن يُسند القصيدة على حجر العذراء، فهي ليست تفصيلًا عابرًا بل الحاضرة في كل مفصل :                                           

                                “وسَلامٌ   عليكِ   أيَّتُها   العَذراءُ

                … ما   زلتِ   خيرَ   أمٍّ   وَلُودِ”

في هذا السلام، تُغلف القصيدة بالحنان والدفء، ويُعاد إحياء صورة المرأة الأمّ، التي ليست تابعًا في مشهد الخلاص، بل شريكة الصليب، وسيدة الحضور، ومحراب الحنان.                                       

الخاتمة: الشعر كقيامة والقصيدة كأيقونة مفتوحة : -             

لا تنتهي “يسوع الفداء” عند القيامة كحدث لاهوتي بل تمتد إلى خلاص الإنسان، كل إنسان، من الجحيم المعاصر:                                

                             “لا   خلاصًا  سوى  صليبكَ  يبقى

يا  رجاءً   لنيلِ  كلِّ  الوعُودِ                   ”

هنا تُختصر القصيدة، وتتلخّص النبوءة، وينفتح الأمل، لأن الخلاص لا يكون بسلطةٍ ولا بطائفة، بل بصليبٍ من نور، يمرّ عبر الجلجلة، ويُنصب على تلال هذا الشرق النازف، تمامًا كما نُصب على تلال الجليل منذ ألفي عام.                                                                          

“يسوع الفداء” ليست فقط قصيدة عن المسيح، بل عن الإنسان، عن الوطن، عن الأمل حين يُصلب، والحب حين يُجلد، والخلاص حين يُنهض من بين الرماد.                                                                  

هي قصيدة تُتلى لا من فوق المذبح فقط، بل في قلب السجين، وعلى شفاه أمّ تنتظر عودة ابنها من منفًى أو معتقل.  

جمعية محترف راشيا وتجمع البيوتات الثقافية في لبنان يكرمان بطل لبنان في الملاكمة داني حماد

 



لمناسبة حصوله على بطولة لبنان في الملاكمة لوزن 80 كلغ لعام 2025 والتي جرت برعاية الإتحاد اللبناني للملاكمة في مجمع اميل لحود الرياضي مار روكز كرمت "جمعية محترف الف التشكيلي للثقافة والفنون" و"تجمع البيوتات الثقافية في لبنان" إبن بلدة العقبة في قضاء راشيا البطل اللبناني داني يوسف حماد في نادي الملاكمة بلدته العقبة وبحضور رئيس الجمعية وامين عام التجمع شوقي دلال وأعضاء المجلس البلدي المنتخبين للعقبة المهندس رزق فاعور والاستاذة ماغي أبوعلي والمهندس خضر احمد واللجنة المواكبة يوسف حماد، ربيع فاعور،عماد احمد، رواد فاعور، عماد أبو علي ونجيب عقل وعدد من ابناء البلدة.

دلال اشاد في كلمته بالبطل اللبناني داني حماد وقال: اليوم نأتي الى بلدة العقبة العزيزة على قلوبنا والتي كانت ولا تزال عنوان للرياضة الهادفة من خلال إنجازات أبنائها منذ عقود وها هو إبن العقبة داني حماد يرفع إسمها على مستوى لبنان بإحرازه كأس بطولة لبنان للملاكمة لوزن 80 كلغ ".. أضاف دلال "بإسمي واسم من أمثل في "جمعية محترف الف التشكيلي للثقافة والفنون" و"تجمع البيوتات الثقافية في لبنان" اتقدم بالتهاني القلبية لإبن منطقة راشيا داني حماد على هذا الإنجاز الوطني المهم وأدعوا وزارة الشباب والرياضة والوزيرة الدكتورة نورا بايراقداريان الى رعاية وتكريم هذه الطاقة اللبنانية المهمة ودفعه للمشاركة في البطولات العالمية لأنه يستحق ، كما أُنوّه بوالد داني السيد يوسف حماد على تشجيعه لأبناءه ودفعهم نحو الامام حتى تمكنوا من تحقيق هذا الإنجاز ووجه دلال التهاني للمجلس البلدي الجديد على إنتخابه ودعاه لمواكبة ودعم البطل اللبناني داني حماد"..

من جهته تكلم الاستاذ ربيع فاعور بإسم اللجنة حيث شكر الفنان شوقي دلال على لفتته في تكريم إبن بلدتنا العقبة ورعايته للطاقات اللبنانية على مستوى الوطن وهذا ليس بجديد على "جمعية محترف راشيا" ونشاطاتها النوعية التي تعودنا عليها طيلة ثلاث عقود ونيّف"...

وفي الختام قدم دلال درع التكريم للبطل اللبناني داني حماد مع الحضور .


سعيد نفّاع يقرّر عدم ترشيح نفسه لرئاسة أمانة الاتّحاد رغم حقّه الدستوريّ وإجماع الأعضاء أن يستمرّ



(بيان صحفي خاص)


الاتّحاد العام اليوم في حال انعقاد مؤتمره الوحدويّ الثاني المبكر (الموعد الدستوري كانون الأوّل 2025)، وكان المؤتمر عقد جلسته الأولى يوم 22 شباط 2025 أقرّ فيها نظامه الداخليّ وانتخب أمانة عامّة ونائبًا للأمين العام، على أن يعقد جلسته الثانية الاستكماليّة يوم الجمعة 13 حزيران 2025 لانتخاب الأمين العام ولجنة المراقبة.

يوم نجح رعيلنا الثقافيّ الأوّل بإقامة اتّحاد للكتاب في ال-48 وذلك عام 1987 بعد جهود استمرّت 40 سنة؛ "اتّحاد الكتّاب العرب في إسرائيل"، كتب محمود درويش (ط) رئيس الاتّحاد الفلسطينيّ الموحّد رسالة مفتوحة من على صفحات اليوم السابع، للرئيس المنتخب سميح القاسم (ط)، كتب فيها:

"عزيزي سميح القاسم، ليس حدثًا عاديّا، في ظروف غيرِ عاديّة، أن تنجح أنت وإخوانك الكتّاب في تأسيس أوّل اتّحاد للكتاب العرب في الوطن، بعد أربعين عامًا. 

أربعون عامًا؟ لا تنظر إلى الوراء بحزن.. لا تنظر إلى الوراء إلّا لتعرف أين وصلت بنا الطريق. للأعداء حساباتهم ولنا حسابنا. إنّ وراءنا أربعين عامًا من محاولة تهويد الأرض، واللغة، والروح.. أربعين عامًا من الصراع على البقاء أسفر، على المستوى الثقافي، عن ولادة أوّل اتّحاد للكتّاب الذين كانوا مرشّحين للالتحاق بما تحدّده الدبّابة من حدود للهزيمة النفسيّة والأدبيّة.. فلم يُهزموا..."

صحيح أنّه وبعد التأسيس انطلقت "رابطة الكتّاب الفلسطينيّين في إسرائيل"، ولكن ما لبث الأخوة في الاتّحاد والرابطة أن توحّدوا وانتخبوا سميح القاسم رئيسًا وحنّا أبو حنّا (ط) ومحمّد علي طه أمينين عامّين. وعندما استقال القاسم تمّ انتخاب محمّد علي طه لرئاسة الاتّحاد وبقي حتّى العام 2010، إلى أن بادر الكاتب يعقوب حجازي عام 2011 إلى تجديد الانطلاقة فأُطِلق "اتّحاد الكتّل الفلسطينيّين 48" وانتخب سامي مهنّا رئيسًا وتنظيميّا كجزء من الاتّحاد الفلسطيني العام، جرت عام 2014 محاولة لعقد مؤتمر جامع وفشلت فانطلق "الاتّحاد القطري للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل"؛ تنظيميّا طبقًا للمتبّع في الحركات اليساريّة برئيس فخريّ وأمين عام قائد للعمل، فانتخب الكاتب فتحي فوراني للرئاسة وسعيد نفّاع للأمانة العامّة. وبدأت محادثات لوحدة التنظيمين، ونجحت عام 2019 وتمّ التوافق على اتّباع الطريقة التنظيميّة اليساريّة بأن يقود الاتّحاد الموحّد أمين عام، واوكلت المهمّة لي؛ سعيد نفّاع. 

وفعلًا وعلى مدى ثلاث سنوات تجذّرت الوحدة بأبهى حللها ليصل عدد الأعضاء ال-186 عضوًا. عقد الاتّحاد الموحّد مؤتمره الوحدويّ الأول في كانون الأولّ 2021 وانتخبتُ أمينًا عامّا. واليوم يعقد الاتّحاد مؤتمره الوحدويّ الثاني المبكر. وقد عبّرت عن نيّتي عدم الترشّح لدورة إضافيّة رغم حقّي الدستوريّ والإجماع في الاتّحاد على مطالبتي بالاستمرار وبالتزكية العامّة، إلّا أنّي قرّرت ألّا أترشّح ليستلم الراية آخرون، وزوّدت الأعضاء برسالة خاصّة في الموضوع. 

تشرّفت أن أكون حاملًا الراية متابعًا بناء المسيرة الثقافية وترقيتها وعلى مدى 11 سنة (2014-2025)، وبوصلتي في العمل ما كتب محمود درويش لسميح القاسم. ورغم كلّ العقبات في المسيرة؛ وأوّلها تزامن عمليّة البناء مع محاكمتي على يد المؤسّسة الإسرائيليّة والحكم عليّ بالسجن الفعليّ سنة ونصف، ونصف سنة حكم معلّق لثلاث سنوات وسحب رخصة عملي، مصدر معيشتي، لثلاث سنوات ونيّف، رغم ذلك جذّرنا الاتّحاد في المشهد الثقافيّ الفلسطيني، وها أنا أنقل الراية لمن يرى فيه المؤتمر أهلًا لمتابعة المسيرة؛ ثقافيّا وطنيّا وتنظيميّا أخلاقيًا. 

الاتّحاد ينطلق في مؤتمره هذا بأعضائه ال-136 وفي رصيده:

_ الالتزام والمبنى التنظيمي: الاتّحاد وطنيّ بطرحه وعمله منظّم على أعلى درجات التنظيم، يضمّ في صفوفه التعدّدية الجميلة في شعبنا؛ فكريّا وسياسيّا واجتماعيّا.     

_ الاتّحاد العربيّ العام: عضويّة الاتّحاد العربيّ العام وكان حصل الفرع على جائزتين من قبل الاتّحاد، وهذا يُسجّل لاتّحاد ال-48.

_ اللغة العربيّة: حوّل الاتّحاد اليوم العالميّ للغة العربيّة ال-18 كانون الأوّل إلى عيد يعمّ المدارس انطلاقًا من الطيبة، عبر عشرات المدارس.

_ شذى الكرمل: تدخل فصليّة الاتّحاد هذا العام عامها الحادي عشر بمواعيد ثابتة، غنيّة بالأقلام العريقة وراعية للأقلام الشابّة. 

_ المدوّنات الإلكترونيّة: صارت قبلة أقلام كثيرة من العالم العربيّ.

_ التكريمات: أكرم الاتّحاد، أدباء الرعيل الأوّل عمرًا وانتاجًا (الأسماء حسب الموقع الجغرافي): مصطفى مرّار، يوسف بشارة، عبد الرحيم الشيخ يوسف، نبيهة جبارين، حنّا أبو حنّا، سعاد قرمان، توفيق زيّاد، سعاد دانيال بولس، يعقوب حجازي، سهيل عطالله، بطرس دلّة، أحمد الحاج، حنّا إبراهيم، نبيه القاسم ومحمّد نفّاع.

_ المؤتمرات الثقافيّة: أطلق المؤتمر الثقافي الأوّل من عرّابة والثاني من مجد الكروم.

_ أدب الأطفال: أطلق المؤتمر الأوّل من طرعان والثاني من الطيرة وأسّس مجلسًا خاصّا بهذا الأدب.

_ أدب المرأة: أطلق المؤتمر الأوّل من معليا وأسّس لجنة خاصّة بهذا الأدب.

_ مهرجان أيّار النكبة للقراءات الأدبيّة: أطلقه من كفر قرع وامتدادًا إلى البقيعة.

_ الندوات والأمسيات وبرنامج بين طيّات الكـتب: أقام العشرات على منها في قرانا المختلفة من قلنسوة عبر الداليّة والناصرة وصولًا إلى بيت جن. بحلّتيه التنظيميّتين قبل الوحدة.  

_ الكلّ الفلسطيني: انطلاقًا من وحدة الثقافة الفلسطينيّة؛ بدأها اتّحاد ال48 وبعد الوحدة انطلقت بِـ 6 لقاءات من الخليل جنوبًا وحتّى جنين شمالًا، ومن على أطلال قرانا المهجّرة للكتّاب الأسرى؛ صفورية وقنير. وآخرها كان تكريم أعضاء الاتّحاد من مركز السنابل للتراث محافظة الخليل، وكان لنا شرف تكريم كتّاب المحافظة جمعاء.

_ تكريم الأعضاء: أكرم الاتّحاد 54 من أعضاء الذين أضافوا لمكتبتنا مجتمعين أكثر من 100 كتاب في العامين 2023 و2024 انطلاقًا من سخنين. 

_ جائزة الاتّحاد لطلابنا الثانويّين المبدعين: أطلق من-224 مدرسة بمساهمة 71 مبدعة ومبدع، واختتمه من كوكب أبو الهيجا.

وهذا بعض!           

 سعيد نفّاع: 7208450- 050  

25 أيّار 2025م


المجموعة القصصية ( السقوط من البندول ) للكاتب أحمد عثمان على طاولة النقد بمنتدى السرديات




كتب / مجدي جعفر


تحلق أدباء منتدى السرديات باتحاد كُتّاب مصر – فرع الشرقية ومحافظات القناة وسيناء حول المجموعة القصصية ( السقوط من البندول ) للكاتب أحمد عثمان، وأدار الندوة الأديب والناقد محمد الديب، وقدم أيضا دراسة نقدية في المجموعة تحت عنوان : (الكتابة في وجه السقوط - قراءة في مشروع أحمد عثمان القصصي من خلال السقوط من البندول ) وجاء فيها :

" في زمن تتآكل فيه الحدود بين الأجناس الأدبية، ويتراجع فيه الوعي بالكتابة بوصفها مقاومة داخلية ضد فوضى العالم، ينهض مشروع أحمد عثمان القصصي كصوت مغاير، لا يروي العالم كما هو، إنما كما يُوجع ويُفتقد. 

أحمد عثمان ليس كاتبًا يُغريه الحدث، أو يؤمن بصدام الشخصيات، أو يحتفي بالتقنيات الشكلية في ذاتها؛ هو كاتب قلق وجودي بالدرجة الأولى، يستخدم القصة القصيرة لا ليقول "ماذا حدث؟"، إنما "لماذا حدث هذا الألم؟"، أو بالأدق: "كيف نعي سقوطنا ونحن لا نزال نقف؟".

تُشكل مجموعته السقوط من البندول لحظة اكتمال لنبرة سردية خاصّة، قوامها القصّ النفسي المتوتر، واللغة الشعريّة المختزلة، والبناء المفتوح على تأويلات الذات والزمن والموت، القصص التي تتضمنها المجموعة مثل "فعل علني"، "نظرة، فابتسام.."، "بقايا مهترئة"، "أوجاع الضياع!!"، و"السقوط من البندول" وغيرها — لا تقدم عوالم متعددة، إنما تقدم  وجوهًا متعددة لنفس الجرح الداخلي، نفس الوحدة المُغلّفة بالتذكّر، نفس الانهيار البطيء تحت عبء الزمن.

إن القارئ الذي يقترب من عوالم أحمد عثمان القصصية، لا بد أن يشعر أنه داخل مرآة مشروخة، يرى فيها شخوصًا تشبهه، لكنها لا تفعل شيئًا إلا أن تتذكر، تتألم، تتراجع، ف"الابتسامة" = الموت، و"البندول" لا يحدد اتجاهًا للحياة أو الموت، إننا إزاء سرد يكتب ما لا يُقال عادةً: الصمت، التردد، الإنهاك، النَفَس الأخير للحلم قبل موته، اللحظة التي يُصبح فيها كل شيء بقايا، حتى الإنسان.

من هنا، فإن كتابة أحمد عثمان تنتمي إلى ما يمكن أن نُسميه "السرد التأملي الرمزي"، وهو تيار غير صاخب في القصة القصيرة الحديثة، لا يعتمد على حبكة درامية أو مفاجآت أو مونولوجات حادة، إنما يعتمد على تشظي اللحظة الواحدة وتحميلها بثقل دلالي شفيف. هو امتداد ـ في روحه ـ لأعمال كتاب كبار مثل بهاء طاهر، وبعض قصص إدوارد الخراط الرمزية، لكنه يحمل خصوصية لغوية وبنائية تتقاطع مع التجريب من أجل التجريب، وتركز على التجريب كأداة لتوصيل عمق التجربة النفسية والوجودية.

إن إحدى السمات اللافتة في هذه المجموعة، هي اعتمادها على بنية زمنية متهالكة؛ فالزمن يدور حول نفسه ولا يتقدم ، ولا يمنح خلاصًا إنما يُعيد تدوير السقوط. 

فالقصة الأولى "فعل علني" مثلًا، تجعل من اللحظة الأخيرة مساحة للتأمل أكثر من الفعل. وكأن الفعل لم يعد ممكنًا، أو لم يعد مجديًا. كل شيء يحدث داخليًا حتى الزمن، في "السقوط من البندول"، يُصوَّر عبر حركة البندول التي من الطبيعي أنها لقياسٍ الوقت، لكنها تأتي كـ"جلد ذاتي" لا ينتهي.

ويُقابل هذه البنية الزمنية اقتصادٌ لغوي حاد، حيث كل جملة تقف على حافة الشعر، دون أن تنزلق إلى التغني أو الترهل. إنه نصّ يرى أن اللغة إذا لم تكن جرحًا، فهي زينة لا ضرورة لها. فحين يقول في "أوجاع الضياع!!":

"لم يبقَ سوى خيط من الدخان.. يتلوى من فمه نحو السماء، كأنه آخر أحلامه التي لم تُروَ"،

فهو لا يصف موتًا، إنما يصف احتراق الرغبة في الحلم، احتضار الداخل بلا ضوضاء.

الأماكن في هذه القصص تأتي بمثابة مرايا نفسية. المقعد المهترئ، البندول، المرآة، السماء، النافذة.. وغيرها تأتي كرموز تتفاعل مع الحالة الشعورية للشخصيات، وتُشكّل عبر تكرارها شبكة دلالية تُفضي إلى تأويل فلسفي: أن الإنسان يُعرّف من خلال ذاكرته، وأن السقوط ليس لحظة خارجية، إنما فعل داخليّ مستمر.

ولا يخفى أن هذه البنية الرمزية واللغوية الدقيقة، تؤدي إلى تغريب متعمد للقارئ؛ فلا هو داخل القصة، ولا هو خارجها. 

إنها كتابة تُشرك المتلقي في لعبة التأويل، في قراءة الصمت قبل الكلمات، والتردد قبل القرار، والظل قبل الضوء .. كتابة ضد السردية الخطية، وضد الحدث الجاهز، وضد النهايات المريحة.

بهذا المعنى، يمكن النظر إلى السقوط من البندول بوصفها مشروعًا سرديًا مكتمل النبرة، مفتوح التأويل، ناضج التوتر. مشروع يُعيد للقصة القصيرة نُبلها التأملي، ويقاوم الابتذال السردي، ويؤمن بأن الفنّ العظيم لا يُحدث فرقًا بالقول، إنما يحدث فرقا بالصمت الذي يخلقه في القارئ بعد القراءة.

.........................................................................

..........................................................................وتحت عنوان ( المجموعة القصصية " السقوط من البندول " للكاتب أحمد عثمان - قراءة في الرؤية والتشكيل -  كتب الأديب والناقد مجدي جعفر :

" يقدم الكاتب أحمد عثمان في مجموعته القصصية ( السقوط من البندول ) تجارب إنسانية حميمة، يمتح فيها من واقعه المعيش، ويعيد لنا تشكيل هذا الواقع في صور مبهرة ومبدعة.

العنوان كما يقول الباحث السيميولوجي  هو العتبة الأولى للولوج إلى النص، وهو النص الأصغر، المُضمر فيه الرسالة التي يريد الكاتب إيصالها إلى المتلقي، وكما اهتم بالعنوان اهتم أيضا بلوحة الغلاف، وبالنظر إلى لوحة الغلاف كفضاء بصري مهم، نرى اللون الغالب على اللوحة هو الأبيض، وفي أعلى الغلاف ساعة تبدو عتيقة، يتدلى من بندولها رجل يتأرجح في الفراغ، وعلى أعتاب السقوط، فالساعة ترمز إلى الزمن، فهل ينصب اهتمام الكاتب قبل الشروع في قراءة المجموعة بالذين يسقطون من الزمن؟.

