مَفاتِيحُ السَّماءِ - طَبعَة ثَانِيَة بِالسِّريَانِيَّة

 


وهيب نديم وهبة


تَنتابني الرّعشةُ أَحيانًا؛ وَأخشَى مِن ذَاتي وَأنا أَرنُو نَحوَ الأُفقِ البَعيدِ، مَع كُلّ تَرجمَةٍ جَديدَةٍ أو إِعادةِ الطِّباعَةِ، فأَشعُرُ كَأنَّنِي مُقبِلٌ على اختِبَار، وَيكَادُ يَسقُطُ قَلبِي، كَأنَّما سَأبَدأُ الكِتَابَةَ الآن، ذاتي مُثقَلَةٌ بِالتِّساؤلات؟ أين نَحنُ مِن الآدابِ العَالَمِيَّةِ..

صَديقِي الرَّاقِي بَاسم رُوفائِيل، مُديرُ مَوقِعِ "تللسقف"، في العِراق، أَعادَ طِباعَةَ "مَفاتِيحِ السّماءِ" بِاللُّغَةِ السِّريانيَّةِ، طَبعَة ثانيَة، مُدقّقة وَمُصحّحة، وإضَافَة الكَلمَة الجديدة للأديبِ: ناجي نعمان، لعام 2025، رئيس مؤسّسة "دار النّعمان للثقافة بالمجان" في تظهير الغلاف. كلّ تلك القيمَة المُضافَةِ للّطّبعَةِ الجديدَةِ، الصّادرة عن مطبعة (هاوار) أَربيل في العِراق، بجُهدِ وخِبرةِ وإتقانِ الشَّاعِر الشَّمّاسِ العِراقِي فائق بلو.

تجدر الإشارة إلى أنّ الطّبعةَ الأولى لمفاتيحِ السّماء – ظهرت للنّور في لبنان بإصدار دار النّعمان، ونالت الجائزة التي تمنح لشخص واحد، "جائزة الفضائل الإنسانية لعام 2012" من الدّار. وبذلك تكون المفاتيحُ قد صدرت منذُ عام 2012 حتى عام 2025 في إحدى عشرة طبعة.

 تَزامَنَت طّبعةُ هذا العام، 2025، مع صدور طبعة جديدة لمفاتيح السّماء بالعربيّة والإيطاليّة معًا.

من هنا من بلاد يسوع، في الأرضِ المقدّسة، نُسطِّرُ أَجمَلَ كلماتِ الشُّكرِ لكلِّ الطَّاقَمِ. وكَلمَات العِرفانِ والجَميلِ للأَصدِقاءِ الأَوفياءِ في العراقِ ولُبنان، والشّكرُ مَوصولٌ للمُترجِمَةِ تَغريد بو مَرعِي، التي تَرجَمَت "مفاتيح السّماء" إلى اللّغةِ الإيطَالِيَّةِ، وَلكلِّ الأَحبابِ المُخلِصين في جَميعِ أَقطارِ العَالم..

غلاف المفاتيح باللّغة السّريانيَّة بريشَةِ المُبدِعَةِ هيام يوسف مصطفى، لوحَةُ الصَّليبِ خَلاصِ العَالم.. شكرًا.. شكرًا للجميعِ والرَّبُّ مَعكم.. تَحيَّاتِي.


مؤسسة فلكسي جيم الرياضية والإتحاد اللبنانية لكرة الطاولة إختتموا دورة البقاع الغربي وراشيا لكرة الطاولة للعام 2025 في راشيا الوادي بفوز اللاعب علي زعيتر بكأس البطولة





تعزيزاً لأهمية الرياضة ودورها على صعيد لبنان، أقامت مؤسسة “فلكسي جيم”  للتجهيزات الرياضية في لبنان والخارج بطولة البقاع الغربي وراشيا في كرة الطاولة بالتعاون مع الاتحاد اللبناني لكرة الطاولة، في القاعة العامة راشيا الوادي وبحضور رئيس الإتحاد اللبناني لكره الطاولة وعضو اللجنة الأولمبية اللبنانية الدكتور بيار هاني، رئيس بلدية راشيا رشراش ناجي واعضاء المجلس البلدي، رئيس إتحاد بلديات جبل الشيخ نظام مهنا، رئيس بلدية العقبة باسم الاصيل ، عضو الإتحاد اللبناني لكرة الطاولة الاستاذ وسام شيري، رئيس لجنة البقاع في كرة الطاولة رئيس نادي الأخاء لا لا حسن سلمان، رئيس نادي كامد اللوز حسين طه، رئيس نادي بكيفا عضو لجنة الإتحاد في البقاع شادى دهام، رئيس النادى الأهلي الخيام كامل زعرور، أعضاء لجنة التحكيم فى الإتحاد اللبنانى لكرة الطاولة الدكتور كميل مرعب والسيدة مي مرشد رضوان وجوزف مرعب ، مدير مركز الشؤون الإجتماعية في راشيا الدكتور منير مهنا ، رئيس "جمعية محترف راشيا" شوقي دلال ومنظم البطولة رئيس مؤسسة "فلكسي جيم الرياضية" رامي دلال وحشد من الشخصيات والفعاليات ومشجعي الرياضة في منطقتي البقاع الغربي وراشيا 

بداية مع النشيد الوطني اللبناني وكلمة ترحيب من منظم البطولة رامي دلال الذي أكد على ان مؤسسة فلكسي جيم ستبقى الى جانب الرياضة والرياضيين على كافة الأراضي اللبنانية وما هذه البطولة اليوم التي نقيمها بالتعاون مع الإتحاد اللبناني لكرة الطاولة وبمواكبة من بلدية راشيا سوى دليل على ان الرياضة ستبقى جامعة لكل مكونات الوطن حيث نلتقي من كافة بلدات البقاع على روح واحدة جامعة للبنان الذي نحب وسنبقى كذلك بإذن الله"..

والى كلمة رئيس بلدية راشيا رشراش ناجي الذي رحب بالوفود من جميع المناطق وبرئيس الإتحاد اللبناني والحُكّام مؤكداً ان راشيا الوادي بلدة إستقلال لبنان ستبقى حاضنة للجميع كما قلعتها التي إنبثق منها إستقلال لبنان"...

والى كلمة رئيس الإتحاد اللبناني لكرة الطاولة الدكتور بيار هاني الذي اشاد بهذا النشاط المهم وبالتعاون مع مؤسسة فلكسي جيم الرياضية التي نشكر رئيسها الاستاذ رامي دلال على هذا الجهد وهذا التنظيم المُلفت وسنستمر في هذا التعاون لإقامة بطولة سنوية لكرة الطاولة ويكون مقرها راشيا الوادي"...

وفي الختام أطلق فعاليات الدورة هاني وناجي ودلال خلال نهار طويل في القاعة العامة راشيا الوادي تنافس عليها 50 لاعب محترف من البقاع وأتى الفوز بالمرتبة الأولى للّاعب علي زعيتر كما فاز بالمرتبة الثانية اللاعب محمد ذياب والمرتبة الثالثة محمد اليمن وفي الختام تم تسليم الفائزين كأس بطولة البقاع الغربي وراشيا لكرة الطاولة لعام 2025 كما تم تسليم ميداليات البطولة للاعبين.


رئيس جمعية محترف راشيا شوقي دلال إستقبل في راشيا رئيس بلدية مرج الزهور عبد اللطيف الحاج وإمام البلدة الشيخ محمد الحاج


      

       إستقبل رئيس "جمعية محترف راشيا" شوقي دلال رئيس بلدية مرج الزهور عبد اللطيف الحاج وإمام البلدة الشيخ محمد الحاج في مقر الجمعية في راشيا حيث قدمو لدلال كتاب "الدليل الإجتماعي للجالية الناطقة بالعربية في كولومبيا .

            

       دلال قال في اللقاء "نتشرف اليوم في "جمعية محترف راشيا" إستقبال الأَحِبة رئيس بلدية مرج الزهور الاستاذ عبد اللطيف محمد الحاج وإمام بلدة مرج الزهور فضيلة الشيخ محمد الحاج وكالعادة غمرونا بمحبتهم وعطفهم وبَرَكتهم وكم كان سروري بشرح وعرض من قبل رئيس البلدية لمشاريع البلدية المقبلة والإنجازات التي تحققت خلال فترة قصيرة من عمر المجلس البلدي كما أسعدني عرض فضيلة الشيخ محمد الحاج تاريخ المحبة بين مكونات المجتمع الواحد في منطقتي راشيا وحاصبيا والتي هي نموذج وطني يُحتذى به على مستوى لبنان.

اصاف دلال"  أرحب اليوم بإسمي وإسم "جمعية محترف راشيا"  بالأحبة فضيلة الشيخ ورئيس البلدية في منزلهم  وبلدتهم ونحن نشكر افضالهم ومحبتهم وكما تفضل فضيلة الشيخ محمد ستبقى هذه المنطقة رمز للمحبة بعمل الصالحين امثاله وامثال جميع الخيرين الذين يعطونا صورة حقيقية عن لبنان الذي نحب، لبنان وِحدة الروح بين جميع مكوناته"

.

وفي الختام قدم رئيس البلدية لدلال الكتاب كما قدم دلال للضيفين إصدارات جمعية محترف راشيا. 


صدور كتاب خرائط اليرموك في قلبي: حين تتحول الذاكرة إلى خريطة للنجاة


الدكتور حسن العاصي

باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك

 

في لحظة فارقة بين الحنين والمقاومة، يصدر لي كتاب "خرائط اليرموك في قلبي" ليعيد رسم ملامح المنفى الفلسطيني من زاوية وجدانية، فكرية، وأدبية، تتجاوز السرد التقليدي وتُعيد الاعتبار للذاكرة كفعل وجودي لا كأرشيف ساكن.


الكتاب ليس مجرد تأريخ لمخيم اليرموك، بل هو محاولة حثيثة لتفكيك الخرائط التي رُسمت على جدران القلب قبل أن تُرسم على الورق. إنه مشروع سردي يتقاطع فيه الشخصي مع الجمعي، والذاتي مع السياسي، حيث تتحول التجربة الفردية إلى مرآة تعكس وجع الشتات، وتُعيد مساءلة مفاهيم الوطن والانتماء والهوية.


في خرائط اليرموك في قلبي، لا نجد خرائط جغرافية، بل خرائط شعورية، تتنقل بين الأزقة والذكريات، بين البيوت التي تهدمت والروائح التي بقيت. الكتاب يرفض أن يكون مجرد وثيقة، ويصرّ على أن يكون فعلاً سردياً يعيد بناء اليرموك من الحرف، لا من الحجر.


في خرائط اليرموك في قلبي، لا أكتب عن المكان بصفته جغرافيا، بل بوصفه كينونة تتنفس في الذاكرة وتتمدد في اللغة. الكتاب لا يكتفي باستعادة اليرموك كرمز للمنفى الفلسطيني، بل يعيد تشكيله كفضاء داخلي، تتقاطع فيه الأسئلة الوجودية مع التفاصيل اليومية، وتتحول فيه الأزقة إلى استعارات، والبيوت إلى نبض سردي.


إنه نص لا يبحث عن الحنين، بل يختبره، ويعيد صياغته كأداة للنجاة، لا كعبء عاطفي. في هذا العمل، تتكثف الكتابة حول المخيم لتصبح مرآة للذات، ومرصداً للتحولات، وصرخة مكتومة في وجه النسيان. لا أكتب من أجل التوثيق، بل من أجل الترميم، ومن أجل منح اليرموك صوت لا يُختزل في المأساة، بل يُستعاد في الحضور، وفي المعنى، وفي فعل الكتابة ذاته.


ينتمي هذا الكتاب إلى مسار ثقافي وفكري ويقوم على مساءلة المفاهيم السائدة، وتقديم معرفة نقدية تنفتح على تعدد الأصوات والتجارب. ويأتي خرائط اليرموك في قلبي كحلقة جديدة في هذا المسار، حيث تتداخل الأنثروبولوجيا مع الأدب، ويلتقي البحث الأكاديمي بالسرد الشخصي، في محاولة لإعادة بناء الذاكرة من خلال اللغة، لا من خلال الوثيقة فقط.


خرائط اليرموك في قلبي هو صوت من الهامش، لكنه لا يطلب الشفقة، بل يطالب بالاعتراف. إنه نص يكتب من أجل الذين لم تُكتب لهم نصوص، ومن أجل الأماكن التي لم تُرسم على خرائط العالم، لكنها محفورة في قلوب أهلها.


صدر كتاب خرائط اليرموك في قلبي إلكترونياً عن هيئة الكتاب الدنماركية، في إصدار يليق بثقل الذاكرة التي يحملها، ويمنح النص امتداداً يتجاوز الحدود الجغرافية. يتضمن الكتاب سبعة وخمسين نصاً موزعة على 136 صفحة، تتنوع بين السرد الشخصي والتأملات الفكرية، وتُعيد رسم ملامح المنفى الفلسطيني من زوايا متعددة. هذا الإصدار لا يكتفي بتوثيق التجربة، بل يفتح بابًا للحوار مع القارئ، ويمنحه فرصة للعبور إلى اليرموك عبر اللغة، لا عبر الخرائط. إنه كتاب يُقرأ بالقلب قبل العين، ويُحمل كرفيق لا كمجلد، بما فيه من وجعٍ ناعم، وحنينٍ لا يُراد له أن يُشفى.


 مقدمة تليق بالوجدان


افتتح خرائط اليرموك في قلبي بمقدمة كتبها الأكاديمي والناقد المغربي الدكتور محمد خريصي، لم تكن مجرد كلمات تمهيدية، بل كانت بمثابة نبض أول للكتاب، وهدية وجدانية تنبض بالصدق والمحبة. جاءت مقدمته كأنها مرآة داخلية للنص، لا تشرح مضمونه، بل تُنصت له، وتمنحه شرعية شعورية لا تُمنح إلا لمن قرأ النص بقلبه قبل عينه.


لقد كتب الدكتور خريصي بلغةٍ لا تكتفي بالتحليل، بل تحتضن، وتُربّت على الذاكرة، وتُعيد رسم اليرموك في القلب كما لو أنه عاشه، كما لو أن المخيم يسكنه هو أيضاً. كانت كلماته امتداداً للمشروع، لا تعليقاً عليه، وكانت روحه حاضرة في كل سطر، تُضيء المعنى، وتُعانق الحنين، وتُعلن أن الكتابة ليست ترفاً فكرياً، بل فعلاً وجدانياً مشتركاً بين الكاتب والقارئ، بين من عاش التجربة ومن آمن بها.


إن هذه المقدمة، بما حملته من دفء واحتفاء، لم تكن مجاملة أدبية، بل كانت موقفاً إنسانياً، ورفقة فكرية، وشهادة حب نادرة في زمن يتقلص فيه الإيمان بالكلمة. لقد منحني الدكتور خريصي ما هو أعمق من التقديم: منحني شعواًا بأن الكتاب وجد من يفهمه، ومن يرافقه، ومن يضع يده على قلبه ويقول له: "أنا هنا، معك، في هذا الطريق".


له مني كل الامتنان، وكل المحبة، وكل التقدير الذي لا يُختصر في كلمات، بل يُحفظ في القلب، كما تُحفظ خرائط اليرموك فيه.


مقدمة الكتاب كما كنبها الناقد المغربي د. محمد خريصي


"وأحسن الأشياء التي تعرف، ويتأثر لها، أو يتأثر لها إذا عرفت، هي الأشياء التي فطرت النفوس على استلذاذها، أو التألم منها، أو ما وجد فيه الحالان من اللذة والألم، كالذكريات للعهود الحميدة المنصرمة التي توجد النفس، تلتذ بتخيلها وذكرها، وتتألم من تقضيها وانصرامها ..."


