أدباء وشعراء ونقاد الشرقية يتحلقون حول ديوان ( حكاية سريالية ) لشاعر قصيدة النثر خليل الشرقاوي




كتب / مجدي جعفر

...........................................................................

احتشد الجم الغفير من أدباء وشعراء ونقاد محافظة الشرقية، بقصر ثقافة ديرب نجم لمناقشة ديوان ( حكاية سريالية ) لشاعر قصيدة النثر المتميز خليل الشرقاوي، أدار اللقاء بحنكة واقتدار الشاعر رضا عطية رئيس نادي أدب ديرب نجم، بحضور السيدة الفُضلى مديرة قصر الثقافة، التي رحبت بالسادة الحضور الذين تكبدوا مشقة السفر رغم حرارة الجو المرتفعة وحضروا للاحتفاء بشاعر موهوب، ويشق طريقة نحو التألق والتميز، وقادر في غضون سنوات قليلة على إثراء قصيدة النثر.

وقدم الكاتب والناقد محمود الديداموني دراسة تحت عنوان :

 (قراءة فى بعض  لوحات حكاية سريالية للشاعر خليل شرقاوي ) جاء فيها : 

( قصيدة النثر هي واحدة من أكثر الأشكال الشعرية إثارة للجدل في الأدب العربي الحديث، إذ مثّلت خروجًا واعيًا على أوزان الخليل وقوانين القصيدة العمودية، بل وحتى على التفعيلة التي كانت تجديدًا سابقًا. نشأت ملامحها عربياً في خمسينيات القرن العشرين، متأثرة بالحركة الشعرية الفرنسية – خاصة مع تجربة بودلير ورامبو ومالارمي – ثم تطورت عبر جهود شعراء ونقاد سعوا لإيجاد نص شعري يُحرّر اللغة من حتمية الوزن والقافية، ويمنحها طاقة التعبير المفتوح.

إذا كانت نازك الملائكة قد رأت أن التفعيلة هي الأساس الموسيقي، في الشعر، فإن محمد النويهي يرى أن التفعيلة هي المرحلة الأولى، من مراحل التجديد الموسيقي. إذ ينبغي على هذا الشعر أن يستكمل تجديده بالخروج من النظام الكمي إلى النظام النبري. أي بالخروج من نظام التفعيلة إلى نظام النبر،  ولهذا لاينبغي أن نرى في " وحدة التفعيلة العروضية إلا كمرحلة انتقال ، كقنطرة يعبر عليها شعرنا إلى ميادين أعظم اتساعاً، وتطوير أبعد مدى وأعمق جذرية". وعلى الرغم من إقرار النويهي بأن ثمة اختلافاً في القراءات على صعيد قواعد إيقاع النبر، وأن ثمة نوعاً من التطور فيها.

فلم يكن بدٌّ من أن يفترض البعض أن الموسيقا الشعرية يمكن أن تكون داخلية لاخارجية، ومعنوية لاحسية. وهو ماجعل من مصطلح الموسيقا الداخلية بديهيا .

إن كل ذلك جعل من الشكل الإيقاعي الحداثي مفتوحاً على احتملات لاتكاد تحصى من الاختلافات الإيقاعية بين النصوص الشعرية. وذلك على الرغم من أن التفعيلة بقيت هي الوحدة الصوتية ـ النغمية، في تيار التفعيلة من شعر الحداثة. ولابأس من الإشارة، في هذا المجال، إلى أن الحديث عن إيقاع سمعي محدّد في قصيدة النثر، ومايزال رجماً بالغيب. وإن يكن ثمة محاولات مخلصة لتسويغه، من خلال النظام النبري، لامن خلال النظام الكمي. وعلى أية حال، فإن الحداثة في طرحها شكلاً إيقاعياً مفتوحاً، قد فتحت الباب واسعاً أمام الاختلافات الإيقاعية النصيّة، بشكل لم يعد فيه بالإمكان الكلام على نمط أو اثنين أو غير ذلك، للشكل الإيقاعي الحداثي

يقول أدونيس " إن تحديد شعر جديد خاص بنا نحن، في هذا العصر، لايُبحث عنه، جوهرياً، في فوضى الشكل ولافي التخلي المتزايد عن شروط البيت، بل في وظيفة الممارسة الشعرية التي هي طاقة ارتياد وكشف"

وعلى الرغم من أن المنطلق الذي انطلق منه النسق الرؤيوي كان بالإمكان أن يتعمق باتجاه المعالجة الجمالية، غير أن توهان هذا النسق فيما هو حدسي وغرائبي وميتافيزيقي، قد جعل منه قاصراً عن وعي الحداثة. نقول ذلك، ونحن نعي جيداً جملة "التخليات" التي اقترحها أدونيس. وهى دائما محل الالتفات . 

قصيدة النثر، في أحد أبرز تجلياتها، هي نص مفتوح على التأويل، متحرر من قيود الوزن الخليلي وإيقاعات التفعيلة، لكنها لا تتخلى عن الشعرية، بل تعيد صياغتها عبر الإيقاع الداخلي وتكثيف الصورة وجرأة المعنى. 

في "حكاية سريالية" ،يمزج خليل الشرقاوي بين المشهد الحلمي واللغة الموحية، ويستخدم تداعيات حرّة تتدفق بلا قيود شكلية، لكنها مشدودة بخيط خفي من التماسك الدلالي والرمزي.

فنلمح فى نص " الزمنُ الذي وَلَّى " تلك القدرة على إشعاع الجملة الشعرية حين يقول :

لَا أملِكُ إلَّا بعضَ النغم  / وَبعضَ ذاكرة / بعضَ كتبٍ مهترئة  / ونافعة

ثم يقدم مجموعة من العلامات .. صورة حسية حين يقول "رَائحةُ كرزٍ زكيةٍ من قُصاصةِ شَعرٍ أنثوية ، ثم "زهرةُ نهدٍ خضراء لم تزل تَتفتح ..  لم تهمِس لها يدٌ قط .. بمعنى يدل على امتلاكها للشباب كونها لا تزال بكرا عفية ، وينطلق قائلا "دخانٌ مسجورٌ فى زجاجةٍ منذُ قرون" كدال على الكبت الخاص بهذا الزمن ، وصولا إلى التجريد الكونى حيث يستمر فى سرد ما يملكه مشيرا إلى أنه يملك الزمن الذى ولى .. بكل ما فيه من أشياء علقت فى ذاكرته التى ذكرها "نكرة" فى مستهل نصه .. ليس هذا وفقط فإنه يقدم صورة  غرائبية غاية فى الدهشة حين يقر أنه جاء محملا بكل ما ذكره من أشياء .. لكنها تهاوت يوم الانفجار الكبير . نلمح منذ البداية مدا سرياليا فى جسد النص وليس ذلك بغريب على طبيعة البناء الفنى للنص النثري .

فالنص يتشظى بين الصور المتجاورة التى لا ترتبط فيما بينها برابط واضح أو يقوم على منطق ما ، معتمدة على تولدها فى ذهن الشاعر وتداعيها الحر ، من المحسوس إلى الحلم إلى التجريد الكونى . 

يتميز نص قصيدة النثر بكثافة الصورة، وتوهج اللغة، والإيقاع الداخلي النابع من تكرار الأصوات والمفردات، والتوازنات البصرية والسمعية،وهي تستثمر السرد والوصف والرمز جنبًا إلى جنب، مما يمنحها مرونة في الانتقال بين المشهدية والتأمل، بين الحلم والواقع.

يتساءل فى نص " لا أحد سواك " أَلم تَكُن طليقًا فى حُقولِ الطفولة ؟

أَلم تكُن شَائِبًا قبلَ الميلادِ بِأربعين ؟

إنه التناقض بعينه بين صورتين ، أو سؤالين فلسفيين ، الحرية والانطلاق فى البداية ، ثم تكبيله قبل ميلاده / الشيب دال على ذلك . هذه الأسئلة وغيرها داخل النص ثم لجوء الشاعر إلى استخدام فعل الأمر من باب توجيه ذاته إن أصبنا التقدير على اعتبار أنه مونولوجا داخليا بين الشاعر وذاته 

افتح بابَ جُرنِكَ القَديم / ألقِ التحيةَ على حِصانِكَ الوَفِي / ربِّت على عُنقِه / أطعِمه / اترُكه / أوصِد البابَ خلفَك / وانظُر نظرةً بعيدةً فى ظلامِ الحُقول / اركُض  / ونَم تحتَ مِظلاتِ الغَوانى / واقترب من منبعِ الشَّهقات / اركُض طَويلًا .. / وارشُف قليلا / وَتُه وَهما 

بعد كل تلك الأفعال المتواترة والمتدفقة بانسيابية ، يقول :

وعندمَا تستَشعِرُ غرابَةَ ذَاتِك / غرابَةَ وجهِكَ وكونِك ..

تَأكد أنَّهُ أنت  / وليسَ أحدٌ سِواك

نلاحظ انتقال الصور من الطبيعية إلى التجريدية ، وهى رحلة عبر الذات أو النفس . ولا يمكن أن نغفل أن النص يطرح أسئلة فلسفية تتعلق بالماضى والحاضر وقدرة كل منهما فى التأثير على المستقبل / الحلم. 

وفى نص " نديم الهدهد  " يقول : 

الهدهدُ الذى صالَ فى صدرِى وجال

وأخرجَ الخبءَ من قلبي وطار

إنها صورة مشهدية متحركة دالة ، لماذا الهدهد ؟ 

ولماذا ترك له المجال ليصول ويجول ، وتركه يفعل بقلبه الأفاعيل ؟

هو الرمز الشفاف الذي يلجأ له، الهدهد كرسول / يصبح نديما.. وهى مزاوجة سريالية قد لا يكون لها منطق.

ثم يتبع ذلك المشهد بمشهد أكثر دهشة حين يقول :

واتتنى فُرصةُ نومِهِ الدهرِي فتسلَّلتُ لِحُلمِه ... 

كَأنِّي صديقٌ قديم

ثم يقفز ملتحفا بالمد الصوفى فى هذه الجملة الشعرية حين يقول :

كلمَا وصلَ تاه

وكلمَا تاهَ أوغلَ فى الوصول

هو لا يدرك أصلًا ماهيةَ التيهِ والوصول 

إنها علاقة عبثية بين التيه والوصول ، باعتبار أن هناك دائما شيئا مجهولا لا نستطيع معرفته ويبقى الإنسان عاجزا عن تفسيره . 

يمثل نص " حكاية سريالية " بؤرة مركزية للديوان نستطيع قراءة ثيماته من خلالها ، فهو أشبه بمقاطع مشهدية متقطعة، دون ترابط منطقى بينها..

لم يعرفِ بابًا للخروج......./ صورة نفسية صعبة على النفس البشرية، ثم يستكمل بناء المشهد فيقول :

من خلفِ جدارٍ رمادِىٍّ يُقلِّبُ عناقيدَ حلمِه / ويحلمُ بمزيدٍ مِنَ الكَرْم......... / مزاوجة بين الواقع والحلم 

ثم ينفتح النص على التفاؤل والأمل، والوصول إلى المعرفة واليقين 

استنشَقَ الحُبَ وعطرَه / ذاقَ الكلمةَ مغَمَّسَةً بِالشَّهد / وذاقَهَا مُشبَعَةً بِالبُغضِ وَالغَضَب / أدركَ أنَّ الكُرهَ ذُو عُنفوانٍ / وحسٍ مرهف وَصَوت لَا يسمَعُهُ إلا شَاعر..../ عرفَ الكثِير .... الخ

إنه يقدم مجموعة من المشاهد المتراكمة والمتعاكسة تعبر عن متناقضات الوجود كالحياة والموت ، الحب والكره، الإحباط والأمل ، إنها مشاهد للذات أمام مرآة كبرى تعرض متناقضاتها 

تمثل "حكاية سريالية" حالة تستدعي قراءة تتعمق في تحليل البنية الداخلية، والتناصات، وأثر المفارقة والتصوير السريالي في بناء العالم النصي. فهي لا تبحث عن"انضباط" الشكل بقدر ما تراهن على حرية المعنى وقدرة اللغة على احتضان اللاواقعي والغرائبي، دون أن تفقد تماسها مع التجربة الإنسانية المباشرة.

فالنص هنا يتحرك في فضاء يجمع بين البوح الشخصي والرؤية الكونية، بين الهواجس الفردية والهمّ الجمعي،مستفيدًا من خصائص قصيدة النثر: كثافة المجاز، انسياب الجملة، وتعدد مستويات الخطاب. الإيقاع ينبع من تكرار الصور والعبارات، ومن التوازنات الصوتية والبصرية.

فالديوان يتخذ من قصيدة النثر وعاءً تعبيرياً، لكنه يطوّعها في اتجاه يمزج بين السرد الشعري والرؤية الحلمية. النصوص هنا لا تُبنى على وحدة عضوية تقليدية، بل على وحدة شعورية تتولد من تراكم الصور وتجاور المشاهد. كل مقطع يفتح أفقًا جديدًا، حتى وإن بدا للوهلة الأولى منفصلًا، فإنه ينخرط في النسيج الكلي عبر موضوعات مشتركة: التيه، الغربة، الحنين، الحب، والانكسار.

إنها مشاهد سينمائية تتسم بالتشظي، وهو تشظٍ مقصود يعكس البنية السريالية نفسها، حيث الانتقالات الفجائية بين المشهد الواقعي والمشهد الحلمي، وبين الصور الحسية والمجردة.

نستطيع القول أن ديوان "حكاية سريالية" يشكّل تجربة متميزة للشاعر خليل الشرقاوي ، حيث تتشابك فيه الرؤية السريالية مع البنية الشعرية الحرة لتوليد عالم نصي مشحون بالدلالات والرموز. فيوظّف التراكيب اللغوية والصور الحلمية والانتقالات المفاجئة بين المشاهد لخلق فضاء شعوري يمزج بين الحلم والواقع، بين المحسوس والمتخيل.

تتوزع نصوص الديوان على مشاهد متشظية، لكن يجمعها خيط وجداني وفلسفي يلامس أسئلة الوجود والهوية والغياب. وتعمل اللغة، بما تحمله من كثافة وجرأة في المجاز، على بناء إيقاع داخلي يتولد من التكرار الصوتي والدلالي، ومن حدة التوتر بين الصور المتنافرة التي تتجاور في انسجام داخلي خاص.

هوامش : 1 - وعى الحداثة – د. سعدالدين كليب – منشورات اتحاد الكتاب العرب - 1997

 - حكاية سريالية – قصور الثقافة – 2025

...................................................................................................