ويأتي الاهتمام بالزمن من الإهداء أيضا، حيث يهدي مجموعته إلى سنين عمره التي توارت بالحجاب,

وقصة ( السقوط من البندول ) التي حملت المجموعة اسمها، هي إحدى قصص المجموعة الجياد، التي تؤكد وعي الكاتب بالزمن، وإدراكنا للزمن لا يتأتى إلا كلما تقدمنا في العمر، وقد أحسن صنعا باختيار بطل النص كاتبا ذاع صيته وطبقت شهرته الآفاق، وعلاقته بالزمن في طفولته وصباه وشبابه تغيرت مائة وثمانون درجة عندما بلغ من الكبر عتيا، وهذه العلاقة قدمها لنا الكاتب باقتدار من خلال الساعة المعلقة على الجدار، وهي أداة من أدوات قياس الزمن الفيزيقي، وكان إدراك الكاتب بطل النص، الشيخ الهرم الطاعن في السن الذي اشتعل رأسه بالبياض، كان إدراكه للزمن من خلال الآثار التي تركها عليه، ليس بتجاعيد الوجه واشتعال الرأس شيبا ووهن الجسد والاتكاء على العكاز فحسب، بل الآثار النفسية أيضا، والزمن النفسي لا يُقاس أبدا بمقاييس الزمن الفيزيائي، والزمن النفسي هو الزمن الأهم بالنسبة للكاتب، وإنشغاله به يفوق إنشغاله بالزمن الفيزيائي، وبدا الزمن النفسي / الأدبي حاضرا بقوة في العديد من القصص، وخاصة القصص التي اقترب فيها من تخوم الصوفية.

والساعة المعلقة على الجدار:

( أمست دقاتها المتتابعة مطارقا تقض مضجعه، وتشعل توتره، تجلد شيخوخته بسياط لا ترحم ) ص 56.

ولعل القارئ يكون قد تبين من خلال هذه الجُمل القليلة آثار الزمن في شيخوخته على حالته النفسية التي ساءت والمزاجية التي تعكرت، وهذا ما جعله يقبل على فعل غرائبي، وهو محاولته إيقاف هذا الزمن، بل تعدى الفعل من محاولة إيقافه إلى محاولة العودة به إلى الوراء!.

حاول أن يدير مفتاح الساعة بالاتجاه العكسي ! ليقدم لقصته نهاية قوية وحاسمة، وتثير في عقل المتلقي العديد من الأسئلة الوجودية، مثل : الحياة والموت، وصيرورة الزمن، وديمومته، والوجود والعدم، ... إلخ.

( 2 )

القرية المصرية وتحولاتها :

الزمن حاضرا بقوة في جُل القصص، يُغيب أشخاصا، وأماكن، وحرف ومهن، وعادات وتقاليد، وقيم وأخلاق، و.. و ..، ومن خلال وعي الكاتب بالزمن يرصد في قصص ( الزغلولة .. نخلة جدي، ماكينة داوود، آخر الدنيا ) التغيرات التي طرأت على القرية المصرية :

1 – في قصة ( الزغلولة .. نخلة جدي ) يقدم لنا باختزال وتكثيف شديدين من خلال الزغلولة / النخلة قرية ( العلواية ) ونشأتها، واعتمد فيها على الموروث الشفاهي، والحكايات المروية عن الأب عن الجد ..

والكاتب مغرما في هذه القصة بالحكي الشعبي، والحكاية هي العمود الفقري لقصته، وأظهر فيها قدرته الفائقة على انتقاء الحكايات التي ينقلها عن أبيه عن جده وعن جد جده، مستخدما خاصية الانتقاء، وهي خصيصة مهمة، ولأن الفن انتقاء واختيار من الواقع، فاختار الكاتب من الزمن الممتد منذ نشأة القرية المواقف والحوادث التي كانت مضيئة في سماء ذلك الزمن البعيد، منذ اللبنات الأولى للمكان وبعثه الأول، وصولا به إلى الآني والحاضر، ورصد حركة الزمان في المكان وجدليته معه، وإزاحته لبعض معالمه، ورصد أيضا التغيرات التي طرأت على الشخصية الريفية.

2 – في قصة ( ماكينة داود ) ص 67 يوقفنا كيف غيب الزمن ماكينة داود ( وابور الطحين )، ولم يبق منها غير صوت الماكينة الذي يطن في أذنيه، وحكايات أمه عن العفاريت التي تسكنها، والتقاط الطفل الشارد لذبحه على سيرها لكي تدور، ويرصد من خللها التحولات والتغيرات الخطيرة التي حدثت للقرية، فالعائدون من بلاد النفط تخلصوا من البيوت الطينية وشيدوا مكانها عمارات عالية بالطوب الأحمر والحديد والأسمنت، وعلى أرض الماكينة انتصب برجا شاهقا، يناطح السحاب!.

3 – وفي قصة ( آخر الدنيا ) ص 70، يختفي ( المسقى ) الذي يجري فيه الماء لري الأراضي المنزرعة، فالأجيال المعاصرة قاموا بردمه، واقتلعوا الاشجار، وعبدوه طريقا عريضا طويلا وعلى جانبية أقاموا البيوت والعمارات!.

4 – وفي قصة ( عم مهران .. الحاذق ) ص 73، هل يُسقط الزمن العم مهران الرجل الحاذق الذي يداوي بالأعشاب، ويعرف لكل مرض العشب الناجع لعلاجه، ويعف عن أخذ مقابل من مرضى القرية، ويعالج الذين يعانون من وجع في المفاصل، ومن الروماتيزم، يعالجهم بدهن الثعابين التي يصطادها له الأولاد، ويكافأهم على صيدهم الثمين بحبات ( الكرملة ),

الكاتب اهتم اهتماما كبيرا بالقرية القديمة التي رسخت في ذهنه مذ كان طفلا، ووصفها وصفا دقيقا، ويضعها في مقابلة ومواجهة مع القرية المعاصرة، ليكتشف القارئ أن البيوت الطينية قد غيبها الزمن وأزاحها البندول غير عابئ بصراخها، وحلت بدلا منها العمارات العالية والأبراج الشاهقة كما سقط وابور الطحين من البندول أيضا، ومساقي الأراضي سقطت هي الأخرى، وبارت الأرض وأُهملت وجُرفت، حتى ألعاب الأطفال اختفت مثل السيجة والبلي والاستغماية وغيرها، ومعرفة مقاييس الزمن التي كانت تُقاس بحركة الشمس والظل، غيبها الزمن، واختفت بعض الحرف والمهن، واختفت قيم أخلاقية في المجتمع الريفي ومنها قيمة التكافل الاجتماعي، فكان خراج الزغلولة يذهب إلى الفقراء والجيران والأصدقاء قبل أن يطعمه أصحابها. 

 ( 3 )

المهمشون والفقراء :

يقترب الكاتب في بعض قصصه من الناس البسطاء والعاديين، والهامشيين والفقراء الذين يعيشون على أطراف الحياة،ومعاناتهم ومكابداتهم من أجل الحصول على كسرة خبز وحسوة ماء، من أجل لباس يسترهم، ويغوص الكاتب في دواخلهم، مستبطنا همومهم وأحزانهم الكثيرة، وأفراحهم القليلة.

1 – في قصة ( زفاف ) يقدم لنا أوجاع ( على الله ) وهذا هو اسمه، محدود الذكاء، قوي البنية، لا عمل له ليقتات منه، ويعتمد على ما يجود به الناس والباعة عليه من أطعمة، لا يمد يده أبدا لأحد طلبا لصدقة حتى لو تضور جوعا، ولا مأوى له، يتكور آخر الليل على رصيف محطة القطار، تتحلق حوله القطط والكلاب والجرذان، يلقي لها بما جادت به الناس عليه، تتعارك على الأكل، وحينما تشبع تهدأ، فيروح هو في النوم.

2 – قصة ( سياط ) ص 36 : مأساة أطفال الشوارع الذين يتم اسغلالهم من قبل عصابات الأشرار لتوظيفهم في السرقة والنشل، والصبي الذي يمر يومه ولا يجد صيدا، ويخشى سوط معلمه الذي ينهال على جسده، وكيه بسيخ الحديد المجمر إذا عاد من ( سرحته ) بكفي حنين، وكلما لاح له أساليب العقاب المؤلمة، يتكور على نفسه خوفا ورعبا، ولكنه يفيق على دقات حذاء لسيدة انيقة، فيتعقبها، ويغافلها، ويخطف حقيبتها، ويولي مسرعا، فتصرخ السيدة مستجيرة بالمارة، فيلاحقونه محاولين الامساك به، يروغ منهم، ويزوغ، ويجري في الاتجاه المعاكس لتصطدمه سيارة مسرعة

3 – قصة ( يوم مختلف ) ص 25 : الرجل الفقير الذي يخرج من بيته مع شروق الشمس، ولا يعود إلا مع غروبها، يجوب الشوارع والحواري والأزقة، وينادي : بيكيا .. بيكيا .. روبابيكيا، وبالكاد يتحصل على قروش قليلة لا تفي بمتطلبات حياته الأساسية، وضاقت زوجته به وبحياته، وتجرأت على جلده بلسانها السليط، ومعايرته بفقره، وشكواها التي لا تنقطع من طبق الفول الذي لا يفارقهما، ويداها اللتان برى جلدهما الغسيل، والديون التي تتراكم ولا أمل في سدادها، البقال، وبائع الخبز، و .. 

4 – قصة ( قلوب ) ص 13 : المرأة التي تستخدم جمالها ودلالها وأنوثتها، مستغلة سطوتها على رجال السوق، فتلين قلوبهم، ويسيل لعابهم

5 – قصة ( سوق الجمعة ) ص 41 : الموظف الذي لا ينافق رئيسه ولا يهادن من أجل ترقية أو علاوة أو بدلات، ولا يسالم، ويتسم بالصدق والأمانة والأداء المثالي لوظيفته، وعُرف بين زملائه ب " الفقري "، فيرفض الرشى والمال الذي يأتي من استغلال الوظيفة والتربح منها بطرق ملتوية وغير مشروعة، هذا الموظف ( الفقري ) يُعاني ضيق اليد وعُسر الحال، ويعاني من شظف العيش، فراتبه الهزيل لا يسد أقل حاجيات أسرته الأساسية والضرورية، فيضطر للعمل بأحد المطاعم ليُحسن من دخله بعد انتهاء عمله الوظيفي، ويؤلمه حال ولده في هذا الشتاء القارس، الذي أصاب صدره وعظامه..

6 – قصة ( أرزاق! ) ص 44 : الرجل " الأرزقي " الذي يعمل يوما، ولا يجد من يطلبه للعمل أياما، ولا تجد زوجته في الدار، ما تسد به رمقهم، فيتألم الرجل ويبكي في صمت وهو يصيخ السمع إلى معدهم التي تصرخ وأمعاءهم التي تتلوى، وفي لحظة يأسه من العثور على عمل في هذا اليوم، يتفاجأ بيد حانية، تتأبط ذراعة، ويسير به صاحبها إلى مائدة كبيرة وعامرة بالخيرات، وبرقت في ذهنه فكرة بعد أن اجترح صيامه ببعض تمرات :

( مسرعا راح يجمع من حوله ما طالته يداه من أطباق " الفوم " التي لم تجد من يلتهم ما تحويه – في كيس كبير يلازمه، ثم انسل خارجا، بينما الحوار مستعر – على أشده – بين الأفواه والأطباق ) ص 45.

( 4 )

هموم الوطن والأمة :

انشغل الكاتب في بعض قصصه بالهم السياسي، وبالهموم الوطنية والقومية. 

1 – قصة ( أزيز ) ص 48 :

ينقل الكاتب من سرادق عزاء عضو مجلس الشعب، الحوارات التي تدور همسا أحيانا، وزعيقا أحيانا أخرى بين وجهاء القوم الذين جاءوا لأداء واجب العزاء، وهذه الحوارات كاشفة وفاضحة للسياسيين ورجال الأعمال وغيرهم من صفوة المجتمع المصري : 

هل هؤلاء من القطط السمان التي أثرت ثراء فاحشا، واستفادت من انفتاح السادات، انفتاح ( السداح مداح ) بتعبير الكاتب أحمد بهاء الدين؟ 

هل هؤلاء من رجال نهب المال في زمن مبارك، زمن الخصخصة وبيع القطاع العام بتراب الفلوس، فالبندول قد أزاح رجال الأعمال الوطنيين وأتى بأمثال هؤلاء الذين ارتبطوا مع الحكومة بزواج كاثوليكي، ولا ينفصم عرى هذه العلاقة إلا بالموت؟

2 – قصة ( أوجاع الضياع!! ) ص 33 :

يقدم الكاتب في هذه القصة جناية الحرب على الإنسان، من خلال أم وطفلها نزحا من بلدهما بسبب الحرب، ويعيشان في أحد المخيمات بالصحراء : ( وعيونهما تحتبس مشاهد خلفاها في فرارهما .. بيتهما وحديقته .. الشارع الممتد، والحارات الهابطة مع انحدار التلة .. الأهل والجيران ) ص 33.

ويرصد معاناتهما في لفح الحر القائظ صيفا في المخيم، والبرد القارص شتاء، ومعيشتهما : ( أياد تمتد إليهم بالعطايا، وأياد كسيرة تستقبلها .. تتحاشى نظرات الشفقة والرثاء ) ص 33.

وتتعلق عيونهما بالشاشة، تتابع ماتنقله الكاميرات، وما يقوله المراسلون والمحللون، وفي نبأ عاجل :

( انفجارات عاتية، ركام أسود كثيف يملأ المشهد، يحجب ماوراءه، .. )

يصرخ الصبي :

( -أماه .. أماه .. أليست المئذنة المتهاوية هذه للمسجد القريب من بيتنا؟

نعم هو .. أعرفه ) ص 34.

ومشهد جثة زوجها الغارق في دمه لا تفارق مخيلتها، فكان مطروحا على عتبة ذات المسجد الذي أطلقوا رصاصتهم الغادرة على المصلين، وأردت إحداها زوجها قتيلا.

والزوجة مكلومة بضياع الزوج وضياع الوطن، فما الذي يبقى بعد ضياعهما؟.

يقدم لنا الكاتب المرأة في هذه القصة ( مقاومة )، فالسكوت عن المقاومة في هذه الحالة طريق إلى الجنون!!.

( 5 )

محاولة السيرعلى درب المتصوفة :

لم يكن الطريق معبدا أمام المريد للوصول، فثمة حفر ومطبات، وجُدرا وأسوارا عالية، واجتيازها يحتاج إلى جهاد ومشقة.

ويستهل قصة ( حالة وجد ) ص 15 بالدرويش في حلقة الذكر:

 ( يتصبب عرقا، يتساقط من وجهه كالمطر، وهو يميل بجذعه يمنة ويسرة في حركة منتظمة تتجاوب مع دقات الدفوف وصوت المنشد : الله حي ) 

وهذه هي الصورة النمطية للكثرة الذين ينتظمون في حلقات الذكر، ومع اشتداد دقات الدفوف وتسارع صوت المنشد تتسارع وتتلاحق حركاته، حتى يغيب عن كل ما حوله من الموجودات، ويتهاوى على الأرض، وهنا يظهر له الشيخ الوقور صاحب اللحية البيضاء بابتسامته المحببه، يبشره :

(- مبروك يا ولدي .. خطوت خطواتك الأولى )

وبلل شفتيه بماء الإبريق، وناوله كسرة خبز، وقليلا من الملح.

هل يستطيع أن يواصل الطريق؟.

في قصة ( السبيل ) ص 17 تأتي الخطوات التالية والأهم، وعلاقة المريد بالشيخ، والوصول لنهاية الطريق ليس بالأمر السهل الميسور، فيسأل شيخه :

( - ماذا هناك يا مولانا؟

-السؤال واسع بلا انتهاء وعميق بلا ابتداء يا بُني، يلزمه علم كثير كثير .. )

حمل أطنانا من الكُتب والأسفار، وتزهد ناسكا في حضن النخلة، لا يكف عن القراءة والبحث والتقصي والاطلاع، ما ترك شاردة ولا واردة إلا وألم بها، ومضى بعد عام ونيف إلى شيخه يبشره، فيقول شيخه :

( - ما عرفت شيئا .. ما يُغني علمك عن عينيك .. ) 

فحلم المريد : ( العبور إلى حياة الرغد التي يهفو إليها قلبه، تلك المقيمة خلف الأستار الحاكمة )

فهل يمكن أن يجتاز ذلك البرزخ ويقف على الأسرار، ويصل؟

وهل يمكن ان يحل الله في الموجودات، يحل في شيخ ناسك وزاهد وعابد، ويكون عينه التي يرى بها واذنه التي يسمع بها ويده التي يبطش بها، إنها نظرية الحلول التي قال بها بعض العارفين، ومنهم ابن العربي، وراح يرصد ويتابع ( ذلك المُهاب الذي يسد المجاز ويحكُمُه، يحصي حركاته وسكناته، .. )

عاد لشيخه مبشرا :

( - راقبته – ما غمض لي جفن يا مولانا – يكاد يقتلني العطش، اتوق أن أبلل جفاف حلقي من إبريقك .. )

ويطلب منه الشيخ أن يعود مرة أخرى للتحقق، ويحذره من الغضب، ولكن المريد بعد هذه الرحلة الطويلة والشاقة، امتلأ بالمرارة والقنوط، غُمّ عليه دربه، واحتواه التيه، وتفرقت به السُبل 

 ( 6 )

اغتراب الإنسان المعاصر وتشظيه والتمرد على القصة ( الموبسانيه ) :

التزم الكاتب في أكثر من ثلاثة أرباع قصص المجموعة بالقصة ( الموبسانية ) من خلال محافظته على الحدث، والزمان، والعقدة، ولحظة التنوير.

 وتأتي بعض القصص ( ربع المجموعة تقريبا ) متمردة على هذا النموذج، وفي قصته الجديدة المتمردة لا نرى بناء تقليديا، وإنما نرى أنفسنا في مواجهة حدث جاد.

في قصة ( مطاردة ) ص 51 : الرجل الذي انتفخت رأسه، وصعدت حتى قبة السماء، ثم هوت على الأرض، ويواصل الركض خلفها، ويحاول أن يختطفها قبل أن تدهسها سيارة، ولكنها تفلت منه.

= ومن قصة ( حادث دهس ) ص 53 : الرجل الذي يفشل في بيع قلمه العتيق والنادر الذي ورثه أبا عن جد يرى الناس في السوق :

( رواد السوق يسيرون على رءوسهم! فيما تحملق فيه أقدامهم، ترمقه بنظرات ساخرة مستهزأة، تؤازرها قهقهات سكارى صاخبة .. تتعالى تارة، وحين تخفت يعلو نحيب لا يعرف مصدره .. )

لماذا الرأس انفصلت عن صاحبها في قصة ( مطاردة ) ولماذا الناس في قصة ( حادث دهس ) كانوا يسيرون على رءوسهم، وكانت الأقدام هي الأعلى؟

في هذه القصص لا يقدم لنا الكاتب قصص منطقية أو يقدم لنا حدوتة متتابعة الأحداث، إنما يعالج فكرته معالجة فنية متوسلا بالصورة والحدث والمفارقة والتداخل بين الأشياء، وهذا الأسلوب التقدمي في الكتابة اقتضته ظروف معاناة الإنسان المعاصر، وإحساسه بالوحدة والاغتراب، فمن حباه الله مثلا عقلا علميا جبارا لم يعد يجد له مكانا في هذا الزمن، فالمكان والمكانة أصبحت لمن موهبتهم في أقدامهم مثل لاعبي كرة القدم، والقلم رمز العلم لا يجد من يشتريه، بل دهسته الأقدام!!

إنه اغتراب صاحب العقل في وطنه، الذي اختلت منظومة قيمه.

المجتمع اليوم يقدم من موهبته في قدمه ومن موهبته في حنجرته ومن موهبتها في خصرها على العالم والفيلسوف والأديب والشاعر والفنان التشكيلي وغيرهم من الذين يعانون وأصبحوا غرباء في أوطانهم، فالقدم صارت في الأعلى والرأس في الأسفل، وتم دهس القلم بالأقدام!!