 "حازم القرطاجني "


        لماذا بالضبط "خرائط اليرموك في قلبي" بوصفها نصوصا سردية شعرية؟ إنه العنوان الذي استقرت عليه ذائقة الشاعر والأكاديمي "حسن العاصي"، تحديدا ما يمكن أن يكثف الحمولة الرمزية لسؤال الاغتراب ولوعة الحنين وجراح الذاكرة. فإذا سلمنا بطاحونة الزمن التي اقتطعت ستة وعشرين سنة، من إقامة الأستاذ الدكتور "حسن العاصي" بالدانمارك، إلا أن هذه الحقيقة في حد ذاتها عجزت عن محو ذخيرة مفعمة بالحنين وأوصالها متورمة بالحب الشديد والهوى المحرق لأنين الذكريات وصمت السنون الخوالي التي قضاها الأخ "حسن" مع أفراد عائلته الصغيرة وعشيرته الفلسطينية الكبيرة بمخيم اليرموك هناك، قريبا من دمشق، كلاجئين يراودهم حلم العودة إلى فلسطين، أولئك الذين يملكون المفتاح نفسه، معلقا على الصدور وجيناته محفوظة في القلوب تتوارثها الأجيال وعلاماته منحوتة على الخرائط والصور واللوحات الفنية، كشاهدة على وطن وإنسان وهوية.


        إن اختيار الشعر لسرد بواعث الحنين، يعد صائبا لما يتميز به هذا الجنس الأدبي من قول موغل في الوجد والاشتياق إلى الديار والذكريات الماضية. هذا الحنين الذي يتأرجح بين لذة استرجاع، وألم فقد ما كان ولم يعد موجودا. هنا بالأساس تشتغل سلطة اللغة وتتحرك الأسطورة وتسرح المخيلة في احتضان كل شيء، بما فيها اللحظات الهاربة التي تشكل هوية الشاعر وتضفي عليها منطق الخلود والتأبيد كما فعل شاعرنا في ديوانه الباذخ "خرائط اليرموك في قلبي" على طول سبعة وخمسين قصيدة، أرى أن كل واحدة منها بمثابة قلادة تقاوم زمن يريد أن يمضي وما هو بمنته، حيث الأثر يستعصي على الاندثار، حين يتربع على عرش اللغة التي عبرها يحرر الشعر الوجدان والإحساس من الاحتلال الإسرائيلي الغاصب لقضية القضايا "فلسطين السليبة. لذلك، لا فرق ولا خلاف بين من يكتب قصيدة أو يحرر كلمة أو يرسم استعارة، مع من يحمل بندقية أو يرمي بحجارة في وجه الكيان المجرم، كلاهما في خط الدفاع الأمامي. فالكتابة ممانعة تتغيا عدم تحطيم الذاكرة ومقاومة النسيان الذي تجند من أجله الصهيونية العالمية المال والإعلام والعتاد يوميا، علاوة على تحويل الحياة والإعمار إلى خراب.


فماذا بعد اليرموك يا ترى؟ إنها خرائط الحنين المتجسدة في سردية مفعمة بالتاريخ ومحطاته التي لا تنسى، محمولة على أكتاف القصائد الشعرية، التي حولته إلى "ندبة في القلب وبصمة بلد على جسد" بالتعبير البليغ لمحمود درويش. القائل كذلك:  


الحنين مسامرة الغائب للغائب، والتفات البعيد إلى البعيد.


هكذا شكلت تيمة/موضوعة الحنين عند شاعرنا "حسن العاصي" منبع وجدان ذاتي ثر عز نظيره، حيث توقفت شاهدة بين زمنين، ما كان أي ما حدث وما سيكون أي: مستقبل اليرموك، غير منتصر لا لراهنية زمن (الغربة) بل لماضوية تنتصب علامة فارقة بين إحساسين ووجدانين، فحسن اليوم لا يسكن المخيم، بل المخيم الذي يسكنه كما جاء في ثنايا الديوان. مبرزا في الوقت نفسه تبرمه من راهنية الزمن الذي لم يستطع إدماجه في المكان، وبقي يعيش خارج المكان بتشبيه "إدوارد سعيد" منحازا لماضوية مسكنها الحقيقي متجسد في الألفاظ والتشبيهات والمجازات والأشعار. وبمعنى من المعاني، نفهم أن الغربة إحساس بعدم الانسجام مع الأنا الفردي والأنا الجمعي كذلك. فإذا كانت الغربة تستدعي الحنين، فإن غرض الغربة والحنين يعد من الدوافع الفطرية في أعماق النفس الإنسانية. والحال أن قلائد "خرائط اليرموك" قصائد في الحنين والغربة والذاكرة التي لا تموت كما جاء في العنوان.


لقد دفع الاغتراب بشاعرنا "حسن العاصي" إلى المنافحة عن زمن لا يعود بلغة عربية بليغة وبصور شعرية ونسج خيال عميق وبأسلوب سلس تخاله حكاية تم تسريدها في قالب تصويري، بمستطاع أي قارئ أن يَعُدَّ نفسه أحد شخوصها، بدءا بأول سطر في الديوان "لم أعد كما كنت"، حيث يمكن أن نرى في هذا التعبير إعلان عن حداد أو تأبين ذكرى تأبى النسيان، وصولا إلى آخر كلمة فيه (التي لم تودع كما يجب) التي قد يوحي أحد معانيها إلى نكأ الجراح التي تحتاج إلى أكثر من ضماد، ولعل ديوان "خرائط اليرموك في قلبي" صرخة تتغنى بالوجود وبالوجدان وتنتسب لأفق فلسفي يعكس قدر الشاعر الفلسطيني في المنفى الذي يحول المكان الجديد إلى طاقة استرجاعية لا استشرافية، كما يؤكد "حسن العاصي" في القصيدة الأولى المعنونة ب: "اليرموك الذي يسكنني"، يقول:


في المنفى، كل شيء نظيف


لكن لا أحد يسألني: هل أكلت؟ هل بكيت؟


هل اشتقت إلى صوت المؤذن في شارع فلسطين؟


أنا ابن اليرموك


لكنني لا أملك شهادة ميلاد


ولا مفتاح بيت، ولا صورة واضحة


أملك فقط هذا الحزن


وهذا الحنين


وهذا القلب الذي لا يعرف كيف ينسى


فمن تجليات هذه الأبيات ورمزيتها، الحنين إلى تلك القيم النبيلة التي عاشها الشاعر وساهمت في بلورة تجربته الإنسانية بمخيم اليرموك، أساسا ما يفتقده اليوم. وبما أن الأمم كيانات سردية، كما يقول "إدوارد سعيد"، حيال الشعور بالانتماء ووحدة المصير، أجدني مضطرا إلى الاستشهاد بنص آخر لا يقل لهفة وحنينا وكسرا للإحباط والنأي عن الشعور بالضياع والسقوط، لكن في المقابل، انتفاض لفرائص الحنين، هذا النص عُدَّ من آخر ما خطته أنامل "محمود درويش" قي ديوانه الموسوم ب: "في حضرة الغياب".   


هل انتهت الرحلة أم بدأت؟ هل اقترب هو من المكان، أم افترق المكان عن صورته في المخيلة؟ العائد كبير السن هو المرشح للمقارنة وللحيرة في ترجيح المتخيل على الواقعي. أما المولود في المنفى على أوصافه نقيضه الحسنى، فقد تخذله جنة صنعت خصيصا له، من مفردات تشربها وصنع منها صورا نمطية، لتكون مرشدة إلى الاختلاف. لقد ورث الذاكرة عن أهل خافوا عليه من النسيان / رهان الآخرين.. وورث الذاكرة من إلحاح الأناشيد على تمجيد الفولكلور والبندقية التي صارت هوية، منذ ولد الوطن، بعيدا عن أرض الوطن.. ولد الوطن في المنفى. ولد الفردوس من جحيم الغياب.


        هي إذن، إحدى تقاطعات شكوى الغربة والمنفى وسردية المصائر التي آلت إليها أوضاع اللاجئين في كل مكان، ولعل الأنموذج الأبرز "مخيم اليرموك"، الذي يصفه أصحاب الأرض، بعاصمة الشتات الفلسطينية، أو أكبر التجمعات الفلسطينية في الخارج. لذلك، فكل ما قلته عن درر "خرائط اليرموك في قلبي" كما حكاها الشاعر والأكاديمي الدكتور "حسن العاصي"، وما سيرويه القراء عن هذا الديوان مستقبلا، لن تغن أحدا عن قراءة الديوان عينه والاستمتاع بشعريته واستعاراته المتعالية وذكراه الحارقة التي فجعت الذات وجعلت حسرتها ممزوجة بالرجاء الذي حولته اللغة إلى أحلام صارت أشد رسوخا من واقع الحال.


الرباط، في: 16-09-2025


ّذ. محمد خريصي 

شوقي دلال يتسلم إصدارات "مؤسسة التراث الدرزي" هدية من رئيسها الشيخ سليم خير الدين

 


زار ممثل رئيس "مؤسسة التراث الدرزي" النقابي ورئيس بلدية كفرقوق اكرم عربي رئيس "جمعية محترف راشيا" شوقي دلال في راشيا الوادي وسلمه بإسم رئيس المؤسسة الشيخ سليم خير الدين والوزير السابق الشيخ مروان خير الدين إصدارات مؤسسة التراث الدرزي والبالغ عددها ثلاثين كتاب".

دلال قال في المناسبة " اليوم يشرفني إستلام هدية فكرية ثقافية قيّمة جداً من مؤسسة التراث الدرزي التي اسسها الشيخ سليم خير الدين عام 2000 في لندن ونحن نعلم والجميع يعلم ان هدفها الإنارة على التاريخ الوطني والحضاري لطائفة الموحدين المسلمين الدروز عبر التاريخ ولغاية اليوم، وقد إستعان الشيخ سليم خير الدين لهذه الغاية بكبار المُفكرين والباحثين ورجال الفكر امثال الدكتور كمال صليبي والدكتور سامي مكارم والدكتور عبدالرحيم ابو حسين والعديد من القامات الفكرية التي لها وزنها في الأبحاث والفكر وقد اصدرت المؤسسة لغاية اليوم ثلاثين إصدار قَيّم جداً،، كما ان الشيخ سليم خير الدين ونجله المصرفي الشيخ مروان خير الدين يحرصان على ان تكون المؤسسة وطنية شاملة بعيدة عن اي مفهوم طائفي او مذهبي وما تاريخ المسلمين الموحدين الدروز إن كان في وادي التيم ولبنان او في اي بلد يتواجدون فيه سوى تاريخ ناصع بالثقافة المشتركة مع جميع مكونات المجتمع على مختلف مشاربهم، لهذا بإسمي وبإسم "جمعية محترف الفن التشكيلي للثقافة والفنون" و"تجمع البيوتات الثقافية في لبنان" أتقدم بالشكر العميق من الشيخ سليم خير الدين والشيخ مروان خير الدين على هذه الهدية القيمة التي تُشكل علامة فارقة في المكتبة اللبنانية والعربية والشكر العميق لصاحب الهمة والنشاط النقابي ورئيس البلدية الاستاذ اكرم عربي على تشريفه وزيارته ونحن سنكون دوماً الى جانب هذه المؤسسة الوطنية الفكرية العريقة وجميع مؤسسات الوطن التي توحّد الناس وتجمعهم"...

من جهته شكر عربي دلال على إستقباله ونقل له تحيات رئيس المؤسسة الشيخ سليم خير الدين والوزير الشيخ مروان خير الدين وتقديرهما للدور الثقافي لجمعية محترف راشيا ورئيسها شوقي دلال وكان شرح مُفصل من عربي عن تاريخ المؤسسة وأعمالها الثقافية وآخرها الفيلم الذي اعده المخرج السينمائي رمزي سلام الراسي يؤرخ فيه عن تاريخ اجدادنا في وادي التيم والعادات والتقاليد التي كانت مُتبعة سابقاً ولغاية اليوم والكتاب الذي سيصدر من الف صفحة حول متصرفية جبل لبنان وإصدارات مُتعددة سوف تصلكم فور صدورها"..


وفي الختام سلم عربي دلال إصدارات المؤسسة.


"جمعية محترف راشيا" تُطلق متحف النحت على البيض (OvArt) للفنان الشيخ لؤي كاسب ورئيس الجمعية شوقي دلال يشيد بالفنان ونحته الفريد


 أطلق رئيس جمعية محترف الفن التشكيلي للثقافة والفنون" شوقي دلال اليوم متحف ومعرض فنان النحت على البيض للفنان الشيخ لؤي كاسب (OvArt) في بلدة الفنان راشيا الوادي.

دلال قال في المناسبة "حين نتحدث عن الإبداع علينا ان نرى ما هو مميز وخارق خاصة في مجال الفن ، لهذا تشرفت اليوم بإطلاق متحف النحت على البيض بعنوان (OvArt) للفنان الشيخ لؤي كاسب حيث أقامه في بلدته وبلدتي راشيا الوادي. فالفنان كاسب تابعناه في "جمعية محترف راشيا" منذ بداياته الأولى اي ما يقارب 15 عام ولمسنا أنه صاحب موهبة فنية فريدة خاصة في مجال النحت على البيض وهو أصعب أنواع النحت لِما للبيض من حساسية على الكَسر وكان رهاننا رابح حيث طَوّر نفسه وفنه حتى أضحى اليوم يُقارع فنانيين عالميين في هذا المجال. ويسرني اليوم أن أشهد على ولادة نواة لمتحف فن الحفر على البيض في بلدة الفنان كاسب راشيا الوادي حيث عَمِل على جمع عدد مهم من منحوتاته على البيض وعرضها ، لهذا ادعوا وزارة الثقافة اللبنانية والوزير الدكتور غسان سلامة والذي اعلم حرصه على الإبداع اللبناني الى إحتضان الفنان والمعرض لِما من خصوصية لفنه الفريد والذي لا يوجد له مثيل في لبنان والمنطقة، كما وأدعوا الجميع الى زيارة هذا المعرض الدائم في راشيا الوادي خاصة طلاب الجامعات والثانويات والمدارس".


من جهته شكر الفنان كاسب رئيس الجمعية شوقي دلال وجمعية محترف راشيا على إحتضانهم لأعمالي منذ بداية إنطلاقتي وسوف يكون هذا المعرض الدائم مساحة للتلاقي حول الفن والجمال من جميع المناطق اللبنانية"...

وفي ختام اللقاء جال دلال والحضور على المعروضات التي اتت غاية في الدقة والجمال نظراً لصعوبة النحت على البيض .