وقدم الدكتور نادر عبدالخالق اطلالة نقدبة وملاحظات مهمة حول الديوان، منتقدا بلين وموجها برفق، ناثرا الكثير من نقاط الضوء حول قصائد الديوان، وجاء فيها :

( الجمال لا يُدرَك كله أبدًا، ومن حاول إدراك الجمال كله فشل، ولكن إذا تماس الإنسان مع شيء من الجمال فقد نجح، وهذا مفتاح دراستي لديوان(حكاية سريالية) 

والشاعر خليل الشرقاوي قدم ديوان كلما قرأت قصيدة أجدها أجمل من الأخرى، وهذا الجمال استوقفني وكيف ننتقد الجمال لأن نقده ليس بالأمر الهين ولابد أن ندخل هنا عن طريق اللغة، ولكن الجمال هنا ليس جمال كتابة ولكنه جمال فكر وجمال إصرار فهو يصر أن يكتب وأن يفند ويبتكر الصور ويجهد نفسه، فنحن نرى القاريء مجهدًا فما بال الكاتب، وكيف كان وهو يكتب هذه القصائد، فهو قد أجهد نفسه جهدا كبيرًا، لذلك كل قصيدة ممكن نفتح منها مجموعة قصائد، وهذا أوقع الشاعر في أخطاء، أولها تكرار الصور ففي الثلاث قصائد الأولى قد فعل شيئًا جميلًا فقد ربط بين العنوان وبين المفتتح وبين النهاية، وأخطأ في ربط القصيدة الثالثة (نديم الهدهد) في آخر كلمة يقول "وإن أدرك سيُفَض كلُّ شيٍء وسيندم" و النديم في عنوان القصيدة غير الندم الذي ختم به القصيدة، 

والسريالية والرمزية والواقعية والبرناسية مذاهب غربية قد عملت بحثا في التسعينات علي كل المذاهب الأوروبية والتي اتبعها كثيرون وتركوا أصلهم العربي، فهل كان المتنبي أو أمرؤ القيس أو البحتري أو ابن العميد الذي كتب النثر، أو عبد الحميد الكاتب او غيرهم كانوا يعلمون هذه المذاهب؟! إنها مذاهب مستحدثة، وأنا لا أنفيها ولكن لدينا ما هو أغنى منها وما هو أعمق وأفضل منها، وهو ما اعتمَدَ عليه عبد القاهر الجرجاني في كتابي "أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز" والذي اعتمد عليه الجاحظ وابن قتيبة وبن سلام الجُمَحي وقدامة ابن جعفر، هؤلاء هم أعمدة النقد العربي، وهم في أوربا يترجمون الأعمال النقدية لهؤلاء ثم يعيدون تصديرها لنا ثانية ونحن نجري وراء التصدير ونترك الأصل.

والسريالية هي ما فوق الخيال وأن أحلق في السماء والواقع لا يكون سهلًا، وتعتمد على اللغة غير المنطقية والخيال الجامح واللاوعي والمحاكاة أو التقليد، إذن هل هناك قصيدة من قصائد الديوان بعيدة عن اللاوعي، نشعر أن هناك بعض المواقف في القصيدة-وليست القصيدة كلها- خروج وسباحة في الخيال لكنه يعود مرة أخرى للواقع، فمعظم القصائد حوالي 60% من القصائد سريالي ولكن ليس سريالي بشكل مباشر مثل لوحات سيلفادور دالي أو بريتون والمجموعة التي بدأوا الكتابة السريالية،

لماذا الشاعر يرجع في سرياليته؟

وذلك لأنه عربي وليس غربيًا، فهو إنسان مهموم بوطنه وذاتة بشبابة بحياته، فكلما سبح في الخيال كلما تذكر ذاته فعاد، ثم يذكرنا بأننا أحياء ولسنا سارحين في الخيال وفقط، ومن الأشياء الجميلة في الديوان أنه كتب عدة قصائد بشكلين مختلفين، وقصيدة النثر ممكن أن تكتب على شكل فقرات، وممكن تكتب على طريقة الشعر الحر، ومن الممكن أن تكتب سطرا سطرا، كقصيدة (المُبَارَكَة) وهذه القصيدة تعتبر محور الديوان كله، وكنت أتمنى أن يكون اسمها (حكاية سريالية) وليس (المُبَارَكَة) فقصيدة (حكاية سريالية) من أقل قصائد الديوان وبها أخطاء أسلوبية و تعبيرية، غير الأخطاء النحوية ولكن كلنا نقع في أخطاء نحوية لا يسلم منها أحد، ولكن لا أُعفي أحدًا من الأخطاء الأسلوبية، ولا بد أن يكون الأسلوب التعبيري منتظم، والديوان قد ظُلم حين نُسب لهذه القصيدة فهو يقول في مقطع فيها " كَم مِن كَلِماتٍ وَقصائِدَ وَحكايَاتٍ نَسَجَ"  فهو هنا أخَّرَ الخبر، ولا أدري لماذا والقارئ متشوق ومندفع وراء الحدث، والفعل هو الذي يحمل هذا الحدث فلماذا أُأَخر الفعل؟ - وأنا لا أتدخل في ما يكتب، فالشاعر يكتب كما يريد-، ولكن وجهة نظري هكذا، أن أدخل مباشرة في لب الموضوع ولب الصورة ولا أُأَخِر الحدث الذي هو مُكَوِّن الصورة، فالجُمل الأسمية الثابتة ليس فيها حِراك، أمَّا الجُمل الفعلية حينما توظف بطريقة ما داخل النص كما فعل الشاعر في مواقف كثيرة في الديوان فهي تستنفر القارئ مباشرة، 

ونرى أيضا أن أغلب عناوين القصائد إسمية إلا قصيدة او اثنين فقط تتضمن فعل. 

وقد يظن البعض انه حين يكون غريبا أو عميقا فإذًا هو يتحدث السريالية، وهذا خطأ، وهذا الذي جعل السريالية لا تنجح كثيرا أو تنتهي سريعا، فلا أجد رواجًا لكل هذه المذاهب إلا الرمزية والواقعية وبعض الأشياء التي تتماس مع الصوفية، ولدينا قصائد مثل (دوبامين-أنا هو-طقوس يومية) يريد الشاعر أن يسير على طريق السريالية لكنه لم يوفق، فالشاعر قد حدد طريقه من البداية حين عنون الديوان (حكاية سريالية) فسبب المشاكل، فالسريالي لا يحكي ولا يقُص، السريالي يُصوِّر ويعتمد على الرمز، وعند قراءة قصيدة (دوبامين) وهي قصيدة جميلة جدا وخفيفة وسريعة الفهم، ولكن موقعها ليس هنا، وكذلك قصيدة (أنا هو - و سلاسل وأساور) لا علاقة لهما بالسريالية، وكذلك قصيدة (طقوس يومية) 

وقصيدتي (تمك أو هلاك و حين التقيا) نجد دراما وحركة وانفعال واضطراب وشيء من الغليان وعدم الثبات على حالة معينة لأنه يوجد عاطفة قوية، ولكن السريالية هنا تحققت في المعنى وليس في الكلمات ولا في الجُمل فبعد أن انتهت القصيدة نسرح قليلًا في الخيال، ولدينا قصائد تغلب الواقعية على السريالية مثل (أيتها الحياة-جراب الدنيا-سباع تضحك ونحن-تعويذة البعث-في الأرشيف-زائلون خالدون-قبل النهايات-سلاسل وأساور) حتى عناوينها واقعية وواضحة ، أمَّا قصيدة (أوراق الرائي) هي قصيدة بها نمط جديد من الكتابة يحتوي رمزية وسريالية وهي قصيدة جميلة ، لكن كيف فعلها؟ فليس سهلًا الخلط بين المذهبين،

 والشاعر استخدم بعض كلمات قديمة لا تستخدم إلا نادرًا جدا مثل (بَتَكَ – هَملَجَ) ، وكلمة مثل (مُسَرنَمُونَ) و المُسَرنَمُ الذي يسير نائما وهذا توضيف عالي وراقي وهذا قمة السريالية،

هذا الديوان مادة خصبة للكتابة النقدية وللأخذ والرد، ويمكن أن نقف كثيرًا أمام الجماليات التي فيه فنكتب كثيرًا، ويمكن أن نقف لنفصل بين الواقعي والسريالي والرمزي والصوفي ولو فصلنا سنطيل كثيرًا، 

غير أن هناك في آخر الديوان مقاطع (صدف منثور) وهي لم يكن لها لازم فهي ليست تجديدا ولم تفد شيئًا.

وفي النهاية إنَّ هذا الديوان قد أعجبني من البداية حين كنت من المُحَكِّمِين في المسابقة فأجزتُه وأَعطَيتُة الدرجة العالية، وأُبارك للشاعر خليل الشرقاوي عليه

وأشد على يده أن يكتب ويقدم لنا المزيد والمزيد من الكتابات. )

..................................................................................................

وقدم الكاتب والناقد محمد الديب دراسة بعنوان : 


 ( شعرية الاغتراب والبحث عن المعنى في ديوان "حكاية سريالية " للشاعر خليل الشرقاوي ) جاء فيها :

( يقدّم خليل الشرقاوي في ديوانه حكاية سريالية تجربة شعرية مغايرة تتأسس على الانفتاح على اللاوعي والاشتغال على الحلم والتداعي واللايقين. نصوص الديوان تتحرك في فضاء ملتبس، يزاوج بين المشهدي والباطني، بين الواقعي والغرائبي، ليشكّل بذلك سفرًا شعريًا في المجهول. وما يميّز هذه التجربة أنّها لا تكتفي بتمثل السريالية كتيار فني وافد، بل تُعيد إنتاجها بروح محلية، متوغلة في الهمّ الإنساني والوجودي، محمّلة بخصوصية الصوت العربي والمصري على وجه الخصوص.

في الديوان استخدم الشاعر العدييد من الثيمات مثل:

ثيمة الحُلم:

يقول الشاعر:

"أَمَامِيَ السَّمَاءُ مَفرُوشَةٌ كَالحَقل

وَالأَرضُ بَعِيدَةٌ كَالحُلم"

"سَأُعَانِي حَتَّى أُقبِلَ إِلَيكِ مُجَرَّدًا

 مِن أَيِ وَهمٍ

أَو حُلمٍ زَائِف"

" وَمَن غَيرُكُم؟ يَجعَلُ الحُلمَ هَلوَسَة"

" لَم يَعرِف بَابًا لِلخُرُوج.

مِن خَلفِ جِدَارٍ رَمَادِيٍّ يُقَلِّبُ عَنَاقِيدِ حُلمِه

وَيَحلُمُ بِمَزِيدٍ مِنَ الكَرْم"

" وَالطَرِيقُ قَد يَكُونُ حُلمًا

وَالحُلمُ حِكَايَةٌ سِريَالِيَّةٌ

يَحِيكُهَا القَلبُ لِلعَقل"

" كَانَ حَالمٌ يَسِيرُ عَلَى ضَوءِ حُلمِهِ المُجَرَّد

شَاعِرًا يَرَى بِعَينِ لُغَتِهِ المُجَرَّدَة

وَيَسرِد…"

" تَوَقَّفَ الحُلم.

سَقَطَ

القَلَمُ

سَطَعَ النُّور"

يشكّل الحُلم في ديوان حكاية سريالية محورًا دلاليًا وجماليًا فاعلًا في تجربة خليل الشرقاوي؛ إذ لا يرد كمفردة عابرة، إنما يأتي كمفهوم مؤسِّس لرؤيته الشعرية. فالحُلم عنده هو الفضاء الذي تتداخل فيه الأزمنة والطبقات النفسية، وتتجاور فيه الرغبات المقموعـة مع الرؤى المتجاوزة للواقع. من هنا يتخذ الحُلم بعدًا مزدوجًا: فهو أحيانًا نافذة خلاص وملاذ للروح الباحثة عن معنى، وأحيانًا أخرى يتحوّل إلى وهم زائف أو خديعة تهدّد الذات بالتلاشي. أمّا حين يُستعمل بصيغة الجمع "أحلام"، فإن الدلالة تتسع لتشير إلى فيض الخيالات المتكاثرة، بين براءة الطفولة وتلوّنها وبين تبعثر الأماني وضياعها في أضغاث. وبذلك ينهض الحُلم بوظيفة سريالية أصيلة، إذ يغدو وسيطًا بين الوعي واللاوعي، بين العقل والخيال، ومن ثمّ يصبح العلامة الأبرز التي تُجسّد مشروع الشرقاوي في تحويل اللاشعور إلى شعر، والواقع إلى كتابة مفارقة.

ثيمة الموت والحياة :

يقول الشاعر:

"هَدَّهُ النِّضَال..

صَدَّهُ غُبَارٌ نَفَذَ فِي بَخُورِ رُوحِه

فخَلَطَ الحُبَّ بِالكُرهِ

وَالمَوتَ بِالحَيَاةِ بالوُصُولِ بِالهَلَاك"

"هُنَاك  عَالَمٌ بِأَسرِهِ بِانتِظَارِي،

عَالَمٌ جَدِيدٌ وَمُكتَمِلٌ يَحتَضِنُ المَوت

لِأَجلِ هَذَا أَرحَلُ كُلَّ صَبَاحٍ

أَبدَأُ قَصِيدَةً جَدِيدَةً وَأُسَافِرُ فِيهَا

أَخُوضُ مَا أَخُوض

أُغَامِرُ بِالغَثِّ وَالثَّمِينِ..

وَأَمُوتُ فِي كُلِّ قَصِيدَة."

" وَأَقفِزُ 

نَحوَ الحِكمَةِ فِي بَحرِ سِرِّكِ الغَرِيق

مُستَمسِكًا بِكُلِّ أَمَلٍ لِي

فِي العَيشِ حُرًّا 

وَالمَوتِ شَغَفًا"

يستند خطاب خليل الشرقاوي الشعري إلى جدلية الموت والحياة بوصفها إحدى أعمق الثيمات التي تنسج بنيته الدلالية. فالموت عنده ليس نهاية صامتة، إنما طاقة غامضة، تتقاطع مع الحياة وتتماهى معها في صورة سيرورة أبدية من الفقد والانبعاث. وغالبًا ما يتجاور ذكر الموت مع إشارات إلى الحب أو الخلاص، فيُعاد تعريف الفناء باعتباره شرطًا لامتحان الوجود، أو بوابةً لاستشراف ولادة أخرى. وفي المقابل، تتخذ الحياة في نصوصه طابعًا مأزومًا، مرتبكًا، يتخلله الغبار والتيه والاغتراب، وكأنها حياة ناقصة لا يكتمل معناها إلا بوعيٍ حدّي بالموت. هكذا تنشأ ثنائية متوترة، تضع القارئ أمام تجربة وجودية تتأرجح بين الانطفاء والاشتعال، بين الظلمة والنور، وتحوّل الشعر إلى مساحة تأمل فلسفي يُقارب أسئلة الكينونة من أفق سريالي يخلط الواقعي بالمتخيل.


ثيمة التيه والاغتراب في "حكاية سريالية"

يقول الشاعر:

" رَأَيتُ جَمَالًا فِي قُبحٍ  وَحِكمَةً فِي جُنُون

رَأَيتُ الدَّهشَةَ فِي التِّيهِ وَالوَّحشَةَ فِي الوُصُول"

"وَفِي لَحظَةٍ مُنتَظَرَةٍ تَحَدَّثَ عَنِّي فَقَال؛

إِنَّهُ مَنذُورٌ لِلضَّيَاع

فِي أَرضٍ ضَائِعَةٍ وَزَمَنٍ ضَائِع

أَدمَنَ التِّيهَ وَالاغتِرَاب

..كُلَّمَا وَصَلَ تَاه

وَكُلَّمَا تَاهَ أَوغَلَّ فِي الوُصُول 

هُوَ لَايُدرِكُ أَصلًا مَاهِيَّةَ التِّيهِ وَالوُصُول"

يُكثّف خليل الشرقاوي حضوره الشعري عبر صورة الكائن التائه والمنذور للضياع، حيث يتحول التيه إلى قدرٍ وجودي أكثر منه تجربة عارضة. فالشاعر يرسم شخصية شعرية لا تعرف اليقين، كلما وصلت تاهت، وكلما تاهت أوغلت في الوصول، في مفارقة وجودية تُظهر الاغتراب كحالة دائمة من الانفصال عن الذات والعالم. هذا الاغتراب ليس جغرافيًا فحسب، بل هو اغتراب أنطولوجي، يعكس مأزق الإنسان المعاصر أمام فراغ المعنى وسط أرض ضائعة وزمن ضائع. ومن خلال لغة مشبعة بالقلق والبحث، يتجلى التيه عند الشرقاوي كرحلة لا نهائية، تسعى إلى الإدراك لكنها تصطدم دومًا بالمراوغة والخيبة. وهكذا يتحول النص الشعري إلى مرآة للغريب الوجودي الذي يحيا داخلنا، وإلى استعارة كبرى عن الإنسان الذي لا يعرف أين يبدأ الطريق ولا أين ينتهي.

