كلمة الأديب والناقد الثقافي الأستاذ سليمان يوسف إبراهيم في كتاب الفنان شوقي دلال والشيء بالشيء يُذكر

شوقي دلال، يُشيّءُ الوجودَ؛ بلغة الرّيشة وتلاوين الكلمة 
صارخًا في وجه العالم:  
" والشّيءُ يالشّيء يُذكَر..." 

أن يكون الإنسان كاتبًا أم شاعرًا أم رسّامًا ينحت رسومه ومُشاهداته بالكلمة والرِّيشة فوق جسد الورق؛ فيُحيله ملاءآتٍ تتململ بروح صاحبها؛ لتحفظه من تلاشِ... وإن حدث له ذلك، بعد أَن تحمله "أجنحةٌ بيضاء"...!!  
وأنا، في رحلتي فوق أجنحة " والشّيء بالشّيء يُذكر" لـ "شوقي دلال"، أجد نفسي في حضرة رسّام ٍ أديبٍ قد تماهت الرّيشة بين أنامله مُفلتةً عن شفتيها فكرًا من عِقال حاضنها، برسم ٍ وأدبٍ، حتّى غدت تعابيره حفرًا وتـنـزيلاً: أضاءا سواد الورق...فغدا بياضه أكثر إشعاعًا وأشدّ تنويرًا؛ لمَن رام التّـنـزُّه على دروب خطوطه وخَطوِه، باتّجاه تجريد الملموس سعيًا وراء محاولة تلمّس المجرّد من الأشياء الّتي يصرف الإنسان المعاصر منَّا وقته وجهده لتحقيقها أو اكتشافها أو اقتنائها... باذلاً دونها أَغلى ما وهبه الباري: حياته بعمر أَيَّامها مجتمعةً!! كما وأنَّني أجد الفنَّان الكاتب يعيب على إنسان العصر صرف عمره في سبيل تحقيق أشياء ونوال أشياء، ستغدو حُطام الوجود مع الوقت، لا مَحالة؛ بدلاً من السّعي وراء تحقيق الأبقى، مُتَلَهٍّ بعَلكِ القشور بدلَ الإغتذاء فكرًا وروحًا من لُباب!!...  
فالكلمةُ غدت مع شوقي دلال لوحةً، واللّوحةُ بات يوجزها تعبيرٌ يطرقُ القلب والفكر معًا؛ فتتهلّل له المدارك، بأبسط المفردات الّتي تغور عُمقًا بعد أن تكون قد انبسطت فوق أسرّة الورق لتأخذ القارئ بسياحةٍ فوق يمّ تأملٍ أو تبصُّرٍ لا يهدأ خِضمّه! ...وهل أبلغ من الإيجاز بعبارةٍ وصورةٍ، ليفصح فنّانٌ أديب عن بواطن فكره؟ 
كتابُ، تظنُّ نفسك أنّك قارئه، حتّى وإن كنتَ على عجلةٍ من أمرك. كتابٌ، على مداه تنبسطُ الأشياء وعلى وسعه تكبر لتتوزّع أو تتضاءل بحركةٍ من يراع واضعه ليعرك
2 / 4
منك الملموس بالمسموع، فيحيله منظورًا، ويتركك... تتذوّق حلاوة الأشياء، متى سكنت فُسُحات الذَّاكرة وأيقظت فيك الـمُضّجع من الأَحلام، نَشقًا لعبير ماضٍ تحنُّ إليه، وحاضرٍ يوجعُكَ أسفًا، فتهرب جراءه إلى مُستقبلٍ تتمنّاه!!  
كتابُ؟ يحرّكه ويُسكِّنه الشّيء, كتاب؟ مسكونٌ بالشّيء. كتابٌ؟غدا الوجود فيه بالنِّسبة لشوقي دلال مُشيَّئًا؛ فصحا ليجد نفسه تُباري الأشياء وتُهادنها بأشياءٍ أُخَرَ... فهو، يحمِّل كلّ هذه الأشياء ثورته على تحويل الإنسان إلى مفعولٍ به، وقد شاءَهُ خالقُه فاعلاً!! فالكلمات تواجهكَ حاملةً نقمته -كما تراود خطوط رسومه – على جعل الإنسان عبدًا مرميًّا مُنْفىً كأيّة مَنفيّةٍ عن مرسح الحياة: فالخالق أراد لإنسانه أن يتّخذ القرار، في حين أنّه ألفى رأس مخلوقاته اليوم، مَسُوقًا بمنازعه لرغبات سواه! أراد له أن يكون له مُعينًا على بناء، فها هو هدّامٌ حتّى الدّمار...!! رغب إليه أن يُساعده في خلقٍ، فوجده يسعى بلا هوادةٍ إلى نشر موتٍ، فآضمحلالٍ! يرى الفنَّان إلى إنسان اليوم، أنّه أسكن الحضارات قصور التُّراث ومتاحف الآثار، مُعتكفًا عن محاولة إضافة شيءٍ إلى الموروث الغالي عن الأجداد!! لكلّ ما سلف، أجده يرى إلى النّاس كما لو أنّهم أشياءٌ باتت تتلقّى الأفعال من غير أن تفعل... ذاك أنّه متى تعطّل الفعلُ وبات في إجازةٍ، غدا الإنسان بقواه العقليّة والجسديّة آلةً، تنصاع وتنفّذ من غير تساؤلٍ ولا احتجاج ٍ؛ وكيف يحتجّ مَن تعطّل فيه وعنده مركز الحجّة؟!!  