تَحْلِيلٌ نَقْدِيٌّ لِخَصَائِصِ النَّصوص فِي أَحْلَامُ بَاسِمَةُ


بقلم: د. مرام أبو النادي

   أَحْلَامُ بَاسِمَةَ كِتَابٌ مُنَوَّعٌ؛ فَقَدْ ضَمَّ مِنْ صُنُوفِ الْأَدَبِ مَا قَدَّمَ لَهُ الْأُسْتَاذُ زِيَادُ جِيُوسِي فِي مُقَدِّمَتِهِ وَ أَكَّدَتْ عَلَيْهِ الْكَاتِبَةُ نَفْسُهَا وَصَرَّحَتْ بِاعْتِرَافٍ شَفِيفٍ بِأَنَّهُ مجموعة لِنُصُوصٍ أَدَبِيَّةٍ كَانَ التَّمَاهِي وَالتَّدَاخُلُ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْأَدَبِيَّةِ، لِتُوَلِّدَ نُصُوصٍ تَنْبِضُ بِالْحَيَاةِ، وَتُعَبِّرُ عَنْ التَّجْرِبَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِمُنْتَهَى الْعُمْقِ وَالتَّنَوُّعِ، مِمَّا يَجْعَلُهَا تَعْكِسُ التَّحَوُّلَاتِ الْجَمَالِيَّةَ وَالْفِكْرِيَّةَ فِي الْكِتَابَةِ الْمُعَاصِرَةِ. فَأَجِدُ أَنَّ فِي هَذَا التَّنَوُّعِ اسْتِرْضَاءً لِذَائِقَةِ الْقُرَّاءِ؛ عِلْمًا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْنِي انْتِفَاءَ الْوَحْدَةِ الْعُضْوِيَّةِ وَالْمَوْضُوعِيَّةِ لِكُلِّ نَصٍّ مُسْتَقِلٍّ، فَالِاسْتِقْلَالِيَّةُ تَبْدَأُ مِنْ انْفِرَادِ كُلِّ نَصٍّ بِعُنْوَانٍ شَكَّلَ بَادِئَةٍ لَهُ؛ فَحَتَّى الْعَنَاوِينُ كَانَتْ مُحَقِّقَةً لِأَهْدَافٍ عِدَّةٍ أَهَمُّهَا: الْجَذْبُ، وَانْعِكَاسٌ لِرُوحِ وَجَوْهَرِ النَّصِّ، وَالدَّهْشَةُ الَّتِي قَدْ تَصْفَعُ مُخَيِّلَةَ الْقَارِئِ وَالَّتِي قَدْ تَظْهَرُ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ وَبِقُوَّةٍ، عَدَا تِلْكَ الْعَنَاوِينَ الَّتِي تُشَكِّلُ نَوْعًا يَعْكِسُ خصائص الْوَمَضَاتِ.

   وَإِنْ كَانَ التَّسَلْسُلُ مُعَيَّنًا لِي فِي تَرْتِيبِ الْخَصَائِصِ لِيَتِمَّ تَنَاوُلُهَا بِنَسَقٍ يَعْكِسُ مُحْتَوَى الْمُؤَلِّفِ الْأَدَبِيِّ؛ فَسَيَكُونُ كَمَا يَأْتِي:

   أَوَّلًا: الشَّخْصِيَّاتُ: تَشْرِيحٌ لِلذَّاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَالْوُجُوهِ الرَّمْزِيَّةِ** لَا تُقَدِّمُ أَحْلَامُ بَاسِمَةَ شَخْصِيَّاتِهَا كَكَائِنَاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْ الذَّاتِ الْكَاتِبَةِ، بَلْ تَصْهِرُهَا جَمِيعًا فِي بَوْتَقَةِ" الْأَنَا" السَّارِدَةِ، لِتُصْبِحَ وُجُوهًا مُتَعَدِّدَةً تَعْكِسُ أَبْعَادًا مُخْتَلِفَةً مِنْ نَفْسِهَا. فَالشَّخْصِيَّاتُ هُنَا لَيْسَتْ كِيَانَاتٍ رِوَائِيَّةً تَقْلِيدِيَّةً، بَلْ هِيَ "أَقْنِعَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ" فِي مُوَاجَهَةِ الْعَالَمِ.:

   الْأَبُ: النَّوَاةُ الْغَائِبَةُ الْحَاضِرَةُ يَتَجَاوَزُ الْأَبُ كَوْنَهُ مُجَرَّدَ شَخْصِيَّةٍ أَبَوِيَّةٍ لِيَصِير “رَمْزًا كَوْنِيًّا" يَشْمَلُ فِكْرَةَ الْمَنْعَةِ وَالْحِمَايَةِ الضَّائِعَةِ، وَجِذْرَ الْهُوِيَّةِ، وَوِعَاءَ الذَّاكِرَةِ الْجَمِيلَةِ الْمُؤْلِمَةِ. غِيَابُهُ الْجَسَدِيُّ هُوَ “الثُّقْبُ الْأَسْوَدُ “فِي قَلْبِ النَّصِّ، يَجْذِبُ كُلَّ الْمَشَاعِرِ حَوْلَهُ، بَيْنَمَا حُضُورُهُ الطَّيْفِيُّ كَصَوْتٍ دَاخِلِيٍّ أَوْ ذِكْرَى هُوَ الْجَاذِبِيَّةُ الَّتِي تَمْنَعُ السَّارِدَةَ مِنْ الِانْفِلَاتِ إِلَى الْيَأْسِ. إِنَّهُ رَمْزٌ لِلْوَطَنِ الضَّائِعِ، لِلَجَنَةِ الطُّفُولَةِ الْمَفْقُودَةِ، مِمَّا يُضَاعِفُ مِنْ حُمُولَتِهِ الرَّمْزِيَّةِ وَيَجْعَلُ مِنْهُ مِحْوَرَ الْكَوْنِ النَّصِّيِّ؛ فالِابْنَةُ "زِينَةُ": اسْتِعَارَةُ الِاسْتِمْرَارِ وَالْأَمَلِ إذ تُمَثِّلُ زِينَةُ "اَلْجِسْرَ الْحَيَّ" بَيْنَ مَاضِي الْأَبِ وَحُلْمِ الْمُسْتَقْبَلِ. هِيَ التَّجْسِيدُ الْمَادِّيُّ لِفِكْرَةِ أَنَّ الْحَيَاةَ أَقْوَى مِنْ الْمَوْتِ، وَأَنَّ الْخَيْطَ لَا وَأَنَّ الْخَيْطَ لَا يَنْقَطِعُ. لَيْسَتْ مُجَرَّدَ طِفْلَةٍ، بَلْ هِيَ "الْمَشْرُوعُ الْوُجُودِيُّ" لِلْكَاتِبَةِ، الثَّمَرَةُ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّ الْخَرَابَ الشَّخْصِيَّ وَالْجَمَاعِيَّ لَمْ يَقْتُلْ قُدْرَةَ الرُّوحِ عَلَى الْعَطَاءِ وَالْإِنْجَازِ. وُجُودُهَا هُوَ أَقْوَى رَدٍّ عَلَى الْفَقْدِ، مِمَّا يَجْعَلُهَا لُبَّ الْعَمَلِ وَجَوْهَرَهُ الْفَلْسَفِيَّ وَالشُّعُورِيَّ الْحَبِيبُ: ظِلُّ التَّنَاقُضِ وَالْوَجَعِ:** شَخْصِيَّةُ الْحَبِيبِ مُشَبَّعَةٌ بِالتَّنَاقُضِ، فَهِيَ نَافِذَةُ الْأَمَلِ وقَبْرُ الْخِذْلَانِ فِي آنٍ وَاحِدٍ. حُضُورُهُ يَلْمَعُ كَوَمْضَةٍ قَدْ تُعِيدُ بَعْضَ الدِّفْءِ، وَلَكِنَّ غِيَابَهُ أَوْ خِيَانَتَهُ هُوَ إِعَادَةُ تَمْثِيلٍ لِجَرِيمَةِ الْفَقْدِ الْأُولَى (فَقْدِ الْأَبِ). هَذَا التَّذَبْذُبُ بَيْنَ الْجَذْبِ وَالدَّفْعِ، بَيْنَ الْبَهْجَةِ وَالْوَجَعِ، يَجْعَلُهُ شَخْصِيَّةً دِرَامِيَّةً بِامْتِيَازٍ، تُجَسِّدُ صِرَاعَ الذَّاتِ بَيْنَ حَاجَتِهَا لِلْحُبِّ وَخَوْفِهَا مِنْ الْأَلَمِ الشَّخْصِيَّاتُ الثَّانَوِيَّةُ: أَصْدَاءُ الدَّاخِلِ الْأَصْدِقَاءُ، الْجِيرَانُ، وَالْمَارَّةُ لَا يَمْلِكُونَ مَلَامِحَ رِوَائِيَّةً مُكْتَمِلَةً، لِأَنَّ وَظِيفَتَهُمْ لَيْسَتْ سَرْدِيَّةً بَلْ" نَفْسِيَّةٌ انْعِكَاسِيَّةٌ هُمْ "مَرَايَا عَابِرَةٌ" تَعْكِسُ عَلَيْهَا السَّارِدَةُ أَحْزَانَهَا، آمَالَهَا، وَحَيْرَتَهَا. ظُهُورُهُمْ عَابِرٌ كَوَمَضَاتٍ، يُشْبِهُ ظُهُورَ شَخْصِيَّاتٍ فِي حُلْمٍ، يَحْمِلُونَ دَلَالَةً شُعُورِيَّةً تَفُوقُ وُجُودَهُمْ الْمَادِّيَّ، مِمَّا يُعَمِّقُ مِنْ طَابَعِ النُّصُوصِ التَّأَمُّلِيَّةِ وَالْمُنْغَلِقَةِ عَلَى عَالَمِهَا الدَّاخِلِيِّ

   ثَانِيًا: فِيما يَتعَلّق بِمُقوّمٍ منْ مُقوّمَاتِ النّصّ الَّثْريّ  الْأَحْدَاثُ: وَمَضَاتُ السَّرْدِ وَتَفْجِيرِ الدِّرَامَا فِي التَفاصيلِ الصغيرة

يَخْلُو الْعَمَلُ مِنْ الْحَبْكَةِ الْخَطِّيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ، لِيَحُلَّ مَحَلَّهَا “جَمَالِيَّاتُ التَّقْطِيعِ حيثُ اللَّوْحَاتُ السَّرْدِيَّةُ المكثفة الأحداث هِيَ “وَمَضَاتٌ" أَوْ" إِيحَاءَاتٌ" تُلَمِّحُ إِلَى قِصَّةٍ أَكْبَرَ، تَارِكَةً لِلْقَارِئِ مُهِمَّةَ رَبْطِهَا وَتَخَيُّلِ مَا بَيْنَ السُّطُورِ.

   الْفَقْدُ: النَّغَمَةُ الْأَسَاسِيَّةُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْإِيقَاعَاتِ:** الْفَقْدُ هُوَ اللَّازِمَةُ الَّتِي تَعْزِفُ عَلَيْهَا النُّصُوصُ عَلَى أَوْتَارٍ مُخْتَلِفَةٍ: فَقْدُ الْأَبِ، الْوَطَنَ، الْحَبِيبَ، الْبَرَاءَةَ، الأحلام. الْأَحْلَامَ. لَكِنَّ هَذَا الْفَقْدَ لَا يُقَدَّمُ بِشَكْلٍ نَمَطِيٍّ؛ فَهُوَ أَحْيَانًا صَاعِقٌ وَمُفَاجِئٌ، وَأَحْيَانًا كَامِنٌ وَمُزْمِنٌ مِثْلَ وَجَعٍ قَدِيمٍ. كُلُّ نَصٍّ هُوَ إِعَادَةُ اكْتِشَافٍ لِطَبَقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ جُرْحٍ لَمْ يَنْدَمِلْ أَبَدًا.*** التَّفَاصِيلُ الْيَوْمِيَّةُ: تَصْعِيدٌ إِلَى مُسْتَوَى الْمَلْحَمَةِ الْوُجُودِيَّةِ:** الْمَوْهِبَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْكَاتِبَةِ تَكْمُنُ فِي قُدْرَتِهَا عَلَى** "تَأْيِينِ الْعَالَمِ"** (تَحْوِيلِهِ إِلَى شَيْءٍ لَهُ وُجُودٌ وَذَاتِيَّةٌ). لِقَاءٌ عَابِرٌ، نَظْرَةٌ مِنْ نَافِذَةٍ، زَهْرَةٌ تَذْبِلُ عَلَى الشُّرْفَةِ، كُلُّ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ الْعَابِرَةِ تُسْحَبُ مِنْ سِيَاقِهَا الْعَادِيِّ لِتَدْخُلَ فِي سِيَاقٍ دِرَامِيٍّ مُكَثَّفٍ، فَتُصْبِحُ مَجَازًا لِلْحَيَاةِ، الْمَوْتِ، الصُّمُودِ، أَوْ الْخِذْلَانُ. هَذِهِ التَّحْوِيلَاتُ تَمْنَحُ النُّصُوصَ عُمْقًا فَلْسَفِيًّا يَجْعَلُ مِنْ الْيَوْمِيِّ أَمْرًا مِيتَافِيزِيقِيًّا.

   الْأَحْدَاثُ الْوَطَنِيَّةُ: تَوْطِينُ الْوَجَعِ؛ فلَا تَظْهَرُ فِلَسْطِينُ وَيَافَا وَالْقُدْسُ كَإِشَارَاتٍ سِيَاسِيَّةُ مُبَاشَرَةٍ أَوْ شِعَارَاتٌ، بَلْ كَأَحْدَاثٍ وِجْدَانِيَّةٍ فِي حَيَاةِ الذَّاتِ، هِيَ ذِكْرَيَاتُ طُفُولَةٍ، رَائِحَةُ أَرْضٍ، صَوْتُ أُمٍّ، مَنْزِلٌ مَفْقُودٌ. هَذَا التَّنَاوُلُ يَجْعَلُ الْقَضِيَّةَ جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْبِنْيَةِ النَّفْسِيَّةِ لِلشَّخْصِيَّةِ/ الْكَاتِبَةِ، وَيُحَوِّلُهَا مِنْ قَضِيَّةٍ سِيَاسِيَّةٍ إِلَى “تِرَاجِيدْيَا إِنْسَانِيَّةٍ" يَشْعُرُ بِهَا أَيُّ قَارِئٍ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ خَلْفِيَّتِهِ

   ثَالِثًا: عُنْصُرُ الدَّهْشَةِ: صَدْمَةُ الِانْزِيَاحِ الْجَمَالِيِّ الدَّهْشَةُ هُنَا لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مُفَاجَأَةٍ، بَلْ هِيَ" اِنْزِيَاحٌ" مُذْهِلٌ عَنْ الْمَسَارِ الْمُتَوَقَّعِ لِلصُّورَةِ أَوْ الْجُمْلَةِ، لَحْظَةٌ مِنْ الصَّدْمَةِ الْجَمَالِيَّةِ الَّتِي تُعَلَّقُ فِي ذِهْنِ الْقَارِئِ، فانْزِيَاحُ الْمَعْنَى مثلا إذ تَبْدَأُ الْجُمْلَةُ بِلُغَةٍ بَسِيطَةٍ وَصْفِيَّةٍ، ثُمَّ تَنْقَلِبُ فَجْأَةً إِلَى مَعْنًى مَأْسَاوِيٍّ أَوْ صُورَةٍ قَاسِيَةٍ. هَذَا الِانْزِيَاحُ يَخْلُقُ تَنَاقُضًا بَيْنَ الشَّكْلِ الْهَادِئِ وَالْمَضْمُونِ الْعَاصِفِ، مِمَّا يُضَاعِفُ مِنْ التَّأْثِيرِ الْعَاطِفِيِّ.