ثيمة اللغة والكتابة في "حكاية سريالية"

يقول الشاعر:

" وَمَا اختَرتُ إِلَّا قَلَمِي

مَا اختَرتُ وَطَنِي وَلَا أهلي

لَا حَدَائِقَ ظِلِّي

وَلَاجَمَالَ شَمسِي"

" ضَاقَت بِيَّ الكَلِمَةُ

وَأَعَادَنِيَ الرُّهَابُ لِوَعيِيَ

فَخَرَجتُ مُتَعَجِّلًا مِن قَلَمِي

وَتَرَكتُ الصَّفحَةَ مَملُوءَةً بِالظَّن"

تُشكّل اللغة عند خليل الشرقاوي كيانًا وجوديًا قائمًا بذاته، فهي فضاء للانكشاف والخلق معًا وليست فقط مجرد أداة للتعبير، تتكرر في نصوصه إشارات إلى الكتابة والقلم والكلمة بوصفها لحظة صراع وتجلٍّ، حيث تسقط الكلمات أحيانًا تحت وطأة العجز ("توقف الحُلم. سقط القلم. سطع النور")، وتنهض أحيانًا أخرى باعتبارها خلاصًا للذات وبوابةً للمعنى. هذا التوتر بين القول والصمت، بين الامتلاء والانطفاء، يكشف عن وعي حداثي يرى في الكتابة فعلًا وجوديًا محفوفًا بالعدم. كما أن الشرقاوي يتعامل مع اللغة بوصفها كائنًا حيًا قادرًا على السرد والشعر في آن، فالنص عنده يتأرجح بين القصيدة والحكاية، بين الغنائية والروائية، ليؤسس كتابةً هجينة تُشبه العالم السريالي الذي يصوغه. وهكذا تتحول اللغة إلى مسرحٍ للتجربة الداخلية، ووسيلة لتجسيد ارتباك الكائن وتطلعه نحو المعنى المستحيل.

وفي نهاية هذه الرؤية السريعة أستطيع القول إن تجربة خليل الشرقاوي في حكاية سريالية تكشف عن شاعر حداثي بامتياز؛ شاعر يرى أن القصيدة ليست نصًا مغلقًا ولا معنى مكتملًا، شاعر يرى أن القصيدة رحلة مفتوحة على احتمالات لا تنتهي. 

قصيدته سَفَرٌ دائم، واحتفاءٌ بالغموض، وتوترٌ خلاق بين الموت والحياة، بين الواقعي والمتخيل، بين السردي والشعري.

هكذا لا يمنحنا الشرقاوي نصوصًا نقرأها وحسب، إنما يمنحنا تجربة نعيشها؛ تجربة شاعر مسافر إلى هناك، إلى عالم يظل مؤجلًا، لكنه حاضر دومًا في الكتابة .. إن هذا الديوان تجربة حداثية بامتياز، تُراهن على الغموض الخلّاق، وعلى القصيدة بوصفها مغامرة كبرى لا تقود إلى هناك، بل تجعل "هناك" دائمًا في حالة تأجيل وانتظار)

..............................................................................................

وجاءت دراسة الناقد عصام صقر تحت عنوان (السيميائية والأسلوبية القائمة على الحداثة فى قصيدة النثر ديوان ( حكاية سريالية ) للشاعر خليل الشرقاوى أنموذجا 

جاء فيها : )حينما يصف الشاعر قصائده ونصوصه النثرية بأنها (حكاية سريالية) فهذا مدعى للتوقف إذ أن مفردة (سريالية) هنا تستدعى التأمل فيما هو بين السطور فى هذا العمل كما أن استخدام مفردة حكاية بالمفرد وليس حكايا أو حكايات يستدعى أيضا نفس التوقف حيث أنه هنا يصف كل ديوانه ويجمعه تحت كلمة حكاية وهذا يحيلنا إلى وجوب وجود ترابط بين كل نص وآخر بين ضفتى الغلاف وعلى ذكر الغلاف الذى هو علامة العمل المميزة له والدالة عليه جاءت صورة الغلاف ليست سريالية لشخص يعتلى قمة جبلية تطل على البحر ويعلوها القمر فى بدوره ليلة التمام مع خفوت الإضاءة نسبيا ونحن نرى أن السريالية ترتبط ارتباطا وثيقا بالتجريد البصرى سيما فى الأعمال التشكيلية ويجب أن ينطلى ذلك على الصورة الشعرية أيضا والفكرة فى بنيوية القصيدة فالتجريد هنا هو الدافع المتلقى لإطلاق العنان لقدراته الذهنية والعقلية لاستيعاب مكنونات العمل الفنى مستخرجا منه ما يريد الفنان قوله ومالايريد قوله تأسيسا على ما رسخ فى وجدانه حال التلقى وحين البدء بالحديث نقدا على قصائد ديوان اليوم فلن نعتمد المذهب الشكلانى فشكلانية القصيدة فى هذا العمل لا تسترعى الإنتباه بل ما يسترعى الإنتباه فيه هو السيميائية والأسلوبية المستمدة من الحداثة كما هو مشار عاليه أضف إلى ذلك بنيوية النص وفحواه من الصور الشعرية البسيطة والمركبة والتراكيب اللغوية من خبر وتقرير وخطاب وأمر وإذ أزعم أننى أحد هواة وممارسى النقد أنه حين متابعة شاعر وقراءة أكثر من عمل له ذلكم التضارب بين مستوى عمل وآخر حينئذ ينتابنى حالة من الحزن والقلق إذ يسبق هذا استقرارا فى يقينى شاعرية هذا الشاعر إيمانا بأن لديه الكثير أفضل مما قدمه الحين ويمكنه إنتاج إبداعات حقيقية تقوده إلى الثبات على طريق التحقق ولذلك فإنه من أهم ما يجب مراعاته عند كتابة القصيدة أيا كان جنسها من قبل الشاعر هو : شكلانيتها بنيويتها – اختلاف جملها وعباراتها – مدى قبولها لدى الملتقى .... لا أن يلقى بإحساسه ونبضه على الورق بزعم أنه محض نبضه وصرف تعبيره كما يبدو لنا أن الشاعر هنا مولع مهموم بالسريالية فأراد أن يعترف منها أو أن يدلو بدلوه فيها فأطلق هذا الإسم على ديوانه هذا .

أما عن فكرة توظيف اللغة وتطويعها عبر مفردات مستدعاة من قاموس فصحى البادية وهنا اتفق مع المقولة القائلة أن الجمال لا يدرك كله فى العمل الفنى مهما فعل الفنان وحلول فى إنتاج إبداعه أن يبلغ الكمال فلا هو يدركه إجمالا ولا هو يحظى بالكامل تفصيلا أما عن ديوان اليوم ( حكاية سريالية) للشاعر خليل الشرقاوى كديوان شعر من جنس القصيدة النثرية فمن الملاحظ استخدام الجمل التقريرية والخبرية حد الإغراق فضلا عن تنوع الصورة الحسية والبصرية والوجدانية فهو شاعر مجيد استطاع أن يعيد القصيدة النثرية سيرتها الأولى التقليدية كما فى قصيدته ( المباركة ) كما أضاف عليها عنصر الحداثة فجعلها غنية بالسرد فى قصائد أخرى كما سنلاحظ قدما ويبرز الشاعر علاقته بالعالم مشاعر متوحد فى ذاته فى قصيدته ( الزمن الذى ولى ) كما فعل فى أكثر من قصيدة بالديوان الماثل وعن التدفقات الشعورية فقد كانت حاضرة عنده فى قصيدة ( فى خفايا النفس ) حيث روح الشاعر تئن ويصطلى ضرام حشاها وهى تأبى الخضوع والتسليم وحاشاها هذا ويشتبك الشاعر مع عالمها ساخرا منه كعادته فى قصيدة ( مسافر إلى هناك ) حيث يجسد روح المغامرة والمقامرة والمجازفة حين يقول : يوما ما نمت على سطح قطار سريع ...وظلت عينى سارحة فى السماء الراكضة فوقى حتى فارق القطار قضبانه وهملج لوسط دارى القديمة ..

ويجسد الشاعر شموخه من الحياة فى قصيدته ( أيتها الحياة ) ليعمل فيها فكرة الدلالة والرمزية العميقة حين يقول ( سأترك كأسى ممتلئا على قمة جبل الجليد وأقفز نحو الحكمة فى بحر سرك الغريق مستمسكا بكل أمل لى فى العيش حرا أو الموت شغفا .

ثم يعيش القارىء مع شاعرنا أناته وزفراته المنهكة المتعبة فى قصيدة ( جراب الدنيا ) وإلى قصيدة (فى الأرشيف )

حيث نرى الشاعر يرتجى العالم أن يقبله كما هو حين يقول : أَغيبُ فى الضجيجِ المُقدَّسِ لجدُودِيَ القِدِّيسين 

تَسوقُنِى الجُموعُ وَأمتَثِل .... أُدمِنُ النسيانَ والخطأ

أَنسَى مَا القَبيحَ ومَا الحَسن ....

ومع القصيدة الأم عتبة الديوان الرئيسية والمسماة بعنوان الغلاف ( حكاية سريالية) فالقصيدة جاءت حافلة بالجملة الخبرية والتقريرية والمشهديات المباشرة والصورة المركبة مما يتنافى مع سريالية الصورة فالسريالية غالبا لا تقرا بل تكون ساكنة قابعة فى الصورة البصرية وبعد فقد جاءت قصائد هذا الديوان متشابهة في بنيويتها وشكلانيتها وهذا يلفت نظرنا إلى منحى آخر وهو الأخطاء اللغوية الواردة وربما هذا مرجعه إلى شئون الطباعة والتدقيق اللغوى وليس المبدع ذاته ولا يقلل من جهده وإبداعه شيئا 

إلى هنا نكتفى بما تم ذكره فيما سبق من القصائد المختارة وأقطع بأن الكلام فى نقد هذا العمل سيكون كثيرا ومتنوعا للوقوف على جمالياته وإدراك مضارب الدهشة فيه لذا فهو يعد مادة نقدية خصبة جديرة بالقراءة مرات والفحص فيها ...

كان هذا بعض رأينا فى هذا الديوان للشاعر ( خليل الشرقاوى) له ولكم منا

أطيب الأمنيات بالتوفيق والإبداع.

..........................................................................................


وجاء في دراسة الأديب والناقد أحمد عثمان :

( سأتناول القصيدة المعنون بها الديوان (حكاية سريالية) والتي أحسبها تشكل سيرة أدبية ذاتية للشاعر تتدرج بالخطى من الحبو إلى اشتداد واستقامة الصُلب ومعاركة الدروب، واستجلاء مسالك الغموض، والغوص، ومعاقرة الأبواب لتفتح له مغاليقها لينهل منها ما شاء...

يفتتح الشاعر قصيدته قائلًا؛

لم يعرِف بابًا للخروج

من خلفِ جدارِ رماديِّ يُقَلِّب عناقيدِ حُلمِه 

ويحلُم بمزيدٍ منَ الكَرْم..


ومن خلال هذا المفتتح الذي يلخص كل التجربة/الحكاية، والذي أَشتمُّ منه رائحة استلهام الشاعر أسطورة "كهف أفلاطون" كمثال ضربه افلاطون لهؤلاء المحبوسين/المسجونين/المغيبين/المعزولين عما يدور حولهم، وبالتالي تدنًّى وعيهم، وغياب إِدراكهم وضيق افقهم..ليصل إلى لب دعوته الرامية إلى تحرير العقول والتفكر و البحث عن الحقيقة..فالشاعر في البداية لم يكن يعرف لنفسه سبيلا للخروج، مسجورا خلف جدار رمادي، ولفظة (رمادي) هنا جاءت موفقة لتعمق شعور التيه والتخبط.. وكأنه يريد أن يقول لنا؛ ها أنا ذا أمامكم، من غِّرٍ تائه يحلم بالخروج، أقف بينكم أحمل مصباحي وأسير أستكنهُ الطرقات، وكلما تكشفت ليَّ الحجب أغِلُ في المسير لأزداد..

ثم تفصل لنا الحكاية/المسيرة؛

-فيبدأ المسيرة بالتأمل، والتفكر، والبحث عن طريق يحتضن خطاه، وفي حيرته يتسائل؛

أسبيلٌ يودِي بهِ في هُوَّةِ ضميرٍ مغرور؟

أم مِدَقٌ يقودُهُ لِشاهقِ نشوتِه؟

-وكما هي بداية أي طريق؛ فلا مناص من تعلم أبجديته، فعرف الحرف وتعلم الكلمات، ثم مقلدًا لما يصل مداركه /ما تجري عليه عيناه، وما تلتقطه أذناه (صَارَ مرآةً لِمَا يَرَى)

-من هذا المنطلق كانت ارهاصات التكوين من خلال كتابات لم يكتبها، يتردد صداها في خاطره دون أن يبوح بها، وعن هذه الأرهاصات يقول؛

(كم من كلماتٍ وقصائدَ وحكاياتٍ نسجَ بحروفِ صمتِه /ولمَّا تخطُ يُمنَاهُ حرفًا/ حتى ألحَّت في رأسِه الحروف/تزاحمت واصطفت/تشكلت ثم تكلمت/وكان عليهِ أن يرُد)

-لم يكن ما كان من إدراك واستيعاب ومعرفة ليكون؛ لو لم يخترق هذا الجدار الرمادي(عودة إلى كهف أفلاطون، وما كان من تسلل أحد أسرى الكهف إلى خارجه ليكتشف عوالم لم يكن يعرف عنها شيء خارج هذا الحيز الضيق من المعرفة المتمثل في هذه الخيالات المتكررة كل ليلة على ضوء نار لا تتغير..)

لذا كانت نقطة فاصلة في حياة الشاعر بدأ منها التاريخ بالنسبة لمساره الشعري يقول الشاعر عنها؛

(وابتدأَ التاريخ/صارَ الجدارُ الرماديُ أفقًا وقمرًا/والشُّباك المُشرَّعُ سفينةً وَبحرًا/والغيمَةُ الوحيدةُ في السماءِ الوحيدة/أملًا لا يُمل)

-ثم تتواصل المسيرة و تتنامى قدرات الشاعر في الاستبصار والتذوق/والتأمل والتحليل والتأويل..لكل ما تقع عليه عيناه،وتسمعه أذناه، وما يمر به من أحداث وتجارب، وعن هذا يقول؛

(عرفَ الكثير/لكنَّ الأشياءَ ليست كما تبدو/والحقيقةُ غَانيةٌ تُخفي جمالها/وما يظهر ،لن تَظفرَ منهُ بِشيء/فقط تجرَّد..) 