= وفي قصة ( حالة تلبس ) ص 22 : فقاعة صابون من الفقاعات التي يلهو بها الأولاد على الشاطئ، تتلبسه، وتصعد به إلى السماء، ويرى عجبا، وينقله لنا عبر الرحلة الغرائبية :

( في كبد السماء تراءت لي الأرض بكامل استدارتها .. تتباعد شيئا فشيئا، وجيوش الظلمة تتقاطر حولي تملأ الفراغ .. )

( انفجار رهيب مفزع ذاك الذي دوّى حين احتكت الفقاعة بنهاية الغلاف، فقذفني إلى فراغ سحيق )

( يختطف بصري جسم ضخم، كأنه جمرة عظيمة يهوي مخترقا نحو الأرض، فأتتبعه .. اصطدام هائل أراه ولا أسمع له صوتا، بدا لي عمودا عملاقا من أحجار وركام – تتخلله أجسام وأشياء لم أتبينها – يتصاعد مخلفا فجوة عميقة مستعرة باللهب، ربما باتساع قارة كبيرة، .. )

( شاهدت أقواما – لا حصر لهم – مجللة بالسواد تتطاير ثم تهوي، ومسوخا مخيفة تلاحقهم .. )

( أتفقد ما حولي من أجرام بكافة الأشكال والألوان والأحجام .. النور والظلام صنوان لا يفترقان هنا .. )

( كل يسبح في مساره بانسياب وهدوء وسلام، إلا هذه المصنوعات البشرية!!، أينما يممت أرى عجبا .. أقمار ومركبات وأجسام غريبة أجهلها، تنفر – فجأة – من مداراتها، وتختفي في غمضة عين .. )

( أُخريات – وبلا مقدمات – تفتك بعضها البعض، فتتناثر حُطاما يسبح في الفراغ .. في مدى بصري أرى مركبات عملاقة – وكأنها ثعبان موسى – تتمدد من بعضها أذرع  ضخمة مخيفة، فتلقف ما يعنّ لها، وتسحبه – إلى جوفها – غنيمة .. )

هل محاولة غزو الإنسان للفضاء بصواريخه ومركباته سيكون له الأثر السيء على الكون؟، هل تدخل الإنسان يفسده، ويختل توازنه ونظامه الدقيق؟

القصة تثير العديد من الأسئلة.

وتأتي لغة هذه القصص مكثفة، لا تخضع لقواعد لغة البلاغة التقليدية، ويحاول جادا أن يُدخل قارئه في عالم قصته، ويورطه فيها، ويجعله شريكا معه في انتاج النص، فيترك فضاءت كثيرة وعلى القارئ أن يقوم بملئها، وهذا ما نادى به ( رولان بارت ) وغيره.

هذه النماذج القصصية المتمردة في المجموعة، ترينا أقكار الكاتب التقدمية، ومعالجاته غير التقليدية، فيقوم بتقطيع الحدث، وتفتيته أحيانا، واستعمل الحوار بذكاء، والأهم أنه سعى إلى تحطيم الحدوتة نفسها!.

وليست ( الحدوتة ) وحسب هي التي أخرجها من المتن، فأخرج أيضا ( الحدث، والحبكة، ولحظة التنوير ) وغيرها من مكونات القصة التقليدية.

والكاتب استفاد في هذه القصص من تجارب تيارات الحداثة، فاستطاع أن يمزج الشخص في المكان والزمان، ويشكل من خلال تقاطع هذه الخطوط  إضاءة قوية لتجربته القصصية، ووضع قارئه بداخلها، كي يرى ويسمع ويلمس ويشارك ويعيش بالكلية مع النص.. لا أن يقف على الهامش!.

 ( 7 )

التناص واسترفاد التراث :

يسترفد الكاتب من مصادر التراث العديدة والمتنوعة :

أ – التراث الديني : يبدو تأثر الكاتب بالقرآن الكريم، وتناثرت ألفاظه في ثنايا قصص المجموعة، وتناص معها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر : " ثم ولى ولم يعقب " ص13.، " يتوجس منهم خيفة " ص20، " وكأن على رءوسهم الطير  ص 24"، " توقفوا قبل أن يعودوا سيرتهم الأولى " ص36، " قبل أن يعودوا سيرتهم الأولى " ص 37، " أتوارى من القوم " ص 49، " وقد وهن العظم مني " ص54، " يعود سيرته الأولى " ص 54، "، " عادت سيرتها الأولى " ص 56.

= ويأتي عنوان قصة ( قبل الطوفان .. بعد الطوفان ) ص 19 ليثير الأسئلة، فالطوفان دال على ( نوح ) عليه السلام، وهو الأب الثاني للبشرية، والقصة تنبئ في نهايتها بطوفان آخر قادم :

( - لا فائدة .. لا فائدة .. رُدُّني إلى مأمني؟

" تلك كانت آخر صرخاته قبيل أن يغمرهم الطوفان من جديد .. وآخر ما دونت " ) 

ووازن الكاتب ببراعة بين البشرية في زمنها الأول، حيث كان الإنسان يعيش في الكهوف، والبشرية اليوم التي أصبح ( العلم ) هو دينها الجديد، والبعثة العلمية التي عثرت على كائن بشري يعيش في أحد الكهوف، اختلفوا فيما بينهم حول عمره، وحملوه إلى معاملهم، وبعث هذا الكائن البدائي من جديد، ومجابهته بهذا العصر وعلومه، كان له بالغ الأثر السيء على نفسه، وعلى سلوكه وتصرفاته، فأخضعوه بصرامة، وبلا إنسانية، لأحدث ما وصل إليه العلم من نظريات وتقنيات حديثة، تقيس كل شيء بدقة، إن اتخاذ العلم إلها لهذا العصر، سيكون السبب في قدوم طوفانا أخر!!.

ب – من التراث الفرعوني :

قصة ( أصداءُ البردي ) ص 58 :

يستعيد الكاتب لنا في هذه القصة أسطورة إيزيس وأوزوريس، ليصدمنا بالواقع الآني، والإشارة في نهاية القصة إلى النيل الغاضب والحزين من حفدة إيزيس وأوزوريس!!.

ج– التراث الفني وخاصة الرسم والفن التشكيلي، ففي قصة ( نظرة .. فابتسام .. ) يتماهى الكاتب مع لوحة الموناليزا للفنان العالمي ( ليورنادو دافينشي ) وهي من أشهر اللوحات.

د– توظيف التراث الموسيقي الشعبي في قصة ( الناي و المزمار )، فالناي في يد الشاب ( سالم ) هي الأداة الأنسب للتعبير عن الحزن والشجن، وعذابات الحب ولوعة الفراق، وحرمانه من حبيبته التي زوجها أبوها لغيره، وهذه الأله هي التي امتصت الكثير من أشجانه وأحزانه، وربما كانت بديلا لهذا الشاب القروي عن الانتحار، لفقده ليلاه، وفي المقابل يأتيه مشهد فرح ليلى عبر دقات الدفوف وصوت المزمار، لتعمق جراحه، وأحزانه، وكان الكاتب بارعا في الجمع بين الصوتين صوت الناي وصوت المزمار.

ورمزيتها، فهي قديمة قدم القرية، وشاهدة على تحولاتها، وما أصابها من عطب ومرض أصاب القرية كلها بشرا وحجرا، واستدعاء أهل العلم والخبرة لعلاجها حتى لا يغيبها الزمن وتسقط هي الأخرى من البندول، هي صرخة من الكاتب لإنقاذ الحجر، والبشر الذي أصابه العطب.

..........................................................................

وقدم الدكتور كارم محمود عزيز مقاربة نقدية في المجموعة جاء فيها :

في البدء كان السؤال! ..

إن التناول النقدي الحق بقدر ما يشخص الظواهر الفنية والأسلوبية في العمل المطروح من وجهة نظر الناقد بالطبع، فإنه في نفس الوقت يطرح أسئلة مهمة تخص ظواهر معينة في الكتابة ..

والسؤال هنا مرتبط بـ" الوعاء اللغوي" عند (أحمد عثمان) .. فالملاحظ على لغة السرد عنده؛ تلك " الفخامة والأناقة" في اختيار المفردات المعجمية، وهي ظاهرة كانت محط اهتمام الشعراء (بصفة خاصة) وفي زمن قديم ربما ..

إذن: هل ينبغي على القاص أن يوازن بين ما يطرحه من مضامين وأفكار، وبين درجة ومستوى الوعاء اللغوي الذي يحمل هذه الأفكار والمضامين ..

مثلا: في القصص ذات المنحى "الصوفي" قد نقبل بفخامة لغوية من نوع ما، لكن في القصص ذات المنحى "الشعبي البسيط" ـ مثلا ـ هل يمكن تمثيل القصة بأفكارها بنفس المستوى اللغوي؟!

 *** ثم إضاءة سريعة على بعض قصص المجموعة:

(1) [فعل علني]: 

   قصة بسيطة من ( اليومي المعاش) .. سريعة الإيقاع .. كثيفة الوقائع، قصيرة الجمل غالبًا ـ تخلو من الوصف ـ بما يجانس فكرة القصة وأحداثها .. الدلالة فيها اقتصادية، وبراجماتية في نفس الوقت .. تأسست في أصلها على أهم عناصر القصة القصيرة (في نظري)، وهو عنصر "المفارقة" التي تحمل الألم والسخرية والكوميديا السوداء في النهاية

(2) [نظرة فابتسام]:

   لوحة قصصية تبني دلالتها المتراكمة على عنصر (التشويق)، ما يحفز المتلقي بشدة، وغالبًا كانت تأمل في تحقيق صدمة (المفارقة) .. لكن يبدو أن الاهتمام الشديد من الكاتب بكيفية صنع المفارقة؛ جعلها غامضة إلى حد ما ـ باهتة، وربما ما أفسدها هو فكرة (المصادفة)!

(3) [التاي والمزمار]:

   أن يتحدانا القاص ويخايلنا بأنه يقدم لنا نوعًا من ( الكتابة في المكتوب)، بما يهددنا بـ"ملل" سوف يصيبنا إن قرأنا قصته هذه، ثم نجد أنفسنا ـ مع ذلك ـ نقبل على القصة بهمة ونقرأها ، ويتحقق لنا شئ من المتعة، فربما يكون هذا تجسيدًا لتعريف "سارتر" للأدب: (الأدب ليس "ماذا نكتب"، بل "كيف نكتب"!)

موضوع القصة عادي جدًا، مألوف .. إلا أن "أحمد عثمان" كان من الذكاء الذي جعله يعتمد تقنية "التقابل/التناظر" حيث إنه (بضدها تتمتيز الأشياء) .. هذه الثنائية القطبية هي ما نفخت روح الجمال في القصة .. الثنائية القطبية تجسدت أولاً في: (المحب المغدور× العروس الغادرة)، وعنها تفرعت ـ بالتبعية ـ عدة ثنائيات أخرى، يكشف عنها بشكل أساسي عملية "التأويل وفك الرمزية": الأسى× البهجة، الفرد× الجماعة، الناي× المزمار، الأنين× الزغاريد، نوبة الغياب× نقرات الدفوف، حركة الداخل (وعي الفتى الذي يمضغه الحزن ببطء)× الحركة الخارجية (الأعيرة، الزغاريد، الأصوات الخشنة، الصخب) .. لكن حبذا لوكان الفتى (المسرود عنه) تكلم بنفسه، ولم يستعن براو ـ لن يمكنه ـ مهما فعلـ التعبير عن عمق التناظر بين الحالتين 

(4،5) [حالة وجد]، [السبيل]:

   قصتان ـ فيما أرى ـ مرتبطان، الأولى تنشغل بالتصوف "الحركي" ـ في بعده الشعبي، الذي يحفل بقرع الدفوف والإنشاد والترنح ـ كشكل من أشكال "الذكر" بحسب مفهومه الشعبي، وهو ما ذكرني بـ "إدوار وليم لين" عندما تكلم في كتابه (المصريون المحدثون) عن "اكتساب الولاية الشعبية" .. أما القصة الثانية، فتنشغل بالتصوف "المعرفي الفلسفي"، ويعكس ذلك عنوانها "السبيل"( وأتصور أن مصطلح "الطريق" هو أكثر ملاءمة) ..

وأراهما قصة واحدة تمثل مرحلتين من مراحل التصوف، لكنها في النهاية افتقرت إلى عنصر "المفارقة" التي كنت أتوقعها ـ كتقنية ضرورية ..

(6) [حالة تلبس]:

   بداية بسيطة في عالم اللهو ولعب الصغار، ونهاية متسقة مع البداية، وما بينهما رؤية كابوسية تعكس عالمًا آخر من المشاهد الغريبة الرهيبة المفزعة .. هذا التحول بين عالمين مفارقين؛ يفرض أسئلة من نوع:

  ــ هل هناك مبرر قصصي للدخول إلى العالم الكابوسي؟ ( مثلا مجرد تداعيات أخرى لصورة "الفقاعة"؟)

ـ هل هناك مفاتيح تأويلية لدلالات المشاهد، أم أنها للرعب المجاني؟!

..................................................................

وتوالت المداخلات من الكاتب والناقد العربي عبدالوهاب، والشاعر والمترجم السيد النماس، والمبدعة والقاصة صفاء أبو عجوة، والمهندس مصطفى كامل وغيرهم.

واختتمت الندوة بكلمة لرئيس مجلس الإدارة الشاعر الكبير إبراهيم حامد، وقام بتكريم المحتفى به الكاتب أحمد عثمان.


غواي… حين تكون الخطيئة مرآة الروح





كتب/حسام باظة

القاهرة


في رواية غواي للكاتبة وفاء شهاب الدين الصادرة عن مجموعة النيل العربية بالقاهرة ، نجد أنفسنا أمام عمل أدبي يستدرج القارئ كما تستدرج الغواية قلب العاشق، فلا يملك إلا أن يستسلم لسحر السرد، متورطًا في عالمٍ يشتبك فيه المحظور بالمباح، والبراءة بالذنب، حتى تتماهى الحدود، وتصبح الحقيقة ككفّ امرأة ترتجف تحت المطر، لا تعرف إن كانت تطلب دفئًا أم خلاصًا.

تُفتَح الرواية على نغمة شجن خفي، كموسيقى خلفية لحلمٍ مشوب بالقلق. ليست غواي مجرّد قصة، بل هي مساحة لتأمل الضعف الإنساني حين يلتقي بالشغف، وحين تتحول الرغبة إلى لعنة، والحنين إلى خنجر بارد في خاصرة الروح. إنّ بطلة الرواية لا تُرسم كضحية ولا كخاطئة، بل ككائن يتلوى في مرجل الأسئلة الوجودية، تارةً تستجدي الغفران، وتارةً تسخر من فكرة الخلاص برمّتها.

السرد في غواي مشغول بعناية نادرة، حيث تتداخل الأزمنة كأنها أنفاس راقصة في غرفة مغلقة، والحوار لا يأتي لأداء وظيفة بل ليكشف المستور، وليدفع القارئ دفعًا إلى مناطق داخلية لم يكن يجرؤ على ولوجها. الكاتبة هنا لا تهادن، بل تمسك بيد قارئها وتأخذه إلى الحافة، ثم تهمس في أذنه: “انظر… هذه أنت، إذا ما كُشفت كل أقنعتك.” . فاللغة  هنا هي البطل الحقيقي ، لغة مشبعة بالإيحاءات، أنثوية الإيقاع، جريئة دون ابتذال، رقيقة دون ضعف. كل جملة كأنها قطرة عطرٍ مُرٍ تسيل على جلدٍ متعب، توقظه ولا تريحه. وفاء شهاب الدين في هذه الرواية تُراهن على الكتابة كفعل مواجهة، لا كأداة تسلية؛ ولذلك فإن غواي ليست رواية تُقرأ بل تُعاش.

تمضي الرواية في خط سردي ملتف كأفعى، حيث تتشابك الحكايات وتتماوج الرغبات، فلا يعود القارئ متأكدًا إن كان يقرأ عن امرأة واحدة أم عن شظايا امرأة تكسّرت تحت وطأة التجربة. البطلة ليست نموذجًا نمطيًا ولا صوتًا خافتًا، بل كيانٌ متمرّد ينهض من بين الرماد، يرفض التصنيف، ويتحرّك بين الحب والرفض، بين الندم والرغبة في الانتقام، كأنها تمشي على حافة هاوية كلما ظنّ القارئ أنها اقتربت من النجاة.

حين تمسك برواية غواي، لا تتوقع أن تدخل عالماً هادئاً أو حكايةً تمضي في خط مستقيم… بل استعدّ لأن تُسحب إلى دوّامة من المشاعر المتناقضة، حيث تتقاطع الرغبة مع الندم، وتتمازج البراءة بالخطيئة، ويصبح الحب نفسه بابًا مواربًا على الجحيم.

 “غواي” ليست مجرد عنوانٍ لافت، بل مفتاحٌ ثقافي يحمل جذوره في اللغة البدوية، حيث تعني الكلمة “الحبيب كثير الحب”، ذاك الذي لا يهدأ قلبه ولا يعرف الاعتدال في العاطفة… وكأن الكاتبة أرادت منذ اللحظة الأولى أن تشير إلى أن ما ينتظرنا ليس حكاية حب تقليدية، بل مواجهة عميقة مع أنفسنا. في هذه الرواية، تكتب وفاء شهاب الدين من داخل الجرح، لا من خارجه. تُعرّي النفس البشرية، وتقدّم بطلتها لا كضحية ولا كمذنبة، بل كامرأة تنوء تحت ثقل الشعور، وتسير في دربٍ غير ممهد نحو ذاتها الحقيقية

في روايتها غواي، تأخذنا الكاتبة وفاء شهاب الدين في رحلة داخلية قاسية، تختبر فيها الروح نفسها على محك الرغبة والذنب، الشوق والخطيئة، فتُعري هشاشة الإنسان حين يقف عاريًا أمام مرآة ذاته. ليست غواي مجرد عمل روائي، بل هي طقس اعتراف غير معلن، ونصّ تتكشّف فيه الحقيقة بالتدريج، كما تتسلل الخيانة إلى قلب مطمئن… بهدوء، وبدون استئذان.

العنوان نفسه يحمل مفتاح الدخول إلى عالم الرواية. فكلمة “غواي”، كما تفسّرها الكاتبة، هي لفظة بدوية تعني “الحبيب”، لا بمعناه البسيط، بل كـ”كثير الحب”، ذلك الذي يحب حتى التهلكة، ويغوي ويُغوى، كما لو كان الحب لعنة أبدية تطارده أو هو يطاردها. ومن هذا العنوان، تبدأ الدلالة الكبرى: ماذا لو كان الحب نفسه هو الخطيئة؟ وماذا لو كانت الغواية ليست فعلًا إراديًا، بل قدرًا؟ إن في اختيار هذا اللفظ البدوي ما يضفي على النص مسحة من الأصالة، ويمنحه بعدًا ثقافيًا غائرًا في التقاليد واللهجات التي طالما حمَلت الحكمة والغواية معًا.

تمضي الرواية في خط سردي ملتف كأفعى، حيث تتشابك الحكايات وتتماوج الرغبات، فلا يعود القارئ متأكدًا إن كان يقرأ عن امرأة واحدة أم عن شظايا امرأة تكسّرت تحت وطأة التجربة. البطلة ليست نموذجًا نمطيًا ولا صوتًا خافتًا، بل كيانٌ متمرّد ينهض من بين الرماد، يرفض التصنيف، ويتحرّك بين الحب والرفض، بين الندم والرغبة في الانتقام، كأنها تمشي على حافة هاوية كلما ظنّ القارئ أنها اقتربت من النجاة.

وفاء شهاب الدين كاتبة تعرف تمامًا كيف تحرّك أدواتها. فهي لا تكتفي برسم الشخصيات، بل تغوص في دواخلها، وتجرّدها من الزيف، وتقدّمها لنا مشحونة بالتناقض، وهذا ما يمنح الرواية نبضها الحقيقي. اللغة هنا ليست محض وسيلة، بل كائن حيّ، يتنفس مع كل جملة، ويئنّ أحيانًا. جملها قصيرة كالسكاكين، مشبعة بالإيحاء، لا تتورع عن فضح المشاعر، ولا عن مداعبة القارئ ثم صفْعه بحقيقة غير متوقعة.

الرواية تطرح سؤالًا مؤلمًا: من الذي يدين من؟ الرجل الذي سقط  في الغواية، أم مجتمع لا يرحم؟ هل كان البطل مذنب فعلاً، أم أن العالم من حوله كان مهيأ لسقوطه منذ البدء؟ هنا، تتقاطع غواي مع كل التجارب الإنسانية التي يُدفع فيها الأفراد إلى الخطأ، ثم يُصلبون وحدهم على خشبة العار.

إن غواي ليست قصة تُقرأ مرة وتُطوى، بل وجعٌ يُستدعى كلما فكرنا في معنى الحب، وفي كُلفة أن تكون كثير الحب… أن تكون غواي.