   الِانْزِيَاحُ فِي الشَّكْلِ الْبِنَائِيِّ: حيث اسْتِخْدَامُ جُمَلٍ قَصِيرَةٍ، مَقْطُوعَةٍ، أَشْبَهَ بِأَنْفَاسٍ، ثُمَّ تَتْبَعُهَا جُمْلَةٌ طَوِيلَةٌ مُوحِيَةٌ، أَوْ الْعَكْسُ. هَذَا التَّلَاعُبُ بِالْإِيقَاعِ يَخْلُقُ حَالَةً مِنْ التَّوَجُّسِ وَالتَّرَقُّبِ، التَّنَاقُضُ الْمُوَلِّدُ لِلطَّاقَةِ؛ حيث الْجَمْعُ بَيْنَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ، الْأَمَلِ وَالْيَأْسِ، الْجَمَالِ وَالْقُبْحِ، دَاخِلَ نَفْسِ النَّصِّ أَوْ حَتَّى نَفْسِ الْجُمْلَةِ. هَذَا التَّعَايُشُ بَيْنَ النَّقَائِضِ لَا يُلْغِيهِمْ إنما يَخلقُ طاقةً دراميّة.

   رَابِعًا: اللُّغَةُ وَالصُّورَةُ الشِّعْرِيَّةُ: التَّكْثِيفُ وَالِانْزِيَاحُ وَالْمُفَارَقَةُ** لُغَةُ أَحْلَامٍ بَاسِمَةٍ هِيَ لُغَةٌ مُستلة مِنْ الْأَعْمَاقِ تَمْتَازُ بِالْكَثَافَةِ الشِّعْرِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى قَوْلِ الْكَثِيرِ بِالْقَلِيلِ.

   اللُّغَةُ: في الْقَصِيدَةُ النثرية تتطلب أن تكونَ الجمل قَصِيرَةٌ، مُكَثَّفَةٌ، ذَاتُ إِيقَاعٍ دَاخِلِيٍّ. كَثِيرٌ مِنْهَا يَحْمِلُ عُمْقًا يُحِيلُهُ إِلَى أُمْثُولَةٍ وجودية أو حِكْمَةٍ، لَيْسَ لِأَنَّ الْكَاتِبَةَ وَعْظِيَّة:  بَلْ لِأَنَّ تَجْرِبَتَهَا الْعَمِيقَةَ تَبَلْوَرَتْ فِي هَذِهِ الصِّيَغِ الْمُكَثَّفَةِ.

أَمَّا اللُّغَةُ  عمومَا فَقَدْ كَانَتْ عَلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ مِنْ الشَّاعِرِيَّةِ فَالْعَاطِفَةُ عَلَى تَنَوُّعِ عَبَاءَاتِهَا كَانَتْ تَفِيضُ بِالْبَلَاغَةِ وَالصُّوَرِ الْبَيَانِيَّةِ؛ فَأَظْهَرَتْ الْحُزْنَ كَمَا يَجِبُ، كَمَا الْخِذْلَانُ كَمَا الْحُبِّ.

   أَحْلَامٌ بَاسِمَةَ هُوَ عَمَلٌ عَابِرٌ لِلتَّصْنِيفَات ِيَجْمَعُ بَيْنَ صِدْقِ السِّيرَةِ الذَّاتِيَّةِ، وَكَثَافَةِ الْقَصِيدَةِ، وَعُمْقِ الْفَلْسَفَةِ، وَجَمَالِيَّاتِ الْقِصَّةِ الْقَصِيرَةِ جِدًّا. قُوَّتُهُ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى تَحْوِيلِ التَّجْرِبَةِ الشَّخْصِيَّةِ جِدًّا إِلَى تَجْرِبَةٍ كَوْنِيَّةٍ، يَشْعُرُ الْقَارِئُ بِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ تَجْرِبَتِهِ هُوَ. إِنَّهُ نَصٌّ مَوسُوعي فِي مَشَاعِرِهِ، يُقَدِّمُ جُرْعَةً نَادِرَةً مِنْ الصِّدْقِ الْعَاطِفِيِّ مُغَلَّفَةً بِغِلَافٍ فَنِّيٍّ رَفِيعٍ، مِمَّا يَجْعَلُهُ يَسْتَحِقُّ الْقِرَاءَةَ وَالتَّأَمُّلَ وَالدِّرَاسَةَ كَعَلَامَةٍ فَارِقَةٍ فِي الْأَدَبِ الَّذِي يُكْتَبُ مِنْ الْقَلْبِ وَيُخَاطِبُ الْقَلْبَ وَالْعَقْلَ مَعًا.

"عمَّان 27/8/2025"                



"الإنقاص البلاغي": رؤية نقدية مبتكرة تُعيد تعريف جماليات الغياب في الأدب العربي

 


رام الله- فلسطين

في خطوة تعزز من الإسهامات النقدية العربية المعاصرة، صدر مؤخراً عن مكتبة "كل شيء" في حيفا، لصاحبها صالح عباسي، كتاب "الإنقاص البلاغي: المفهوم والتطبيق" للباحث والناقد الفلسطيني فراس حج محمد. يُعد هذا العمل دراسة أدبية طموحة تقدم مصطلحاً نقدياً فريداً يُضاف إلى المكتبة العربية في مجال النقد الأدبي، محاولة جادة لتأصيل مفهوم جديد يوضح تجلياته في الشعر والنثر على حد سواء. يقع الكتاب في 135 صفحة، مع تصميم غلاف فني للفنان شربل إلياس، ويشمل ملحقاً خاصاً يجمع بعض الأعمال الأدبية التي درسها المؤلف، مثل نماذج من نقد غسان كنفاني، مقاطع من ديوان "ينات للألم" لأمينة عبد الله، وأجزاء من رواية "حب في منطقة الظل" لعزمي بشارة، بالإضافة إلى آراء د. فخر الدين قباوة حول علامات الترقيم.

يأتي الكتاب كمشروع نقدي يسعى إلى إحداث نقلة نوعية في الخطاب النقدي العربي، حيث لا يقتصر على تحليل النصوص بل يتجاوز إلى تنظير فلسفي يهدف إلى ابتكار أداة نقدية جديدة. يعكس ذلك طموح المؤلف في أن يكون "منظراً أدبياً" لا مجرد ناقد يطبق قواعد الآخرين، مستلهماً من نقاد تاريخيين مثل عبد القاهر الجرجاني في مفهوم "النظم" أو رولان بارت في "موت المؤلف". يؤكد حج محمد أن التقدم الفكري يفرض على الباحثين اشتقاق مصطلحات خاصة، خاصة عندما تكون المفاهيم التقليدية غير قادرة على التعبير عن الرؤى الجديدة.

نشأة المفهوم وتأصيله: من التجربة الإبداعية إلى النظرية النقدية

يقوم مفهوم "الإنقاص البلاغي" على فكرة: "التخلي عن بعض ما لا ينفع العمل الأدبي في سبيل جعله أكثر فنية وأدبية". لم ينشأ هذا المفهوم من فراغ، بل هو نتاج مسار فكري بدأه المؤلف في كتابه السابق "سر الجملة الاسمية" (الرقمية، 2025)، الذي يعتمد على فلسفة "التخلص من ثلث اللغة العربية" عبر استبعاد الأفعال وأسماء الأفعال في بناء النصوص الشعرية والنثرية. يصف حج محمد هذا العمل السابق بأنه "مختبر عملي" أفضى إلى إدراك أن الاستبعاد ليس تمريناً لغوياً فحسب، بل عملية "إنقاص" مقصودة تحول النص إلى بناء فني أرفع.

يرفض المؤلف الدلالة السلبية لكلمة "نقص"، مشبهاً إياها بـ"الحنيفية" التي تحولت من معنى الاعوجاج إلى الاستقامة. هكذا، يصبح الإنقاص دلالة إيجابية تعني الاختيار الواعي والاستبعاد الانتقائي، مما يمنح النص سلاسة وتماسكاً. يؤكد أن هذا المفهوم يتولد من علاقات سببية بين الأفكار، كما تناسلت الاستعارة من التشبيه، مما يمنحه أصالة كنظرية نقدية مستقلة.

التمييز عن المفاهيم التقليدية: الحذف والتكثيف

يخصص المؤلف جزءاً كبيراً للمقارنة بين "الإنقاص البلاغي" ومفهومي "الحذف" و"التكثيف"، مؤكداً أنه أعمق من كليهما ويشمل ارتباطاً بهما دون الاقتصار عليهما. يعرف الحذف البلاغي بأنه "حذف داخل سياق لا يقوم أصلاً على شاعرية الحذف بحد ذاته"، وهو استبعاد جزئي لبنى لغوية (حرف، اسم، فعل) لتحقيق غاية معنوية، مع دليل يدل عليه. يستشهد بأمثلة قرآنية من سورة الكهف، مثل حذف "سنين" في "وازدادوا تسعاً" بعد ذكرها سابقاً، أو الحذف التدريجي في حوار موسى والخضر، الذي يخلق توتراً درامياً يؤدي إلى الفراق.

أما التكثيف، فيعرفه بأنه "تقليل ظاهر الشيء وتجميعه ليبدو أكثر مما هو"، مركزاً على غزارة المعاني دون الحاجة إلى الحذف. يورد أمثلة قرآنية مثل "ويخلق ما لا تعلمون" التي تستوعب تطورات علمية لاحقة، أو "وإنا لموسعون" التي تشير إلى توسع الكون. يختلف التكثيف عن الإنقاص في تركيزه على ما هو موجود، بينما يركز الإنقاص على الغياب الذي يعمق دلالة الموجود.

في النهاية، يرى حج محمد أن الإنقاص البلاغي هو "نظرة شاملة تحكم كل جزئية في النص"، مما يجعله إطاراً كلياً يخلق قانوناً خاصاً للعمل الأدبي، بخلاف الحذف الجزئي أو التكثيف المعنوي.

تطبيقات المفهوم في الشعر: جماليات الاستبعاد والتقشف

يتحول الكتاب إلى رحلة تطبيقية، بدءاً بالشعر. يحلل ديوان "أولئك أصحابي" للشاعر حميد سعيد، واصفاً إياه بعمل واعٍ يقوم على "التوليف". يستخدم سعيد الإنقاص عبر حذف "الأصل" -أي الروايات العالمية مثل "عوليس" أو "موبي ديك"- من المتن الشعري، مع الاحتفاظ بها كمرجعية في وعي القارئ. هذا يحول القراءة إلى مشاركة فاعلة، حيث يبحث القارئ عن الطبقات المتعددة، مما يوسع المفهوم من الكلمة إلى النصوص المرجعية.

كما يتناول عددا من مقاطع ديوان "بنات للألم" للشاعرة أمينة عبد الله، مشيراً إلى "التقشف البلاغي" الذي يتخلى عن الأدوات التقليدية كالتشبيهات، ليعبر عن ألم النساء مباشرة. في مقطع يصف نساءً يشترين شباباً ضائعاً بلحظات عشق، ينتهي بـ"هكذا أتت أشياء جميلة في أوقات غير لائقة"، حيث يتحول التقريري إلى بلاغة حقيقية نابعة من صدق التجربة، محطماً التصورات النمطية للجمال الزخرفي.

 تطبيقات في النثر والسرد: روايات وقصص قصيرة

في النثر، يحلل عدة روايات متنوعة. في "مفاتيح البهجة" لعمر حمش، يبرز كيف يساهم الإنقاص في جعل السرد أكثر فنية عبر استبعاد تفاصيل غير ضرورية. أما "حب في منطقة الظل" لعزمي بشارة، فيلاحظ استبعاد الوصف الجسدي للعلاقة الحميمة، مما يحولها إلى استعارة فلسفية، محافظاً على الخصوصية الثقافية وخدمة الرؤية الفكرية للمؤلف.

في "عين التينة" لصافي صافي، يركز على تجنب النقد التكويني، محتفظاً بالنص النهائي كمعمار فني مدروس. وفي "الحياة كما ينبغي" لأحمد رفيق عوض، يناقش إقصاء شجرة التين مع أنها رمز فلسطيني عميق، ولم يجد المؤلف حج محمد مبرّرا فنياً لاستبعادها، مما يعزز أن فكرة الإنقاص البلاغية هي التي تقوم على الفكرة الواعية لدى الأديب، شاعراً أو سارداً.

كما يتناول القصص القصيرة لمحمد الكريم، صلاح عويسات، وحلمي حسين شاكر، موضحاً كيف يعزز الإنقاص الاختزال في هذه الأشكال، جاعلاً السرد أكثر تأثيراً دون ترهل.

 تجليات أخرى: العنوان، علامات الترقيم، والصورة

يتوسع المفهوم ليشمل عناصر مساعدة. يرى العنوان تجلياً للإنقاص، كاختزال للنص كله. أما علامات الترقيم، فهي ليست شكلية بل تحمل مدلولات بلاغية، كما يورد من آراء فخر الدين قباوة. ويختتم بالصورة، مشبهاً إياها بكاريكاتير أو كتب أطفال خالية من النصوص، حيث تغني الصورة عن آلاف الكلمات، مدعوة المتلقي لإكمالها، مما يربط النظرية بالفنون البصرية.

 سياقات أوسع: القصص القرآني، الأمثال، والفنون الأخرى

يطبق المفهوم على القصص القرآنية كقصة النبي موسى وقصة النبي زكريا عليهما السلام، حيث يركز النص على محطات تربوية مع استبعاد التفاصيل غير الضرورية، مما يبرز بلاغة الاختزال. كذلك في الأمثال الشعبية مثل "طب الجرة على فمها تطلع البنت لأمها"، التي تختزل قصة كاملة في عبارة موجزة، محافظة على الذاكرة الثقافية.

يفتح حج محمد في هذا الكتاب آفاقاً مستقبلية بتطبيق المفهوم على فنون أخرى كالموسيقى، النحت، والسينما، مستشهداً بوالتر ساليس الذي يرى السينما في "الشيء غير المرئي"، حيث يكون ما لا يُعرض أكثر إفادة، داعياً المتلقي لإكمال الصورة.

 أهمية الكتاب وآفاقه: دعوة للوعي الفني

يأمل المؤلف أن يكون الكتاب إضافة نافعة للفكر النقدي، مساعداً الأدباء في مرحلة التوضيب عبر ملاحظة "النتوءات" لتحقيق التماسك، والنقاد في كشف جماليات الاستبعاد. يحول النقد إلى صمام أمان للإبداع، محطماً الحاجز بين الناقد والمبدع. كما يقدم إطاراً شمولياً للإبداع، مستلهماً فلوبير في أن "الصعب هو معرفة ما ينبغي عدم قوله".

يثبت حج محمد نفسه كناقد يمتلك منظومة فكرية خاصة، قادرة على توليد مصطلحات إجرائية كهذا المصطلح؛ فـ"الإنقاص البلاغي" ليس أداة تحليلية فحسب، بل رؤية شمولية تؤمن بأن البلاغة تكمن في الغياب، مما يجعله مرجعاً أساسياً لفهم جماليات الإبداع في الأدب والفنون. هذا الكتاب خطوة نحو بناء نقد عربي مستقل، يشجع على تأمل النصوص من منظور يعالج الإبداع ككل متكامل.


تقييم نقدي معمق لمقال: العالم يمتلئ بمحمود درويش بعد أن امتلأ شعره بعوالم الآخرين



* نشر المقال في صحيفة الحدث الفلسطينية، عدد 185، الصادر بتاريخ: 1/9/2025

* رابط المقال:https://tadween.alhadath.ps/article/167803 

* المصدر: الذكاء الاصطناعي

1. المقدمة: تأطير المقال في سياق النقد الدرويشي المعاصر

يمثل مقال "العالم يمتلئ بمحمود درويش بعد أن امتلأ شعره بعوالم الآخرين" للكاتب فراس حج محمد، المنشور على منصة "تدوين"، مدخلا بالغ الأهمية لتقييم نقدي يتجاوز حدود النص المباشر ليلامس ظاهرة ثقافية أوسع. لا يقتصر التقييم على تحليل المقال بحد ذاته، بل يتوسع ليشمل دراسة موقف الكاتب النقدي الأوسع من ظاهرة "تقديس" محمود درويش، والتي يصفها بـ"متلازمة درويش". من خلال تحليل هذا المقال في سياق نتاج فراس حج محمد الأدبي والنقدي، يتضح أن المقال جزء من مشروع فكري متكامل لا يسعى فقط لقراءة شعر درويش، بل يهدف إلى تفكيك البنية النقدية والثقافية التي أحاطت بهذا الرمز الشعري. يعتمد هذا التقرير على المقال موضوع التحليل ومجموعة من المواد البحثية الأخرى التي تتضمن مقالات ومراجعات نقدية للكاتب، مما يوفر رؤية شاملة ومنهجية لمنهجه الفكري.