-لتأتي مرحلة أكثر زخما-كمًا وكيفًا-يصبح للشاعر فيها رؤيته الخاصة التي يشق بها طريقه الذي ينفرد به، لا يتشبه فيه بغيره، هذه الرؤية التي تمنحه القدرة على فلسفة ما يعِنُّ له من أمور حياتية قد تمرُّ على غيره مرور الكرام،[ فيرى جمالًا في قبح، وحكمة في جنون، يرى الدهشة في التيه، والوحشة في الوصول، وتترائى له الحياة تحتضن الموت كعاشقين يشربان من نفس الكأس ]- بل يتخطى كل ذلك ليغوص في ذاته، ويطرح الأسئلة الكبرى؛ (رأى كلَّ شيءٍ في نفسِه /ولم يرَ نفسَه/وما نفسُه؟/من أنا، وأين؟)

إنها مسيرة نتمنى لها الامتدادا، والتوهج، لا أرى فيها حكاية سريالية، ولكنها حكاية كل مبدع لا يمل القلق، يتعاطى الواقع، ويتمثله، ويفرزه، كلٌّ وفق امتلاءه الفكري والمعرفي..

 (نديم الهدهد)

الهدهدُ الذي صالَ في صدرِي وجال

وأخرجَ الخَبءَ من قلبي وطار

ــــــ تعمُر القصيدة بالنَّفَسِ الصوفي، وربما هي الوحيدة بالديوان التي يتضح فيها هذا المنحى.. نديم الهدهد، فالنديم هو الصاحب اللصيق، جليس المؤانسة، زرفيق مجلس الشراب، والخمر مفردة شائعة في أقوال وأشعار الصوفية، ليس بالطبع بالمعنى الحسي ،إنما يراد بها فعل السُكر والنشوة الروحية والتجلي الإلهي الكاشف لكوامن النفس والذوبان في حب الله. هذا عن النديم والمنادمة، فماذا عن الهدهد؟.. لا يخفى رمزية الهدهد وارتباطها بالمعرفة الجوانية أن الله آتاه مالم يأته نبيه سليمان، فبمجرد ذكر الهدهد تتداعى على الذهن مباشرة حوارية سيدنا سليمان والهدهد، وكيف أن الله منح الهدهد علما ومقدرة لم يعطها حتى لنبيه، ليقف وهو المستَعبد في مواجهة من يستعبده في موقف يعكس فيه قمة التباين حين يقول الهدهد لسليمان؛ "أحطت بما لم تحط به" سورة النمل  ...  يُعَضِّد ما ذهبنا إليه قول الشاعر على لسان الراوي؛ وأخرج الخبء.. لتتماهى مع ما ورد باآية 25 بسورة النمل في قوله تعالى يصف قوم بلقيس ملكة سبأ على لسان الهدهد؛ "ألا يسجدوا لله الذي يُخرج الخبءَ في السموات و الأرض..."

فالعلاقة- إذن- بين الراوي والهدهد- في القصيدة- هي علاقة المريج بشيخه العارف، يقول؛

(نادمتُه سنينَ طوالًا وتعلمتُ منهُ الكثير)

ولأن الهدهد عارفٌ في مقام الكشف، فقد أفصح عما يلاقيه هذا المريد/ الراوي في القصيدة في طريقة من تخبط في رحلة البحث، فيقول؛

(وفي لحظةٍ منتظرةٍ تَحدثَ عني فقال؛/إنهُ منذورٌ للضياعِ في أرضٍ ضائعةٍ وزمنٍ ضائع/أدمنَ التيهَ و الاغتراب)

وفي لمحات صوفية ينبئ قائلًا؛

(كلمَا وصلَ تاه/وكلما تاهَ أوغلَ في الوصول/هوَ لا يدركُ أصلًا ماهيةَ التيهِ والوصول)

فالهدهد هو العارف في مقام الكشف، يعرف نديمه أكثر من نفسه ويتمنى فيه ألا يدرك كحافز يدفعه ليواصل طريق البحث عما يجهل ، لأنه كما يقول أحد العارفين"؛ من ذاق عرف، ومن عرف أغترف، ومن اغترف نال الشرف"

فكلما عرف اشتاق للمزيد الذي يسد رمق جهله، لذا يوغل المسير وهو لا يعلم لطريقه نهاية..لذلك خشى الهدهد العارف على نديمه/مريده أن يدرك لأنه لو أدرك ووصل إلى النهاية التي ينقب عنها التي لا تعنى غير الحقيقة-التي هي بعيدة المنال والإدراك على العقل البشري القاصر-ربما يراها مفزعة، وربما تبدو بعيدة، أو عكس ما يأمل، عندها سيعاقر الندم ويتمنى الرجوع، تقول القصيدة في سطورها الأخيرة؛

(ثمَ أطرقَ في وجهي قليلًا وقال:

قد يُدركُ يومًا

وَإِن أدرك سيُفضَّ كلُّ شيء..

وسيندم..)

هكذا  قرأتها ولا تثريب عليَّ

لمحات حول محاور الديوان؛

ترائى لي- في اجتهاد شخصي- عند استعراض قصائد الديوان الخمس و العشرين (إا استثنينا المشاغبات و الصدف المنثور) أنها تدور في عدة محاور أوجزها في الآتي؛

1-التأمل في خبايا الذات؛ يشيع هذا في قصائد[ لا أحد سواك-في خفايا النفس-مسافر إلى هناك-زائلون خالدون-حكاية سريالية ]

2-منحى صوفي يتجلى في قصيدة [ نديم الهدهد ]

3-علاقة المجاهدة والمواجهة وعدم إلقاء القفاز أمام جبروت الواقع المعاش بكل تناقضاته، تتناوله قصائد [ أيتها الحياة-جراب الدنيا-المباركة-في الأرشيف-سلاسل وأساور ] 

4-الحس النقدي المحرض يبرز في قصائد[ سباع تضحك ونحن-تعويذة البعث ]

5-مشاعر وأحاسيس رومانسية تستأثر بها ثمان قصائد تمثل حوالي ثلث الديوان تتمثل في [لماذا أمشي كبهلوان-أقاصي الحلم-دُوبامِين-أنا هو-طقوس يومية-قبل النهايات- تملك أو هلاك-حين التقيا]

6-التأمل الفلسفي؛

وهو ما نرصده في شذرات تتناثر على مدى القصائد، نذكر من هذه الشذرات على سبيل المثال لا الحصر؛

-قد يُدرك يومًا/وإن أدرك سيفض كلُّ شيء/وسيندم (من "نديم الهدهد)

-إنَّ الحقيقةَ أصلبَ مِما نَتصور (من "أوراق الرائي)

-والحقيقةُ غانيةٌ تُخفي جمالها (من "حكاية سريالية)

-اِعرف نفسَك/تبين قيدَكَ/تتحرر (من "حكاية سريالية)

-نحنُ لسنَا موجودينَ حقًا/لا الأمسُ مضَى حقيقة/ولا اليومَ نعيشُ فيه/نحنُ فراغٌ يرتعُ فيهِ زَمانُنَا (من "وجوده محل شك)

-إنَّ كلَّ الأخطارِ وَالخطايا مؤكدةٌ على هذهِ الأرض (من "قبل النهايات)

ــــــــــــــ

وفي الختام، وأمام ما ضمنت أنت به يا صديقي في آخر قصائد الديوان بقولك؛

(أنَا مَا قصدي../ إلَّا أن تطولَ القصيدةُ في الحكاية/ لَا أن أصِلَ لبابِ الختام)

أقول لك؛ لا تقلق ، فستطول القصيدة في الحكاية لإبعد مدى، فما زال بينك وبين الختام أمدًا بعيدًا من التوهج والإبداع، والباب مشرَع أمامك- بكل الترحاب- يناديك..

................................................................................................

وقدم الشاعر رضا عطية دراسة بعنوان ( قراءة في ديوان حكاية سريالية للشاعر خليل الشرقاوي ) جاء فيها :

( ديوان حكاية سريالية للشاعر/خليل الشرقاوي هو الديوان الثاني من بعد ديوانه الأول (سبعة أقلام ملونة) وكلاهما من قصيدة النثر 

وكلمة سريالية اتجاه معاصر في الفن والادب يذهب الى ما فوق الواقع، الذي هو عتبة النص الي التحويم فيما فوق الواقع والسبح في عوالم الآشعور، والديوان يتكون من ستً وسبعين صفحة خلاف الفهرس، ويبدأ بالإهداء إلى الأصدقاء المبدعين و إليها (المحبوبة)، ويذكرني بإهداء أستاذنا الدكتور الراحل/الطاهر مكي في أحد كتبه(إلى نانا وهي تعرف لماذا؟)، والقصيدة المعنون بها الديوان وهي(حكاية سريالية) تقع في وسط الديوان المكون من (27 قصيدة) وكأنها تتوسط بين الماضي والمستقبل.

والديوان في مجمله يدور في فلك عدد من القضايا التي تشغل بال الشاعر واحساسه وعبر عنها في قصائد نثرية يسكنها روح الشعر الطاغي، من هذه القضايا (التأمل في الذات والبحث في مكنوناتها متأثرا بالعوالم المحيطة بها، ومنها الزمن ومنها الاغتراب فشعوره بالاغتراب والبحث عن ذاته فهذا دليل على انه ليس هو إلا ذاته، قصيدة (لا أحد سواك)، ومنها فلسفة التصوف ومنها الاعتداد بالذات  في قصيدة (أيتها الحياة) فهو لا يستجدي دمعة من الحياة على حاله، ومنها في أحايين قليلة الرومانسية كما في قصيدة(قبل النهايات)التي ينزع فيها إلى الرومانسية وتحمل كل الأخطار من أجل محبوبته وتفيض بالصور المبتكرة (بئر الاحتشام/برق الإباحة/برقع البخل) وكذلك نجد التيار الرومانسي واضحًا في قصيدته (تملك أو هلاك)  ومن خلالها نلمح خيال الشاعر الجامح, حيث نرى فيها بئرًا صغيرة يحيلنا من خلالها  وكأننا أمام بحر شاسع مترامي الأطراف.

وأيضا من القضايا التي يتناولها الديوان؛ الفلسفة والتصوف كما في قصيدة (نديم الهدهد)  "كلما وصلَ تاه/وكلما تاهَ أوغلَ في الوصول/هوَ لا يدرك أصلًا ماهيةَ التيهِ والوصول" ومنها أيضا مزج الواقع بالخيال كما في قصيدة (مسافرٌ إلى هناك) "يومًا ما نمتُ على سطحٍ قطارٍ سريع/وظلت عينَايَ سارحةً في السماءِ الراكضةِ فوقي/حتى غادرَ القطارُ قُضبانَهُ وهَملَجَ لوسَط داريَ القديمة...)


-وفي قصيدته (سباعٌ تضحك ونحن) يتحدث عن واقعنا العربي المعاش المؤسف الذي يتسم بالخنوع والذلة، والأمل في أن نرى زهور الزيتون والسلالم المبني على العزة من جديد/ وتتسم لغتها بالوضوح فهي مختلفة نوعًا ما عن كثير من قصائد الديوان.

-وقصيدته (تعويذة البعث)حديث موجه إلى الآخر وكأنه في حقيقته موجه إلى الذات في صورة مكثفة.

- وقصيدته (في الأرشيف) فيها غوص في ذاكرة وأرشيف التاريخ والنوم والغفلة التي احتلتنا حتى إن الغفلة تدركنا قبل أن ندركها، ففي رحلة البحث ينكشف المستور"سقطَ من عينيَ التأريخُ والتاريخُ والسكوت"

-وفي قصيدة (أوراق الرائي) يوجه حديثه إلى الآخر ويعمد إلى الحوار، وفي نهايتها انعكاس للمثل القائل(باب النجار مخلع)، فالخيال متسع لكل شيء ماعدا الخياليين/

"فالخيالُ أَرحبُ وأرقى ومتسعٌ/لكلِّ ذِي حكمةٍ أو جنون/للشرفاءِ والشياطين... وَلكنَّهُ ليسَ مُتَّسِعًا لنا نحنُ الخياليين"

-وفي قصيدة (حكاية سريالية) نجد فيها محاولة البحث عن الخروج من القيد باحثًا عن الحلم، وحديث الصمت وتحول الجدار الرمادي العائق الى افق وقمر، وتحول الشُباك المشرع إلى سفينة وبحر ،ونجد فيها التأمل في الذات "اِعرف نفسَك/تبين قيدَك/تتحرر" والحلم عنده في النهاية ليس إلا مجرد خاطرة في عين مبدع يتأمل.

-وفي قصيدته(وجوده محل شك) يعالج فيها قضية الاغتراب داخل الذات"يَا هذَا علامَ تتألم؟!/نحنُ لسنَا موجودين حقًا/لا الأمسُ مضى حقيقة/ولا اليومَ نعيش فيه/نحنُ فراغٌ يرتَعُ فيهِ زمانُنا/فقط أقوالُنَا هِيَ البَاقي /وأقدامُنَا قَبضُ الريح"

-وفي قصيدة(زائلون خالدون) يتناول فيها قضية الشعور بالغربة وكأن صاحبه القديم هو صدى لنفسه، وتقوم القصيدة من عنوانها على المتناقضات، ويستخدم فيها الجناس الناقص"واستفزِز شَعبَكَ بِعشبِ شبَعِك"

-وقصيدة(بعد قتلى) نجد أن السعادة تتحقق بمواصلة تحقيق الحلم، حتى بعد الموت، واستمرار الإرادة.

-ونجد في قصيدته (لماذا أمشي كبهلوان) نجد قوله"لماذا أراكِ أمامي وأنتِ ورائي؟" يعد امتدادًا لقوله السابق "رأيتُكِ على مدِ بصرِي في كلِّ شيء/..ثم يميل إلى الإنتقال من حالة إلى أخرى في قوله "سأمُرُّ كَهمسِ سحرٍ بينَ النهدينِ النائمين...نجد فيها الهمس والرِّقة "فتستيقظُ النغمات/وتدُقُ الإيقاعاتُ على الدفوف" نجد الصحوة "ستصهَلُ كمنجةٌ وَيبوحُ نَاي"...نجد الحزن الخارجي مرتفع الصوت"وَسيبكِي شَيءٌ مَا فِي قلبِي" ينعكس هذا القول على الحزن الداخلي

-وقصيدته(أنا هو) نجد فيها لوحة فنية/صورة كلية ناطقة مكثفة.-ومن القصائد المكثفة أيضًا قصيدة (طقوس يومية)

-وقصيدة(حين التقَيَا) قائمة على الحوار والدراما والتناغم بين الحبيبين.

-وقصيدته (مشاغبات)/ تقسم القصيدة إلى أربع فقرات، ويمزج في الفقرة الرابعة بين الخيال الجزئي والخيال الكلي

-وفي قصيدة(سلاسل وأساور) نجد المتناقضات "إنَّنِي أُحبُ الحرية....لكن لَا أدرِي لماذَا يُكبَّلُ قلبي بكلِّ تلكَ السلاسلِ والأساور"

 -وقصيدته (صدف منثور) يميل في ختامها إلى الأمل "اِتركِي البُرعُمةَ جالسةً بيننا"

إن الشاعر الذي يجهد قارئه في البحث عن بعض معاني الكلمات من خلال ثروته اللغوية وكذلك امتاعه بصور وأخيلة، يُعَدُّ شاعرا حقًا، كما نرى في الديوان كلمات مثل (هَملَجَ- رُهاب- بَتَكُوا- لَعلَعَة-دُوبَامِين- البَيدَق- مَعقُوصًا- مَسجُور)

ومن دقته اللغوية هناك كلمة قد تتكرر قد يظن القارئ أن معناها واحد لكن باستخدام ثانية معنى جديدًا كقوله في قصيدة (في الأرشيف)"سقط من عيني التأريخ والتاريخ والسكوت   

فالتاريخ  هو جملة الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما ويصدق على الفرد والمجتمع، كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية.