رواية تستحق أن تُقرأ، لا لأنها تسلّي، بل لأنها تُفجّر الأسئلة، وتترك القارئ مشتعلاً بعد أن يُغلق الصفحة الأخيرة

فهي  نص أدبي يضجّ بالصدق، بالوجع، بالجمال المشاكس… وهي دعوة صريحة لأن نعيد النظر في مفاهيم الغواية، الحب، والخطيئة. رواية تكتبها امرأة، عن رجل، لكنها تُلامس كل روح، رجلاً كان أو امرأة، عرف ما معنى أن تُحب حتى تتكسر.

هذه الرواية  ليست دعوة للغواية، بل هي تأملٌ في كيف يصبح الإنسان فريسةً لهشاشته، كيف قد يحمل داخله الملاك والشيطان معًا، وكيف تكون المرأة — لا كرمز بل ككائن متكامل — مرآةَ المجتمع ومقصلة أحكامه في آنٍ واحد. في غواي، كل قارئ قد يرى نفسه، أو يهرب منها خوفًا مما قد يراه.

إنها رواية تُزعج، وتؤلم، وتثير… لكنها لا تُنسى. ففيها تأخذنا الكاتبة وفاء شهاب الدين في رحلة داخلية قاسية، تختبر فيها الروح نفسها على محك الرغبة والذنب، الشوق والخطيئة، فتُعري هشاشة الإنسان حين يقف عاريًا أمام مرآة ذاته. ليست غواي مجرد عمل روائي، بل هي طقس اعتراف غير معلن، ونصّ تتكشّف فيه الحقيقة بالتدريج، كما تتسلل الخيانة إلى قلب مطمئن… بهدوء، وبدون استئذان.

العنوان نفسه يحمل مفتاح الدخول إلى عالم الرواية. فكلمة “غواي”، كما تفسّرها الكاتبة، هي لفظة بدوية تعني “الحبيب”، لا بمعناه البسيط، بل كـ”كثير الحب”، ذلك الذي يحب حتى التهلكة، ويغوي ويُغوى، كما لو كان الحب لعنة أبدية تطارده أو هو يطاردها. ومن هذا العنوان، تبدأ الدلالة الكبرى: ماذا لو كان الحب نفسه هو الخطيئة؟ وماذا لو كانت الغواية ليست فعلًا إراديًا، بل قدرًا؟ إن في اختيار هذا اللفظ البدوي ما يضفي على النص مسحة من الأصالة، ويمنحه بعدًا ثقافيًا غائرًا في التقاليد واللهجات التي طالما حمَلت الحكمة والغواية معًا.

وفاء شهاب الدين كاتبة تعرف تمامًا كيف تحرّك أدواتها. فهي لا تكتفي برسم الشخصيات، بل تغوص في دواخلها، وتجرّدها من الزيف، وتقدّمها لنا مشحونة بالتناقض، وهذا ما يمنح الرواية نبضها الحقيقي. اللغة هنا ليست محض وسيلة، بل كائن حيّ، يتنفس مع كل جملة، ويئنّ أحيانًا. جملها قصيرة كالسكاكين، مشبعة بالإيحاء، لا تتورع عن فضح المشاعر، ولا عن مداعبة القارئ ثم صفْعه بحقيقة غير متوقعة.

الرواية تطرح سؤالًا مؤلمًا: من الذي يدين من؟ المرأة التي سقطت في الغواية، أم مجتمع لا يرحم؟ هل كانت البطلة مذنبة فعلاً، أم أن العالم من حولها كان مهيأ لسقوطها منذ البدء؟ هنا، تتقاطع غواي مع كل التجارب الإنسانية التي يُدفع فيها الأفراد إلى الخطأ، ثم يُصلبون وحدهم على خشبة العار.

إن غواي ليست قصة تُقرأ مرة وتُطوى، بل وجعٌ يُستدعى كلما فكرنا في معنى الحب، وفي كُلفة أن تكون كثير الحب… أن تكون غواي.

رواية تستحق أن تُقرأ، لا لأنها تسلّي، بل لأنها تُفجّر الأسئلة، وتترك القارئ مشتعلاً بعد أن يُغلق الصفحة الأخيرة.


الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48 يشارك مدرسة كوكب أبو الهيجاء الشاملة في احياء يوم اللغة العربية






   يواصل الاتحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين- الكرمل 48 كدأبه، نشاطاته التطوعيّة في مدارسنا، دون كلل أو ملل، ملبّيا دعوة كلّ مدرسة للمشاركة بأيام اللغة والتراث على امتداد البلاد، وقد شارك ثلّة من أعضائه أمس الثلاثاء  20 أيّار 2025،  بإحياء يوم اللغة العربية  في مدرسة كوكب أبو الهيجاء الإعدادية، بتقديم محاضرات وفعاليات ذات رسالة تربويّة وهويّاتيّة لترسيخ اللغة العربية والتراث الفلسطيني. 

   شارك في تقديم المحاضرات لطلاب الصفوف السابعة حتى العاشرة، كلّ من نائب الأمين العام للاتحاد، الأديب مصطفى عبد الفتاح متحدّثًا عن أدب الحرية، الدكتور سليم سليمان عن أدب المقاومة، حملت محاضرة الشاعر فخري هواش عنوان "لكل كتاب عنوان هو الرّاية ويحمل رواية"، أما مدير مجلة "شذى الكرمل" الشاعر زاهر بولس فقد تحدّث عن مفهوم "التصوير البياني في الشعر العربي"، والكاتب فهيم أبو ركن عضو الأمانة العامّة، عن تمرير مضامين تربويّة بحُلل شعريّة، في حين تحدّث الشاعر محمد موعد عن مراحل تطوّر الشعر العربي، وعن شعر الشاعر الفلسطيني محمود درويش.

   لقد ثمّنت إدارة المدرسة ممثّلة بمدير المدرسة الإعدادية الاستاذ رياض خليل، والاستاذ المربي مدير المدرسة  الثانوية يوسف منصور، جهود أعضاء الاتحاد وعطاءهم، ودور المربية المركزة رينا خطيب مع طاقم معلمات اللغة العربية؛ ريحان حاج، لبنى حاج محمد، مادونا حنا، اللواتي بذلن قصارى جهدنّ وقدّمن الأجمل والأروع لإنجاح هذا اليوم.

   وفي تعقيبها على اللقاء، قالت المربية رينا خطيب باسم المدرسة وطاقم اللغة العربية: "نشكر حضوركم الكريم الذي أنار يومنا وأضاف إليه قيمة أدبية وثقافية كبيرة. كانت كلماتكم مصدر إلهام لطلابنا، ووجودكم شرف لنا. نأمل أن تتكرر هذه اللقاءات، فلكم منا كل التقدير والامتنان، والشكر الجزيل للأخت فوز على تعاونها وعملها الدؤوب".

   بدورهم شكر الأدباء نيابة عن الاتحاد العام مدير المدرسة وطاقم المدرّسين على هذا النشاط التوعوي الهام، وقدّم الكاتب مصطفى عبد الفتّاح شكرًا خاصّا للأدباء المشاركين وللكاتبة فوز فرنسيس، مركّزة النشاطات المدرسيّة في الاتحاد، التي رافقت البرنامج  على التنسيق بكل إخلاص وتفانٍ، وبعد تقديم واجب الضيافة استلم كل كاتب قلما باسم المدرسة كهديّة رمزية. 


غواي… حين تكون الخطيئة مرآة الروح






كتب/حسام باظة


القاهرة


في رواية غواي للكاتبة وفاء شهاب الدين الصادرة عن مجموعة النيل العربية بالقاهرة ، نجد أنفسنا أمام عمل أدبي يستدرج القارئ كما تستدرج الغواية قلب العاشق، فلا يملك إلا أن يستسلم لسحر السرد، متورطًا في عالمٍ يشتبك فيه المحظور بالمباح، والبراءة بالذنب، حتى تتماهى الحدود، وتصبح الحقيقة ككفّ امرأة ترتجف تحت المطر، لا تعرف إن كانت تطلب دفئًا أم خلاصًا.

تُفتَح الرواية على نغمة شجن خفي، كموسيقى خلفية لحلمٍ مشوب بالقلق. ليست غواي مجرّد قصة، بل هي مساحة لتأمل الضعف الإنساني حين يلتقي بالشغف، وحين تتحول الرغبة إلى لعنة، والحنين إلى خنجر بارد في خاصرة الروح. إنّ بطلة الرواية لا تُرسم كضحية ولا كخاطئة، بل ككائن يتلوى في مرجل الأسئلة الوجودية، تارةً تستجدي الغفران، وتارةً تسخر من فكرة الخلاص برمّتها.

السرد في غواي مشغول بعناية نادرة، حيث تتداخل الأزمنة كأنها أنفاس راقصة في غرفة مغلقة، والحوار لا يأتي لأداء وظيفة بل ليكشف المستور، وليدفع القارئ دفعًا إلى مناطق داخلية لم يكن يجرؤ على ولوجها. الكاتبة هنا لا تهادن، بل تمسك بيد قارئها وتأخذه إلى الحافة، ثم تهمس في أذنه: “انظر… هذه أنت، إذا ما كُشفت كل أقنعتك.” . فاللغة  هنا هي البطل الحقيقي ، لغة مشبعة بالإيحاءات، أنثوية الإيقاع، جريئة دون ابتذال، رقيقة دون ضعف. كل جملة كأنها قطرة عطرٍ مُرٍ تسيل على جلدٍ متعب، توقظه ولا تريحه. وفاء شهاب الدين في هذه الرواية تُراهن على الكتابة كفعل مواجهة، لا كأداة تسلية؛ ولذلك فإن غواي ليست رواية تُقرأ بل تُعاش.

تمضي الرواية في خط سردي ملتف كأفعى، حيث تتشابك الحكايات وتتماوج الرغبات، فلا يعود القارئ متأكدًا إن كان يقرأ عن امرأة واحدة أم عن شظايا امرأة تكسّرت تحت وطأة التجربة. البطلة ليست نموذجًا نمطيًا ولا صوتًا خافتًا، بل كيانٌ متمرّد ينهض من بين الرماد، يرفض التصنيف، ويتحرّك بين الحب والرفض، بين الندم والرغبة في الانتقام، كأنها تمشي على حافة هاوية كلما ظنّ القارئ أنها اقتربت من النجاة.

حين تمسك برواية غواي، لا تتوقع أن تدخل عالماً هادئاً أو حكايةً تمضي في خط مستقيم… بل استعدّ لأن تُسحب إلى دوّامة من المشاعر المتناقضة، حيث تتقاطع الرغبة مع الندم، وتتمازج البراءة بالخطيئة، ويصبح الحب نفسه بابًا مواربًا على الجحيم.

 “غواي” ليست مجرد عنوانٍ لافت، بل مفتاحٌ ثقافي يحمل جذوره في اللغة البدوية، حيث تعني الكلمة “الحبيب كثير الحب”، ذاك الذي لا يهدأ قلبه ولا يعرف الاعتدال في العاطفة… وكأن الكاتبة أرادت منذ اللحظة الأولى أن تشير إلى أن ما ينتظرنا ليس حكاية حب تقليدية، بل مواجهة عميقة مع أنفسنا. في هذه الرواية، تكتب وفاء شهاب الدين من داخل الجرح، لا من خارجه. تُعرّي النفس البشرية، وتقدّم بطلتها لا كضحية ولا كمذنبة، بل كامرأة تنوء تحت ثقل الشعور، وتسير في دربٍ غير ممهد نحو ذاتها الحقيقية

في روايتها غواي، تأخذنا الكاتبة وفاء شهاب الدين في رحلة داخلية قاسية، تختبر فيها الروح نفسها على محك الرغبة والذنب، الشوق والخطيئة، فتُعري هشاشة الإنسان حين يقف عاريًا أمام مرآة ذاته. ليست غواي مجرد عمل روائي، بل هي طقس اعتراف غير معلن، ونصّ تتكشّف فيه الحقيقة بالتدريج، كما تتسلل الخيانة إلى قلب مطمئن… بهدوء، وبدون استئذان.

العنوان نفسه يحمل مفتاح الدخول إلى عالم الرواية. فكلمة “غواي”، كما تفسّرها الكاتبة، هي لفظة بدوية تعني “الحبيب”، لا بمعناه البسيط، بل كـ”كثير الحب”، ذلك الذي يحب حتى التهلكة، ويغوي ويُغوى، كما لو كان الحب لعنة أبدية تطارده أو هو يطاردها. ومن هذا العنوان، تبدأ الدلالة الكبرى: ماذا لو كان الحب نفسه هو الخطيئة؟ وماذا لو كانت الغواية ليست فعلًا إراديًا، بل قدرًا؟ إن في اختيار هذا اللفظ البدوي ما يضفي على النص مسحة من الأصالة، ويمنحه بعدًا ثقافيًا غائرًا في التقاليد واللهجات التي طالما حمَلت الحكمة والغواية معًا.

تمضي الرواية في خط سردي ملتف كأفعى، حيث تتشابك الحكايات وتتماوج الرغبات، فلا يعود القارئ متأكدًا إن كان يقرأ عن امرأة واحدة أم عن شظايا امرأة تكسّرت تحت وطأة التجربة. البطلة ليست نموذجًا نمطيًا ولا صوتًا خافتًا، بل كيانٌ متمرّد ينهض من بين الرماد، يرفض التصنيف، ويتحرّك بين الحب والرفض، بين الندم والرغبة في الانتقام، كأنها تمشي على حافة هاوية كلما ظنّ القارئ أنها اقتربت من النجاة.

وفاء شهاب الدين كاتبة تعرف تمامًا كيف تحرّك أدواتها. فهي لا تكتفي برسم الشخصيات، بل تغوص في دواخلها، وتجرّدها من الزيف، وتقدّمها لنا مشحونة بالتناقض، وهذا ما يمنح الرواية نبضها الحقيقي. اللغة هنا ليست محض وسيلة، بل كائن حيّ، يتنفس مع كل جملة، ويئنّ أحيانًا. جملها قصيرة كالسكاكين، مشبعة بالإيحاء، لا تتورع عن فضح المشاعر، ولا عن مداعبة القارئ ثم صفْعه بحقيقة غير متوقعة.

الرواية تطرح سؤالًا مؤلمًا: من الذي يدين من؟ الرجل الذي سقط  في الغواية، أم مجتمع لا يرحم؟ هل كان البطل مذنب فعلاً، أم أن العالم من حوله كان مهيأ لسقوطه منذ البدء؟ هنا، تتقاطع غواي مع كل التجارب الإنسانية التي يُدفع فيها الأفراد إلى الخطأ، ثم يُصلبون وحدهم على خشبة العار.

إن غواي ليست قصة تُقرأ مرة وتُطوى، بل وجعٌ يُستدعى كلما فكرنا في معنى الحب، وفي كُلفة أن تكون كثير الحب… أن تكون غواي.

رواية تستحق أن تُقرأ، لا لأنها تسلّي، بل لأنها تُفجّر الأسئلة، وتترك القارئ مشتعلاً بعد أن يُغلق الصفحة الأخيرة

فهي  نص أدبي يضجّ بالصدق، بالوجع، بالجمال المشاكس… وهي دعوة صريحة لأن نعيد النظر في مفاهيم الغواية، الحب، والخطيئة. رواية تكتبها امرأة، عن رجل، لكنها تُلامس كل روح، رجلاً كان أو امرأة، عرف ما معنى أن تُحب حتى تتكسر.

هذه الرواية  ليست دعوة للغواية، بل هي تأملٌ في كيف يصبح الإنسان فريسةً لهشاشته، كيف قد يحمل داخله الملاك والشيطان معًا، وكيف تكون المرأة — لا كرمز بل ككائن متكامل — مرآةَ المجتمع ومقصلة أحكامه في آنٍ واحد. في غواي، كل قارئ قد يرى نفسه، أو يهرب منها خوفًا مما قد يراه.

إنها رواية تُزعج، وتؤلم، وتثير… لكنها لا تُنسى. ففيها تأخذنا الكاتبة وفاء شهاب الدين في رحلة داخلية قاسية، تختبر فيها الروح نفسها على محك الرغبة والذنب، الشوق والخطيئة، فتُعري هشاشة الإنسان حين يقف عاريًا أمام مرآة ذاته. ليست غواي مجرد عمل روائي، بل هي طقس اعتراف غير معلن، ونصّ تتكشّف فيه الحقيقة بالتدريج، كما تتسلل الخيانة إلى قلب مطمئن… بهدوء، وبدون استئذان.

العنوان نفسه يحمل مفتاح الدخول إلى عالم الرواية. فكلمة “غواي”، كما تفسّرها الكاتبة، هي لفظة بدوية تعني “الحبيب”، لا بمعناه البسيط، بل كـ”كثير الحب”، ذلك الذي يحب حتى التهلكة، ويغوي ويُغوى، كما لو كان الحب لعنة أبدية تطارده أو هو يطاردها. ومن هذا العنوان، تبدأ الدلالة الكبرى: ماذا لو كان الحب نفسه هو الخطيئة؟ وماذا لو كانت الغواية ليست فعلًا إراديًا، بل قدرًا؟ إن في اختيار هذا اللفظ البدوي ما يضفي على النص مسحة من الأصالة، ويمنحه بعدًا ثقافيًا غائرًا في التقاليد واللهجات التي طالما حمَلت الحكمة والغواية معًا.

وفاء شهاب الدين كاتبة تعرف تمامًا كيف تحرّك أدواتها. فهي لا تكتفي برسم الشخصيات، بل تغوص في دواخلها، وتجرّدها من الزيف، وتقدّمها لنا مشحونة بالتناقض، وهذا ما يمنح الرواية نبضها الحقيقي. اللغة هنا ليست محض وسيلة، بل كائن حيّ، يتنفس مع كل جملة، ويئنّ أحيانًا. جملها قصيرة كالسكاكين، مشبعة بالإيحاء، لا تتورع عن فضح المشاعر، ولا عن مداعبة القارئ ثم صفْعه بحقيقة غير متوقعة.

الرواية تطرح سؤالًا مؤلمًا: من الذي يدين من؟ المرأة التي سقطت في الغواية، أم مجتمع لا يرحم؟ هل كانت البطلة مذنبة فعلاً، أم أن العالم من حولها كان مهيأ لسقوطها منذ البدء؟ هنا، تتقاطع غواي مع كل التجارب الإنسانية التي يُدفع فيها الأفراد إلى الخطأ، ثم يُصلبون وحدهم على خشبة العار.

إن غواي ليست قصة تُقرأ مرة وتُطوى، بل وجعٌ يُستدعى كلما فكرنا في معنى الحب، وفي كُلفة أن تكون كثير الحب… أن تكون غواي.

رواية تستحق أن تُقرأ، لا لأنها تسلّي، بل لأنها تُفجّر الأسئلة، وتترك القارئ مشتعلاً بعد أن يُغلق الصفحة الأخيرة.


التجربة الإبداعية لفكري داود بمنتدى السرديات باتحاد الكُتّاب – فرع الشرقية ومحافظات القناة وسيناء

 



كتب / مجدي جعفر

.................................

تحلق أدباء ونقاد منتدى السرديات  باتحاد الكُتّاب – فرع الشرقية ومحافظات القناة وسيناء حول التجربة الإبداعية للكاتب فكري داود في محاولة جادة للكشف عن معالم تجربته الإبداعية المتميزة والتي قاربت على الأربعين عاما، قدم خلالها للحياة الثقافية والأدبية العديد من الروايات والمجموعات القصصية، وأدار الندوة الأديب مجدي جعفر وذكر بعضا من سيرته الحياتية والأدبية :

* فكري الشربيني داود - (فكري داود).

* روائي وقاص وباحث.

* تاريخ الميلاد/ 15/5/1956 /بالسوالم/كفر سعد/ دمياط.

* المؤهَّل/ ليسانس الآداب والتربية/قسم اللغة العربية وآدابها/ جامعة طنطا1982.

* مدير عام مدرسة السوالم الثانوية المشتركة بالمعاش.

*الإصدارات:

1- الحاجز البشري/قصص/الهيئة العامة لقصور الثقافة 1996.

2- صغير في شبك الغنم/ قصص/الهيئة العامة لقصور الثقافة2001.

3- سمر والشمس/قصص للأطفال/ دار الإسلام للطباعة والنشر2004.

4-عام جبلي جديد / رواية/ ِمطبعة الإسراء/المنصورة  2006.

5- وقائع جبلية / رواية/ الهيئة العامة لقصور الثقافة 2007.

6- طيف صغير مراوغ/ رواية/ الهيئة المصرية العامة للكتاب2009.

7- المتعاقدون/ دار أخبار اليوم/ رواية/ سلسلة كتاب اليوم2009 

8- الاختيار الصحيح/قصص للأطفال/الهيئة العامة لقصور الثقافة 2011.