2. خلفية الكاتب: فراس حج محمد بين النقد والإبداع

تتطلب قراءة أعمال فراس حج محمد فهما عميقا لخلفيته الأكاديمية والأدبية، والتي تشكل الإطار الأساسي لرؤاه النقدية. حصل الكاتب على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية عام 1999، ويعمل كمشرف تربوي للغة العربية، إضافة إلى كونه محاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. هذه الخلفية الأكاديمية والتربوية تزوده بأدوات تحليلية ومنهجية صلبة، وتمنحه القدرة على التعامل مع النصوص بعين المتخصص.

وعلى الصعيد الأدبي، فإن فراس حج محمد ليس مجرد كاتب مقالات، بل هو شخصية ثقافية متكاملة، حيث يُعرّف بأنه ناقد وشاعر فلسطيني، وعضو في اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، ولديه نتاج غزير يتجاوز 35 كتابا مطبوعا. يبرز في أعماله التفاعل بين دوره كشاعر مبدع وكناقد، وهي ثنائية تمنحه حساسية خاصة تجاه قضايا الإبداع وتلقيه. وتتجلى هذه الثنائية في موقفه المثير للدهشة الذي عبر عنه في مقال "كل شيء مزعج"، حيث أشار إلى توقفه عن كتابة الشعر منذ فترة طويلة، معللا ذلك بأن "الشعر ليس مهما في مثل هذا العصر"، وأن من يرى عكس ذلك هو "إنسان مهووس أو رومانسي".

هذا الموقف يكشف عن صراع داخلي عميق لدى الكاتب. من جهة، هو يتبنى رؤية نقدية عقلانية تجريدية تحارب "تقديس" الشعر ورموزه، وتنتقد فكرة أن الشعر يمكن أن يغير العالم أو يحل مشاكله. من جهة أخرى، يبدو أنه قد تأثر بشكل مباشر بواقع ثقافي جعل الرمز الشعري الأوحد (محمود درويش) يلقي بظلاله على المشهد الأدبي، مما أثار في نفسه تساؤلات حول جدوى الإبداع الشعري نفسه في ظل هذه الهيمنة. هذه المفارقة تضفي على نقده حول "متلازمة درويش" بُعدا شخصيا وإنسانيا، وتجعله أكثر من مجرد تنظير أكاديمي. فالكاتب، بصفته شاعرا توقف عن الكتابة، يعكس في نقده أثر الظاهرة التي يتناولها على الشعراء الممارسين، مما يمنح حججه عمقا وتجربة شخصية.

3. تحليل المقال: "العالم يمتلئ بمحمود درويش..."

يبدأ تقييم المقال من عنوانه الذي يمثل مفتاحا أساسيا لفهم مضمونه: "العالم يمتلئ بمحمود درويش بعد أن امتلأ شعره بعوالم الآخرين". هذا العنوان ليس تقويضا لقامة درويش الشعرية، بل هو في حقيقته شهادة على عبقريته. يرى الكاتب أن عالمية درويش وانتشاره لم تأتِ من فراغ، بل هي نتيجة مباشرة لقدرة شعره على استيعاب وتوظيف الثقافات والتجارب الإنسانية والكونية. هذا التحليل يشير إلى أن المقال، على عكس ما قد يوحي به كعنوان لمقال نقدي، يمثل الجانب الإيجابي من رؤية فراس حج محمد حول درويش، والذي يقر بعظمة إبداعه كشاعر.

من خلال استقراء مقالاته الأخرى، يتضح أن هذا المقال يتبع منهجا إيجابيا في بدايته، حيث يركز على مسيرة درويش الشعرية وتطوره من شاعر محلي مرتبط بقضية إلى شاعر كوني. هذا التقدير الإيجابي يوفر للكاتب أرضية صلبة للانتقال لاحقا إلى نقد الظاهرة السلبية المتمثلة في "متلازمة درويش" دون اتهامه بالتقليل من شأن الشاعر. فالمقال يقدم درويش كظاهرة إبداعية فريدة، مما يجعله أكثر أهلية للحديث عن السطوة الثقافية التي أصبحت تحيط به.

4. "متلازمة درويش": تحليل المفهوم وسياقاته

يُعد مفهوم "متلازمة درويش" الذي صاغه فراس حج محمد إسهاما أصيلا في النقد الأدبي العربي الحديث. يصف الكاتب هذه المتلازمة بأنها ظاهرة نقدية وثقافية تظهر في "السيطرة الإبداعية لمحمود درويش" التي تؤدي إلى "تقديسه" و"أسطرته" إلى حد يجعله "الشاعر الأوحد" الذي لا يمكن لأحد أن يماثله أو يتجاوزه. هذه الظاهرة لا تقتصر على النقد المعاصر، بل يربطها الكاتب بأصول تاريخية، مستعيدا دور "سلطة الناقد" في التراث العربي القديم، كما في أحكام النابغة الذبياني التي كانت قادرة على "منح المبدع السلطة الإبداعية". هذا الربط يضع نقده في إطار تاريخي وثقافي واسع، ويؤكد أن الظاهرة ليست حصرا على العصر الحديث.

4.1. التطبيق العملي للمفهوم: نقد كتاب صبحي حديدي

لإثبات فكرة "متلازمة درويش"، يقدم فراس حج محمد تحليلا نقديا معمقا لكتاب صبحي حديدي "مستقر محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ". الكاتب لا ينتقد حديدي لمجرد محبته لدرويش، بل ينتقد الطريقة التي أثرت بها هذه المحبة على منهجيته النقدية. يشير إلى أن العلاقة الشخصية والمهنية القوية بين حديدي ودرويش، حيث كان درويش يصفه بـ"الأمهر في تصويب الشعر" ، أدت إلى "انحياز كلي" في لغة النقد. هذا الانحياز لم يؤثر فقط على استخدام "مفردات التبجيل والتفخيم" (مثل "الشاعر النبيّ") ، بل تجاوز ذلك ليؤثر على المنهجية البحثية.

بسبب هذا الانحياز، وقع الناقد (صبحي حديدي) في عدة أخطاء منهجية، منها إسقاط المجموعة الشعرية الأخيرة لدرويش "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي" من التحليل، معتبرا أن نشرها كان خطأ من باب "ومن الحب ما قتل". كما أن كتاب حديدي يفتقر إلى المنهجية البحثية المتكاملة، حيث أنه عبارة عن مجموعة من المقالات القديمة التي جُمعت في كتاب دون مراجعة كافية، مما أدى إلى تكرار الأفكار والعبارات في مواضع مختلفة. هذا التكرار، بالإضافة إلى عدم توثيق تواريخ نشر المقالات أو أماكنها الأصلية، يؤكد أن التقارب الشخصي أضعف البناء المنهجي للعمل.

يقارن فراس حج محمد نهج حديدي بنهج نقاد آخرين مثل عادل الأسطة، الذي على الرغم من تفضيله لدرويش، إلا أنه كان "أكثر تفلتا من سيطرة المبدع عليه". فقد كتب الأسطة منتقدا بعض مواقف درويش، وناقش أسباب حذف بعض قصائده من دواوينه مثل "تغير في مواقف درويش تجاه بعض القضايا العربية أو الأنظمة الحاكمة". هذه المقارنة تؤكد أن النقد الموجه لكتاب حديدي لم يكن عاطفيا، بل كان منهجيا في جوهره، ويسلط الضوء على ضرورة استقلال الناقد عن تأثيرات المبدع.

4.2. المفهوم في السياق الثقافي الأوسع

يمتد مفهوم "متلازمة درويش" ليشمل جوانب ثقافية واجتماعية أوسع. في مقال آخر، يدافع فراس حج محمد عن الشاعر سليم بركات الذي كشف في مقال له عن بعض التفاصيل الشخصية لدرويش، ويوضح أن ردود الفعل العاطفية الرافضة لـ"انتهاك" خصوصية الشاعر ليست نابعة من احترام حقيقي، بل من "خوف من أن تتحطم صورته المثالية". هذا الموقف يكشف أن سطوة درويش ليست أدبية فقط، بل هي اجتماعية ونفسية، ترفض التفريق بين إبداع الشاعر وحياته الشخصية، وتصبغه بالقداسة.

يذهب الكاتب أبعد من ذلك، ويربط "فكرة الشاعر الأوحد" بـ"العقلية الدكتاتورية"، معتبرا أن "تأليه المبدع" هو امتداد لـ"تأليه الحاكم". هذا الربط يكشف أن مفهوم "متلازمة درويش" لدى فراس حج محمد ليس مجرد تنظير أدبي، بل هو نقد ثقافي وسياسي عميق الجذور. فالإفراط في تمجيد رمز ما، مهما كانت قيمته، يؤدي إلى إغلاق الأفق أمام المواهب الشعرية الشابة، ويخلق حالة من "العقم الشعري".

توضح الموازنة الآتية الفروق بين المناهج النقدية المتعددة التي تناولها حج محمد:

صبحي حديدي:

يمثل نموذجا لـ "متلازمة درويش"؛ ناقد منحاز بسبب علاقة شخصية عميقة. إغفال ديوان "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي". التبرير العاطفي لحذف بعض القصائد. التكرار المنهجي بسبب جمع مقالات سابقة دون مراجعة.

يرى حج محمد أن منهجه أُفقِد قيمته البحثية بسبب الانحياز الكامل والتبجيل المفرط، مما جعله "ناطقا باسم الشاعر" و"محاميا عنه".

عادل الأسطة:

ناقد محب لدرويش لكنه أكثر استقلالا. لم يقع في فخ التبجيل المفرط.

يرى حج محمد أن الأسطة كان "أكثر تفلتا من سيطرة المبدع عليه" وناقش مواقفه السياسية والنقدية بعمق أكبر، مما يعكس توازنا مطلوبا في النقد.

فراس حج محمد:

ناقد لظاهرة التقديس والتأليه، مع اعتراف بعظمة الشاعر. يركز على ضرورة التفريق بين إبداع الشاعر وحياته الشخصية، وبين النقد الموضوعي والتقديس العاطفي. يمثل موقفه نقيضا لمنهج حديدي، حيث يسعى إلى إعادة الاعتبار للنقد كآلية مستقلة وموضوعية، مع الحفاظ على التقدير للإنجاز الإبداعي.

5. تقييم معمّق: مكامن القوة والضعف في رؤية الكاتب

تتميز رؤية فراس حج محمد في نقد "متلازمة درويش" بعدة جوانب قوة. أولا، يمتلك الكاتب جرأة لافتة في مواجهة "الرمز المقدس" في الأدب العربي، وهو موقف يفتقر إليه الكثير من النقاد الذين يخشون المساس بقدسية هذه القامات. ثانيا، تتسم رؤيته بالشمولية، حيث لا يقتصر نقده على تحليل نص، بل يتوسع ليشمل البنية النقدية، العلاقة بين الناقد والمبدع، وتأثير الرموز على الأجيال الشابة. ثالثا، صياغته لمفهوم "متلازمة درويش" يمثل إسهاما أصيلا في النقد الأدبي الحديث، ويقدم أداة تحليلية يمكن استخدامها لفهم ظواهر مشابهة في الثقافة العربية.

مع ذلك، قد يرى البعض أن رؤية الكاتب لا تخلو من نقاط ضعف محتملة. يمكن القول إن نقده، رغم موضوعيته الظاهرة، يتأثر بخلفيته كشاعر توقف عن الإبداع، مما يضفي عليه مسحة من الإحباط أو التحدي الشخصي للرمز الأكبر. هذه الذاتية، وإن كانت تمنح نقده بعدا إنسانيا، قد تدفع البعض إلى التساؤل عن مدى حياديته الكاملة. كما قد يقع الكاتب في فخ الإطلاقية عند حديثه عن "الشاعر الأوحد" و"العقم الشعري"، متجاهلا التجارب الشعرية الحديثة الأخرى التي حاولت التمرد على هذه السطوة، أو التي تبني جمالياتها بعيدا عن ظل درويش.

6. خلاصة وتوصيات ختامية

يمثل مقال فراس حج محمد "العالم يمتلئ بمحمود درويش..." مدخلا بالغ الأهمية لمشروع نقدي متكامل يركز على فكرة "متلازمة درويش". هذه المتلازمة، كما يوضحها الكاتب، ليست مجرد تقديس، بل هي ظاهرة مركبة تؤثر على النقد والإبداع والثقافة بشكل عام. تكشف هذه الظاهرة عن الحاجة المُلحة لثقافة نقدية أكثر استقلالية وتجاوزا للعلاقات الشخصية والتأثيرات الرمزية.

بناء على هذا التحليل، يُوصى للقارئ والباحث بقراءة النصوص النقدية عن الرموز الأدبية بعقلية واعية، تميّز بين التحليل الموضوعي والتقديس العاطفي. كما يجب فهم أن مقال حج محمد ليس نهاية المطاف، بل هو جزء من حوار نقدي مستمر وضروري. وتُشجع النقاد على تبني نهج فراس حج محمد في الجرأة والعمق النقدي، مع ضرورة الحفاظ على التوازن بين الموضوعية والذاتية، لضمان أن يخدم النقد الأدبي الإبداع في جوهره، بدلا من أن يتحول إلى مجرد أداة لتأليه الرموز.

7. المصادر المرجعية للتقييم

1. فراس حج محمد - السيرة الذاتية، تم الوصول بتاريخ ‎سبتمبر 2، 2025، https://kenanaonline.com/users/ferasomar/posts/970807

2. حوار مع الكاتب الفلسطيني فراس حج محمد - شبكة أخبار البلد، تم الوصول بتاريخ ‎سبتمبر 2، 2025، https://www.akhbarelbalad.net/ar/1/10/8142/?ls-art0=40

3. فراس حج محمد - شبكة النبأ المعلوماتية، تم الوصول بتاريخ ‎سبتمبر 2، 2025، https://annabaa.org/arabic/author/759

4. كل شيء مزعج في ظل هذا الوضع - السنابل، تم الوصول بتاريخ ‎سبتمبر 2، 2025، https://2u.pw/YXsma

5. متلازمة درويش (1): النصر، الهزيمة، المنفى | مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تم الوصول بتاريخ ‎سبتمبر 2، 2025، https://www.palestine-studies.org/ar/node/1649860

6. العالم يمتلئ بمحمود درويش بعد أن امتلأ شعره بعوالم الآخرين - تدوين، تم الوصول بتاريخ ‎سبتمبر 2، 2025، https://tadween.alhadath.ps/article/167803

7. متلازمة درويش وأثرها في توجيه النقد- صبحي حديدي نموذجاً| فراس حج محمد - صحيفة الاتحاد، تم الوصول بتاريخ ‎سبتمبر 2، 2025، https://2u.pw/BstxD

8. فراس حج محمد: محمود درويش وأسطورة الشاعر الأوحد - رأي اليوم، تم الوصول بتاريخ ‎سبتمبر 2، 2025، http://bit.ly/47nDRFe

9. فراس حج محمد - سلطة الناقد من النابغة الذبياني حتى إدورد سعيد | الأنطولوجيا، تم الوصول بتاريخ ‎سبتمبر 2، 2025، https://alantologia.com/blogs/70486/

10. مراجعة نقدية لـ'مستقر محمود درويش' بين الذاتي والموضوعي | MEO - Middle East Online، تم الوصول بتاريخ ‎سبتمبر 2، 2025، http://bit.ly/4m9LgMg

11. صبحي حديدي يقارب شعر محمود درويش بشموليته - اندبندنت عربية، تم الوصول بتاريخ ‎سبتمبر 2، 2025، http://bit.ly/3UW5z4y

12. جدل حول علاقات درويش الشّخصية | فراس حج محمد، صحيفة الاتحاد، تم الوصول بتاريخ ‎سبتمبر 2، 2025، http://bit.ly/4lXcSny


شهر زاد ( دكتورة هيام عبدالهادي صالح ) وحكاياتها على طاولة النقد بالشرقية

 



كتب / مجدي جعفر


...........................................................................