أمَّا التأريخ بالهمزة فهو تسجيل الأحوال والأحداث و الظواهر التاريخية

وعلى الرغم من حرصه على الدقة اللغوية وضبط الأحرف و الكلمات إلا ان الديوان لا يخلو من بعض الهنات اللغوية أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر؛(بالغث والثمين –قصيدة مسافر إلى هناك) والأصح الغث والسمين بالسين فالسمين هو الرصين والحكيم من الكلام...وهو خلاف الغث بمعنى الرديء والفاسد.

وكذلك قَرط بفتح القاف في قصيدة(أنا هو) والأدق هو قُرط بالضم وهو ما يعلق في الأذن من در أو ذهب أو فضة.

وكذلك "سأترك كأسي ممتلئًا" في قصيدة(أيتها الحياة) والأدق ممتلئة فالكأس تؤنث وكذلك البئر.

وكذلك "حِزمة " بكسر الحاء في قصيدة(في الأرشيف) و الأصح حُزمة بالضم، وهي ما جُمع ورُبط.

وهناك بعض الضبط اللغوي غير الدقيق منه"يا نبيةَ" بالفتح (في سباع تضحك ونحن) والأدق يا نبيةُ بضم التاء.

وكذلك في صحراءَ الشك (في الأرشيف) والأصح "صحراءِ" بالكسر.

وفي النهاية سعدت كثيرًا بقراءة ديوان (حكاية سريالية) للمبدع الصديق/خليل الشرقاوي، وأرجو الله له مزيدًا من التوفيق في دواوينه القادمة إن شاء اللهقراءه نقديه عن ديوان حكايه سريالية

.................................................................................................. 

ويحتفي الشاعر آبانوب لويس بصديقه خليل الشرقاوي بدراسة، جاء فيها 

( في الشعر صوت لا ينصت إليه .. إلا من ذاق مراره الكتابة) 

على مقعد التامل نجد انفسنا في جميع المراحل على حافه السريالية. 

الحياة ليست في القيد، بل في فهم الطريق، ووعي الخطوة ومسؤولية الاختيار. 

حين أصبحت مصر جمهوريه عربيه!! واستوطن الفكر العربي أنفسنا،

أصبحنا بلا وعي، مصر كانت منبع الفنون والحضاره والعلم،

كيف عادت إلى الجاهليه،،


وفي القصيدة الأولى وهي مفتتح الديوان

حين تتاملها، تطرح هذه الأسئلة

ما هو الأمل في الحاضر؟؟

هل الماضي سيظل علامة في أجسادنا ؟؟؟؟

أم أنتم السبب في ذلك؟


"إن الخداع ابن الثقه العمياء والثقه العمياء هي ابنة الحاجه"

لذلك يصرخ الشاعر، في عنوان القصيدة "الزمن الذي ولى"

يتأمل جرحا عميقا لا زال أثره يؤلمه

وفي ذات الوقت يشعر بخيبة الامل بعد صراعه العنيف مع الماضي

وأرهقته المقاومة


" لا أملكُ إلا بعضَ النغم، وبعضَ ذاكرة"


لا يستطيع شاعرا كان أو أديبا أن يكتب هذه الكلمات إلا بعد أن فشل في تغير الواقع الرديء وهو صاحب المشاعر النقية

حين تصطدم بالواقع تصبح بلا روح. 

ويشعر الشاعر بالإنكسار الشديد عندما وضع ثقته في مجتمع أخرس وبيئه صماء، لا تسمع، لا تري

كل ما تنتجه، عناصر سلبية

وعندما أدرك الشاعر أن هذا غير طبيعي وجد نفسه يدور في فلك السريالية، 

والانسان المدرك الواعي يجد أن المشاعر والعواطف لها قداستها. 


واستعرَض الرغبه القاتلة

عندما قال:

" - تفاحه محنطة علي قضمة إنسان يضحك.. 

- شفة فتاة سمراء جميلة لم تذق الروج أبدا..

- كأس مقدسة بها قليلُ نبيذٍ مُشتهى.."


رغم هذه المعاناة في سبيل الحب سقط في الهاويه العبثية وهو يضحك،

رغم أنه لم يحصل عليه

وهي مضادة لصورة آدم وحواء. 


لماذا سقط الشاعر في عالم لم يره؟

وهذا ما يدل عليه عنوان الديوان"حكايه سرياليه"

… 


الليالي المضيئه بالوجع والواحا فنيه تمثل الوجوه التي ولدتني. 


كانوا يضفرون احدا النجوم في اعصاب اللهب

حيث اشتعلت النار في كوني واحرقتهم جميعا. 


هل الانسان يبقى بالفطره؟

أم بوعي الكتب المقدسه التي صارت في عقول الذئاب البشريه؟

ام بالفكر والثقافة منذ أن كُفِنَت على أيدي حاملها؟

ام في رجال الدين الذين نضجوا من هذه الدائره؟


وتكتمل الحكايه في آخر قصائد الديوان

"سلاسل واساور"

حيث تحرر الشاعر عندما قال: 

"إنني أُحبُ الحريةَ واعلمُ أَنَّهَا لُبُّ الحياة،

لكن لا أدرِي لماذا يُكَبَّلُ قلبي بكلِّ تلكَ السلاسلِ والأساوِر"


تمرد شديد وعدم اعترافه بهذه الدائرة

لكن هل هو يتحرر من عبودية الاله؟ام عبودية الاخر؟


وعندما استعمل آدم المعنى اصبحت البشرية في متاهة المعنى. 

اصبح التفسير في هذه الدائره مغلق ومتكرر حتى الان

يتكون من مبادئ وعناصر مختلفه مضادة بعضها لبعض

هل في الحقيقه يوجد حريه؟

ولكن ولدت لأموت وأموت لأحيا

وبعد الموت هل أمارس الحريه؟


حيث ادهشني الشاعر عندما قال:

"أنَا ما قصدِي 

إلا أَن تطولَ القصيدةُ في الحكاية

لا أن أصِلَ لبابَ الختام." 

هل يقصد الشاعر الرحله أهم من الهدف،

ويبقي الانسان باحث عن المعنى؟


أهنيء أخويا وصديقي الشاعر خليل الشرقاوي

وأتمنى له مزيدًا من الإبداع والتجلي. 


................................................................................................

وتوالت المداخلات والقراءات النقدية من الشاعر الدكتور صلاح الطاهر، الشاعر والمترجم السيد النماس، الشاعر إبراهيم حامد رئيس مجلس إدارة اتحاد كُتّاب الشرقية ومحافظات القناة وسيناء، الأديب أحمد عبده، الدكتور صادق النجار، الأديب ياسر عبدالعليم، القاصة زينب عامر، الشاعر عاطف رشيدي، أ . خالد عبدالله، دكتورة هدى عبدالسلام، المبدعة زهرة عاطف، وكاتب هذه السطور، والشكر كل الشكر للسيدة سمر أمينة المكتبة والأستاذة علا السعودي مشرفة نادي الأدب. 


شوقي دلال رئيس “جمعية محترف راشيا” إلتقى نقيب المهندسين فادي حنا وقدم له المشروع الوطني للحفاظ على العمارة التراثية في لبنان


إلتقى اليوم "امين عام تجمع البيوتات الثقافية في لبنان" رئيس "جمعية محترف راشيا" شوقي دلال نقيب المهندسين في لبنان فادي حنا وبحضور المهندس غازي غصن في راشيا الوادي 

دلال رحب بنقيب المهندسين فادي حنا وبوفد نقابة المهندسين حيث "شرفونا في راشيا وهي زيارة نحن سعداء بها لما تشكل نقابة المهندسين من مدماك اساسي في تجميل البلدات اللبنانية إضافة الى دورها في الحفاظ على تراثنا،. واضاف دلال " يسعدني ان أقدم اليوم مشروع "جمعية محترف راشيا" الوطني للحفاظ على العمارة التراثية في لبنان وهو مشروع قمنا بتقديمه الأسبوع الفائت لوزير الثقافة الدكتور غسان سلامة والذي أبدى كل إستعداد لإنجاحه حيث يشمل خطة وطنية للحفاظ على تراث بلداتنا وقرانا في لبنان والذي نراه يتداعى كل يوم، وها نحن اليوم نضع هذه الخطة بين ايدي نقيب المهندسين الاستاذ فادي حنا ونحن على علم ان المشروع سيلاقي اهتمام كبير من قبل النقيب والنقابة".

من جهته شكر النقيب حنا دلال على ما قدمه لنا من إصدارات "جمعية محترف راشيا" والخطة الوطنية التي اعدتها الجمعية واعداً ان يكون لهذا الموضوع إهتمام خاص في النقابة حيث سيكون لنا إجتماعات متتالية في الاسابيع المُقبلة لدراسة كيفية إنجاحها بالتعاون مع وزارة الثقافة والبلديات والجهات المعنية".

وفي الختام قدم دلال إصدارات الجمعية لحنا كما جال على بعض البيوت التراثية في راشيا والتي بحاجة للترميم.


“رجال للحب فقط” جديد الكاتبة وفاء شهاب الدين



عن دار اكتب للنشر والتوزيع بالقاهرة صدرت الطبعة الثالثة من المجموعة القصصية “رجال للحب فقط” للكاتبة وفاء شهاب الدين، بعد النجاح الكبير الذي حققته المجموعة في طبعاتها السابقة، والإقبال الواسع الذي لاقته من القراء والنقاد على حد سواء.

 “رجال للحب فقط” ليست مجرد مجموعة قصصية تقليدية، بل هي تجربة إنسانية تتناول بجرأة وصدق عوالم المرأة والرجل في لحظات الضعف والقوة، والحب والفقد، والحلم والانكسار. ومن خلال قصصها، تفتح الكاتبة نوافذ على أعماق النفس البشرية، لتقدم شخصيات حقيقية نابضة بالتفاصيل، تتأرجح بين الرغبة في الاحتواء والخوف من الخيانة، وبين التعلق بالأمل والانكسار أمام الواقع.

وقد تميزت المجموعة منذ صدورها الأول بلغتها الأدبية الرشيقة، وبناءها السردي المتماسك، وجرأتها في طرح قضايا اجتماعية وعاطفية قلّما يتم التطرق إليها بهذا العمق. وهو ما جعلها تحصد إشادة نقدية واسعة، وتصبح واحدة من أبرز المجموعات القصصية التي تركت أثرًا في المكتبة العربية.

الكاتبة وفاء شهاب الدين من الأصوات الأدبية البارزة في الساحة الثقافية المصرية والعربية، وقد عُرفت بإصداراتها الروائية والقصصية التي لاقت اهتمامًا نقديًا وجماهيريًا، حيث تمتاز أعمالها بطرح موضوعات شائكة بلغة سلسة ورؤية إنسانية عميقة.

وفي تعليقها على صدور الطبعة الثالثة، تقول الكاتبة وفاء شهاب الدين:

“شعوري لا يوصف وأنا أرى مجموعتي (رجال للحب فقط)  والتي هوجمت كثيرا بسببها تصل إلى طبعتها الثالثة. هذا الكتاب يحمل جزءًا كبيرًا من روحي وتجربتي مع الكتابة، وسعادتي الحقيقية تكمن في أن يجد القارئ نفسه بين سطور هذه القصص. أهدي هذه الطبعة لكل قارئ منحني ثقته، ولكل عاشق للكلمة الصادقة، وأتمنى أن تظل المجموعة قادرة على لمس القلوب كما فعلت منذ صدورها الأول.”

من أجواء المجموعة "لم يسبق لي من قبل أن التقيت بامرأة شديدة القوة، شديدة الضعف، متطرفة في الحب وعادلة مثلك .

كنت أبغض المرأة متقلبة المشاعر، لكن تقلب أحاسيسك أغرقني في بحر طيبتك . كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها ضعفاً أنثوياً يضاهي في قوته قوة أعتى الرجال، وتلك القوة التي تجبر أقسى الرجال على رفع القبعة أمامك.

اعذريني يا ضوء حياتي ، كنت أحيا قبل معرفتك بعالم هجرته المشاعر وخاصمته الأحاسيس، عالم يبعد بعد السماء عن عالم الحب، أسكن بين أحضان امرأة أحترمها ولكن مشاعري نسيت كيف يمكن أن تتواصل معها ،امرأة – على –

 الرغم من صدقها إلا أنني علمت مشاعري الكذب حتى أرضيها، امرأة كانت خطيئتها الأولى هي حبها لي وثقتها بي".


"من غزة إلى الشتات... 'نقش فلسطيني' يجمع أطياف الشعر"


تقرير: فراس حج محمد (خاص)

صدر مؤخراً عن دار الرعاة للدراسات والنشر في رام الله للناقد الفلسطيني رائد الحواري كتاب جديد بعنوان "نقش فلسطيني"، يدرس المؤلف فيه أدب أربعة من الشعراء، وهم مأمون حسن (الأردن)، وجواد العقاد (غزة)، وصلاح أبو لاوي (الأردن)، وسامي عوض الله البيتجالي (الولايات المتحدة الأمريكية)، ويقع الكتاب في (251) صفحة.

إن عملية جمع هذه الأطياف المتنوعة من الشعراء تحت عنوان واحد هو عمل يتجاوز مجرد التحليل الأدبي. فالعنوان "نقش فلسطيني" يمثّل استعارة ذات دلالة فنية وتاريخية لعملية تثبيت وتوثيق الوعي والهوية في وجه محاولات الطمس والتشرذم. عندما يقوم الناقد بربط تجربة شاعر شاب من غزة، التي تعيش ويلات الحرب، بشاعرين من الأردن وآخر من الشتات، فإنه يؤكد أن الهوية الفلسطينية هي نسيج واحد يمتد عبر الزمان والمكان.

استمد المؤلف عنوان كتابه من إحدى قصائد الشاعر صلاح أبو لاوي، ويقول في مقدمته عن ذلك: "اخترت عنوان إحدى قصائد الشاعر صلاح أبو لاوي، ورأيت أنها تمثل ما يحتويه الكتاب من التفات إلى شعر وتجارب تأخذ حضورها عبر فلسطين والقضية والوعي لتنقش على صفحة الإبداع موقفا والتزاما ورؤية ميزت الشعراء موضوع هذا الكتاب". 

يخصص الكتاب فصله الأول لقراءة مجموعة من نصوص الشاعر مأمون حسن (1953)، المولود في مدينة الزرقاء الأردنية، ويقف عند اثني عشر نصا شعريا ونثرياً موزعة ما بين القصيدة والومضة والقصة، في حين اشمل الفصل الثاني على ستة عشر قراءة لأدب الشاعر جواد العقاد (1998) ابن قطاع غزة الذي بقي فيه رغما عن الحرب المستعرة منذ أكتوبر 2023، فتناول ديوانين من دواوين الشاعر، وكتاب تأملات في الصوفية الجمالية، وثلاثة عشر نصا آخر موزعة ما بين القصة والقصيدة.

أما الشاعر صلاح أبو لاوي (1963) المولود في الأردن، فيخصص له الحواري الفصل الثالث بواقع عشر وقفات تحليلية تتناول ديوانين من دواوين الشاعر ومجموعة من قصائده الثورية المقاومة، ليختتم الكتاب بالفصل الرابع المشتمل على ثماني قراءات في شعر سامي عوض البيتجالي (1955) المولود في مدينة بيت جالا الفلسطينية، وتناول المؤلف فيه ديوانا من دواوين الشاعر وسبع قصائد أخرى له.

تتنوع التجارب الأدبية للشعراء في قراءات هذا الكتاب، فجمع ما بين قراءة أدب الجيل الجديد الشاب المتمثل في الشاعر والكاتب جواد العقاد، وما بين أدب جيل السبعينيات والثمانينيات الشعري، إضافة إلى التنوع الجغرافي، ما بين الأردن وغزة، والشتات؛ حيث يقيم الشاعر البيتجالي. هذان المحددان: الزمني والمكاني يمنحان الكتاب تنوعا في رصد التجربة الشعرية وحساسياتها الفنية إضافة إلى تنوع النصوص ما بين النثر والشعر وما بين الديوان والنص المنفرد، وما بين الومضة والقصة القصيرة.

إن هذا الاختيار يثبت أن الشعر الفلسطيني مرآة تعكس تجربة الإنسان الفلسطيني بكل تعقيداتها وتشعباتها. إذ لا يقتصر هذا العمل النقدي على التحليل الفني للنصوص، بل هو أداة لحفظ وتوثيق الذاكرة والتجربة الوطنية. إن "النقش" على "صفحة الإبداع" كما يصفه الحواري في مقدمته، هو بمثابة تخليد للتجربة الفلسطينية في مواجهة محاولات طمسها، مما يمنح الكتاب بعدًا أعمق من كونه عملا نقديا تحليلياً.

ويمتاز أسلوب الناقد الحواري في هذا الكتاب بالتحليل النصي والكشف عن جماليات النصوص الأدبية وما تختزنه من طاقة شعرية وفنية، مهتماً بدلالة الألفاظ في سياقاتها وتعبيرها عن المضمون، عدا أن الناقد نوّع في اختياراته للنصوص والكتب المدروسة ما بين النص الوطني والوجداني، هذا التنوع يؤكد أن الشعر الفلسطيني ليس أحادي الوظيفة، بل يتعدد في مجالات الصراع من أجل البقاء والنضال، ومن أجل الحرية، ومناقشة المشاعر الإنسانية الداخلية والتأملات الجمالية.

إن قوة الشعر الفلسطيني تكمن في قدرته على الجمع بين الأبعاد الوطنية والفنية، وهو ما سعى الناقد إلى إبرازه. إن الشعر هنا يعمل كوثيقة تاريخية وفنية في آن واحد، فهو يروي التاريخ من خلال تجارب الأفراد، ويخلد هذه التجارب في قالب فني رفيع.

ومن جانب آخر، يُعدّ كتاب "نقش فلسطيني" بحد ذاته مشروعًا نقديًا مهمًا يجمع بين الأدب والمقاومة والتوثيق، ويعزز فكرة الهوية الفلسطينية الموحدة عبر تنوعها الجغرافي والأجيالي. إن هذا العمل النقدي يسهم في تخليد الوعي الفلسطيني عبر الإبداع، مما يجعله إضافة حقيقية إلى المكتبة النقدية العربية والفلسطينية، لما له من دور في سد الفجوة النقدية في تناول هذه الأصوات الشعرية من خلال تقديمه مقاربات تحليلية جديدة، وكونه أول عمل نقدي يجمع تجارب هؤلاء الشعراء في عمل واحد ما يتيح المقارنة بين هذه الأصوات في الشكل الفني والموضوع المطروح، فقد حرص الناقد أن يوفر النصوص المدروسة لتكون بين يدي القراء والنقاد أيضاً، فيقدم الكتاب مع النظرة التحليلية النقدية النصوص نفسها، ليتيح للآخرين إبداء رأيهم في تلك النصوص، ولتشكل معا، ما يشبه الأنطولوجيا المصغرة لأدب هؤلاء الشعراء، وعزز هذين الأمرين بسيرة إبداعية مختصرة لكل شاعر من هؤلاء الشعراء. وبذلك يكون الكتاب قد وضع خطوطا عامة حول أدب هؤلاء الشعراء، تساعد الباحثين في دراساتهم المنهجية لأدب هؤلاء الشعراء.  

 


مجلّة إيلاف الباريسيّة تكتب عن (مِحور مائِل) للشاعر شوقي مسلملني


 الحادثة الأليمة التي تعرّض لها الشاعر اللبناني شوقي مسلماني والتي أدّت إلى ثلاثة كسور في عموده الفقري لم تمنعه من مواصلة إصداراته، فها هو ديوانه "محور مائل" يصدر لدى دار الغاوون في بيروت متابعاً فيه صنيعه الخاصّ في بناء القصيدة الطويلة الغنيّة بالتأويل والتي لا تعود كائناً واحداً ذا ملمح واحد ولا إملاءً من الشاعر على قارئه كما يقول الشاعر وديع سعادة عن تجربة مسلماني. 

من الكتاب نقرأ: "كان يكرِّر \ أنّه أكثر ما يكون مطمئنّاً \ عندما يكون وحده، \ المفارقة أنّ الحدود ليس لها حدود، \ يخرج فيدخل ويدخل فيخرج، \ الجَمال أن يُفسح قلبٌ أمام قلب، \ القلب شساعة فيها زهور، \ فيها أشواك، فيها شجر جوز \ وبندق وسرو ونخيل وأكاسيا، \ الجَمال روح تمسّها روح نبيل، \ كلامٌ هذا الصمت، \ أكثر العيون لا تسمع، \ أكثر الآذان لا ترى، \ أكثر المسير لا يصل \ وأكثر النقل بلا عقل". 

وشوقي مسلماني هو من مواليد 1957 ـ كونين جنوبيّ لبنان. صدر له في الشعر:"أوراق العزلة"  (1995) ، "حيث الذئب" (2002)، "مَن نزعَ وجه الوردة"؟  (2007)، "لكلّ مسافة سكّان أصليّون"  (2009)، وغيرها.  

أدناه من المجموعة: 

"كان يقول: إنّها تجارة، \ كان يقول: سطْوٌ مسلّح تمارسه أمم، \ كان يقول: يوجد أناس أدمغتهم عَلَق، \ كان يقول: أكره ما يكره المفاجأة السيّئة، \ المفاجأة بقلّةِ الأمانة، \ بقلّةِ الشهامة، بكثرة الإرتداد، \ المفاجأة أن تنظر إلى النسر فإذا هو دجاجة، \ المفاجأة أن تنظر إلى الحمل فإذا هو ذئب، \ المفجأة أن تنظر إلى الأسد فإذا هو فأر، \ المفاجأة أن تنظر إلى وجهٍ شفّافٍ فإذا هو وجه غليظ، \ والمفاجأة أنّه لا يزال يتفاجأ".  

..

"مقارنة بينه وبين القمر، كلاهما منير، لطيف وحالِم،  \ مقارنة بينه وبين النجمة، هي بعيدة وهو بعيد،  \ مقارنة بينه وبين البرق والرعد، مثلهما هو يشرقط ويهدر، \ مقارنة بينه وبين التمساح، معاً يشقِّفان الضحيّة،  \ مقارنة بينه وبين العقرب، العقرب يلدغ مثله، \ أذهله الشبه في التقاسيم الداخليّة".  

..

"الساكن يبدو ثابتاً \ لكن في الواقع هو متحرّك بأسلوبه، \ بعقليّته، بغريزته، هذه بديهة، \ وفي الوقت ذاته ليست بديهة،  \ قيل: "حتى الكلاب إذا رأته عابراً، \ نبحت عليه وكشّرت أنيابها"، \ قيل: بعضه أقبل مشرِقاً وبعضه آفلاً معتماً، \ قيل: بعضه اختنق صوته، امّحى أثرُه، وبعدُ منه حجر، \ قيل: بعضه وحده على مسافة مئات ملايين الأميال مِن كوكبنا \ يصطاد بقصبةٍ مِنْ ضوء تنهيدةً في نهرِ يابس، \  قيل: بعضه عند قمّة جبل شاهق،  \ ولكي يطلعَ الفجرُ مطمئنّاً، يقف شامخاً كتمثال، \ وقيل: شجرةَ تفّاح سرقتْ تفّاحته الوحيدة".  

..

"رأيتُه يرى المساحة الخضراء، \ رأيتُه يرى المساحة الرماديّة، \ رأيته لا يرى المساحة، رأيته تحت المساحة، \ رأيته يحرث ويبذر في المساحة، \ رأيته يحبّ ويرى الزهور والورود \ ويصغي لشدوِ الطيور عندَ المساحة، \ رأيتُه هو الكلّ".  

..

" ولكلِّ مقامٍ مقال أم لكلِّ مقالٍ مقام؟، \ ولكلّ زمان عقل أم لكلِّ عقلٍ زمان؟، \ وكلُّ حيّز له حركة أم كلّ حركة لها حيِّز؟، \ وحياةٌ لكلِّ مسافة أم مسافة لكلِّ حياة؟، \ ودمعة في كلّ عين أم عين في كلّ دمعة؟، \ وكلّ جسم في رحيل أم رحيل في كلّ جسم"؟.  

..

"ليس أن تصعد إنّما كيف؟، \ وعلى سلّم عظام وجماجم \ أم على سلّم موسيقى الحب"؟.  

..

"والمحوَرُ مائل، \ والأرضُ تدور". 

ـ نقلاً عن مجلّة إيلاف الباريسيّة


الفن والحياة في كتاب "الصوت الندي: تأملات في الأداء والأغاني"


 رام الله–18 أغسطس 2025 

في زمن تتسارع فيه الأزمات السياسية والاجتماعية في العالم العربي، يأتي كتاب "الصوت الندي: تأملات في الأداء والأغاني" للكاتب والشاعر الفلسطيني فراس حج محمد كملاذ ثقافي يعيد النظر في دور الغناء كأداة للحفاظ على الذاكرة الجماعية والتعبير عن الهوية الوطنية. 

صدر الكتاب مؤخراً عن دار الرعاة للدراسات والنشر في رام الله ودار جسور ثقافية في عمّان، ويقع في 253 صفحة من القطع المتوسط، مع غلاف فني مصمم بواسطة ابنة المؤلف، الفنانة ميسم فراس. الكتاب مهدى إلى حفيدة الكاتب "زينة"، التي ألهمته لاستكشاف عالم الأغاني كجزء من التراث الإنساني. 

فراس حج محمد، المولود في نابلس عام 1973، عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين وحاصل على ماجستير في الأدب الفلسطيني، يُعد من الأصوات البارزة في الأدب المعاصر. له أكثر من 42 كتاباً، بما في ذلك دواوين شعرية ودراسات أدبية، ويتميز بقدرته على ربط الشعر بالحياة اليومية. 

في هذا الكتاب، يعكس تجربته الشخصية كشاعر وجد وغزل، مستلهماً ذكريات طفولته المرتبطة بأصوات فيروز وأم كلثوم ونجاح سلام، ليبني تحليلاً ثقافياً يجمع بين العاطفة والنقد. 

ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول تُسمى "مقامات"، مستوحاة من التراث الموسيقي العربي، ويبدأ بتأملات شخصية حول الغناء كذاكرة. يصف حج محمد كيف شكلت أغاني أمه ووالده وجدته وعيه الثقافي، معتبراً الغناء وسيلة لحفظ الذاكرة الجماعية، خاصة في سياقات وطنية مثل أغاني أم كلثوم بعد نكسة 1967، حيث دعمت المجهود الحربي وأصبحت رمزاً للصمود. 

يؤكد العلاقة التاريخية بين الشعر والغناء، مستشهداً بقول حسان بن ثابت: "الشعر ديوان العرب"، ويشارك تجربته في كتابة نصوص شعرية صالحة للتلحين، مثل ديوان "نفسي غني" وأناشيد الأطفال. 

في الكتاب، يخصص مساحة كبيرة لأيقونات الطرب العربي. يصف أم كلثوم بـ"ظاهرة فنية فريدة"، مشيراً إلى تفاعل جمهورها المثقف، وينتقد تقطيع أغانيها على وسائل التواصل الاجتماعي، معتبراً ذلك تشويهاً للتراث. يستشهد بآراء إدوارد سعيد ومحمود درويش حول أهميتها، ويمدح فيروز كصوت يعبر عن الجمال والألم الإنساني والفلسطيني. كما يدافع عن الأغنية الشعبية الأردنية، مثل أغاني سميرة توفيق، وإدراجها في المناهج التعليمية لتعزيز الهوية الوطنية، وينتقد الهجمات عليها كمحاولة لمحو التراث الشعبي. 

أما النقد التربوي، فيبرز في انتقاد حج محمد لإدراج قصيدة "أنا وليلى" لحسن المرواني في المناهج الفلسطينية، معتبراً إياها غير صالحة تربوياً بسبب محتواها العاطفي المفرط، ويقترح معايير جديدة لاختيار النصوص التعليمية. يطرح فكرة استخدام الأغاني في التدريس، مثل تعليم النحو عبر الأغاني، لتعزيز الذكاء الموسيقي لدى الطلاب.  

يرى حج محمد في الغناء ملاذاً إنسانياً يعزز الأمل والصمود. ينتقد تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الذائقة الجماهيرية، معتبراً إياها تغيرت نحو السطحية، ويربط الغناء بالرسالة الوطنية التي تعبر عن هموم الشعب وآماله. كما يذكر أسماء فنانين آخرين مثل أليسا، ميادة الحناوي، وكاظم الساهر، ليبرز تنوع الأغاني السياسية والشعبية. 

في منشوراته على منصة X، يروج حج محمد للكتاب بحماس، مشاركاً فهرسه وصور غلافه، مما يعكس شغفه الشخصي. النقاد يصفون الكتاب بأنه "عمل يجمع بين العاطفة والتحليل"، ويُتوقع أن يثير نقاشات حول دور الفن في التعليم والمقاومة الثقافية. 

بهذا الكتاب، يثبت فراس حج محمد أن الغناء له مهمات أخرى غير الترفيه، فهو جزء أصيل من الهوية العربية، يربط الماضي بالحاضر ويواجه العتمة بالنور. يتوفر الكتاب في المكتبات الفلسطينية والأردنية، وسيكون متوفرا في معرض عمان الدولي القادم للكتاب في جناح دار جسور ثقافية ودار الرعاة، ومن المتوقع كذلك صدوره بصيغة إلكترونية في فترة لاحقة من هذا العام.


بالفيديو: رسالة شكر مؤثرة من أطفال غزة للدكتور أحمد البوقري على دعمه الإنساني – منظمة الدرع الدولية



 

نفذت منظمة الدرع الدولية – مفوضية فلسطين نشاطًا إنسانيًا وإغاثيًا في أحد مراكز إيواء النازحين في قطاع غزة، استهدف أكثر من 500 عائلة نازحة من شمال وشرق القطاع، ضمن برامج الاستجابة السريعة التي تقوم بها المنظمة للتخفيف من معاناة المدنيين في ظل الحرب والحصار المستمر.

تخلل النشاط توزيع مساعدات غذائية أساسية، في محاولة لتأمين الحد الأدنى من الاحتياجات اليومية للأسر النازحة، خاصة الأطفال الذين يعيشون ظروفًا قاسية.

جاء هذا المشروع بدعم كريم من الدكتور أحمد البوقري، ابن الحرمين الشريفين وسفير منظمة الدرع الدولية، مستشار العلاقات الدولية في اتحاد الصحافيين والكتاب الدولي الذي عبّر عن تضامنه الكامل مع الشعب الفلسطيني في غزة، مؤكدًا أن هذه المبادرات الإنسانية تمثل الحد الأدنى من الواجب تجاه الأطفال الذين فقدوا الأمان والمأوى.

من جهتها، أكدت منظمة الدرع الدولية استمرارها في دعم المتضررين، والتعاون مع الجهات المحلية والدولية لضمان وصول المساعدات الإنسانية، مجددة دعوتها للمجتمع الدولي لتحمّل مسؤولياته ورفع الحصار عن غزة.

شكرُ أطفال غزة في هذا الفيديو لم يكن مجرد كلمات، بل صرخة أمل ونداء للإنسانية جمعاء.


https://youtu.be/_nmqpqcjS28?si=R9aGEVG4qqmr_6AW

مَفَاتِيحُ السَّمَاءِ للشَّاعِرِ: وَهيب نَديم وَهبة



كلمة الشَّاعِرة والمُترجِمة تغريد بو مرعي*

عن تَرجَمة "مفاتيح السَّماء" للُّغةِ الإيطاليَّة:


منذُ الأزل، كان الشِّعرُ نافذةَ الإنسانِ نحوَ عَوالِمَ تتجاوَزُ حُدودَ الواقعِ المَلموسِ، وجِسرًا يعبُرُ به نحوَ أَعماقِ ذاتِهِ وروحِهِ. إنَّه الفنُّ الذي ينسِجُ الكلماتِ لتُصبحَ صَدىً للمَشاعِر، ومِرآةً للتَّجاربِ الإِنسانيَّةِ في أَبهى صُوَرِها. ومن بينِ أشكالِ الشِّعرِ المُتعدِّدَة، يَبرُزُ الشِّعرُ الرُّوحيُّ أو الصُّوفيُّ كصوتٍ داخليٍّ يبحثُ عن الحقيقةِ الأسمى، عن النُّور في قلبِ العتمةِ، وعن المعنى في خِضَمِّ الفَوضى.


الشِّعرُ الرُّوحيُّ ليسَ مجرَّدَ كلماتٍ تُرتَّبُ في قَوالِبَ جَماليَّةٍ، بل هو تجربَةٌ وجُوديَّةٌ عميقةٌ، تعكسُ رحلةَ الشَّاعرِ نحوَ فهمِ الذَّاتِ والكونِ والخالقِ. إنَّه تأمُّلٌ في الحياةِ والموتِ، في الفقدِ والرَّجاءِ، وفي اللِّقاءِ مع الذَّاتِ العُليا التي تتخطَّى الجسدَ والمادَّةَ. أمَّا الشِّعرُ الصُّوفيُّ، فهو ذلك النَّوعُ الذي يغوصُ في بحرِ التَّصوُّفِ، حيثُ يتحوَّلُ الشَّاعر إلى سَالِكٍ في طريقِ العشقِ الإلهيّ، مُتجرِّدًا من الأنا، ومُتَّحِدًا مع المُطلَقِ. في هذا السِّياقِ، لا تعودُ القصيدةُ مُجرَّدَ نصٍّ يُقرأ، بل تصبحُ تجربةً تُعاشُ وتُحَسُّ، رحلةً نحوَ المُطلقِ لا تعترفُ بالحدودِ الزَّمانيَّةِ أو المكانِيَّةِ.



مفاتيحُ السَّماءِ، للشَّاعرِ وهيب نديم وهبة، هو عنوانٌ يفتحُ أمامَ القارئِ آفاقًا لا متناهيَةً من التَّأمُّلِ والرُّوحانِيَّةِ. إنَّه ليسَ مُجرَّدُ ديوانٍ شعريٍّ، بل دعوةٌ لاكتشافِ الذَّاتِ والعالمِ من مَنظُورٍ أسمى، حيث الكلماتُ تتحوَّلُ إلى مفاتيحَ تفتحُ أبوابَ السَّماءِ، وتُحرِّرُ الرُّوحَ من قُيودِ الأرضِ. الشَّاعرُ وهيب نديم وهبة استلهَمَ قصيدَتَهُ هذه من الإنجيلِ المُقدَّسِ، مُستحضِرًا روحَ النُّصوصِ المُقدَّسَةِ في تَأمُّلاتِهِ الشِّعريَةِ. فكلُّ بيتٍ من أبياتِ القصيدةِ يَنبضُ بحكمةٍ روحيَّةٍ، ويمتدُّ بجذورِهِ إلى عمقِ التَّجربَةِ الإنسانيَّةِ مع الإيمانِ والخلاص.

من الجميلِ أن نرى مثل هذه الأعمالِ الأدبيَّةِ تتخطَّى حُدودَ اللُّغةِ الأصليَّةِ لتصِلَ إلى قُلوبِ قُرَّاءٍ من ثقافاتٍ مختلفةٍ. التَّرجمَةُ ليسَت مجرَّدَ نقلِ كلماتٍ من لغةٍ إلى أخرى، بل هي جسرٌ يمتدُّ بين الشُّعوبِ، وحوارٌ صامتٌ بين الثَّقافاتِ. في هذا السِّياقِ، جاءت ترجمَةُ مفاتيحِ السَّماءِ إلى اللُّغةِ الإيطاليَّةِ كخطوةٍ نحوَ توسيعِ دائرةِ الضَّوءِ التي تشِعُّ منها هذه القصيدةُ، لتِصلَ إلى قرَّاءٍ يتشاركونَ نفسَ التَّوقِ إلى الفهمِ الرُّوحيِّ، حتّى وإن اختلفَت لغاتُهم.


لقد آمنتُ، أنا تغريد بو مرعي، وأنا أترجمُ هذه القصيدةَ إلى الإيطاليةِ، أنَّ اللُّغةَ هي مفتاحُ القلوبِ، وأنَّ نقلَ روحِ القصيدةِ يتطلَّبُ أكثرَ من مجرَّدِ فهمٍ للكلمات. 

كان عليَّ أن أحافظَ على النَّغمةِ الدَّاخليَّةِ للنَّصِّ، على عُمقِهِ وتأمُّلاتِهِ، دونَ أن أفقِدَ تلك الشَّرارةَ التي تجعلُ القصيدةَ تنبضُ بالحياةِ. كان التَّحدِّي يكمُنُ في نقلِ ليسَ فقط المَعنى، بل الإحساسِ، ذلك الشعورِ الغامرِ الذي يترُكهُ النَّصُّ في قلبِ قارئِهِ. وقد سعَيتُ بكلِّ إخلاصٍ لأن تظلَّ الرُّوحُ الشَّاعريَّةُ حاضرةً بقوَّةٍ، كما أرادها الشَّاعرُ، حتّى في ثوبِها الجديدِ.


الشِّعر، في جوهرِهِ، هو لغةٌ كونيَّةٌ. رغمَ اختلافِ الألسِنَةِ واللَّهجاتِ، تبقى المَشاعرُ الإنسانيَّةُ هي الرَّابطُ الذي يجمعُنا جميعًا. الحُبُّ، الفَقدُ، الرَّجاءُ، والبحثُ عن المعنى، هي تجاربُ مشتركةٌ بين البشرِ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ. 


وعندما نُترجمُ نَصًّا شعريًّا، نحن لا ننقلُ مجرَّدَ حروفٍ، بل نَحمِلُ جزءًا من هذه التجربةِ الإنسانيَّةِ إلى قلوبٍ جديدةٍ. وهذا ما يجعلُ التَرجمةَ عملًا إبداعيًّا بِحدِّ ذاته، يتطلَّب حساسيَّةً شعريَّةً وفهمًا عميقًا للثَّقافتَينِ: الأصليَّةِ والمُستقبِلَةِ.

إنَّ مفاتيحَ السَّماءِ ليست فقط قصيدةً تُقرأ، بل هي دعوةٌ للتَّأمُّلِ والتَّفكُّرِ. عنوانُها وحدَهُ يحمِلُ دلالاتٍ عميقةً، فهو يوحي بأنَّ هناكَ أبوابًا مغلقةً تنتَظِرُ أن تُفتحَ، وأنَّ هناك عالمًا روحيًّا ينتظرُ من يكتشفَهُ. إنَّها تُذكِّرُنا بأنَّ السَّماءَ ليست بعيدةً، وأنَّ مفاتيحَها قد تكون كامنةً في داخلِنا، في قلوبِنا وعقولِنا. القصيدةُ تحملُ القارئَ في رحلةٍ روحيَّةٍ، تتنقلُ بين الأرضِ والسَّماءِ، بين الواقعِ والحلمِ، بين الألمِ والأملِ.


في زمنٍ يطغى فيه الصَّخبُ وضجيجُ الحياةِ اليوميَّةِ، تأتي هذه القصيدةُ كفسحةٍ للتَّأملِ، كمساحةٍ للهدوءِ والسَّكينةِ. إنَّها تذكِّرُنا بأهمِّيَّةِ العودةِ إلى الذَّاتِ، إلى جوهرِنا الحقيقيِّ، بعيدًا عن المظاهرِ والضوضاءِ. وفي هذا العالمِ المتغيِّرِ، تبقى مثلُ هذه الأعمالُ الأدبيَّةُ شاهدًا على قدرةِ الإنسانِ على البحثِ عن النُّورِ في أحلكِ اللَّحظات.


مفاتيح السَّماءِ هو أكثرُ من مجرَّد نصٍّ شعريٍّ، إنَّه شهادةٌ على قوَّةِ الكلمةِ، وعلى قدرةِ الشِّعرِ على لمسِ الرُّوح. وهو أيضًا تذكيرٌ بأهمِّيَّةِ التَّرجمَةِ كوسيلةٍ لنقلِ هذه الرَّسائلَ إلى أبعدِ مدىً ممكنٍ. فكلُّ لغةٍ تضيفُ بُعدًا جديدًا للنَّصِّ، وتفتحُ له آفاقًا جديدةً من الفهمِ والتَّأمُّلِ. 

وأنا أُقدِّمُ هذه التَّرجمةَ للقارئِ الإيطاليِّ، أشعرُ بأنَّني أُسهمُ في بناءِ جسرٍ من التَّواصلِ بين الثقافات، جسرٍ يمتدُّ بينَ الشَّرقِ والغربِ، بين روحانيَّةِ النَّصِّ وأفقِ القُرَّاءِ المتنوّعين.

في النِّهاية، تبقى القصيدةُ تجربةً شخصيَّةً لكلِّ قارئٍ، يفسِّرُها ويفهمُها بناءً على تجاربِهِ وخبراتِهِ. ولكن، في جوهرِها، تظلُّ مفاتيحُ السَّماءِ دعوةً للبحثِ عن الحقيقةِ والجمالِ في عالمٍ مليءٍ بالتَّحدِّياتِ. إنَّها قصيدةٌ تحتفي بالإنسانيَّةِ، وتؤكِّد أنَّ الرُّوحَ قادرةٌ على التَّحليقِ، مَهما كانت القُيودُ التي تحيطُ بها.

بهذه الرُّوحِ، أُقدِّمُ ترجمةَ مفاتيحِ السَّماءِ إلى القارئِ الإيطاليِّ، على أملِ أن يجدَ في كلماتِها النُّورَ الذي وجدَهُ الشَّاعرُ، وأن يشعرَ بصداها العميقِ في قلبِهِ، كما شعرتُ به وأنا أنقلُها من لُغةٍ إلى أخرى.

لأنَّ الشعرَ، في النِّهايةِ، هو لغةُ القلوبِ، وجسرٌ يربطُ بين الأرواحِ، مهما اختلفَت الألسِنَةُ.


مَفَاتِيحُ السَّمَاءِ:

رِحلَةُ سَيِّدِنَا المَسِيحِ عَلَيهِ السَّلامُ، مِن أَرضِ كِنعَانَ إِلى أَرضِ الكِنَانَةِ، لِنَشرِ رِسَالَةِ اللهِ وَالعَدلِ وَالمَحَبَّةِ.

حَمَلَت المَفَاتِيحَ كَوكَبَةٌ مِن الأَسَاتِذَةِ الأُدَباءِ. المُقَدِّمَةُ الوَاسِعَةُ وَالعَمِيقَةُ: الأَدِيبُ نَايف خُورِي، قَصيِدَةُ "المَجدِ"، المُهدَاة للشّاعِرِ وَهِيب مِن الشَّاعِرِ وَالبَاحِثِ الدُّكتُور فَهِد أَبُو خَضرَة، وَكَلِمَةُ الأَديبِ وَراعِي الثَّقَافَةِ: نَاجِي نُعمَان لِلطَّبعَةِ الجَدِيدِةِ، مَع تَثبِيتِ كَلِمَةِ الطَّبعَةِ السَّابِقَةِ. ثُمَّ لَمحَةٌ مُختَصَرَةٌ عَن المُتَرجِمَةِ وَعن وَهيب وَهبة.

تُزيّنُ المَفاتيحَ لوحَةٌ بِريشَةِ قُدسِ الأب: سمير روحانا، كاتبِ الأَيقوناتِ وكاهنِ رَعِيَّةِ عسفيا للرُّومِ المَلَكِيينَ الكاثُوليك. وتَصميمُ المُبدعِ عمير الباشا. 

الكلمة للشاعرة المترجمة تغريد من الإيطالية الى اللغة العربية.

 الشَّاعِرةُ، المُترجِمَةُ: تَغرِيد بو مِرعِي:

لُبنَانِيَّةُ الجُذورِ. مُقيمَةٌ في البَرازيلِ. مَشهُورَةٌ على نِطاقٍ عَالَمِيٍّ في الشِّعرِ والأِدبِ والإعلامِ والتَّرجَمَةِ. تُتَرجِمُ مِن العَرَبيَّةِ ومِن اللُّغَاتِ الأِجنَبِيَّةِ الشِّعرَ والرِّوَايَةَ والأنْثُولُوجْيَا.

اللُّغاتُ: الإنجليزيَّةُ- الإيطالِيَّةُ- الإسبَانِيَّةُ- البُرتُغالِيَّةُ- الفَرنسِيَّةُ.

تَمّ تَسمِيَتهَا ضِمْنَ أبْرَز 20 صِحَفِيًّا دُوَلِيًّا مِن قِبَلِ LEGACY CROWN 

تَمّ تَسْمِيَتهَا ضِمْنَ أفْضَل 50 ٱمرَأة مِنْ آسْيا تَرَكْنَ أثَرًا فِي الأدَبِ الحَدِيث.

قَامَتْ بِترْجَمَةِ 36 كِتَابًا لِغايَة هٰذا ٱلتّارِيخ ومِئَاتِ القَصَائِد لِشُعَراء عَرَب وأجَانِب.