9- العزومة/ قصص/الهيئة العامة لقصور الثقافة 2013

10- دهس الطين/ قصص/اتحاد كتاب مصر2016.

11- الشوك والياسمين/رواية/ دار الهلال/سلسلة روايات الهلال2018

12- خلخلة الجذور/رواية/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/2019

13- المحارم/رواية/دار أفاتار 2020  

14- استكانة النهر العجوز/قصص/ دار الإسلام للنشر والتوزيع/2021

15- رَحيقُ الجُمَّيز/قصص/الكتاب الفضي –نادي القصة 2023

**العضويات والمشاركات:

* عضو اتحاد كتاب مصر. 

*عضو نادي القصة.

*عضو اتحاد كتاب الإنترنت العرب.

*رئيس نادي الأدب/ ونادي الأدب المركزي بدمياط عدة دورات.

*عضو أمانة مؤتمر أدباء مصر العام لدوراته23و24و 29و30.

*أمين عام مؤتمر إقليم شرق الدلتا الثقافي السابع عشر/رأس البر  2018

*أمين عام مؤتمر دمياط الأدبي لليوم الواحد /إبريل2009

*أمين عام مؤتمر شرق الدلتا الثقافي للطفل/2015.

* رئيس تحرير مجلة (رواد الجديدة) ثقافة دمياط/هيئة قصور الثقافة.

* مدير تحرير كتاب (رواد) الأدبي/فرع ثقافة دمياط/هيئة قصور الثقافة.

*أمين مساعد ورئيس لجنة أبحاث مؤتمر دمياط الأول للطفل2015.

* رئيس لجنة أبحاث مؤتمر اليوم الواحد/دمياط2021

*عضو جمعية رواد الأدبية.

*عضو مؤسس لمختبر سرديات دمياط. 

* محاضر مركزي بالهيئة العامة لقصور الثقافة.

* تُرجمت بعض أعماله إلى الفرنسية والإنجليزية. 

*شارك عضوا، أوباحثا في كثير من مؤتمرات أدباء مصر بالأقاليم، ومؤتمرات القصة، وشرق الدلتا، ودمياط، وغيرها.

*  شارك في العديد من البرامج الثقافية بالإذاعة والتلفزيون المصري.

*أقيمت حول أعماله العديد من الندوات والبرامج الإذاعية، والتلفزيونية، وبالمؤتمرات.

.....................................................................

وتحت عنوان ( أواصر القُربى بين البشر والقرود ) قدم الكاتب الكبير محمد عبدالله الهادي دراسة ماتعة  في رواية ( عام جبلي جديد )، جاء فيها :

( يقول دارون أن هناك حلقة مفقودة في سلسلة التطور بين الإنسان الأول والقرد ، بافتراض أن الإنسان أحد أنواع الثدييات التي نشأت وتطورت عن القرود ، ودون الدخول في إشكاليات النظرية الدارونية .. صحتها أوعدم صحتها ، تعارضها مع الأديان أو عدم تعارضها ، فإن ( فكري داود ) يأخذنا في روايته ( عام جبلي جديد ) إلي تلك المنطقة  ( الديرة / القرية ) الجبلية التي تقع جنوبيّ الجزيرة العربية ، والتي يشكل سكانها خليطًا من قبائل البشر وقبائل القرود ، فيحتم هذا الخليط ، بكل غرائبه وحكاياته ، علي المتلقي ، ضرورة استدعاء النظرية بحقائقها العلمية المختلفة ، والتي تقرر في إحدى جوانبها أن القبائل العربية القاطنة هناك ترتبط بقبائل القرود بأواصر قربى من المرتبة الرابعة ، لا يسبقهم فيها إلاَّ الزنوج والهنود والماويون ..

وبعيدا عن عنصرية النظرية التي تبتعد بالأوروبيين البيض عن مرتبة عن القرود ، تتدرج معها درجات الإبداع والذكاء واستخدام العقل والمنطق ، فثمة بشر بالديرة تظنهم قروداً ، وقرود تظنهم بشراً ( تماهي الملامح والسلوك ) ، والعلاقات المعيشية المشتركة ( الإنسانية / القردية ) أو ( القردية / الإنسانية ) تمضي بصورة طبيعية في جنبات الديرة ومحيطها : الدور الطينية ، القمم الجبلية ، الوهاد ، المساحات الشاسعة الصفراء ، المجرى المتسع لواد جاف معظم شهور السنة ، النخلات المتفرقات الهزيلات ، النباتات القصيرة غليظة الأوراق التي يُدمي سلُّها كل مقترب .. هذه العلاقات الطبيعية في موطنها الجبلي ، لا تلفت سوى انتباه هؤلاء المدرسين الغرباء الثلاثة ، الذين جاءوا من موطنهم الزراعي النهري السهلي المنبسط الخالي تقريبا من القرود .. جاءوا متعاقدين أو معارين لعدة أعوام ، عام يمضي بهم يقطعونه بإجازة قصيرة مع الأهل ، تنقضي سريعا ، فيجدون أنفسهم بالديرة مرة أخرى مع ( عام جبلي جديد ) : 

وهم بالرغم مما يكابدونه من حزن الفراق ووحشة الغربة ووجع البعاد والشوق العارم للآباء والأبناء والزوجات ومراتع الصبا والشباب ، فإنهم يتحايلون علي واقعهم الجديد هذا بمحاولات الإندماج والتعارف والتقارب مع الواقع من ناحية ، أو محاولة استدعاء الوطن المفارق علي أرض الديرة بطرق شتى من ناحية أخرى ، إنهم يتشبهون بالنباتات الصحرواية التي تتحور أعضاءها لتلائم البيئة ، الجفاف يعني جذورا عميقة تغوص بالتربة بحثا عن الماء ، والأوراق الخضراء قليلة مختزلة في وجه الشمس القاسية لتقلل من النتح وتحتمي بالأشواك : 

فالراوي يستدعى ابنته الوحيدة التي جاءت ثمرة زيجتين ، انتهت إحداهما بسبب عدم الإنجاب رغم الود ، والأخرى منحته الوليدة التي كشفت له أسرار جديدة.

تأتى الصغيرة تتكلم وتأكل وتلعب وتمتطي ظهر أبيها في تراوح مع سلوكيات القردة الأم مع صغيرها أمامه .. بالتأرجح علي أغصان السدر .. اللعب .. إطعام الصغير والدفاع عنه .. ألخ .

أما " حسين " زميله يستدعي أبناءه بصنع تماثيل طينية لهم ، مختلفة الأطوال والأعمار ، من التراب الناعم والماء ، ثم يجفف ( أطفال الطين ) هذه ويحتفظ بها علي رف خشبي بالدار ، بعد أن يمنحها الأسماء " حسن ومنى وأماني " ، ويستمر حواره مع نفسه 

كذلك فإن إخراج الألبومات والحافظات الجلدية وتأمل الأحباب المحبوسين بالصور الورقية ، الإغراق في أحلام التذكر ، الحكي واستدعاء الذكريات ، البكاء والدموع .. 

كل هذه وتلك صور أخرى من صور التحايل ، التي تقف عاجزة أمام مشهد إحدى الأسر القردية ملمومة الشمل .

ينجح المغتربون أحيانا ويفشلون في أحايين أخرى ، ولا يجدون أفضل من ( سعود ) ابن الديرة ليكون هو حلقة الوصل بينهم وبين هذا العالم الجديد ، لذا فإن مجرد خبر عزمه علي الرحيل إلي " نجران " ـ مع بداية الرواية ـ من الديرة ، يمثل مفاجأة غير متوقعة وغير سارة لهم :

[ أيمكن أن تكون الديرة ـ القرية ـ ديرة بلا سعود ؟! ] ص5 .

لكنه يرحل تنفيذا لوصية أبيه قبل وفاته : " من يرعى حلالنا وزرعنا في الجنوب يا ولد ؟ "، ويترك ابن عمه ( فالح ) الذي يعجز في أن يملأ فراغه ويحل محله لدى هؤلاء المغتربين ، فتظل حلقة الفقد هذه ممتدة لأسبوعين فقط ، يعود بعدهما ( سعود ) مرة أخرى ، فهو والديرة بمثابة السمك والماء ، لتتنامي بعد ذلك أحداث المشاهد في العمل الروائي .

وطالما كانت القرود قاسماً مشتركاً أعظم في كل أحداث الديرة وحكاياها ، فإن تذكر الراوي واستجلابه لحكاية ( الحاوي ) المصري بقرده المدرب ( ميمون ) وابنته الصغيرة " شريفة " بنت الخمس سنوات بوجهها الذي لوحته الشمس :

[ أنا لا حرامي ولا غشاش .. أكلي أكلي من عرق جبيني .. كدا ولا إيه يا شريفة ؟ ] ص33 ، ثم ألعابه البهلوانية وفصوله المضحكة مع القرد : عجين الفلاحة ونومة العازب .. 

حكاية من معين طفولة الراوي ، لا تختلف في أهميتها عن حكاية ( قرد يزيد بن معاوية ) التي حكاها لـ ( سعود ) علي سبيل التعزية في فقده  قرده ( ظافر ) ، المنهوش حنجرته من القرود الثائرين .

* * *

وفي محاولة لتبين ، ومن ثم تأمل ( أواصر القربي ) التي أشرنا إليها مسبقاً ، يمكننا أن نرصد العديد من المشاهد :

في ( الدنيا من فوق برميل مقلوب ) نرصد تلصص الراوي وزميليه بالدار علي البنت " صالحة " ـ جارة المسكن ـ  بعد عودتها بأغنامها وقت الغروب ، وتنافسهم في الصعود على ظهر برميل مقلوب ، للتلصص علي قفزات القرد الفتي فوق جدارها ، ثم هبوطه إلي بطن دارها ، ثم : [ هاهو الظهر الأنثوي مسلما نفسه للأرض ـ ككل مرَّة ـ وبين الساقين منتشيا ، ينام جرم حيواني فتي ! ] ص22 .

وفي ( مرثية للصديق ) نرصد استئناس ( سعود ) لأحد القرود ، ونجاحه في التفاهم معه بلغة الإشارة ، واختيار اسم " ظافر " له ، تعايشهما سويا ، ثم فشله في إيجاد زوجه للقرد وزوجة له ..  لكن القرود الحانقين علي ( ظافر ) الذي شذ عن القطيع ، يتحينون الفرصة تلو الأخرى للانتقام منه ، حتى ينجحوا في نهش حنجرته ، تاركين الحسرة عليه عالقة بحلق    " سعود " .

وفي ( ثلاث وقائع للتيه ) نرصد في واقعة واحدة منهم ، قرداً مجنوناً بالوراثة ، يضحك بهستيرية ويقذف النوافذ والأبواب بالحجارة ، وإذا ما وضع آدميا في رأسه لا يتركه إلاَّ والجنان راكبه ، ومحاولته ذلك مع الراوي ومطاردة الراوي له .

كذلك تعامل القرود مع مخدر الخشخاش بالأكل أو الشم ، يتصرفون كالآدميين وهم يتمايلون سكارى .

وفي الصراع بين قبائل القرود وقبائل البشر على مورد الماء بالنبع القديم .

وانتقام القرود لمقتل الكثيرين منهم بطلقات بنادق أهل الديرة ، باختطاف " صبيحة " ـ راعية غنم وخالة صالحة ـ ، وانتشار الشائعات حول اختفائها ، كالادعاء أن قرداً نسناسياً أخذ بلبِّها ، أو أن علاقة ما ربطتها بملكهم الكبير .

وفي مشهد من مشاهد المواجهة مع القرود، ينفض " سعود " النوم عن رأسه ليجد بندقيته موجهة لصدره ، تقبض عليها يدان أنثويتان ، لتلك التي تحتفظ ـ لا تزال ـ ببقايا الملامح القديمة لـ " صبيحة " التي هجرتْ عالم البشر وانضمت لعالم القرود .

وفي ( منهم من يغني للوحدة موالاً ) نرصد قرداً آخر يفضل الوحدة والابتعاد عن قبيلته القردية ، يفضل العيش في مزرعة " سعود " البعيدة ، يتفاهم معه ، وينتظر قدومه بفارغ صبر ، ويهلل لمرآه ، ونراه وهو يساعده في تلقيح النخل ، وكيف يأكل معه .. 

يقول سعود عنه : " قرد شرود " .

وعن ( بنت القرود السمراء تقع فريسة حب كبير ) ، نجد أن هذه البنت الشابة مولع قلبها بابن كبير شمبانزية الديرة ، هذا الولع يتبدى في طقوس للعشق والغرام لا تختلف عن الطقوس الإنسانية : إرسال النظرات بين الأعين المستديرة ، التفاهم بالإشارات ، التواعد علي اللقاء ، اللقاء خلف الجبل الأبيض ، لحظات العشق والاشتهاء .. ألخ ، وعندما تعلم أسرتها بالأمر تحبسها حفاظاً علي الشرف والكرامة ، فنرى لوعة الحبيب وتسكعه بالقرب من جحرها حتى يتمكن من رؤيتها ، ورغم كل ترتيبات حكماء القرود لحسم الأمر ، ينجح الحبيبان ( كما في الأفلام العربية القديمة ) في الهرب سوياً عبر سواد الليل .

ثم خطف القرود لكلب " سعود " الوولف أولإحدى خرافه وانتقامه منهم بعد ذلك . 

شغل وقت الفراغ بلعب الكرة بين المغتربين وتلاميذ المدرسة ، ومن ثم تقليد القرود لهم باللعب بثمرة العشار الخضراء المستديرة .

وفي ( الخارج من الدار ) نرى قرداً عبيطاً تنقصه أبراج العقل ، لا يفهم لغة المراودة مع فتيات القرود ، فيتحايل بصبغ شعره بزيت السيارة ( الوسخ ) فيتلطخ شعره بالتراب ، ويصير مظهره منفراً ، ثم يأسه وهروبه من الديرة ، بعد ذلك .. وبالقرب من المدينة يلمحه " سعود " فيطارده بسيارته بغية إعادته للديرة : " الديرة أولى به من هذا الشتات " ، ( ويوحي لنا الراوي في لحظة تأمل عابرة مدى التشابه بينهم " المغتربون " وبين هذا الشريد الهارب من وطنه ) ، ومع الإصرار علي المطاردة من ناحية والإصرار علي الهرب من ناحية أخرى ، تنزلق السارة فوق دمائه عندما صدمته أول حافلة عند أول تقاطع للطريق .

المشهد الأخير ، مع انتهاء العام الجبلي ، ورحيل الراوي وزميليه في مشهد وداع مؤثر : 

[ وعلي جانبي الطريق ، انتظم صفان قرديان ، علي مؤخراتهم يرتكزون ، ترتفع أكفهم المشعرة نحو أعينهم الدامعة ..

امتصت خدودنا حبات الدمع الساخنة، وألقت عيوننا بآخر نظرة ، علي كفيّ صالحة الملوحتين عبر النافذة ، مفاجئين بانحسار نقابها ـ لأول مرة ـ عن وجهها المضيء ] ص122 .  

* * *

تبدو مشاهد الرواية كلوحات مرسومة بعناية القص من راويها ، تحمل ـ كل لوحة علي حدة ـ سمت القصة القصيرة إلي حد كبير ، والتي ترتبط في نفس الوقت بوشائج قربى ـ قرابة البشر بالقرود ـ مع ما يلي من قصص . ثمة ملاحظة شكلية هي قلة رجال الديرة الذين يظهرون بالرواية ، لا نعرف منهم سوى " سعود " و" خميس " و " فالح " ، أو بعض تلاميذ المدرسة .. كذلك النساء اللائي يختفين تماما ، فينتفي حضورهن بالعمل ، فلا نرى منهن سوى" صالحة " و " صبيحة " ، فمجتمع الديرة  يبدو بالرواية ذكورياً في المقام الأول ، ويتجلى هذا في الإشارة لحيرة ( سعود ) ، وبحثه المضني عن زوجة مناسبة ، وعدم توفيقه في سعيه إلاَّ في نهاية العمل ، عندما يربط الراوي بين حدثين مهمين : انتقامه وثأره من القرود الذين نهشوا حبله بين فخذيه ذات يوم ، وزواجه من " صالحة " التي تحوم حولها الشبهات بتشجيع من المغتربين .. 

القرود حاضرون مع البشر ليلاً ونهاراً ، يتسيدون الكائنات الأخرى التي تعمر الصحارى والجبال من كلاب وخراف وماعز وحمير ضامرة وجعارين وخنافس وثعابين وجرابيع وضبان . 

السرد واضح مقتصد في لغته محاولاً صنع أسلوب خاص به ، لا توجد بلاغة زائدة عن الحاجة ولا زخرفات لغوية ، الجمل بسيطة وسلسة في اللغة وبناء الشخصيات ، حتى غرابة الأحداث لا تجنح نحو الخيال الجامح ولا تثير قضايا كبرى ، والحوار قصير فصيح لا يخلو من بضع كلمات عامية بدوية في محاولة للتقارب بين اللهجات وإضفاء مزيدا من المصداقية .  

* * *

فكري داود عزف بقلمه علي نفس الوتر من قبل في مجموعته القصصية ( صغير في شبك الغنم ) ، لكنه هنا يصنع رواية يغيب عنها الحدث الكبير ، لتحل محله أحداثٌ صغري أو حكايات متفرقة مرتبطة بخيط واحد جذَّاب ، يمنحها الانتظام مع حرية الحركة ، معتمداً وجهي  الغربة من جانب ، وسلوكيات البشر والقرود من جانب آخر .. وفي ظني أن هذا الأمر هو ما حقق المتعة لدى المتلقي ، لأنه يستمد فلسفته من أساسيات القص العربي القديم كما في " ألف ليلة وليلة " ، ذلك من خلال 25 مشهداً تتقارب حجمًا ، ويحمل كل منها عنواناً دالاً علي المضمون : ( وقائع ارتحال سعود بن عايض .. من وحي قصة قديمة .. طيف صغير مراوغ .. ألخ ) ، وقد يتكون المشهد الواحد من مقطعين أو ثلاثة مرقمة في ( 125 صفحة من القطع المتوسط ) ، حتى أن الناقد ( محمد محمود عبد الرازق ) يعتبرها ـ في كلمة قصيرة علي الغلاف الأخير ـ رحلة من الرحلات المعاصرة للأراضي الحجازية ، تعتمد علي مجموعة مشاهد ، يمكن أن تنتظم بنفس العقد الذي يضم ( البلدة الأخرى ) لإبراهيم عبد المجيد و ( لا أحد ) لسليمان فياض و ( الفيافي ) لسعيد بكر .

وهذا ما يثير التساؤل لدى المتلقي حول تضمين العمل بعضا من سيرة الكاتب الذاتية ، فنحن نرى فكري داود الذي نعرفه : الإنسان ، المعلم ، المعار للسعودية لعدة أعوام .. يطل علينا بين الحين والآخر عبر المشاهد في حالة تماهي بين أحداث الرواية وحياته الشخصية ، وهذا ما يستوجب السؤال حول قدرة الكاتب وخبرته ، عندما يركن إلي الواقع الشخصي  ليكون معينه الأول ، وكيفية إحالة هذا الواقع إلي واقع فنِّي مغاير يُصنَّف كرواية .

وأعتقد أن هذه الروايات / الرحلات ثمرة من الثمرات الإيجابية للحقبة النفطية ( السبعينيات وما بعدها من القرن الماضي ) ،  والتي تؤكد أن لقاءات البشر العاديين من أبناء الأمة ، وانتقالهم من بلد لآخر ، وتعايشهم وتفاعلهم ، أهم كثيراً من لقاءات القمم الفوقية التي غالبا ما تُمنى بالفشل ، وتوسع شقة الخلاف ، ولا تحقق التقارب والتعارف المنشودين ، لأمة واحدة وكبيرة كالأمة العربية .

......................................................

وقدم الأديب والناقد فرج مجاهد إطلالة على فكري داود وأعماله، تحت عنوان (فكري داود .. قراءة في تجربة أدبية  ) جاء فيها :

(لم تكن رحلة الأديب فكري داود إلى عالم الكتابة مجرد مصادفة أو نزوة عابرة. كانت مسارًا طويلًا من التشكّل والتكوين، جُمّعت لبناته من أناس حقيقيين، وشخصيات حفرت في وعيه أثلامًا من المعنى والانتماء، بدءًا من أول مشهد في ذاكرته، حيث والده الجالس في ركن البيت، يحمل جريدة، يتصفحها بنظرات فاحصة، يقرأ بعض فقراتها بصوت مسموع، ويعلق عليها بلغة رجل بسيط، لكنه نافذ البصيرة، يعرف الحياة لا من الكتب، بل من عيون الناس وخبراتهم.

ذلك الأب، رغم أنه لم يحمل شهادة دراسية، كان أول من علّمه كيف يصوغ الحوار، لا بمنطق الخطباء أو فصاحة الأدباء، بل من خلال الصدق والبساطة والثقة بالنفس. علّمه أن الحديث مع الكبير يجب أن يكون مؤدبًا دون خضوع، ومع الصغير دون استعلاء، وألا يخاف من التعبير عن رأيه، ما دام ينطلق من فهم حقيقي لما يقول. كان والده مولعًا بالسير الشعبية، يردد حكايات أبي زيد الهلالي وعنترة، ويُصغي بشغف للطوافين بالربابة في المواسم والحفلات، يستعيد مقاطع من مدائح الرسول، ويردّدها بخشوع، مما أضاء في وجدان فكري شرارة حب الحكاية الأولى.

في عالمه النسائي، برزت جدتاه وأمه، حكاءات بالفطرة، يحملن الذاكرة الشعبية في طيات كلامهن، في أغاني التهليلة، في حكايات "أمنا الغولة"، وفي سرد الموروث الذي لا يضيع. أما جده لأمه، فقد كان الصارم في الحق، مهاب الطلعة، لا يمزح في الجد، ولا يتراجع عن موقفه. من هذا الجد تعلم فكري أن يكون صادقًا، حتى في لعبه، وأن يأخذ الأمور على محمل الجد منذ نعومة أظفاره، وهي خصلة لازمته لاحقًا في كل سطر كتبه.

غير بعيد عن البيت، كان "العم شروش" ينتظره على ناصية الطريق. بائع الجرائد والمجلات والكتب، رجل لا يعرف أن قلبه مكتبة متنقلة. أتاح لفكري الفتى أن يغترف من تلك الكنوز الورقية، دون أن يطلب مقابلًا. أعطاه ما يشاء من كتب ليقرأها، ثم يعيدها ليأخذ غيرها، كأن المعرفة دينٌ متجدد. وإذا أحب كتابًا، كان العم شروش يقبل منه ثمنه على أقساط، لا يهم كم يدفع، بل أن يقرأ. هكذا فتح له نافذة واسعة على العالم.

في المدرسة، كان هناك الأستاذ محمد أبو الأنوار، معلم الصفين الخامس والسادس، الذي أتقن فن أسر القلوب الصغيرة. لم يكن ينهي الحصة عند جرس الانصراف، بل عند ذروة قصة من ألف ليلة وليلة، يتوقف عند اللحظة الأكثر تشويقًا، ويعدهم بإكمالها غدًا إن كتبوا واجباتهم. وهكذا، تسلل الأدب إلى حياتهم على هيئة مكافأة، وباتت القصة انتظارًا يوميًا، وبات المعلم راويًا فذًّا غرس في فكري حب السرد وشغف التشويق.

ثم جاءت الجامعة، وظهر الكاتب الكبير فاروق خورشيد، أستاذ الحضارة في كلية تربية المنيا. لم يكن مجرد أستاذ جامعي، بل أول من رأى في قصص فكري بذورًا حقيقية. قرأها بعين الخبير، لم يجامل ولم يتردد. شجّعه على الاستمرار، أكد له موهبته، وكان ذلك كمن أضاء مصباحًا داخليًا. كان اعتراف فاروق خورشيد له بالموهبة بمثابة شهادة ميلاد ثانية، لا جسدية، بل إبداعية.

لاحقًا، حين انتقل إلى كلية التربية بطنطا، التقى بأستاذ آخر سيترك أثرًا عميقًا في رحلته: الدكتور سعد إسماعيل شلبي، أستاذ الأدب الأندلسي. هذا الرجل، بثرائه المعرفي وسعة اطلاعه، فتح له أبوابًا إلى عالم المراجع والنقد، زوّده بكتب لم يكن ليجدها بسهولة، وناقشه بحزم وعمق، لا يجامل، لكنه يحتضن الفكرة إن نضجت. علّمه كيف يغوص في النص، لا ليقرأه فقط، بل ليفك شفراته، ويبحث عن ضوء المعنى في عتمة التراكيب.

وهكذا، تكوّن الكاتب. ليس من فراغ، بل من سلسلة ممتدة من الأشخاص، كلّ منهم وضع لبنة في كيانه. والده الحكيم دون علم، أمه وجدّته الناقلات للأثر، جده الحازم، العم شروش المعطاء، المعلم أبو الأنوار راوي القصص، فاروق خورشيد مكتشف الموهبة، وسعد شلبي الذي علّمه كيف يكون الأدب عمقًا لا سطحًا.

تجربة فكري داود لم تكن مجرد رحلة تعلم، بل رحلة تكوين إنساني، وفكري، وجمالي. كتاباته فيما بعد حملت هذه الذاكرة، تشهد لكل أولئك الذين مرّوا في حياته، فصاغوه روائيًا، حكاءً، وفيلسوفًا صغيرًا يعرف أن الكلمة الطيبة مثل الحكاية الصادقة... تبقى.

وفي هذا السياق، تبلورت مسيرته الإبداعية.

 يقول فكري أحد الحوارات معه: "ستظل فترة الغربة منبعًا دائمًا لكتاباتي"، ولها كتب مجموعته القصصية "صغير في شبك الغنم" 2000  هيئة قصور الثقافة)، ثم رواياته "عام جبلي جديد"" و"المتعاقدون" (2006، دار الإسلام)، و"طيف صغير مراوغ" (2009، هيئة الكتاب)، و"المتعاقدون" (2009، دار أخبار اليوم)

لكن القرية المصرية ظلت أصلًا لا يتزحزح في ذاكرته، فكتب عنها قبل السفر في "الحاجز البشري" 1996، هيئة قصور الثقافة، ثم بعد العودة في "العزومة" (2013)، "دهس الطين" 2016، عن اتحاد الكتاب، ثم رواية "الشوك والياسمين (2018، عن سلسلة روايات الهلال. كما ينتظر صدور رواية "الديرة" عن هيئة قصور الثقافة.

 ولم يكتف بذلك، بل حصل على منحة تفرغ من وزارة الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة لكتابة روايته الثلاثية "دروب الفضفضة"، التي تتكون من ثلاثة أجزاء، كل منها رواية مستقلة، لكنها تكمل بعضها لتشكّل رؤية متكاملة عن الإنسان المصري والوجود. وقد صدرت له مؤخرا  مجموعته القصصية "رحيق الجميز"  في سلسلة الكتاب الفضي بنادي القصة، وقبلها رواية "خلخلة الجذور2019، عن هيئة الكتاب(

تجربة فكري داود لا تختزل في سيرة شخصية، بل تشبه نهرًا تتفرع منه جداول الحياة والكتابة، تتغذى من الذاكرة، وتصب في وجدان القارئ العربي الذي يبحث عن الحقيقة بين السطور.

فالأديب الكبير فكري داود يمثل علامة فارقة في الأدب المصري الحديث، خاصةً في تصويره الأمين والعميق للواقعية في الريف المصري. لقد استطاع ببراعة أن ينقل تفاصيل الحياة اليومية، والصراعات الاجتماعية، والعادات والتقاليد الأصيلة في القرية المصرية، ليقدم لنا لوحات أدبية حية تنبض بالصدق والإنسانية.

فكري داود: صوت الواقعية الصادق في الريف المصري

تميز مشروع فكري داود الأدبي بالتركيز على الواقعية كمنهج، ولكنه لم يقتصر على مجرد نقل الأحداث، بل تعمق في تحليلها وكشف عن جذورها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. لقد كان يمتلك عينًا فاحصة وقلبًا مرهفًا، استطاع من خلالهما أن يلتقط أدق التفاصيل في حياة الفلاحين والعمال البسطاء، وأن يعبر عن آمالهم وآلامهم وتطلعاتهم بصدق مؤثر.

"خلخلة الجذور": تفكيك البنى التقليدية

تُعد رواية "خلخلة الجذور" من أبرز أعمال فكري داود التي تجسد هذا التوجه الواقعي النقدي. يحكي فيها عن التغيرات التي بدأت تطرأ على المجتمع الريفي المصري، وتأثير الحداثة والتحولات الاقتصادية على البنى التقليدية والعلاقات الإنسانية المتوارثة. يصور كيف بدأت "الجذور" القديمة والأصيلة تتخلخل تحت وطأة هذه التغيرات، وكيف واجه الأفراد والمجتمعات هذه التحولات بتحدياتها وصراعاتها. الرواية لا تقدم صورة وردية للريف، بل تكشف عن التوترات الداخلية والصراعات الطبقية التي بدأت تظهر بوضوح.

"الشوك والياسمين": جمال يزهر وسط الصعاب

أما رواية "الشوك والياسمين"، فهي أيضًا تعكس واقعية الحياة في الريف، ولكن ربما مع تركيز أكبر على الجانب الإنساني والعاطفي. العنوان نفسه يحمل دلالة عميقة، حيث يشير إلى أن الجمال والرقة ("الياسمين") يمكن أن يزدهرا حتى في البيئات القاسية والصعبة "الشوك". من خلال شخصياته وعلاقاتهم، يرسم فكري داود صورة للحياة الريفية بكل ما فيها من مشقة وعناء، ولكنه في الوقت نفسه يبرز قوة الروابط الإنسانية، وقدرة الناس على التكيف والصمود، وعلى إيجاد لحظات من الفرح والأمل وسط التحديات.

خصائص أسلوبه:

يمكن تلمس عدة خصائص مميزة في أسلوب فكري داود الروائي:

  * التصوير الدقيق للبيئة الريفية: يولي اهتمامًا كبيرًا بتفاصيل المكان، من وصف الحقول والبيوت والأدوات الزراعية، إلى تصوير العادات والتقاليد والمناسبات والعلاقات الاجتماعية. هذا يخلق لدى القارئ إحساسًا قويًا بالانتماء إلى هذا العالم.

  * الشخصيات الواقعية: شخصياته غالبًا ما تكون مستمدة من الواقع المعيش في قريته، تحمل همومًا ومشكلات حقيقية، وتتفاعل مع محيطها بطريقة طبيعية ومنطقية.

 * اللغة البسيطة المعبرة: يستخدم لغة قريبة من لغة الناس في الريف، ولكنها في الوقت نفسه لغة أدبية فصيحة قادرة على التعبير عن أدق المشاعر والأفكار.

 * التحليل الاجتماعي النقدي: لا يكتفي فكري داود بوصف الواقع، بل يسعى إلى فهمه وتحليله ونقده في بعض الأحيان، كاشفًا عن جوانب الظلم والقهر والتفاوت الاجتماعي.

بشكل عام، يُعتبر فكري داود من الأصوات الأدبية الهامة التي ساهمت في إثراء الأدب المصري بواقعية صادقة وعميقة عن الريف المصري. رواياته مثل "خلخلة الجذور" و "الشوك والياسمين" تظلان شاهدتين على قدرته الفائقة على تجسيد هذا العالم بكل تفاصيله وتعقيداته.

لقد استطاع أن يعبر عن هذه المشاعر الإنسانية العميقة من خلال أعمال مختلفة، ولكل منها خصوصيته في تناول هذا الموضوع:

تناول فكري داود لموضوع الغربة في هذه الأعمال.

صحيح تمامًا، إذا نظرنا إلى سياق عمله كمدرس ومعلم في المملكة العربية السعودية، فإن تجربة الغربة تصبح ليست مجرد فكرة مجردة في أعماله، بل تجربة معاشة وملموسة أثرت في رؤيته للعالم وفي القضايا التي تناولها.

  "عام جبلي جديد" و "المتعاقدون": يمكن قراءة هاتين الروايتين من منظور تجربة الانتقال إلى بيئة جديدة ذات ثقافة وعادات مختلفة، وما يصاحب ذلك من شعور بالانفصال عن الوطن والأهل والأصدقاء. قد تعكسان صعوبة التأقلم مع هذه البيئة الجديدة، والعلاقات التي تنشأ في هذا السياق والتي قد تكون مؤقتة أو قائمة على مصلحة العمل "المتعاقدون". الشعور بـ حياة الجبل قد يرمز إلى التحديات والصعوبات التي يواجهها المغترب في بناء حياة جديدة.

رواية "عام جبلي جديد": هذا العنوان بحد ذاته يحمل دلالات على التغيير والانفصال عن الماضي أو عن مكان مألوف. من المرجح أن تتناول الرواية شخصيات تجد نفسها في بيئة جديدة أو تواجه تحولات جذرية في حياتها، مما يولد شعورًا بالغربة وعدم الانتماء. قد تستكشف الرواية التحديات التي تواجه الأفراد في التأقلم مع واقع مختلف وفقدانهم لجزء من هويتهم.

و رواية "المتعاقدون": قد يرمز هذا العنوان إلى نوع من العلاقات الإنسانية أو الاجتماعية القائمة على التعاقد والمصلحة، مما يمكن أن يؤدي إلى شعور بالبعد والسطحية في التواصل، وبالتالي إلى نوع من الاغتراب الروحي أو العاطفي بين الشخصيات. ربما تتناول الرواية أفرادًا يعيشون في عالم ملئ بالقرود ويسوده الطابع المادي والبراغماتي، مما يجعلهم يشعرون بالانفصال عن ذواتهم الحقيقية وعن الآخرين.

رواية "المحارم": يصبح عنوان هذه الرواية أكثر وضوحًا وقوة في ضوء هذا السياق. اشتراط وجود محرم للمرأة العاملة في السعودية يمثل قيدًا اجتماعيًا وثقافيًا قد يخلق شعورًا بالاغتراب لدى المرأة العاملة، حتى وإن كانت برفقة زوجها أو أخيها. قد تستكشف الرواية الديناميكيات المعقدة للعلاقات الأسرية في ظل هذه الشروط، أو ربما تتناول حالات فردية لنساء وجدن أنفسهن في مواقف صعبة بسبب هذا الشرط، مما أدى إلى شعورهن بالعزلة والاغتراب حتى داخل العلاقة المفترضة أن تكون سندًا وحماية.، وربما كان فكري صاحب تجربة فريدة ومختلفة في هذا العمل فقد تناول تجربة السفر العديد من الأدباء مثل إبراهيم عبد المجيد، والدكتورة عزة بدر وغيرهما، لكن لم يتناول أحد تجربة المحارم بهذا الشكل الفريد.

إن الربط بين هذه الأعمال وتجربة فكري داود الشخصية في الغربة يفتح آفاقًا جديدة لفهم دوافعه الإبداعية والطبقات المختلفة للمعاني في كتاباته. يصبح موضوع الغربة ليس فقط شعورًا فرديًا بالانفصال، بل أيضًا انعكاسًا لتحديات اجتماعية وثقافية وقوانين قد تفرض قيودًا على الأفراد وتزيد من شعورهم بالاغتراب.

  رواية "المحارم": هذه الرواية تحديدًا تعتبر عملًا فريدًا ومثيرًا للجدل، وقد تناولت موضوعًا حساسًا اجتماعيًا ودينيًا. في سياق الغربة والاغتراب، يمكن فهم هذا العمل على مستويات عدة. قد تعبر الرواية عن اغتراب الشخصيات عن القيم والأعراف المجتمعية السائدة، أو عن شعورهم بالوحدة والانعزال الشديد الذي يدفعهم إلى تجاوز المهن والأعراف بحثًا عن أي شكل من أشكال التواصل أو الانتماء من أجل المال، حتى لو كان ذلك في إطار مرفوض. كما يمكن أن تعكس الرواية اغتراب الذات عن طبيعتها الإنسانية السوية تحت وطأة ظروف قاسية أو اضطرابات نفسية عميقة.

من خلال هذه الأعمال، يظهر فكري داود ككاتب لا يخشى الخوض في المناطق المظلمة والمشاعر الإنسانية المعقدة. إنه يستكشف كيف يمكن للظروف المختلفة أن تؤدي إلى شعور الفرد بالغربة عن المكان، عن المجتمع، وحتى عن ذاته. إن تناوله لموضوع الاغتراب يتميز بالعمق النفسي والاجتماعي، مما يجعل قراءة هذه الأعمال تجربة مؤثرة ومثيرة للتفكير.

إن الحديث عن المبدع فكري داود يحتاج لكتب تتناول تجربته في القصة وفي الرواية وفي أدب الطفل وفي بحوثه النقدية التي قدمها في العديد من المؤتمرات وكذا الجوائز التي حصل عليها، وتجربته في كتابة المسرح فقد لا يعرف بعضكم أنه كتب للمسرح وفاز بجائزة في ذلك ولكنه لم يطبع هذه المسرحية لا أدري لماذا.

ذلك هو الأديب فكري داود المحب للريف المصري الذي ولد فيه بتاريخ 15 مايو1956 ولم يغادر قريته السوالم.

...................................................................

وقدم الكاتب أحمد عبده مقاربة نقدية في رواية ( المحارم ) تحت عنوان ( "محارم" فكري داود .. الدافع اقتصادي, والوازع الديني!

ـــ  " المحارم " رواية الكاتب المصري  فكري داود, صدرت عن دار أفاتار 2021

ـــ الكاتب الروائي فكري داود ينحصر انتاجه الأدبي في اتجاهين: أدب القرية وأدب الاغتراب 

ـــ رواية المحارم ضمن مشروع للكاتب عن تجربة الغربة, أو تجربة الاغتراب, هذه التجربة تضم مجموعة أعمال روائية وقصصية هي ( المتعاقدون، عام جبلي جدبد، وقائع جبلية, صغير في شبك الغنم، طيف صغير مراوغ، المحارم)

ـــ إذن نحن أمام مشروع للكاتب في هذا الاتجاه, كل عمل من هذه الأعمال يعالج موضوعه, قد نجد بعض التماس الخفيف مشترك بين هذه الأعمال, بحكم الوظيفة والبيئة البدوية, أعتقد أن رواية المحارم جمعت خلاصة تجربة الكاتب في هذا الاتجاه.     

ـــ الكتابة عن الاغتراب: موضوعا وأسلوبا ومعالجة يأتي ذلك  من طبيعة المكان والزمان. فالاغتراب في أمريكا مثلا.. الكتابة عنه سوف تختلف عنها في دول الخليج, حتى دول الخليج؛ لكل دولة تناول خاص.

ـــ المحارم بصفة عامة هي قاعدة دينية,  أقرتها ـــ  بالكيفية التي جاءت في الرواية ـــ سياسة بلد الاغتراب, لتنظيم حياة اجتماعية بوازع ديني, ودشنتها السياسة الفاشلة لبلد "المحارم". 

ـــ هذا الفشل الذي عبر عنه " الأستاذ عبد البديع ", السارد, حامل الشهادة العليا بقوله { ...ألقيتُ بلوم شديد على الظروف، محملا إياها مسؤولية الدفع بأمثالي -  ممن يُفترض ارتقاؤهم ببلادهم ــــ إلى مثل هذه (الشحططة) }   

ـــ  الرواية  تعالج موضوع المحارم.. من منظور اجتماعي لمجتمعهم محدود المكان والزمان, وانعكاسه على مجتمعهم الأساسي, بين سطور هذه المعالجة, نلمح مفارقة دينية, وهي:  كيف أن الرجل قيِّم على المرأة, وفي الوقت نفسه.. يضعونه  في موضع " ربات البيوت" على حد تعبير سعفان الصعيدي " كلهم هناك.. لا يرونني إلا بعين النُّقْصَان؛ لقبولي السفر مِحرمًا دون عمل، مثل ربات البيوت " وهذه الجزئية تختص بها بلد التعاقد.

أما السياسي والاجتماعي في الرواية: فهو ارتباك التركيبة الاجتماعية والسلوكية والنفسية والاقتصادية للشعب المصري, وانقلاب الموازين, الرجل العاطل تابع للمرأة العاملة, أدى ذلك لنتائج سلبية انعكست على المجتمع: كظهور الشرائح الطفيلية " ... رءوف امتلأ كِرْشُه، وبات صاحب أملاك في مصر، تمتلك زوجته مؤهِّلا عاليا، وجمالا أخاذا، تزوجت من عديم المؤهِلات هذا، لقاء تكفله بجهاز العُرس وحده، مع إعالته لأهلها المُعْدَمين "

كذلك طغيان ثقافة الاستهلاك, وتعطيل الانتاج الذي كان مكتسحا حتى أوائل السعبنيات,  وغير ذلك من أمراض سيعاني منها المجتمع المصري طويلا.