تحلق أدباء وشعراء ونقاد منتدى السرديات باتحاد كُتّاب مصر – فرع الشرقية ومحافظات القناة وسيناء وأعضاء نادي أدب ديرب نجم في باكورة التعاون بينهما، حول رواية ( طار فوق عش الخفافيش ) للكاتبة الجنوبية بنت مدينة أسوان الدافئة السمراء الدكتورة هيام عبدالهادي صالح، بقصر ثقافة ديرب نجم، وأدار الندوة الكاتب والناقد المعروف محمود الديداموني، وبحضور السيدة الفُضلى نجوى مكاوي مديرة قصر الثقافة التي رحبت بالكاتبة المُحتفى بها وبأعضاء منتدى السرديات.

...................................................................................

وقدم الكاتب والناقد أحمد عبده ورقة نقدية، جاء فيها :

ـــ الرواية من الأدب البيئي, تعالج بيئة لها خصائص معينة, والرواية تؤكد انشغال أهل الجنوب بما تحت الأرض, وما تحت الأرض مرتبط بالحظ والسحر والشعوذة والدجل!!

ـــ العنوان ربما يكون لصيق بالمنياوي أكثر, لكنهم جميعا طاروا فوق عش الخفافيش

ـــ (ولسوف يعطيك ربك فترضى,( هي المعاكس للشعار الشعبوي القدري) نادى المنادي في يوم العيد, الفقري فقري والسعيد سعيد

ـــ هل أصبحت غنيا يا فلان؟/ هو ليس سؤال استفهام, قد يكون سؤال تعنيف, لماذا لم تغتن, ألم نتفق في العام الماضي أن تكون غنيا؟, وتعاهدنا سنكون أغنياء, ورددناها أكثر من مرة؟؟, أو سؤال تهكمي, فالشباب في ماراثون ولهاث وراء جمع المال بأي طريقة, الكاتبة تناقش مشكلة جيل يمتد لأكثر من ثلاثين عاما.

ـــ الرواية إدانة للواقع من عدة اتجاهات: مؤهلات عليا, وبدلا من أن يحكوا تجاربهم عن اسهاماتهم في الانتاج وتطوير الحياة, ٌيتناقشون في أساليب الغنى بالفهلوة والحظ والسحر والدجل/ وتمثلت إدانة الواقع في مقولة: خذ الحمص ودع لهم الفستق, مقولة تمثل البعد السياسي في الرواية, وتحيلنا لعالم الحيتان والبساريا, وفيهاا توظيف للمثل المعروف.

ـــ تتكئ الرواية على عدة محاور: سنكون أغنياء الأحلام والوهم/ كأنه تقرير وقرار لا مفر من تحقيقه/ نادى المنادي في يوم العيد, مقولة تأخذ القدسية من التعبير الشعبي التراثي, وكأنه نداء مقدس أو قرار يسلم به, العامة يرددونه بانسجام مع مافيه من سجع وإيقاع, كلام يحمل في طياته السخرية من الغير وأحيانا من أنفسهم.

ـــ اللغة جاءت متشابهة في تجارب الشخصاٌت, كلهم مؤهلات عليا, ولن نعتبرها رواية أصوات, لأن الصوت الذي بنى الرواية هو إجبار الساردة " الدكتورة سماح," لهذه الأصوات أن تحكي تجاربها, سماح تتحكم في توجيه الأبطال للحكي بما يتناسب ومخطط الكاتبة للرواية, حتى أنك لتظن أن كل هذه الشخصاٌت شخصية واحدة, لتشابه التفكير والأحلام والمصير.

ـــ الرواية يتضح فيها البناء الهندسي, العناوين الداخلية, جاءت بتخططٌ مُسبق في

مجمله, من رؤية الكاتبة لفلسفة موضوع روايتها, ثم التخططٌ الذي تفرضه لحظة الإبداع, ربما بنظرية الرواية تكتب نفسها.

ـــ تكنيك روائي مرسوم بعناية, قائم على التشويق, وهي ليست عناوين لفصول, ولكنها عناوبن لقطع سردية, كل قطعة سردية إما تأتي قائمة بذاتها لتحكي الشخصية بضمير المتكلم, أو ينوب عنها أحد في الحكي " مثلا سمير يحكي بالنيابة عن شعبان  ,(الأبطال الستة ) المنياوي، رأفت، دعاء، عادل، سمير، سعد( يقدم المتكلم منهم نبذة مبدئية عن تجربته, ثم يقول سأحكي لكم, ولو وجد الظرف غير مناسب يقول سأحكً لكم فيما بعد , كحالة دعاء حينما حضر عادل أمسكت عن الكلام, في صورة الموجز وإليكم التفصيل بعد قليل/ أو تأتي كقطع سردية منفصلة

الموضوع, متصلة الشخصية ),( وهي حكايات تمثل كتل سردية يمكن أن تقوم بنفسها لنستخرج منها دلالة, ثم تُلحقها الكاتبة بقطع أخرى فردية,  تأتي كتمهيد لحكايات أخرى لشخصيات أخرى.

ـــ نلاحظ ابتعاد العنصر النسائي عن نشاط الحفر والبحث في المجهول, يبحثون عن الغنى بطرق أخرى, طرق استاتيكية كالزواج من أبناء الخليج مثلا

ـــ تتعرض الرواية أحيانا للعلاقات الاجتماعةٌ, وأبرزها حيل وألاعيب التهرب من التوريث, عم سعد كنموذج, وعلى غير المألوف نساء يحسدن الأرامل والعوانس, ونساء يغرن من المطلقة خوفا على أزواجهن.

ــــ وتنتهي الرواية كما بدأت, بطريقة دائرية, لأنهم سيجلسون كل عام في نفس الموعد ليتساءلوا: هل أصبحت غنيا با فلان, ثم يؤكدون الحلم/ الوهم بقولهم  سنكون أغنياء

•  الكاتبة لديها القدرة على اختراع الحكايات وسبكها, توهمك بواقعيتها, حكاية رأفت مثلا جاءت فيr مقاطع: الأول تحقق حلمه واغتنى, ساعة ذهبية وتليفون حديث وسيارة, كيف اغتنيت با رأفت, سأحكي لكم ــ  خلاصة رأفت

الصبر والأمانة هوالقوي الأمين والذكاء وحسن التصرف, وربك له تصاريف.

ــــ مجموعة من خريجي الجامعة, بعد إخفاقهم على أرض الواقع, كل واحد راح يقدم تجربته, منها الحلال ومنا الحرام: سمير اغتنى بالحظ, أو من عمله الطيب مع المرأة وبناتها, عربة نصف نقل وشكٌارة أسمنت بها ذهب ) حكايات خطباء المساجد/( المنياوي

)عش الخفاش والزئبق الأحمر( وهما رمزية الوهم, باستخدام الدجل والسحر والشعوذة/ سعد يغتني من الأثار, وبحيل شيطانية،  يسرق ماكينات البنوك/ والذي وجد ديكا من الذهب, أو أنبوبة بها ألماظ

المنياوي يغتنى من عش الخفاش والزئبق الأحمر, وجولته مع إيزادورا مرة, ومع زهرة الورد مرة, والفرق بين مصير كل منهما, وإن كنت أرى أن استدعائهما لم يخدم حكايات المنياوي.

ـــ في حكاية شعبان وشقيقه المختفي, تستخدم الكاتبة الموضوع  الشعبي حينما تتعدد رواياته, فمن يقسم أنه أوشك على الغرق فإذا به ظٌهر له فجأة لينقذه/ وآخر يقول كادت السيارة تدهسني لولا أنه أزاحنى بعيدا, ورواية أخرى في مشهد المرأة الفانتازي الرائع 

..........................................................................................

ومن ورقة نقدية للكاتب مجدي جعفر، جاء فيها :

( عودة شهر زاد :

هاهي ذي شهرزاد تعود بعد مئات السنين، لتحل في جسد الدكتورة هيام عبدالهادي صالح، لتعيد للحكاية في زماننا بساطتها، وطزاجتها، وبريقها، فهيام اهتمت في روايتها ( طار فوق عش الخفافيش ) بالبُعد الحكائي اهتماما بالغا، فهي حكاءة ماهرة، تعرف كيف تحكي؟ ومتى تبتر الحكاية ومتى تتوقف، ومتى تواصل وتستمر؟.

وكيف تجذب قارئها وتجعله في شوق دائم لمواصلة القراءة، فهي تكتب عن واقعنا الآني، واختارت مجموعة من الشباب والشابات، الذين تخرجوا لتوهم في كلية الآداب، ( سبعة شبان وفتاتان )، وهناك حوادث متناثرة في الرواية تشير إلى تخرجهم في العام 2020م أو ما قبله، وهم أبناء ثورتي يناير 2011م، و30 يونيه 2014م، فهناك إشارات سريعة إلى حوادث محددة، نستشف منها زمن أحداث الرواية، ومن هذه الأحداث الإشارة إلى الحرب على الإرهاب، فكان أحد الشبان مجندا في جنوب سيناء، وحمد الله بأنه لم يُجند في شمالها، وإلا أصبح شهيدا، وإشارة أخرى إلى تكافل وكرامة، فضلا عن القفزات السريعة للأسعار، ووثباتها اللامنطقية واللا معقولة.

تبدو للوهلة الأولى لقارئ الرواية بأن البُعد السياسي غائبا ومسكوت عنه، ولكن السياسة حاضرة وبقوة حتى لو بدت لنا في الخلفية، إن الأزمات الخانقة سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، ثقافية أو نفسية، فهي في المقام الأول بسبب السياسة وممارستها، فالتفسخ الاجتماعي والعنوسة والطلاق وحضور الفقر بقوة وانحسار الطبقة المتوسطة وانشغال الآباء عن أولادهم، ومحاولة ملء بطونهم فقط، وتراجع دور التعليم والمتعلم، والبطالة، وضيق الرزق فوق أرض الوطن ... إلخ، كل هذه المشاكل وغيرها حاضرة بقوة في الرواية.

سنكون أغنياء :

قال سعد : ( ما رأيكم لنقول " سنكون أغنياء " ونجتمع في نفس القاعة ونفس اليوم العام القادم ونكون أغنياء .. كل واحد منا يضع مفاتيح سيارته أمامه على المنضدة هذه ) ص 34

الثراء هدف مشروع، ولكن الأهم هو الوسيلة التي يسلكها كل منهم، ليصبح ثريا، فسعد يحثهم على الثراء بأية طريقة وبأية وسيلة، مشروعة كانت أو غير مشروعة، ولآنهم جميعا من أسوان إلا جمال من المنيا، وينادونه بالمنياوي نسبة إلى بلده، وأسوان معروفة بآثارها، والمنيا أيضا، فيحثهم على الحفر تحت منازلهم والبحث عن الكنوز المدفونة في باطن الأرض، فإذا كان الرزق قد ضاق بنا فوق الأرض، فلنبحث عنه تحت الأرض، ويقول لهم :

( لو اقتنع عقلك سيفعل جسمك المستحيل ليحقق حلمك )

ثمة قناعة عقلية بما هم مقدمون عليه، وثمة حلم .. الحلم بالثراء يداعب خيالاتهم، فمن أين لهم بالمهر والشبكة والشقة والاثاث، و .. و ...

ويحث دعاء على الزواج بأي رجل ثري، رغم علمه بالعلاقة العاطفية التي تربطها بصديقه عادل، وهذه العلاقة يعرفها الداني والقاصي، وهما شبه مخطوبين، بل يحث عادل نفسه على الزواج بفتاة أخرى أو أية إمرأة غنية، ويطلب كذلك من الدكتورة سماح بأن تتزوج من أحد أساتذتها، حتى لو كان متزوجا، المهم أن يكون غنيا، وسيساعدها على الانتهاء من مناقشة رسالة الدكتوراه، وتُوقف هدر الفلوس في هذه الرسالة التي استنزفت كل مواردها.

البداية :

تبدأ الرواية بمقطع سردي قصير، لا يتجاوز الخمسين كلمة، تحت عنوان ( أين ذهبت سيارتك يا فقري؟ )

بعد العام على التخرج، وضع كل من المنياوي، ورأفت، وسعد، وسمير، وعادل مفاتيح سيارته، أما دعاء وشاكر وشعبان وأنا الدكتورة سماح بدون مفاتيح.

نستشف من الجملة الأخيرة بأن الدكتورة سماح هي الراوي، وهي من ستروي لنا قصص وحكايات المنياوي ورافت وسعد وسمير وعادل ودعاء وشاكر، وبالتأكيد قصتها هي أيضا وحكايتها، تسع حكايات مثيرة ومشوقة، اختفت فيها الكاتبة تماما، وجعلت من الدكتورة سماح راوية، وباقي أعضاء ( الجروب ) كلهم رواة مشاركين، والرواية فيها من تقنيات رواية تعدد الأصوات، كما فيها من روح ألف ليلة وليلة، ومن حكايات الأدب الشعبي عموما.

وقد لعبت الأمثال الشعبية دورا بنائيا هاما في بناء هذه الرواية، وإذا كانت الرواية تعج بالأمثال الشعبية والطرائف، حيث تسري روح الفكاهة والسخرية كثيرا، فإننا سنتوقف في هذه العجالة أمام مثلين شعبيين فقط، وطرفة من الطرائف.

المثل الأول : وقد صدرته الكاتبة في صدر الرواية.

( نادى المنادي في يوم العيد : الفقري فقري .. والسعيد سعيد )

هؤلاء الشباب يسعون لأن يكونوا أغنياء، ومن السعداء، يتجاوزون الفقر، ويبتعدون عنه، واختبار الغنى والفقر، السعادة والشقاء، سيأتي كل عام في اجتماع ( الجروب ) في اليوم والشهر المحددين بيوم حفل التخرج، يقول شعبان :

( العام الماضي كنت الوحيد المالك لسيارة يا شعيان، أين ذهبت سيارتك يا فقري؟ )

والمقاطع السردية التالية، عنونتها الكاتبة بسؤال واحد محدد ومكرر، هل أصبحت غنيا يا منياوي؟ هل أصبحت غنيا يا رأفت؟ هل أصبحت غنية يا دعاء؟ هل أصبحت غنيا يا سمير؟ 

وكل يبدأ يحكي حكايته، والحكاية لا تقدمها الكاتبة دفعة واحدة، ولكنها تتناثر عبر صفحات الرواية، ويلهث القارئ وراءها، في محاولة منه للملمة نثارها، وتجميع أبعاضها، لتقترب من الاكتمال في النهاية، حكاية كل شاب وشابة.