فالأشياء في الكتاب تتـزاحم وتُطلُّ بعيونها من نوافذ الورق مُتَوصوِصَةً على الوجود؛ وكأنَّها تتماهى بحشريَّة الإنسان الّذي استعبدته منذ زمنٍ أزل... فيطرد الشّيء منها صُنوه الآخر؛ حتّى أن الكتابة والرُّسوم باتت أشياءٌ تطاردُ بعضها بعضًا، فوق مسالك الأسطر ومحطَّات المُشاهدة، حيث غدا داء التشيّؤ مُتفشّيا في جسد الإبداع نفسه، بإرادةٍ من المبدع نفسه، وكأنّي به يريدُ القول: بعد هذا كلّه، فعن أيّة قيم ٍ نبحث بعدُ، في جسد عالمٍ يعاني من أورام تضخِّم الأشياء الخبيثة؟!!  
كتابٌ، غدت كلمة شيء منه، كالنُّطفة من حكاية التّكوبن: به كلّ النِتاج، ومن دونه تكاد تنطفئُ ذؤآبة السِّراج...  
كتابٌ، في حضرة فنَّانٍ لا يسعه إلاّ تحريك الكون من حوله وإن كانت مواده من أشياء وحبر يراعه: هو من الأشياء أيضًا؛ كما وإنّي أجد الكاتب الرّسام يُصرُّ على خلق شيء ما، يحرّك الإنسانيّة من حوله، نافضًا عن كاهلها غبار التّشيَؤ! أليس من الـمُخزي أن يتشيَأ الإنسان، مُدَّعيًا التَّطور في زمن العولمة الطَّاغي الّذي نحيا؟ 
3 / 4
كتابٌ، لا يُمكنُكَ قراءته إلاّ باليدين: يُمناه ويُسراه، وإلاّ فقدتَ من الحلاوة نصف طعمها ومُجمل مؤدَّاها، لأنها قليلةٌ هي غلالُ الحبر الّتي تُعمِّر ذائقتك الفنِّية بالكلمة والمشهد، لتودي بك إلى ميناء التبصُّر، بالبصيرة والمخيِّلة معًا: فلنمشِ برفقة النّورما دام لنا النّور، وإن من سوادٍ قد انبثق ومن لدُن إبداعيّة واضع الكتاب قد تولَّد.فعند كلّ فكرةٍ، محطّة تأمّلٍ؛ وفي كلّ رسم ٍ دعوةٌ لسياحة خيالٍ تطولُ وتمتد... حيث تتضارب المواقف إزاءَ تعدُّد أوجُه الذَّائقة الفنّيَة لدى كلّ مُتلقٍّ.  
لن أتوقّف أمام فكرةٍ أَمْ عشرة من الكتاب، لأُشبعها شرحًا وتمحيصًا أو تبصُّرًا، لأنَّ الوقتَ ليس وقت سكونٍ من اليوم فصاعدًا... بل سأُلاحقُ أشياء الرّسام- الكاتب، وظلالها من فوق صهوة حصان ريح الآمال، علّني أُحقّق بعض أحلامي بنوال حُرِّيتي عن الأشياء كما أَتمنّى وأَبتغي ، لأن تحقيق الحريَّة للفرد بنظري يكون، بتحرير النَّفس من هوى امتلاك الأشياء، وحينها فقط نكون قد حقَّقنا بعضًا من إنسانيّتنا يوم دُعينا لمشاركة الخالق فعلَ بناء العالم... فالأنانيّة، هي الشّيء الّذي يحطِّم جمال الأشياء فينا، لأنّها المدمِّرة الأبرز لإنسانيتنا الـمُتوخّاة... وأشدّ التّدمير للنّفس؟ يطولُها من فرط إعجاب صاحبها بها؛ لأنّه بسببه يجد المرء نفسه مُنسلخًا عن المنظومة الإنسانيّة، مُتقوقِعًا في حلزونيّة الفرديَّة، بعيدًا بكلّ ما يأتيه عن الفرادة والتّميُّز. فما النَّفع أن نُعجَبَ بأنفسنا ونعجبُ من أنفسنا... ويزدرينا النّاس، فيُقصونا بعيدًا عن دوائر مباهجهم والرَّغبة بحضورنا بينهم؟!!  