ــــ  وعن جدوى المحارم , تتساءل الرواية في حوار "  لماذا يجعلوه إجباريا على المرأة فقط؟ هل يخافون عليها من الفتنة، لبعدها عن زوجها مثلا – إذا كانت متزوجة ؟ كيف هذا، والمحرم يمكن ألا يكون زوجها؟.. عندك حق فعلا .. وهل الرجل معصوم من الفتنة؟ "

ـــ  ففي الوقت الذي يشددون فيه على ضرورة المحارم, وحتمية النقاب نجد " الطالبات بمعهد المعلمات معظمهن متزوجات، يعرفن كل شيء، يحكين لزميلاتهن غير المتزوجات، تفاصيل اللقاءات الحميمية مع أزواجهن، فانتحتْ سهير جانباً كمعلمة، بإحدى الطالبات المتزوجات، وطالبتها بعدم الحكي لزميلاتها، فثارت ثائرة البنت وتخلَّقَتْ المشكلة "  

ـــ الكاتب ابتعد عن توريط الرواية  في بُعدٍ؛ لم يكن بعيدا عن بيئة شخوصها, وهو التأثر بالوهابية, أبغض ما انعكس على المجتمع المصري, فهم يعيشون في قلبها: فنجد سعود مدير المدرسة لابد أن يؤمهم في الصلاة, ولا يتقدم لها أحد إلا بإذنه, نظام الإمامة أو الخلافة.

وعائض المدير الجديد يلوم عبد البديع " لماذا دخلتَ بقدمك اليسرى؟ ألا تعلم أن البركة في التَّيَمُّن؟,  وقبل أن أجيب، لاحَقني بلومٍ جديد: ولماذا لم تُلْقِ السلام؟ } مع العلم أنه رد السلام عليه قبل ذلك بطرف لسانه" سلام" !

ـــ  منذ اللحظة الأولى, وفي باص الرحلة من دمياط إلى مطار القاهرة؛ والأستاذ المتعاقد عبد البديع؛ منبهر بالأستاذة المتعاقدة  سهير!, في حين معها محرمها صابر/ يستمر هذا الانبهار طوال  سنوات التعاقد, عبد البديع بمدرسة الغزالة  في " تثليث" الصحراوية, وسهير بمدرسة في أبها, المدينة الحضرية الجميلة {  قلت في نفسي: حقا لقد أحسن الحظ، بإنزال الشخص المناسب في المكان المناسب، فسهير أَوْلَى بِأَبْهَا، وأَبْهَا أَوْلَى بسهير... }

ظل هذا الانبهار دون أن يخفت, وقد صارت منتقبة { صابر المخطط مِحرم سهير الجميلة }, {  كم بقيتْ هيئتها تلعب في خيالي }, { صورةُ صابر مِحرم سهير، بقميصه المخطط، الذي أسميته بسببه (صابر المخطط)، ونار حقدي المتأججة تجاهه؛ كيف يمتلك عروس المولد هذه، ويقيم معها بعروس المدن أبها؟} 

ظل الاعجاب والانبهار على طول الخط, إلى أن أسرَّ له صابر المخطط بأنه عاجز معها جنسيا, وتبلغ ذروة الجو المحبب لعبد البديع تجاه سهير حين يقول { ألقيت إلى سهير برسالة عائض لزوجها، واستدرتُ هامَّا بالمغادرة, فاجأتني قائلة: ليتك تدخل قليلا / لا يجوز أبدا / مجرد كوب شاي.. أستحلفك بالغاليين / مستحيل طبعا...كيف؟!/ عاجلتني كمدفع يرسل الطلقات بانتظام: أنا أعرف حقيقة شعورك نحوي، ويمكن لديّ نفس الشعور، لكنني أمسك لجام نفسي كأمٍ وزوجة، رغم مروري مع صابر حاليا بأزمة طاحنة }

وها هو عبد البديع يعرف سر الأزمة الطاحنة.

{  دغدغ كلام سهير مشاعري، سيطرتْ الحيرة على كياني، وهاجمتني أسباب الضعف البشري، لكن صورة جدي الجهمة التي اعتادت مهاجمتي، كلما أوشكتُ على الوقوع في موقف مُخْزٍ، قفزتْ صورته أمام عيني ... }

استدعى الكاتب مشهد يوسف وامرأة العزيز, فلابد أن هذا المشهد كان حاضرا في ذهن الكاتب, فموقف سهير مع عبد البديع في تلك اللحظة يتشابه إلى حد كبير مع موقف زليخا مع يوسف, وكاد عبد البديع يقع في المحظور, لولا أن هاجمته صورة جده.." لولا أن رأى برهان ربه " !!

صابر كان قد اعترف لبعد البديع { تأبط  ذراعي لنخرج معا، تلفتَ شمالا ويمينا، قال: منذ عدة ليالٍ وأنا في (حوسَة)/ وتَّرْتَني يا صابر، تكلم نحن أَخَوَان؟/  اقترب أكثر حاطَّا نظره في الأرض، وقال بأقل نبرات الهمس: أنا وسهير لم نعد...، أو بالأَصَح، أنا الذي لم أعد قادرا على.../  على ماذا يا ابن الحلال؟ /  افهم أنت يا أستاذ، افهم .../  وصَلَنِي الفهمُ أخيرا، قلت: هل تقصد غير قادر على أداء الواجب الشرعي مع... /  قاطعني: هذا هو... }

وربما جاء الكاتب بصابر المخطط, هذه الشخصية المهتزة, والمهلهلة, حتى يعطي لعبد البديع ـــ ولو قاومه ضميره  ـــ المبرر للانبهار الذي سيطر عليه من اللحظة الأولى حين كانت مكشوفة الوجه, بل وكثرة النظر والتلصص لوجهها بعد أن تنقبت, أما لو جاء لها بمحرم قوي الشكيمة, فسوف يتغير الموقف, على الأقل في تلصصه وكثرة النظر إليها { كما أن شيطاني لم ينس غرامه بتأمل عينيها، يحاول مرارا اختلاس النظر تحت نقابها، وهو يظن – ظنا يقترب من اليقين، بأن لديها شيطانا مثله، يبادله نفس الرغبة } وتلاحظ عليه زوجته وتنتقده { نظرت امرأتي في عينيّ كأنها تستنطقني، قالت بدلع ضاحك: كأنك تنتهز الفرصة، لتأتي بسيرة الست سهير}

وربما ساق الكاتب مشهد مراودة سهير لعبد البديع, ليعطي رسالة مفادها( وها هي المرأة تستطيع أن تفعل ماتشاء, رغم وجود المِحرم.      

المتعاقدون والمتعاقدات ومحارمهم,  يرصد الكاتب مشاعرهم وأحوالهم { الرُّكَّاب كأن على رؤوسهم الطير، أوكأنهم ذاهبون لحساب يوم الدين، تلوح مظاهر الاغتراب على قسماتهم، يتهامس الهنود والأفغان بعربية مكسرة، أما المصريون فمعروفون بسيماء الحزن الغامض، الذي يعتلي وجوههم }, { عربات المقيمين الأغراب فقيرة، وجوه مستقليها مخطوفة، ملامحهم مرتخية، عيونهم زائغة، يُشعرك مرآهم بخليط من الشفقة والبؤس والهلع }

{ تمرق السيارة بين جبال على الجانبين، تشبه جبال الحزن الرابض فوق كاهلي، الشمس تجري نحو العصر الراحل، والعمر أيضا يجري، ماذا لو بكَّرْتِ أيَّتُها الإعارة، وأتيتِ عقب التخرج مباشرة، أو بعده ببضعة أعوام؟ ألم يكن هذا أدعى للتحمل؟ }, { الوطنيون أبناء البلد يشترون الدجاجات ويتركون الكبد والقوانص للمحارم وزوجاتهم}

كما يرصد مشاعر الصلف والغرور من (أولياء نعمتهم) تجاههم,ويكون المقابل هو إثبات الكرامة ورد الصفعة:

{ رُح يا مصري رُح / ظللتُ ثابتا لا أتململ، مانعا يدي من التقاط النموذح، الذي دفع به حتى حافة المكتب / رفع الرجل " المدير " رأسه متأمِلا وجهي، اعتدل في جلسته كالمفاجَأ / سأل دهشا: مالَك أنت؟/ العفيرية لا تصلح / من قال؟ / أنا / 

أنت؟! ومَن أنت حتى تقول؟/ مجرد عبد من عباد الله / عَبْد؟! وهل للعبد أن يقول؟ }  

ـــ  لغة الكاتب متسقة تماما مع مستويات السرد, ينحت لغته من صميم تلك البيئة الصحراوية: أقبل سعفان كجمل عجوز/ استعادت ذاكرتي البصرية مشهدا قديما، لنائحات قريتنا شبيهات الغربان.../ كأن سحلية تتجول في بطني/ مددت رأسي داخل الحجرة كفأر يتفقد جحرا مجهولا/ قال ورأسه تهتز كنسناس/ وكعنزة نحيلة قفز قفزتين/ تبدو امرأته بجواره نحلة عسل, تتبع أرنباً جبليا سمينا }, { عن ضحكة كثغاء غنمة سائبة }

علاوة على كلمات البيئة نفسها:  "المقاضي " لوازم البيت, " دبَّاب" عربة دبابة .. وهكذا 

 ـــ حالة الود والصفاء التي حدثت بين عبد البديع ومدير المدرسة, يصورها بطريقة ناعمة وموحية {  ألكَ مَطالب بجدول الحصص؟ أو تحب التدريس لصف معين؟/ أجبت مُمْتَنَّا: أبدا / ازداد وجهه بشاشة، قال: هذا عشمنا في الرجال / كان الهدوء قد سيطر على الجملين بالخارج، وراحت رقبتاهما الطويلتان تتلامسان بما يشبه الود، بينما تسللت إلى المكتب نسمة خفيفة رائقة }

ـــ كما صور الأحقاد التي تحدث بين المصريين في الخارج { رسم نادر ابتسامة ماكرة، قائلا: لم أكن أتوقع أنك مُخَطِّطٌ  خطير/  كيف؟ /  سيطرتَ على المدير، ووضعته في جيبك الصغير}

ــ  تصور الرواية بعض النماذج/ الحالات بطريقة فنية غير مباشرة, الهندي يعمل بمقولة من يعرف أكثر يتعب أكثر, لذلك رده دائما{ أنا ما في معلوم}, والطبيب المصري الذي يعمل في مقهى, يسري عن نفسه, بمتلازمة,  فينادي عمَّال بطَّال { أيوه جي), { الفلسطيني الذي يسحق تقارير المصريين, والتلذذ بتسريحهم }

ـــ وأساليب التحايل عند المصريين, بيومي يريد من عبد البديع ــ المتزوج ــ أن يصاحب حماته في العمرة على أنها زوجته, وسوف تظل لموسم الحج, ولو حكمت الظروف يتزوجها بالفعل, فهي أجمل من ابنتها. وهي صارت أمام الناس زوجته, فله الحق أن يعاشرها !!!

ـــ هنية أقسمت أن تضرب عبد الرازق زوجها بالسكين لأنه اشترى زجاجة لبن جِمال, ولابد أن يستحم بالبنزين!!

ـــ الحوار من أهم مايلفت النظر في الرواية, وقد أداره الكاتب بحرفية عالية, نموذج لذلك ص 119, في المشكلة الجنسية بين زيدان وامرأته:

- رد باستسلام مصطنع: سأمسك لساني، إذا سحبتْ طلبها لاستبدال المحرم.  

- قالت دون زعيق: كيف، وقد تمت الموافقة عليه بالفعل، و...؟

- أسرع شيطانه بالتلاعب به، فزعق منفعلا: 

تقولين ’’لا عيل ولا تيل‘‘، أنا سليم مائة في المائة، وأنت لا تمكنينني من نفسك كزوجة.

- احتواها صمتُ المفاجأة للحظة، ثم قالت بحَرَجٍ بالغٍ: هذا كلام معيب، والتحاليل موجودة.

- صاح مهددا: عندما ننزل مصر سأمنعكِ من السفر ثانية.

- ألقت في وجهه برد واثق: 

ونحن سنُحَرِّك دعوةَ الطلاق، التي أوقفناها كي تأتي معي مِحرما.

..........................................................................

وعن الملامح الرئيسية لكتابة الروائي فكري داود قدم الكاتب والناقد محمد الديب دراسة مطولة ومعمقة من خلال تحليله للمجموعة القصصية "دهس الطين"، جاء فيها :

1. تقنيات السرد .. بين الحميمية والانزياح الفلسفي:

- الراوي العليم المشتبك:

يستخدم داود راويًا عليمًا (ضَمير الغائب) أو راويًا مشاركًا (ضَمير المتكلم)، لكنه يُضفي عليه طابعًا اعترافيًا ووجدانيًا، كما في "طعم الرحيل" و"هزائم تبدو بسيطة".

كما أن الراوي ليس محايدًا لكنه  مُعَرَّض للانهيار، مما يخلق توترًا بين الواقعي والرمزي (مثل صوت الأب في "هزائم تبدو بسيطة" الذي يكشف عجزه أمام ابنه).

- الزمن السردي غير الخطي:

يعتمد فكري داود في قصصه على التكرار الدائري (كما في "خيول" و"أقدام نحيلة شائهة") ليعكس العبثية والجمود الوجودي.

ويُجزِّئ الزمن إلى لحظات نفسية (مشاهد متقطعة في "بيت صغير جدًا") بدلًا من التسلسل الكرونولوجي، مستلهمًا تقنيات تيار الوعي (كما في أعمال فرجينيا وولف).

- الاقتصاد اللغوي والتكثيف الصوري:

اللغة مُكثَّفة ومشحونة بالدلالة، مثل تشبيه الأطفال بـ"عربات قطار بطيء" في "أقدام نحيلة شائهة" .. أما الصور السردية فتشبه اللقطات السينمائية، كما في وصف الطين والدوران في "خيول"، حيث يُستخدم الوصف الحسي (السمعي، البصري) لتعميق الإحساس بالاغتراب.

2. الأسلوب .. بين الشعرية والواقعية القاسية:

يحتل الصمت مساحة كبيرة من السرد ، فقد كان داود بارعا في جعل الصمت أداة سردية فعالة، كما في "ترنيمة صغيرة للغربة"، حيث يصبح غياب الحوار تعبيرًا عن العجز، حتى الحوارات المقتضبة فتأتي مُحمَّلة بالسخرية المريرة، مثل حوار الأب والابن في "هزائم تبدو بسيطة": - الأجر لمن يدور فقط.

أيضا يدمج الكاتب بين الفصحى والعامية (ترييف اللغة) لخلق واقعية صوتية، كما في "للبوح أوان"

ويستخدم التكرار لإبراز العبثية (تكرار مشهد الدوران في "أقدام نحيلة شائهة") أو الهوس (تكرار كلمة "بغلة" في "شجرة من بستان الخيف").

وتحتل السخرية السوداء مساحة من السرد أيضا فهو يُوظف الفكاهة المُرّة لفضح المأساة، مثل وصف الجدة في "شجرة من بستان الخيف": "تصدر حنجرة جدتي (أهة التظاهر بالعلّة)"

3. البعد الفلسفي  (الاغتراب والعبثية):

يتم سحق الكائن سواء كان من البشر أو الحيوان في منظومة الطين، فيأتي الطين رمزا مركزيا يعكس الثقل الوجودي (الاستغلال، الموت، الجمود)، كما في "خيول" و"أقدام نحيلة شائهة".

كما تُدهَس الشخصيات تحت وطأة السلطة (الأب، النظام الاقتصادي، التقاليد)، مما يذكر بمسرح العبث (بيكيت، كافكا).

والأطفال في نصوص داود أيضا ضحايا صامتون (الطفلة في "ترنيمة صغيرة للغربة"، الأطفال العاملون في "أقدام نحيلة شائهة")، وهو ما يُحيل إلى فلسفة ميرلوبونتي عن الجسد كآخر حدود المقاومة.

و لا يتقدم الزمن خطيا بل يدور في حلقة مفرغة (كما في "خيول" حيث يُستبدل حصان بحصان)، تعبيرًا عن العبثية النيتشوية (العود الأبدي).

إذن يمكننا القول أن سمات الكتابة الداودية:

- الانزياح عن الواقعي إلى الرمزي: تحويل التفاصيل اليومية (مثل حقنة الطفل، دورة الطين) إلى استعارة وجودية.

- اللغة كفعل مقاومة: رغم قسوة الواقع، تُستخدم اللغة الشعرية كوسيلة للاحتجاج الصامت.

- البنية الدائرية: السرد لا يقدم حلولًا، إنما يُكرر الهزيمة لتفجير الأسئلة.

بهذا يصبح فكري داود واحدًا من أبرز الأصوات العربية التي تُمزج بين الواقعية النقدية والعمق الفلسفي، مستخدمًا تقنيات سردية تجعله قريبًا من الأدب العالمي مع الحفاظ على خصوصية السياق المحلي.  

.....................................................................

وقدم الأديب مجدي جعفر ورقة نقدية بعنوان (  " المتعاقدون " لفكري داود والعزف علي أوتار الغربة   ) جاء فيها :

"  المتعاقدون "  هي إحدى راويات الأديب فكري داود الذي كتب القصة القصيرة باقتدار ، وقد اُستقبلت مجموعته القصصية ( صغير في شبك الغنم ) فور صدورها بحفاوة نقدية طيبة ، واستقبلها القراء والنقاد علي السواء استقبالا حسنا ، وقد عزف فى مجموعته بمهارة علي وتر الغربة ، ويواصل العزف علي هذا الوتر في روايته الجديدة .

ويتميز في  هذه الراوية بأنه يكتب من خبرة حياتية - حيث سبق له السفر متعاقدا للعمل كمدرس للغة العربية بوزارة التربية بالسعودية ، ويكتب أيضا من - خبرة كتابية - حيث كتب عن تجربة الغربة قصصا فائقا ولافتا ، فضلا عن المخزون الثقافي المتراكم لديه ، والموهبة التي لا تخطئها العين.

ولذا جاءت رواية " المتعاقدون" متميزة ، وأعتبرها إضافة حقيقية للأدب المصري 00" أدب الغربة" 00إذا جازت هذه التسمية – فالمجتمع المصري شهد في الثلاثين عاما الأخيرة هجرات جماعية غير مسبوقة للمصريين ، سعيا للرزق بعد أن ضاقت بهم سُبل العيش في بلادهم إلى بلاد النفط والصحراء .

وإذا كان الأدب العربي قد عرف ما يُسمي بأدب المهجر ، ( ويقصد بمصطلح أدب المهجر هذا الأدب الذي أبدعه الأدباء العرب الذين هاجروا من البلاد العربية إلي الشرق أو الغرب ) 00وقدموا أدبا جديدا نتيجة :( تفاعل شخصيتهم الشرقية الإسلامية مع الشخصية الغربية ، وامتزاج ثقافتهم العربية بالثقافات الأجنبية ، مما أدى إلي أدب جديد فيه ملامح الشرق والغرب )

 أعتقد أن الهجرات المتتالية للمصريين إلي بلاد النفط والصحراء وغيرها .

أنتجت لنا بفضل الموهوبين .. من أمثال فكري داود أدبا جديدا ، ورواية ( المتعاقدون) 00  من تلك الروايات التي تورطنا في الصحراء ، وثقافة الصحراء ، وتؤكد أن ثمة أدبا جديدا – شعرا وقصصا ومقالات أدبية وغيرها يكتبه أصحاب المواهب الأدبية من هؤلاء الذين استقروا فى تلك البلاد وقضوا فيها فترات طويلة – فخبروا حياة الصحراء ، وحياة البدو ، وكشفوا عن خباياهم ، وعبروا عن صمت الصحراء ، وهتكوا أسرار البدو – وكسروا الحصار المفروض حولهم ، إنه أدبا حقيقيا جديدا ،  يعكس أيضا التحولات الخطيرة للمصريين نتيجة امتزاج وتلاقح ثقافتهم بثقافة الصحراء .

الرواية من البداية تقوم علي الثنائية 00" إنه حوار ثنائي فى رأس عبد البديع يشتعل "... والحوار الثنائي الذي تقوم عليه الرواية في معناه البعيد والعميق 00هو الصراع بين الرمل والطين ، بين الجبل والسهل ، وعند أول منتج ثقافي للبدو / الرعاة يصافح أذن عبد البديع يحدث له حالة من الانفصام .." لم يتمكن وعيُه من التقاط جملة غنائية مفهومة ، يتلاعب به الانفصام " ......فالغناء المنبعث من تسجيل السيارة لبدوي – ذئبي الصوت .