العنوان :

دائما العنوان هو العتبة الأهم، والعنوان الذي اختارته الكاتبة من العناوين التي تستفز عقل القارئ وتثير خياله، وتدعوه إلى التأمل وإعمال الفكر، لماذا اختارت الخفاش تحديدا؟ وما سر هذا العش؟ ولماذا الهوس بالبحث عنه؟

قدمت الكاتبة في ص43 وما بعدها معلومات قيمة عن الخفاش، والهدف من البحث عن عش الخفاش، هو الحصول على الزئبق الأحمر بداخله، والزئبق الأحمر هو غذاء الجان حارس المقبرة الفرعونية، لحسة منه تعيد للجني شبابه ويفتح لك الكنوز.

وكان هدف المنياوي هو الوصول إلى عش الخفاش، والحصول على الزئبق الأحمر، وينتقل من خانة الفقراء المعدومين إلى خانة الأثريا المنعمين والمترفين، ويبتعد عن مخاطر الحفر تحت الأرض بحثا عن الآثار، ففي عش الخفاش : 

( لا رصد ولا شيخ لفتح الكنز ولا كبار يكسبوا الملايين ويرموا لنا الفتات .. ) ص45.

الفانتازيا والعبث والواقعية السحرية :

الواقعية السحرية التي استخدمتها الكاتبة استدعتها من تراثنا المصري القديم، من حكاية ثاني أقدم قصة حب في التاريخ، حكاية الجميلة ( إيزادورا ) ابنة الحاكم اليوناني لإقليم المنيا، الذي رفض أن تتزوج ابنته من الضابط المصري، وحال بينها وبين حبيبها، فانتحرت، وكانت أول شهيدة للحب والغرام، وايضا من قصة " زهرة الورد " و " أنس الوجود " كأول قصة حب في التاريخ، ودارت أحداثها بجزيرة فيلة بأسوان، وأثرت بها فنها الروائي بعيدا عن سحرية بورخيس وماركيز التي يحاول بعض كُتّابنا الاقتداء بها والسير على هداها، رغم أنهم في أمريكا اللاتينية استقوها اساسا من تراثنا، وكانت أرضهم خصبة لتنمو فيها، وتثمر ثمرا جديدا ومدهشا، ويحسب لهيام أنها بنت واقعيتها السحرية من العجائبية التي يعج بها التراث المصري القديم، ولم تتوقف الغرائيبية والعجائبية عند هيام على ما ذكرت فقط، ولكنها مبثوثة أيضا في قصتي سمير وشاكر، وفي حضور الجن والعفاريت والسحر، وستظل حكايات الجن والعفاريت مادة خصبة للروائيين إذا أحسنوا توظيفها، وأحسنت الدكتوره هيام صالح استثمار هذا العالم، وموضوع البحث عن الآثار مرتبط في المخيلة الشعبية بهذا العالم، ولذا جاء توظيفه لضرورة موضوعية ولضرورة فنية، واعتقد أنه قد ساهم في إثراء الرواية.

تحولات الشخصيات :

كل الشخصيات طرأ عليها التغير والتحول، فلم يعد سعد المحرض على الثراء والقوي والجسور هو سعد، فتراجع دور سعد وحل محله سمير، ورغم الهزائم والانكسارات راح يخطب فيهم سنكون أغنياء .. سنكون أغنياء، ويطلب من دعاء ألا تعود من الخليخ إلا وهي غنية أو تتزوج من خليجي، ويطلب من كل أعضاء ( الجروب ) ألا ييأسوا، ويعاودا الحفر من جديد والبحث عن الآثار، وكل ياتي بعد عام ويضع مفتاح سيارته على المنضدة.

الكاتبة كانت واعية بحركة الشخصيات، فلم تسر كلها على خطوط مستقيمة، والحياة ليست كما يظن البعض خطوط مستقيمةن ولكنها دوائر ومنحنيات، ومتاهة كبيرة، وهؤلاء شبان صغار، بالكاد وصلوا إلى الخامسة والعشرين، وما بين حفل تخرجهم وأول لقاء، واللقاء الأخير، عامان فقط، لم يكن التغير في الشخصيات بسيطا، لا على المستوى الفكري أو النفسي أو الجسدي، كل الشخصيات تغيرت، وإذا قُدر لي أن أكتب في هذا الموضوع فقط، سأختار شخصية جمال فخري المنياوي، التي صاغتها الكاتبة ببراعة، وتحولاتها العقلية والنفسية والجسدية، عامان فقط صار خلالهما رأسه كيس قطن، وملأت التجاعيد وجهه، كبر أعواما وأعواما في عامين فقط، ولم يكن التغير جسديا وحسب، بل تبعه تغيرا نفسيا وعقليا، وربما التغير النفسي والعقلي هما السبب في هذا التغير الجسدي، شخصية تحتاج إلى دراسة متأنية، نرجو أن تسعفنا الأيام بإنجازها، وربما الشخصية الوحيدة التي لم تتغير تغيرا كبيرا أو جذريا هي الدكتورة سماح.

الحوار  .. السيناريو .. السينما .. المسرح.

اعتمدت الرواية في أكثر من ثلاثة أرباعها على الحوار، وتراجع السرد إلى المرتبة الثانية، وكانت معظم المقاطع السردية أقرب في بنائها إلى السيناريو، مما يجعلها مطلوبة للسينما، ويمكن أيضا أن يتم مسرحتها وتقليص عدد الشخصيات.

والكاتبة قدمت أيضا قصص إنسانية في غاية الثراء، مثل والد عادل المقطوعة قدمه، وأمه السيدة البسيطة الصابرة، والأرملة أم البنات التي قسمت الثلاث عرائس الذهب على الثلاثة : سمير وشقيقها وهي، فهي نموذج رائع للأمانة، شخصيات كثيرة بالرواية ذات أبعاد إنسانية نبيلة تستحق أن نتوقف عندها، وكل الشكر للكاتبة القديرة الدكتورة هيام عبدالهادي صالح، التي أتاحت لنا فرصة قراءة روايتها ( طار فوق عش الخفاقيش ) البديعة والماتعة والمائزة والمتميزة.

............................................................................................


وقدم الأديب والناقد أحمد عثمان ورقة نقدية جاء فيها :

(عكس المسار الاعتيادي سأبدأ بهذا المقطع من آخر عناوين الرواية ـ الزاخرة بالعناوين ـ (سنكون أغنياء .. سنكون أغنياء) والذي جاء مكررًا على سبيل التأكيد:

[ قال سمير:

ـ ما رأيكم لنقول "سنكون أغنياء" 

ونجتمع في نفس اليوم العام القادم ونحن نستقبل دعاء بعد عودتها ونكون أغنياء ..

كل واحد منا يضع مفاتيح سيارته أمامه

والله لا أمزح ولا أسخر ..لا أنا أقولها بجدية وصدق

يا شباب انطلقوا أراكم بعد عام وكل واحد منكم يأتينا بسيارته ـ ضحكنا أكملـ رزقنا ضيق على وجه الأرض .. الحل نبحث تحت الأرض أو فوق الأرض .]

هذا المقطع يتلاقى مع بدايات الرواية ليرسم مسار التناول فيما يشبه الدائرة، فالنهاية تعود للبداية؛ ليبدأ الدوران من جديد من نفس النقطة .. نفس الأمنيات، نفس الدعوة، انتهاج نفس الوسائل في سبيل الوصول لنفس الغاية التي ينشدونها ... تحت عنوان "سنكون أغنياء" ص 34 يبدأ بهذه الفقرة:( ـ ما رأيكم لنقول "سنكون أغنياء" 

  ونجتمع في نفس اليوم العام القادم ونكون أغنياء .. كل واحد منا يضع                       مفاتيح سيارته أمامه على المنضدة ...)

ملاحظة شكلية: لا أدري لماذا القول مفاتيح سيارته، وليس مفتاح سيارته؟!

   إذن .. فقد حددت الأستاذة الكاتبة منهج ومسار الرواية في مجموعة من الشباب الجامعي حديث التخرج من بيئات فقيرة، حدد هدفه من البداية في انتهاج سبيل الثراء السريع (في غضون عام واحد) ..كيف؟ فليبحث كل عن طريق/ وسيلة للوصول إلى الغاية المنشودة

  ولا أخفي أن إلقاء الكاتبة في وجهي ـ كقارئ ـ بتسعة أسماء لتسع شخصيات دفعة واحدة مع ضربة البداية؛ قد سبب لي بعض الارتباك في المتابعة والتواصل واستيعاب العلاقات، مما اضطرني أن أرسم خريطة معرفية لهذه الشخصيات ليتسنى ويتيسر لي متابعة الشخصيات وتشابكات علاقاتها معًا، ومساعيهم المتباينة للوصول إلى أهدافهم التى تعاهدوا عليها

  ولتستثير فضول القارئ وشغفه نحو استجلاء ما يطرحه سؤال البداية (هل اغتنيت يا فلان؟)؛ لتكون الإجابة بعد عدة سطور قليلة (سأحكي لكم)؛ اتبعت الكاتبة تكنيكًا ـ يبدو تجريبيًا ـ يمسك بتلابيب شغف القارئ ليوغل في المتابعة ومواصلة استكشاف المجهول المختفي خلف غموض الإجابة المقتضبة للشخصيات عن سؤال البداية، هذا التكنيك يذكرني بالعرف الذي تجري عليه بدايات نشرات الأخبار، حين يقول المذيع/ المذيعة : كان هذا هو الموجز وإليكم الأنباء بالتفصيل 

 *** ومن خلال مسار أحداث الرواية، يمكن أن أدعي أنني استطعت الوقوف على بعض القضايا التي تفصح عنها الرواية، وتفضحها للرأي العام وتضعها أمام أعين المسئولين، والتي أعتقد أنه الهدف الأساس من وراء كتابتها ..

من هذه القضايا التي تناولتها الرواية:

(1) تمثل قضية الفقر والمجتمعات المعدمة المحور الرئيس الذي تدور حوله الرواية، من خلال استعراض الأحوال المادية والمعيشية للشخصيات التسعة والذين يمثلون قطاعًا واسعً ممتدًا من التركيبة السكانية الحالية، هؤلاء الحالمون بعبور هذا الضِّيق الخانق الذي يمسك بأعناقهم، إلى براح الثراء ومظاهره التي تفشَّت حولهم .. كيف السبيل إلى ذلك؟ .. لا يهم، حلال كان أم حرام ( كما في قضية الشاب سعد الذي اختلس المليون وربع المليون من الجنيهات من ماكينات الصرف الآلي التي يشرف على صيانتها بحيل شيطانية، في سبيل الثراء السريع، والوفاء بالوعد الذي تواعد عليه مع أصدقاءه، وليلقي بمفتاح سيارته بجوار مفاتيح سيارات أصدقاءه على المنضدة كدليل على الثراء الذي سعوا له .. نجح خمسة منهم في إلقاء مفاتيح سياراتهم، وأخفق الباقون وإن كانوا لم يتخلوا عن الحلم) 

(2) القضية الثانية الخطيرة التي تثيرها الرواية، وتدق ناقوس الخطر ـ لعل الغافين، أو المتغافلين يفيقوا ـ هي قضية الثراء السريع من خلال أعمال البحث والتنقيب ـ غير المشروع ـ في الخفاء عن الآثار، وتهريبها خارج البلاد بوسائل خفية لقاء ملايين الدولارات واليورو، بل والريالات والدراهم، وهي قضية شائعة وبخاصة في صعيد مصر، حتى أنهم يقولون : (احفر تحت قدميك ـ أينما كنت ـ تجد آثارًا) .. ويبدو أن الأستاذة الكاتبة على دراية واسعة بما يدور في هذا العالم الخفي الذي له قوانينه غير المكتوبة وأعرافه المتداولة والمتوارثة، وله مافياته المتسلسلة من القاع إلى القمة في شكلها الهرمي، ومن بين هذه الأعراف؛ أن على المكتشف الأول أن يرضى بالسعر الذي يعرضه المشتري ، لا السعر الذي يريد أو يتمنى هو؛ حتى لوكان المعروض بخس، لأن العاقبة ـ حال الرفض أو المساومة ـ كؤود، بمعنى أن ينقلب السحر على الساحر، ويصل أمره إلى السلطات بتهم لا قِبل له بها، كالتنقيب غير المشروع، والاتجار، والتهريب، والتزييف، و .. لذا ـ وفق قوانينهم الخفية ـ عليه أن (يرضى بالحُمُّص ويدعهم يأكلون الفستق، وإلا خرج من المولد بلا حمص)

  وعن هذه القضية تتفرع قضايا جانبية أخرى تتمثل في: 

أ) الاعتقاد في قدرات الدجالين، والاستعانة بهم في تحديد الأماكن في باطن الأرض، وما تحبل به من آثار وكنوز مدفونة، يسعون وراءهم أينما كانوا، حتى وصل الأمر إلى الاستعانة بمن هم من جنسيات مختلفة كالشيوخ المغاربة، والسودانيين، بل والنيجيريين، إضافة إلى المصريين لقاء نسبة من المُكتشفات أو المبيعات 

ب) الاشتغال والانشغال بالبحث عن الزئبق الأحمر ـ وهو العنصر الأساس في عقيدة الدجالين الدال على مكان الخبيئة، عن طريق استحضار الجني المولع بهذ العنصر ـ والذي سرى الاعتقاد بوجوده بأعشاش الخفافيش ( ومن هنا جاءت دلالة العنوان)، وتلعب الإغراءات المادية وأحلام الثراء السريع دورها أمام الشباب في انتحاء هذا الطريق وخاصة إذا سمعوا أن العش الواحد يمكن أن يجد به حوالى العشرين جرامًا من الزئبق الأحمر، الذي يصل سعر الواحد جرام منه ـ وقت كتابة الرواية ـ ثمانون ألف دولار، أي أن العش الواحد يساوي مليون وستمائة ألف دولار، بما يعادل ـ وفق الرواية ـ عشرون مليون جنيه، وبسعر اليوم ثمانون مليون جنيه ..!

ج) الإشارة من طرف خفي ـ في سبيل تحقيق ثروات ملوثة ـ إلى تورط بعض المسئولين الكبار في علاقات غير مشروعة مع المافيات ضمن سلاسل هذا العالم الخفي المشتغل بالتنقيب وتهريب الآثار

(3) قضية أخرى ـ أخلاقية ـ في سبيل البحث عن الثراء السريع، تتمثل في التنازل والتخلِّي عن القيم النبيلة، والمشاعر النقية التي تصاحب الشباب الغض الحالم أمام قسوة الفقر وضيق ذات اليد والواقع البائس، لتحل محلها قيم الانتهازية، واقتناص الفرص العارضة، ولا عزاء للوعود والعهود بصورها المختلفة، ولعل مثال علاقة عادل ودعاء خير تجسيد لهذه القضية فكلاهما أمام إغراء الخروج من عنق الزجاجة إلى البرح المتمثل في بريق الغنى؛ تخلَّى عن أحلامه الغضة، ونكص عن الوفاء بوعوده، فعادل ثزوج من ثرية تكبره بلا سابق معرفة، وبلا حب ( فيما يسمى بزواج المصلحة) بعقيدة انتهازية بلا مواربة ، وكذلك فعلت دعاء في انتهاز فرصة السفر والغني لتدفع عنها وأمها وأختها الأرملة غول الفقر متخلية ـ كما عادل ـ عن الوعود والعهود ، وليذهب كل هذا إلى الجحيم   

(4) قضية أخرى عرَّجت عليها الرواية سريعًا في سياق السرد؛ حين ـشارت إلى ما يعانيه طلاب الدراسات العليا ـ والغالبية من ذوي الدخول المحدودة ـ من ابتزاز واستغلال سواء في تكلفة إعداد الرسالة، أو ما يفرضه المشرف على الرسالة من إتاوة مُقنَّعة يرضخ لها الطالب مُجبرًا وإلا ... وهو أمر أصبح شائعًا في مقام العُرف، متمثلاً في الهدايا الباهظة الثمن، أو العطايا العينية تحت مسميات ما أنزل الله بها من سلطان

   كان هذا بعض ما عنَّ لي من انطباعات تواردت على خاطري أثناء القراءة الأولى للرواية، والتي بلا شك تستدعي عدة قراءات لابد أنها ستكشف عن الكثير من المخبوء وراء السرد، أما عن البناء، والجماليات، واللغة، والجهد المعرفي المبذول والمنثور على امتداد الرواية، وبيئة الأحداث، والشخصيات، وغيرها من فنيات السرد الروائي؛ فلا أساتذتها العارفين بدروبها ولا أدعي أنني من بينهم، ما أنا إلا قارئ متذوق لم يصب الكثير من هذا العمل الجاد في طرحه، وهمومه .. خالص تحياتي للأستاذة الكاتبة دكتورة هيام صالح، وتهنئتي بمنجزها القيم هذا

.............................................................................................

وجاء في ورقة الأديب والناقد ياسر عبدالعليم :

( منذ سنوات عديدة مضت ومن هذا المكان على مائدة نادي أدب ديرب نجم ااتقيت الكاتبة د. هيام عبد الهادي صالح برفقة الأعزاء الأستاذ مجدي جعفر و الأستاذ محمود الديداموني و الأستاذ علاء عيسى وفي وجود الراحل العظيم الأستاذ بدر بدير لمناقشة مجموعتها القصصية عيناه ترحلان بعيدًا للقمر

وعبر تلك السنوات وعبر رحلة من الفن القصصي والروائي للكاتبة نسعد اليوم بلقاء آخر حول رواية طار فوق عش الخفافيش.

والحقيقة أن العنوان ملفت ومدهش وما يطرحه من ألغاز على درجة عالية من الغموض من الإعتقاد الشائع أن عُش الخفاش يحتوي على الزئبق الأحمر وما أدراك ما الزئبق الأحمر واستعمالاته ناهيك عن استعمال عش الخفاش نفسه في السحر والشعوذة وهو عند البعض عملًا محرمًا وضارًا بما يحمله من تأثير روحي يعرفه السَّحرة ورواد الجان وبما حرمه كثير من رجال الدين.

فالعنوان يطرح من البداية محاولة الخوض في الأماكن المحظورة ومحاولة الثراء بأية وسيلة كانت حتى لو اصطدم بالموروثات الدينية والشعبية

عش الخفافيش

رمزية واضحة تحاول الكشف عن حياة الظلام والخوف من المجهول 

الخفاش كائن ليلي يرى في الظلام يعيش حياة ليلية انسحابية بعيدًا عن المواجهة والمكاشفة ورمزية الخوف الظلام العزلة الضياع التشتت والصراعات النفسية تعكسها شخوص الرواية بدربة وإتقان

وتعكس الرواية في عنوانها وأحداثها وشخوصها هشاشة العلاقات الإنسانية تحت سندان الصراع الداخلي والنفسي في حياة معقدة مليئة بالتوترات والقلق.

ليست رواية طار فوق عش الخفافيش مجرد سرد لبعض الأحداث الحياتية لبعض الأشخاص الذين يلتقون بعد عام فقد اقترح عليهم الرفيق "سعد" اللقاء هنا بعد عام في كافتيريا أو قاعة كلية الآداب ليروي كل منهم كيف صار غنيًا في عام واحد ويلقي كل منهم مفتاح سيارته "علامة ثرائه" على هذه المنضدة أو يحكي لنا من ظل فقيرًا لأنه لم يقبل أن يتحول عن مبادئه

أقول...

أن هذه الرواية ليست مجرد سابر عابر لأحداث يومية نعاقرها جميعًا بل هي محاولة نفسية تحليلية للكشف عن الذات بل محاكمة الذات والآخرين عبر مجموعة من المواقف الصراعية الحاسمة

كشف حساب عن عام مضى...

تجسيدا لمحاولة الخروج عن تقاليد المجتمع وموروثاته وتابوهات العقيدة والحلال والحرام

وتستخدم الكاتبة في ذلك أسلوب التفاوت الزمني للغوص عبر فترات زمنية في حياة كل شخصية 

واعتمدت الرواية على الحوار الذي يمثل البطل الحقيقي في هذه الرواية في وجهة نظري

فالحوار نفسه لا يكفي كآداة روائية في يد الكاتب ليضع رواية جيدة لكن الكاتبة استعملته كمبضع جراح يستطيع أن يكشف الأدران والعلل.

تصدرت الرواية آية من سورة الضحى "ولَسوفَ يُعطيكَ ربُك فَترضَى" ربما اشارة إلى الرضا سواء أكنت غنيًا أو فقيرًا

ثم بمثل شعبي استقر في ضمير ووجدان المصريين وعقلهم الجمعي"نادى المنادي في يوم العيد الفقري فقري والسعيد سعيد" وهو يمثل الإستسلام للقدر والإيمان بالمكتوب

حتى في يوم العيد وهو يمثل فرحة عامة سيبقى المحظوظ محظوظًا والتعيس تعيسَا فلا تحاول أيها الإنسان القفز فوق أقدارك 

وهو يلتقي مع أمثال شعبية كثيرة مثل:-

(المنحوس منحوس لو عقوا  فوق راسه فانوس)

كتبت الرواية بأسلوب سهل واضح مكشوف إلّا أنَّه يحمل بعض الدلالات والرموز التي تنقل الأفكار والمشاعر إزاء المواقف المتوترة في حياة الأشخاص وأبطال الرواية 

تمثل الشخصية الرئيسية الدكتورة سماح حجر الزاوية في الرواية وبرغم أن الكاتبة اختارت لها ضمير المتكلم إلّا أنها تختفي ويُمحى وجودها في كثير من صفحات الرواية

تمثل الدكتورة "سماح"جسيدًا حقيقيًا للصراع بين الذات والمجتمع لذلك نراها مشدودة بين جيلين يكادان أن يمزقاها نفسيًا

1-الصراع الداخلي لأنها تسعى لتحرير نفسها من القيود الاجتماعية والنفسية محاصرة بين الموروثات الاجتماعية وتابوهات المجتمع البالية وبين رغبتها في فك القيود والحصار من حولها في ترغب هي الأخرى في الثراء وترغب في نفس اللحظة في مواصلة مشوارها العلمي.

-كما هي مشدودة إلى حبل آخر هو "الاغتراب" حيث تجد نفسها غير متوافقة مع معايير المجتمع والعائلة فتلجأ إلى العزلة وتختار أن تغوص في ظلام النفس كالخفاش.

وتتحمل شخوص الرواية هي الأخرى أسماء ذات دلالات حية وربما تعد أسمائهم ذات دلالات خاصة أو معادل موضوعي لما مرّوا به من أحداث خلال العام

1-دعاء..تحمل الرجاء في تغير الأحوال بعد أن تخلى عنها عادل الحبيب القديم وتزوج ثرية من وسط اجتماعي آخر

2-وشاكر  ليس بشاكر بالمرة بل يحاول الثراء بأي طريقة وإن لم يحالفه الحظ

3-و.. رأفت الرحمة وهو يرحم نفسه من عدم السقوط في الحرام ويقبل أعمال دون مؤهله العلمي للثراء

4-وسعد.. وهو الشخصية التي حققت الثراء غن طريق التجارة في الآثار والمومياوات ويعد القبض عليه في الجزء الأول من الرواية يمثل صدمة للجميع محركًا للأحداث فيما بعد

وهكذا دون إطالة أعتقد أن اختيار أسماء شخوص الرواية لم يأتي عند الكاتبة مصادفة إنما كان يحمل دلالات ذات أبعاد.

حقيقة لم تكن الرواية في بنائها الدرامي جديدة كل الجدة لأن محاولات روائية بنائية سبقتها في التعميم الهندسي البنائي ولنستدعي معًا على سبيل المثال لا الحصر رواية "مرايا" للرائد نجيب محفوظ صحيح أن شخوص محفوظ تتوازى ثم تتلاقى هناك بعيدا في معركة الحياة وأنها كانت أشبه بشهادات محفوظ على نماذج بشرية عاصرها مثل شخصية(       ) التي تمثل انعكاسًا لشخصية سيد قطب و الإخوان جميعاًا وصحيح أن محفوظ استطاع بذكاءه النادر أن يستخدمها- أقصد الشخصية

أن تكون ستارًا لشخصيات أخرى متناثرة في أعماله فيما بعد.

إلّا أن د. هيام استطاعت من البداية أن تربط بين شخوصها في خيط واحد متين لا ينقطع ومنذ البداية.

وإن كانت تبقى كلمة بعد كل ما قيل فهي أن رواية طار فوق عش الخفافيش

جريئة في شكلها جريئة في كشفها كل ما يدور من صراعات وتوترات داخل كل منا ونحن قد قطعنا عقدين من الألفية الثالثة من عمر البشرية فهي إضافة حقيقية في حقل الرواية العربية.

إلّا أني أهمس إليها بأمرين هو تحفظي على كم الشخوص التي أحدثت في البداية نوعًا من الإرباك وعرقلت قليلًا مجرى السرد و الثاني هو أن الحوار وحده لا يكفي ولو بدأت بالسرد أولًا لكان أكثر توغلًا في أعماق كل منهم ولو تم التركيز على حياة الراوية وما تراها في الآخرين لكان أكثر تأثيرًا على القارئ وذلك محض رأي شخصي أسعى أن يكون ربما صائبًا.

.............................................................................................

ومن الورقة النقدية للشاعر رضا عطية رئيس نادي أدب ديرب نجم :

( الكاتبة د. هيام عبدالهادي صالح صاحبة مشروع إبداعي متميز؛ حيث أصدرت عددا من الروايات المهمة :(زهر الحناء، البحيرة وسنينها، الدهابة وغيرها) بالإضافة إلى مجموعتين قصثيتين هما:(عيناه ترحل بعيدا إلى القمر، وهمسات امرأة مختلفة). 

والرواية التي نحن بصددها هي أحدث إصدارتها رواية(طار فوق عش الخفافيش) وهذه الرواية تأخذ قارئها إلى السبح والتطواف في عوالم متعددة بين الماضي والحاضر، بين الواقع المتأزم  بمشكلاته الاجتماعية والنفسية والاقتصادية وغيرها وبين الواقعية السحرية وعالم الجن والعفاريت في رحلة البحث عن الآثار وتحقيق الثروة بأي طريقة كانت، وبين عالم الأسطورةوالرومانسية وغيرها من العوالم الأخرى، وتبدو تقنية الكتابة لديها في هذه الرواية مهتمة أكثر بالحوار بين الشخصيات، وهو ربما يكون أصعب نسبيا من الاعتماد على الوصف والسرد؛ لأنه يحتاج منها إلى رسم دقيق لملامح كل شخصية ودخائلها، وربما تزاحم الشخصيات وكثرة عددها في بدء الرواية  أحدث ارتباكا وحيرة لدى القارئ؛ بحثا عن خصائص وصفات كل شخصية، ولعل الكاتبة سريعا ماانتبهت إلى ذلك وأفرت عناوين خاصة وعتبات تحكي فيه كل شخصية حكايتها وما تحلم به.  

وبناء النص في هذه الرواية يقوم على اجتماع روافد(حكايات الشخصيات)؛ لتجتمع في مجرى واحد. وقد تناولت الرواية عددا من القضايا: ١-الواقع الاجتماعي المتأزم نتيجة تفشي الفقر وكثرة مشكلاته. 

٢- الهوَس بالغنى، وخاصة عن طريق البحث عن الآثار سواء في المنيا أو في أسوان

٣-الاهتمام بالأمثال الشعبية وتوظيفها مثل(ياما دقت على الراس طبول، فص ملح وذاب، زيادة الخير خيران، كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟)، وإن كان من الأفضل أن تحافظ على صيغة المثل كما هي حتى لو كان بالعامية مثل(فص ملح وداب، وزيادة الخير خيرين) 

٤-الرومانسية (أول قصة حب في مصربين زهرة الورد ابنة أحد الوزراء والحارس أنس الوجود والتي انتهت بتحقيق الأمل، كما نجد مايشبه الحب العذري في أدبنا العربي؛ حيث انتهت قصة حب الضابط وإيزادورا بموتهاغرقا. 

ونجد هناك بعض الجمل المحورية مثل: سنكون أغنياء، ونادى المنادي في يوم العيد: الفقري فقري والسعيد سعيد. كمانجد توظيف الإنترنت واستيحاء معلومات منه عن عش الخفاش(عن موقع صدى البلد، والوطن). كما أبدعت الكاتبة في الوصف؛ لتنقل لنا حرارة الموقف مثل: الوصف الدقيق لسمير وهو يعبي عربة الرمل عدة مرات(كمية عرق نضح بها جسمي امتزجت بالرمال بعضه دخل حلقي بصقته مع بعض الرمال المتطايرة، أكملتُ السيارة العرف والرمال في فمي والصهد يتصاعد من الرمال) لكنها تجنح أحيانا إلى التكرار لنفس عبارة(كمية عرق نضح بها جسمي... إلخ.  وقد أجادت الكاتبة رسم الشخصيات، فرأفت متشائم يائس، وسعد مادي يموت على القرش، وعادل انتهازي ضحى لحبه لدعاء، وشعبان الريفي ترك أرضه ومواشيه يرعاها أبوه العجوز؛ ليحث هو عن أخيه. 

وعلى الرغم من جماليات الراوية والتي يكمن مسرحتها بسهولة؛ لكثرة الحوار بها، فهي يمكن أن تنتمي إلى المسرواية، ويمكن أن تتحول لسيناريو فيلم، إلا أنها تكتظ بالأخطاء اللغوية(الإملائية والنحوية)، فكان لزاما على دار النشر أن تدققها لغويا، ومن الأخطاء اللغوية على سبيل المثال لا الحصر: كيف عرفتي ص١٣والأدق عرفتِ

بإتجاه ص١٤والأدق باتجاه

بلا شئ ص٢٧والأدق شيء

ىؤينا ص٣١والأدق يؤوينا... إلخ. 

في النهاية سعدت كثيرا لقراءتي لرواية(طار فوق عش الخفافيش) للأديبة الكبيرة د. هيام عبدالهادي صالح، وفي انتظار صدور أعمال أخرى لهذه الكاتبة المتميزة المثابرة.

..........................................................................................

وبقى أن نشير إلى ثلاثة دراسات مهمة للدكتور نادر عبدالخالق والكاتب والناقد محمود الديداموني، والكاتب والناقد العربي عبدالوهاب، نتمنى نشرها قريبا.

 وتوالت المداخلات والرؤى النقدية من الشاعر الكبير والمترجم السيد النماس، والشاعر هيثم منتصر، والشاعر خليل الشرقاوي، والشاعر عاطف رشيدي، والأستاذ/خالد عبدالله، والشاعر  السيد يوسف الغنيمي، والقاص د. علاء الدماصي، والقاص إبراهيم فريد، الأستاذة علا السعودي مشرفة النادي الأدبي، والأستاذة سمر أمينة المكتبة.

.............................................................................................