السخرية سلاح الأديب: تجليات النقد في الشعر الفلسطيني المقاوم


صدر حديثًا عن "ناشرون فلسطينيون" كتاب "السخرية في الشعر الفلسطيني المقاوم بين عامي (1948-1993)"، في طبعته الأولى لعام 2025 بصيغة إلكترونية (eBook)، لكاتبه الباحث والأكاديمي الفلسطيني فراس حج محمد. يقدم هذا الإصدار دراسة معمقة لظاهرة السخرية في الشعر الفلسطيني المقاوم، مسلطًا الضوء على دورها كسلاح أدبي في مواجهة الاحتلال والقهر. يمثل الكتاب إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية والفلسطينية، كونه يتناول جانبًا حيويًا من الأدب الفلسطيني لم يحظَ بالدراسة الشاملة التي يستحقها. 

رحلة البحث: دوافع وامتدادات زمنية ومكانية

يأتي هذا البحث ثمرة لجهد أكاديمي بدأه فراس حج محمد في دراساته الجامعية، متأثرًا بالروح الثورية المقاومة التي يتميز بها الأدب الفلسطيني. وُلدت فكرة البحث من اقتراح أستاذه الدكتور عادل الأسطة، الذي لاحظ بروز سمة السخرية في الأدب الفلسطيني عمومًا والشعر خصوصًا. وبناءً على ذلك، استقرت الخطة البحثية على التركيز على "السخرية في الشعر الفلسطيني المقاوم بين عامي (1948-1993)"، مستبعدًا النثر لوجود دراسات سابقة تناولت الكاتب إميل حبيبي أبرز الكتاب الساخرين في هذا المجال في ذلك الوقت.

يحدد الكتاب فترة زمنية محددة تبدأ من نكبة عام 1948 وحتى عام 1993، وهي فترة شهدت تحولات مفصلية في القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من وجود شعراء ساخرين قبل النكبة مثل إبراهيم طوقان، إلا أن البحث آثر التركيز على الفترة المحددة لتجنب التكرار، مع الإشارة إلى جهود الباحثين السابقين في هذا الصدد.

يتألف البحث من تمهيد وثلاثة فصول وخاتمة. يتوقف التمهيد عند مفهوم المقاومة في الأدب الفلسطيني والسخرية لغويًا واصطلاحيًا، وعلاقتها بالفنون الأدبية الأخرى. تتناول الفصول الثلاثة السخرية في الشعر الفلسطيني المقاوم في مراحل زمنية محددة: (1948-1967)، و(1967-1987)، و(1987-1993).

الأدب المقاوم والسخرية: مفهوم وتداخلات

يعتمد الباحث في تعريفه للأدب الفلسطيني المقاوم على رؤية غسان كنفاني، التي ترى فيه أربعة أبعاد رئيسية: البعد الوطني الثوري، والبعد القومي، والبعد الاجتماعي، والبعد الإنساني. هذا التعريف الشامل يؤكد أن أدب المقاومة يتجاوز مجرد المعارضة ليشمل فعل الصمود والتحدي والتعبير عن الوجود الفلسطيني بمختلف أبعاده.

أما السخرية، فينظر إليها الكتاب كجزء لا يتجزأ من الأدب الفكاهي، ولكنها تحمل دلالات أعمق تتجاوز مجرد الضحك. يوضح الباحث العلاقة المعقدة بين السخرية ومفاهيم أخرى مثل الفكاهة، والتهكم، والهجاء، والمفارقة. على الرغم من التداخلات، إلا أن لكل منها خصائصه المميزة. فالسخرية "طريقة في الكلام يعبر بها الشخص عن عكس ما يقصده بالفعل"، أو "الهزء بشيء ما لا ينسجم مع القناعة العقلية ولا يستقيم مع المفاهيم المنتظمة في عرف الفرد والجماعة".

يؤكد الكتاب أن السخرية فن أدبي رفيع يتطلب ذكاءً ومهارة فائقة، وتُعد من "أعسر الفنون الأدبية"، تنبع السخرية من انفعال الغضب وتحمل ميولًا عدوانية، مما يجعلها سلاحًا فعالًا في مقارعة المحتلين والظلم. كما أنها تتسم بالشجاعة والجرأة، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بأدب التحرر والثورة.

من الجوانب المهمة التي يتناولها الكتاب هي الطبيعة الاجتماعية للسخرية، حيث تُعتبر مرآة تعكس أحوال المجتمع وقيمه. فالساخر يتحدث بلسان المجتمع في نقده للسلوكيات المنحرفة، وهي "أقوى سلاح اجتماعي تحافظ به الجماعة على كيانها ومقوماتها المختلفة". كما أن السخرية تعكس أحوال الواقع، وتُعد فنًا واقعيًا ينبع من الملاحظة الخارجية بهدف نقد تصرفات الناس وسلوكياتهم.

يتطرق الكتاب أيضًا إلى وظائف السخرية على المستويين الاجتماعي والنفسي. فعلى المستوى الاجتماعي، تعمل السخرية كمصحح اجتماعي يحافظ على الاستقرار الفكري والعاطفي، وتحارب الرذيلة، وترسخ قيم العدالة. وعلى المستوى الفردي، تُؤدي دورًا صحيًا في حياتنا النفسية، وتُعد وسيلة للتهرب المؤقت من مشاغل الحياة، وتعيد الثقة بالنفس، وتقوي الروح المعنوية. كما أن الأدب الساخر يمتلك طاقة استنهاض وتحريض، ويزرع بذور الثورة في النفوس.

تُعد العلاقة بين السخرية والمفارقة وثيقة بشكل خاص، فكلاهما ينبع من التناقض بين ما يُقال وما يُقصد، أو بين ما يُعتقد وما هو واقع الحال. وعلى الرغم من التداخل، إلا أن الباحث يوضح الفروق الدقيقة التي تميز السخرية عن المفارقة، خاصة في النبرة التي لا تقبل التردد في السخرية بخلاف المفارقة التي تتطلب إدراكًا للمعنى الظاهر والحقيقي معًا. 

تتعدد أنواع السخرية وأساليبها، وتتأثر بالظروف الاجتماعية والسياسية ونفسية الكاتب. يذكر الكتاب أنواعًا مثل السخرية المرة القاسية، والسخرية الفلسفية والأخلاقية، والمتسامحة، والبائسة الحزينة. وتنقسم السخرية بشكل عام إلى سخرية إيجابية وسلبية، وتعتمد على عنصر المفاجأة والخيال والغرابة، وتقوم على فكرة المقابلة بين نقيضين. 

السخرية في الشعر الفلسطيني عبر المراحل

يُقدم الكتاب تحليلًا مفصلًا للسخرية في الشعر الفلسطيني المقاوم عبر ثلاث مراحل زمنية رئيسية:

1. السخرية بين عامي (1948-1967)

شهدت هذه المرحلة بروز السخرية في شعر شعراء المنفى وشعراء الداخل. من شعراء المنفى، يتناول الكتاب أبو سلمى، ومحمد العدناني، ومحمود سليم الحوت، ومعين بسيسو. ومن شعراء الداخل، يتوقف عند راشد حسين، وتوفيق زياد، ومحمود درويش، وسميح القاسم.

برزت السخرية عند هؤلاء الشعراء كوسيلة لمقاومة الاحتلال والتعبير عن الرفض للواقع المر الذي فرضته النكبة. على سبيل المثال، يظهر توظيف المفارقة في شعر (أبو سلمى)، حيث يسخر من اللجنة الملكية التي أوصت بتقسيم فلسطين، معتبرًا ذلك أكبر مشكلة لا حلًا. كما تناول عبد الرحيم محمود والسخرية من اللجنة البريطانية التي كانت تهدف إلى التحقيق في ثورة 1936، ومن المتوهمين بجديتها. أما إسكندر الخوري البيتجالي، فقد سخر من الظواهر الاجتماعية الطارئة، مثل ظاهرة الكعب العالي.

كانت السخرية عند راشد حسين لافتة للنظر، وعالجت موضوعات سياسية واجتماعية شتى، سواء في قصائد كاملة أو خلال مقاطع القصائد، وقد كان مجددًا في بعضها وكلاسيكيًا في بعضها الآخر. وفي شعر محمود درويش لهذه الفترة، يلاحظ وجود السخرية في عدة قصائد وفي شعر سميح القاسم، بدوره، سخر من الأنظمة العربية وموقفها المتخاذل تجاه القضية الفلسطينية، مستخدمًا السخرية اللاذعة من الوعود الكاذبة.

2. السخرية بين عامي (1967-1987)

بعد حرب الأيام الستة عام 1967، أصبحت فلسطين كلها تحت الاحتلال، وشكلت النكسة صدمة عميقة. ومع ذلك، لم يستسلم الأدب الفلسطيني لليأس، بل ظل يعبر عن الثبات والمقاومة والتحدي.

في هذه المرحلة، تناول الكتاب ثلاثة من شعراء المنفى: محمود درويش، ومعين بسيسو، ومريد البرغوثي. ومن شعراء الداخل: سميح القاسم، وعبد اللطيف عقل، وفوزي البكري، والشاعرة فدوى طوقان.

محمود درويش، في ديوانه "أحبك أو لا أحبك"، يستمر في نقد الواقع العربي، ويكثف من السخرية المرة من الأنظمة العربية وسياساتهم، وتظهر هذه السخرية بوضوح في قصائد "خطب الدكتاتور الموزونة"، التي تسخر من الخطابات الجوفاء عند الزعماء وعند زعماء الأحزاب، ويبلغ التهكم في هذه الخطب ذروته، مندداً بأساليب العرب في مقاومة الاحتلال بالحروف المفخمة بينما العدو يستخدم الأسلحة الفتاكة.

معين بسيسو، في قصائده، استخدم السخرية لنقد الأوضاع العربية، مثل قصيدة "الرجل الذي كان كلامه كله نعم"، التي تسخر من الرجل الذي لا يجرؤ على قول "لا". كما يعالج في قصيدة "المطاردة" ظاهرة الجواسيس التي تملأ الحياة العربية، حيث يتحول الشعب كله إلى جواسيس.

مريد البرغوثي، برزت سخريته بشكل خاص في ديوانه "قصائد للرصيف"، حيث تناول نقد الأنظمة العربية وملاحقتها للفلسطينيين، ونقد المجتمع العربي بشكل عام. استخدم البرغوثي التناص الساخر مع قصائد أخرى، مثل قصيدة عبد الرحيم محمود "الشهيد"، ليقلب المعنى ويعكس مرارة الواقع.

وفي شعر شعراء فلسطين المحتلة، لم يختلف الأمر كثيرًا. فقد تركزت سخريتهم أيضًا على الأنظمة العربية التي تحمل جزءًا من المسؤولية عن ضياع الوطن.

عبد اللطيف عقل، في ديوانه "أغاني القمة والقاع"، استخدم السخرية اللاذعة لنقد الأنظمة العربية التي تتخبط في قراراتها. وفوزي البكري، في ديوانه "صعلوك من القدس القديمة"، يظهر نوعًا من السخرية اللاذعة من الذات الإلهية، متأثرًا بفكره الشيوعي وسوء الأوضاع التي عاشها. كما تتخلل قصائده سخرية مريرة من الواقع العربي، ومن الأشقاء الذين تحولوا إلى ذئاب.

3. السخرية في شعر الانتفاضة (1987-1993)

شكلت الانتفاضة في ديسمبر 1987 تحولًا مهمًا في الشعر الفلسطيني، حيث امتزجت السخرية بعناصر التفاؤل والأمل، وتلاشت الروح الحزينة.

تُعد قصيدة محمود درويش "عابرون في كلام عابر" مثالًا بارزًا على السخرية في شعر الانتفاضة، حيث تتجه السخرية نحو الآخر (الاحتلال) الذي يحاول محو الهوية الفلسطينية، ويُطلب من العابرين (المحتلين) أن يأخذوا أمتعتهم ويغادروا. مريد البرغوثي، في ديوانه "رنة الإبرة" (1993)، يستمر في نقد الواقع العربي، ويستخدم السخرية من الأنظمة العربية التي تمنع الفلسطينيين من العودة إلى وطنهم.

يلاحظ الكتاب أن السخرية في هذه المرحلة اتسمت بمواجهة أكثر حدة وتحريضًا، واعتُبرت سلاحًا يقف جنبًا إلى جنب مع البندقية والأعمال العسكرية. ولكن سرعان ما تراجعت هذه الروح المتفائلة بعد الدخول في مفاوضات غير متكافئة بدأت في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وأسفرت عن اتفاقية أوسلو عام 1993، مما أدى إلى خيبة أمل وعودة نغمة الحزن والكآبة إلى القصيدة الساخرة. 

البناء الفني للسخرية في الشعر الفلسطيني

لم يقتصر بحث السخرية على المضمون، بل تناول الأشكال الفنية التي تنوعت؛ فقد استخدم الشعراء أساليب مثل التقليد الساخر والمعارضة، والمدح بما يشبه الذم، والذم بما يشبه المدح، كما اعتمدوا على عنصر المفاجأة والخيال والغرابة، والمقابلة بين نقيضين، والمفارقة، والمفارقة الزمنية.

يلاحظ الكتاب أن الشعراء لجأوا إلى استخدام الألفاظ الشعبية في بعض الأحيان، لما لها من قدرة على الوصول إلى وجدان الجماهير ومنح السخرية عمرًا أطول. كما أفاد الشاعر الساخر من التراث الأدبي والديني والشعبي، وتجاوز ذلك إلى الأساطير والآداب العالمية.

وعلى صعيد الشكل، تنوعت القصائد الساخرة بين القصائد الكلاسيكية التي حافظت على الوزن والقافية، وبين قصائد الشعر الحر التي اعتمدت التنويع في القافية، بالإضافة إلى الاستفادة من قصيدة الأبجرام.

ومن الناحية الفنية المتصلة ببناء القصيدة الساخرة، أفادت الشعراء من التراث والأساطير والآداب العالمية. وقد امتزجت السخرية بالهجاء في بعض القصائد، خاصة في المرحلة الأولى، نتيجة غلبة العاطفة على العقل في مواجهة الأحداث المؤلمة.

وفي إجابته على التساؤل حول ما إذا كان هناك "شاعر ساخر" بامتياز في الشعر الفلسطيني، يرى الباحث أن الشعر الفلسطيني احتوى على نصوص ساخرة أو مقاطع ساخرة، ولكن ليس بالضرورة أن يوصف الشاعر بالساخر ما لم تكن السخرية هي السمة الغالبة على معظم أعماله. ومع ذلك، يشير إلى أن بعض الشعراء مثل راشد حسين ومحمود درويش وفوزي البكري يمكن اعتبارهم شعراء ساخرين، لأن السخرية كانت حاضرة في نصوصهم بغض النظر عن المستوى الفني المتعارف عليه في فن السخرية.

يُقدم كتاب "السخرية في الشعر الفلسطيني المقاوم" دراسة نقدية قيمة تُثري فهمنا للأدب الفلسطيني ودوره في النضال الوطني، وتُبرز كيف يمكن للسخرية أن تكون سلاحًا فعالًا في التعبير عن الرفض، ونقد الواقع، وتحفيز روح المقاومة. إنه عمل نقدي لازم لكل مهتم بالأدب الفلسطيني المقاوم وتجلياته الفنية والاجتماعية.

ومن الجدير بالذكر، فإن نسخة من الكتاب متوفرة في موقع الإلكتروني للمؤلف على الرابط الآتي: https://kenanaonline.com/users/ferasomar/posts/1254058، كما أنه متاح للتحميل المجاني على منصات الكتب الإلكترونية، مكتبة نور الإلكترونية: noor-book.com/uvlq5ao، ومكتبة كتوباتي: https://www.kotobati.com/node/2893683 .