ويلتقط عبد البديع الذي أوقعه حظه العاثر للعمل في قرية قابعة في قلب ( البر ) 00 مناظر الحياة لهؤلاء البدو00 " خيام ، وبيوت بدائية ، وجمال وأغنام ، وأناس ممصوصوا الوجوه ، تكسو هياكلهم العظمية ، سراويل من جلد بشري محروق " 00  ويصف حالة الجو ..( باغتنهما الدنيا بالتلبد ، أرسلت أمواجا رملية هادئة ، سرعان ما عتّت مطاولة الجبال " 00 " مضت دقائق مبهمة تحولت الأمواج الرملية – قبل رحيلها إلي قمع أسطوري دوّار ، رأسه في الأرض وفوهته في السماء 00 " تــأتي العواصف ، ترسل الدنيا عفارَها من كل صوب ، تختفي كثبان رملية عديدة ومنخفضات ، وتظهر أخري ، لا يجرؤ كائن حي علي مغادرة مكمنه ، ونادرا ما ينجح الشاردون في الرجوع ، تنعدم الرؤية ، ويصبح التقاط الأنفاس شيئا عسيرا "

ويلتقط عبد البديع – القادم من ريف دمياط – كل ما هو غريب ، وينجح فكري داود في إثارة الدهشة فينا كمتلقين - هي دهشة بطله عبد البديع – دهشة الاكتشاف الأول البكر – ينقل لنا بعينه اللاقطة كل ما يصادفه من ثقافة البدو – من أنماط المأكل والمشرب والملبس وغيره من شئون حياتهم – وهل الفن في أحد أبعاده المهمة إلا لحظات اكتشاف ؟! 00 والاكتشاف هنا لثقافة الصحراء – ولمجاهل النفس أيضا ، وانبثاق وتفجر الوعي لدينا بهذه الثقافة البدوية وبخبايا النفوس ، يدهشنا ويمتعنا ، ويروي ظمئنا إلى المعرفة و" المعلوماتية " التي يقدمها في الرواية 

00 " فاحت رائحة اللحم ، نزع الجلدين بمهارة المعتادين ، شرع فى الأكل ، داعيا رفيق الطريق 

قال الرفيق بدهش 

نحن لا نأكل الفئران .

صنع الفم – المشغول ، ضحكة كالثغاء ، قال 

- هذي جرابيع ، نباتية الطعام ، طيبة اللحم "

00تري هل ستؤثر ثقافة الرمل لهؤلاء البدو/ الرعاة – علي ثقافة الطين / الزراع – لعبد البديع المعار من بلاد وادي النيل؟ 00وعبد البديع الذي يكتب القصص القصيرة  ونُشرت بعضها بالصحف والمجلات المصرية ، يعتبر نفسه فى منفي ، ويوازن بين منفاه ومنفي شوقي 00" أخرجه سؤال الولد إيهاب من هذا التداعي – وهل أثر النفي ، فى حسه الوطني ؟

- حس من يا ولد ؟

- حس شوقي 

- آه .....طبعا طبعا 

00ويقدم فكري داود رحلة بطله عبد البديع بكل تفصيلاتها ، بداية من ملأ الاستمارة للإعارة  إلي اجتيازه الامتحان مرورا بالكشوفات والفحوصات الطبية وركوبه الطائرة ووصوله إلي أرض الصحراء 00 وهي رحلة مدهشة حيث ينقل لنا بدهشة – اكتشافاته ومشاهداته ويصور لنا معاناته ومكابداته .....وتتوالى الصدامات علي رأسه 00" أمام مباول مطار بيشة ، اجتازت يد غريبة الحاجز بين المبولتين ، تنتهي اليد إلي شخص ( فيلي ) البدن .." .." بالفُسَح لاحظ تكرار ظاهرة غريبة ، يترك الطلاب الحمامات وينطلقون وراء المرتفعات القريبة .

- قال مروان :

- أولاد الـ……كأن قوم لوط لم يهلكوا بعد "

00ويصف الأزياء00 أزياء البدو 00 " ثياب سوداء مضروبة ، علي القليل من النساء ، تجتاز بوابة المطار – خارجة تصحبها جلابيب بيض ، فوق رءوسها – غُتّر ، أغطية أغلبها حمراء في بيضاء ، فوق كل غترة ينام عقال أسود "

ويهتم فكري بالتفاصيل الدقيقة ، وينقل كل شاردة وواردة ، والسرد يسير فى الفصول الأولي سيرا بطيئا وحثيثا – يتلاءم مع إيقاع الحياة البطيء لسكان الصحراء ، ويحتل الوصف مساحة كبيرة – وقد يحتل وصف مكان مثلا صفحتين أو أكثر – ولننظر مثلا كيف يصف المكان الذي يعيش فيه أحد المصريين – الذي مضي إليه ليسلمه رسالة من والده – وكيف استقبله هذا المصري بجفاء 00" حارة ضيقة ، مختفية خلف الأبنية الناصعة ، بيت منزو يعتليه القدم ، انفتح الباب المتآكل بعد بضع ندْهات ، دلتهما إشارة فاتح الباب إلي  الحجرة المنشودة ، وصوته المسلوخ  يصيح ( كسار ) - أي جزار ، عبر دهليز معتم ، يعترض أحد جدرانه حوض قذر ، تفوح من صفيحة تحته – بديلة عن خرطوم الصرف ، رائحة كلب نتن ، سحق حذاء عادل ما يمكن أن يكون خنفسة ، رصدت عيونهما – بحجرات كالجحور - أشباها لذلك الذي فتح الباب ، بسِحْنات هندية ، أنصافهم العليا سمراء عارية فيما تلتف السفلي بخرق غجرية الألوان0 

 سقف الحجرة قريب ، من تحته انحشر سرير ضيق صدئ ، وثلاجة قزمة ، يحمل ظهرها تلفزيونا صغيرا ، أمامها عدة أقدام من خلاء الأرض ، فوق السرير يتمدد جسد أسمر ممتلئ ، تملأ رائحة عرقه الفضاء المتاح . تفارق كلماته فمه فى بطء شديد ، أتم جلوسه بصعوبة ، امتدت يده بفتور ، لتصافح أيديهم المتعطشة :

- حضرتك ضياء الجزار

- لا – ابن عمه " 

00وهكذا يصف الأحوال المعيشية السيئة لبعض المصريين مع الهنود والمقابلة الفاترة من المصري لعبد البديع فكان يحسن به أن يُحسن استقباله ، ويكرم وفادته ، وهو الذي جاء إليه برسالة من أبيه – إنه التحول الخطير للمصري في الغربة – التحول السلوكي المشين – إنها ثقافة الغربة !!

00 وفكري داود علي مدي الثلاثة فصول الأولي ، يؤسس لثقافة الصحراء ، من  خلال المشاهدات الدقيقة التي ينقلها لنا ، ويقابلها ويواجهها بثقافة الطين ، من خلال استرجاع للمواقف المقاربة لمواقف المشاهدة ، وفي كل الأحوال يظل الصراع  عبر هذه المشاهد هاربا ، والسرد باردا باستثناء بعض المواقف التي يكتنفها الحنين ، ولوعة الفراق ، فيأخذ السرد في الاشتعال من خلال هذا البوح الجميل للبطل .

00 وابتداء من الفصل الرابع – منذ وصول عبد البديع إلي الديرة – يبدأ الصراع ، ونقصد بالصراع هنا – الصراع الدرامي – والصراع الدرامي 00 ( هو الصراع بين إرادات إنسانية ، تحاول فيه إرادة إنسان ما أو مجموعة من البشر كسر إرادة إنسان آخر أو مجموعة أخري من البشر).

00والنص كما قلت من البداية قائم علي ثنائية الرمل والطين – والصراع أيضا قائم علي هذه الثنائية ، ونكتشف أن المجتمع السعودي نفسه قائم علي هذه الثنائية ، ليست ثنائية الرمل والطين – ولكنها ثنائية السيد والعبد ، وهذه الثنائية تحتل مساحة من الرواية وتتوارد كثيرا .

- " الآلة تقاوم أنين الإرهاق ، الأبنية بلا سقف – غالبا – أو قاطنين ، بالقرب من مبني رملي توقفت ، حطت عيونهما عند المدخل علي ذلك المنتصب بكرش ممتلئ ، ووجه أبيض ، يعلق طرف ثوبه بأصابعه ، كاشفا عن قدميه الحافيتين ، صاح السائق 

- وين المدرسة يا..........؟

ارتج صاحب الكرش زاعقا 

- انزل يا اسود 

- أنا أسأل عن .....

- اخرس يا عبد 

سيطر الارتباك علي السائل ، اقتربت خطوات الآخر غاضبة ، واصل 

- كيف تكلم الأمير وأنت راكب يا .......؟‍ "

وتتعمق هذه الثنائية أكثر في المجتمع السعودي .

"  الهندي يبغي السفر ، عشر سنوات لم ير بلدته ، رجاني كثيرا أن أتوسط له لدي كفيلة – صديقي .

- كفيلة ؟

- نعم ، بدون موافقته ، لا يستطيع المكفول ، نقل القدم عن القدم حتي النوم والأكل ، و... كله بأمر الكفيل"

ويأتي التنظير لهذه المسألة علي يد المدرس المكي الذي ينتمي إلي الأشراف :

" نحن مثلا ، فينا الوطني الأصيل كأهل الجنوب ، وفينا من كان جده عبدا أسود ، ظل موصوما إلي اليوم ، بأعراف خاصة فى المعاملات والزواج وأشياء عديدة ، مرتبطة بقائمة طويلة من المحظورات وهناك من استوطن جده الوافد – زمان من حجاج ماليزيا أو الهند أو......

وهذا أيضا له أعراف صارمة ، وحدود لا يتخطاها...ويبقى المقام محفوظا للأشراف ، ونسل آل البيت – عليهم رضوان الله ." 

ويستاء عبد البديع من برامج التليفزيون ووسائل الإعلام التي تكرس لهذه الثنائية 00 " برامج استهلاكية ، نقل بالساعات لسباق خيول الأمراء ، تفاصيل التفاصيل لزيارتهم وتنقلاتهم ، طوابير طويلة لا تنتهي للراغبين فى تقبيل أكتافهم ...." 00 " تدور بين الجماعات المناقشات ، حول الفوارق بين العديد من الأصحاب ، أصحاب السمو الملكي ، أصحاب السمو فقط بدون ملكي ، أصحاب السعادة ، أصحاب الفخامة ، أصحاب الفضيلة وكذلك  بين المحافظ والمحافظ بالنيابة ، والأمير الحكومي ، والأمير الملكي ......." 

ويغرقنا فكري داود في تفاصيل الحياة اليومية ، ومفرداتها ، لنعيش معه أجواء الحياة البدوية وثقافتها ، ويصف بدقة كل ما تقع عليه عيناه : السكن ، الشوارع ، طابور الصباح ، المدرسة ، الجامع ، المزرعة ، بيت العنود ، بيت الأمير ، أسماء  الطلاب الغريبة ، العزومات ، رحلات البر ، الأكلات البدوية ، صلاة الاستسقاء ، والمطر الذي يعني عشب وزهر وماء غسيل شبيه بالعذب ، ووفرة في علف البهائم ورخص للأسعار ، ويقدم الصراعات المُعلنة بين المصريين والخفية ، والتنازلات التي يقدمها البعض من أجل الريالات أو تجديد التعاقد واللجوء إلي أخس الطرق وأقذرها ، والمرأة العنود وسطوتها واجتذابها هي وبناتها للمدرسين المصريين الذين يروون الجسد المتعطش لها ولبنتها زهرة المطلقة مقابل خدمات مثل تجديد العقد أو التوسط لدي الأمير لقضاء حاجة 

ويعني فكري برسم شخصياته من الخارج واستبطانها من الداخل ، وتتوارد أسماء وصفات شخوصه 00 " ناب سرحان ( زارج) 00حاطط المدير في جيبه و( واكل ) دماغ العنود ، وزهرة بنت العفاريت .." أما طلعت فملعون فى كل كتاب .. عامل علاقة ( وسخة ) مع حرمة واحد عجل " 00 ونبدأ في التعرف علي سرحان وطلعت ونجيب المدير ، وكامل ، وخليفة ، وحربي ، وطلعت والعم إمام ، وخميس ، سيد المنصوري ، وبعض البدو ، والمدرسين الوطنيين ، ويهتم أكثر بتصوير حالات المصريين ..

" بدأ سرحان عصراً كقط حبيس ، كثير التأفف ، يعيد استماع شريط غنائي ، لمطربة سورية تقيم في مصر ، تعلو جبهته علامات التأثر استجابة لكلمات الحب والفراق والحنين و ..." 

 قال : " إن زوجته موظفة بالصحة ، وأنها شبيهة مغنية مصرية اسمها نادية ، محولا الحديث إلي ولديه وابنته 00 " هداياهم التي اعتاد حملها ، مهاتفاتهم التي تبلع الريالات بلعا واستقدام الأسرة لا يوفر ريالات إلا بالشح أو ( التعريس) ! 

وقريته المنوفية ، وأهلها المساكين ، ونجاحه في السكن بالمدينة ، وظروفه العديدة – التي فرضت اعتماده علي نفسه ، ويوم خطوبته الذي لم يجد فيه من يذهب معه ، وتعيينه بدبلوم المعلمين أولا ، قبل انتسابه لكلية الآداب "

هذا هو سرحان – أما طلعت – خاطب – يبادل بنت خالته الحب ، حالت المادة – قبل سفره بين ارتباطهما ...خاله مادي ، مادي جداً ، أمه( بهية ) لا زالت تعمل بالبيوت ، والده عامل الصحة المتقاعد المريض ، أخوة الغائب بالعراق دون خبر ، البيت المتهالك الذي يعوزه البناء ، المبلغ الذي يرسله لا يمنح أخوته السبعة الكفاية ..

أما نصار- اغتصب التدريس في ( الليلية ) - التدريس للكبار عصرا بنصف راتب إضافي ..." نصار فتح بيته وكشف حرمته علي نجيب الذي زكاه عند سعد مشعل بالإدارة 00 " بخيت المدير ولد ( عزوبي ) مراهق ، معه ( حتة ) دبلوم ، ونصار عارف يلاعبه ........." 00 " وتأتي صلة الأمير ، بنصار وحرمته ، كمشهد مميز، فقد لعبا معه لعبة جديدة ، مشابهة للعبتهما السابقة مع بخيت والتي بموجبها اغتصب نصار التدريس بالليلية بدلا من خليفة ....وبناء على اللعبة الجديدة ، ضمن الأمير كمسئول أمن لنصار – الانفراد بالخطابة – بالأجر في الجامع الكبير ...."

ويصف أحوال المحارم ، وانكساراتهم والاعيبهم هم أيضا 00" في ( ترنجات ) مُقْبِضة ، مرق بضعة رجال ، بدت خطواتهم ثقيلة ، محملة بالانكسار ....." المحارم هم أزواج المعلمات المصريات بمدرسة البنات "00" تعرف علي المحارم الثلاثة بالملعب خلف المدرسة بلحاهم الطويلة ، ونظراتهم الكسيرة .." 00" طلب بدوي محرما للعمل عنده فى محطة بنزين لا زال بصدد إنشائها بخمسمائة ريال شهريا ، عرض محرم آخر علي البدوي العمل بثلاثمائة فقط وعليه كانت المعركة وقدمت الشكاوي للإمارة ."

ويتملك نفوس البعض وسواس إلغاء العقد ، فيقدمون التنازلات ، تلو التنازلات ، ويلجئون إلي طرق غير شرعية وغير مشروعة .." كثف سرحان من تردده علي بيت العنود ، قال خميس : صاحبك شغال علي ( ودنه ) ، يبدو أنه بصدد استخدام المفتاح السحري لزهرة في محاولة التجديد لعام سادس !! "

والجنس هو المفتاح السحري لهذه البلاد ، حتى خميس العامل عند العنود تدور حوله فى الخفاء الأقاصيص عن استباحة بيت العنود له جسديا ، خصوصا في العطلات ، إذ يصبح هو الذكر الآدمي الوحيد المتاح. 

وينقل بعضا من مآسي المصريين في الغربة : فها هو أحد العمال المصريين 00 " خمسة عشر عاما من البُعاد ، تزوج بإجازة عابرة ، وحيد أمه المكفوفة ، حملت زوجته في ابنها الرضيع ، بإجازة عابرة أخري ، لا تزال أرض البيت الصغير الذي بناه من العدم – في حاجة إلي البلاط وثمة تشطيبات تتطلب مزيدا من السنوات ، يحمل اليوم فى بطنه أكثر من علة ، وفي نفسه أكثر من شرخ عميق .."

وسيد المنصوري – عامل محل الزيوت – بطرف الديرة – انتقلت امرأته منذ شهر للعيش مع أهلها ، بعد أن أغلقت بيته ، جدت عليها الخشية ، هي وابنتاه من المبيت دون رجل .لابد للبيت من سقف خرساني  بدلا من ( السِّدَد) ، يلزمني خمس سنوات علي الأقل00 " 00 لكن  سيد المنصوري راح – علي عمق مترين توارت جثته ، مات في الغربة وابتلعته الصحراء ، بعد جنازة لا يتعدى مشيعوها العشرين !! وهذا البدوي الشايب – الذي تزوج بشابة مصرية – ليتناوب أولاده الخمسة علي مراودتها دون مغيث - وينقل فكري داود 00الواقع المأساوي – للمصريين – في بلاد الصحراء – وكيف تبتلعهم الصحراء ، وتسحقهم بثقافتها 

" مع الظهيرة جاء قدوم عياض ، قال محذرا بلطف : رفض العزومة يستوجب ( حق عرب) كبير .." 00 " صحن كبير ، خليط من أرز بالمكسرات والزبيب ، ينام فوقه تيس – جدي – صغير ، تطل أسنانه من فمه المفتوح ، وترتفع قوائمه  إلي السماء ..." 

" يتابع – بمهارة – اقتناص اللحم من بين الضلوع ، ودفع كرات الأرز صوب البلعوم ..لعق أصابعه مقلدا عياض ، مع ابتسامة لزجه ثابتة ، أطلق لسانه بأدعية بدوية : جاد الله عليكم ..الله يرحم والديكم ...و.."

تري بعد انتهاء العام الدراسي وانقضاء العام الأول من إعارة عبد البديع – هلي يعود إلي الصحراء مرة أخري – منهزما ومستسلما لثقافتها – شأنه شأن المصريين – الذين عاش معهم وشاهد هزائمهم وانكساراتهم – أم سيؤثر البقاء في ريف دمياط قريبا من النيل في حضن زوجته وأولاده ، يكتب القصص ويعلم تلاميذه ، يقرأ ليوسف إدريس ، وهمنجواي ، وتشيكوف و............

الراوية ماتعة ، ويملك الكاتب القدرة الفائقة علي إثارة المتعة والدهشة لدي المتلقي ، وثمة مناطق بكر يكتشفها ، ودروبا جديدة يسير فيها ، ويستوحي الكاتب بيئة الصحراء بوعي شديد وفهم عميق ، لا يصف النوق والخيام والرمال والجدب والفضاء والسماء وحسب – بل كل استعاراته وتشابيهه من وحي بيئة الصحراء ، واستخدم  المفردات البدوية بكثرة ووظفها توظيفا رائعا في الحوار ، ونصع بها السرد ، ووضع  المفردة البدوية بين قوسين ونوّع بين أساليب السرد ، وتآزر السرد مع الوصف ، واستخدم تقنيات الرواية التقليدية وهي التقنيات الأمثل لرواية كشفية تجري أحداثها في الصحراء ، والرؤية الفنية  والتشكيلات الجمالية تحتاج مبحثا خاصا وأرجو أن يتحقق هذا قريبا .وبعد

فكما عرفت الحياة الأدبية فكري داود قاصا لافتا ومميزا – فها نحن نتعرف عليه روائيا مقتدرا ، قادرا علي إثراء الفن الروائي بفنية واثبة ورؤى جديدة من واقع الغربة ..والله الموفق .

..........................................................................

وتوالت المقاربات النقدية والدراسات، فكتب العربي عبالوهاب دراسة ماتعة ومطولة في رواية ( خلخلة الجذور ) وكتبت أيضا الدكتورة صفية فرجاني دراسة نفسية في المجموعة القصصية ( دهس الطين ) تحت عنوان ( تراجيديا القهر النفسي وانسحاق الذات ) اضاءت من خلالها الكثير من الجوانب، وقدم الشاعر والمترجم الكبير السي النمّاس شهادة رائعة عن فكري داود ابن موطنه دمياط وإبداعه وكشف أيضا عن الكثير من جماليات نصوص فكري الإبداعية التي تعتبر إضافة حقيقية للمكتبة العربية، وتوالت المداخلات من الكاتب والمبدع أحمد عثمان والكاتبة والمبدعة صفاء أبو عجوة والمبدعة هالة فوزي وغيرهم، وأختتم اللقاء بتكريم المحتفى به من الشاعر الكبير إبراهيم حامد رئيس مجلس الإدارة  والشاعر القدير السيد داود السكرتير، وتم توجيه الشكر لهما على احتضانهما الحنون لمنتدى السرديات ودعمهما اللامحدود له.