أمّا الغلاف، فويحُكَ من غلافٍ ترعرع على يدَيّ رجُلٍ فنّانٍ بالطَّبع وأديبٍ بالتَّمرس؛ فجاء الغلافُ لُبوسًا لائقًا بفكر صاحبه وما يرمي إليه. فالإنسان، أسود رأسٍ، على ما جاء في المثل السَّائر. فبين ما يريده الإنسان من هذه الحياة، بسفك الرُّوح وإهراق الجهد دمًا، يناله أو ينال بعضه، على وفرة مطامعه ومطامحه وبين ما يحقِّقه؛ يبقى يُسرًا نذيرًا ممّا يصبو إليه وهو يقف وسط محطّاتٍ مُضيئةٍ. فالأشياءُ وفيرةٌ متعدّدةٌ؛ أمّا الشّيء فقليلٌ قليل، يهجعُ في ذاكرةٍ مُظلمةٍ. وإن خرجتِ الإنجازات البشريّة إلى النّور، تطالها وتمسّ أصحابها، لغيرةٍ أم لحسدٍ ألسنةٌ سوداء... وكلُّ ذلك يجري تحت مظلّة كونٍ سديمه رماديٌّ اللُّّهاث، يختلطُ مُعظم ليله بنُدرة نوره الثّائر، السَّائر الهُويَنا خلال هجمة الوجود في انقضاضه على كلِّ موجود!! فالأشياءُ تجتاز خريطة الإنسان 
4 / 4
بمجملها، مُسيطرةً على حواسه، بطغيان المحسوس على المجرّد من الوجود، فيدفعه إلى تقيُّء الأشياء لشدّة طغيانها عليه، مُكبِِّلةً طموحه،لأنّه يحيا كلّ اللَّحظات وهو يلهث للِّحاق بعجلات التطوّر الّذي ينهب عمره من غير طائلٍ!!  
كتابٌ، يُقال فيه الكثير، مهما حاولتُ اقتضابًا أو تقصيرًا؛ لأنّ ما فيه من نور الكلمة وما يحوي من مباهج الخطوط، كفيلٌ بجعل صاحبه يحيا مديدًا بين أيدي قُرَّائه وفي مراتع قلوبهم، بخاصّةٍ وأنّ الفنَّان دلال، قد نهج بإِيجازه دربًا إلى قلوب أبناء هذا العصر الّذي عزّت فيهم مَلَكة المطالعة الّتي كُنّا نرِدُها بنهم المُشتاق... فجاءت جملته وجيزةً، مُخضّبةً بمباهج الرُّسوم، مغسولةً بألوان الصّبح والعتمة، علّه بما أقدم عليه، يحثُّ شعبًا للإهتداء إلى ألوان الحياة الحقّة بإشعاعات حبره، مُتلمِّسًا خير السّبيل.  
لقد أعمت مباهج الأشياء بصائر أهل الكون وبصيراتهم، ممَّا جعل معظمهم يغفل عن سؤآل أخيه الإنسان: أتريد العيش مع إنسانٍ يواسيكَ؟ يعزّيكَ؟ يشارككَ فرحكَ؟ يُهادي أحلامك والطُّموحات؟... ففي عجقة الأشياء من حولنا وجدت الكاتب الرّسام مُنذرًا مُحذّرًا من السُّقوط في هاويةٍ لا نهضة منها بعدُ، كما وأنّه لم يجد مناصًا من السَّير مع دُرجة العصر، بعد أن شعر بنفسه قد فشل ربّما بترميم معبد القيم الّتي رُبِّينا عليها وتهدَّم فوق رؤوسنا؛ في هذا الزَّمن المَقيت؛ في وطنٍ، أكثر "الأشياء" الّتي تجدها فيه تحطّمًا وحُطامًا: الإنسان! ذاك المخلوق الّذي أَسبغ عليه خالقُه كلَّ مقوّمات الرُّقي: فأهملها جميعًا... وتمسَّك بلاَّشيء... حتّى باتَ "شيئًا"، تخلَّف عن نقلة الحجل، ولم يعد يقوى على تهجِّي نقلته!!... ولا الدَّور الّذي من أجله بعث به الخالقُ مُستوطنًا لمعمورةٍ؛ جاءَها عُنوةً وسيجلو عنها مُرغمًا!! فلِمَِ التَّقاتل والتّذابح على أشياءٍ تُشيّءُ الوجودَ من حولنا، حتّى تتطاول على مَواطن عظَمة الخالق فينا؟؟ 
سليمان يوسف إبراهيم 
عنّايا، لبنان 

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق