سيكولوجية اللون ودلالته في بنية الشخصية لدى الفنانة التشكيلية رجاء نيكولاس

كتب نزار حنا الديراني ـ

 حال دخولك معرض الفنانة التشكيلية رجاء نيكولاس الذي أقيم في قاعة ( أوبشن ) الكسليك مساء يوم الاثنين 24/9/2018 ، تثير الألوان المستخدمة في لوحاتها ودرجة ظلالها انفعالات متعددة، مما توحي حجم الصراع الذي تبنته الفنانة اللبنانية رجاء نيكولاس وتحس بوجود توافقا بين تركيبة ألوانها وأمزجة الناس، فتجعلك تميل إلى التوقف والتأمل في كل لوحة من لوحاتها المفعمة بالسكينة والتأمل من خلال ما تعكسه ألوانها الباردة كالأزرق والأخضر مثلا، وألوانها الساخنة كالبرتقالي والبني المحمر . هذا التمازج يحيلك بالتوجه نحو الحركة والتوتّر في محيط تعكس الألوان المستخدمة لدى الفنانة صوراً أكثر عمقا وتكثيفا، فهي تعيد صياغة وتحديد ما تصبو اليه من خلال درجة الضوء الذي يشير إلى وعي الذات بالتغييرات الأجتماعية والسياسية، وتقلبات المجتمع في تعاملهم مع الآخر وتأثير القوة والضعف عليهم.  كل هذا جاء كأنعكاس لدرجة الصراع الكامن في داخلها .
من حيث الصياغة أقتصرت أعمال الفنانة على مساحات لونية
 واسعة ومكثفة تستند كليا الى تركيزها على الألوان الجذابة كاللون البرتقالي الغامق الذي يميل الى لون الجلد والوردي الفاتح المنبثق من
الأحمر فلعبت دورا كبيرا مع الوان أخرى كالازرق والأصفر والأخضر في تجسيد حجم صراعها ، هذه الألوان التي تخللتها بعض العناصر الأخرى كدرجة الظل وملئ المساحات المتاحة والتي ساهمت في أيجاد توازن ربطت هذه المساحات مع بعضها لتقدم بعدا عضويا متماسكا ترتقي بلوحاتها الى مستوى جمالي يؤطر التناغمات ويعطيها سمات ايقاعية من خلال ما تعكسه حركة هذه الألوان على النظر بطريقة منسجمة مع حركة شخوصها الفكرية وتبدو معالم أثر ضربة الفرشاة واضحة في السحب والتركيد مما تعكس قوة الصراع مع الأخر لتسرح بها البصيرة عند المتذوق فهي تجيد استخدام الألوان الحارة لتثري نسيج اللوحة وتغني عمقها .
اللوحة الفنية التشكيلية لدى الفنانة هي عبارة عن مساحة رسمهتا أو صورتها عواطفها وروحها وألوانها وضمّنتها أفكاراً وأهدافاً لتحاكي المتذوّق، فهي في النهاية عمل استخدمت فيه العقل والعاطفة معاً.
أن رؤية الفنانة للعالم بشكل عام مغاير لما يراه المشاهد العادي لتميز الذاكرة الصورية لديها بالوفرة والخصوبة ، وھي إمكانيات تمتاز بها الفنانة بمشاعرها الفياضة وحساسيتها المفرطة التي تتفوق على الإنسان العادي.
لو القينا نظرة الى قاموس الألوان لدى الفنانة رجاء سنجد هناك استخدام مكثف للألوان وبدرجات ضوئية وخصوصا البرتقالي والوردي والازرق وبدرجة أقل للألوان الأخضر والأبيض والأصفر والأسود كل هذا يعكس حجم الصراع الذي يشغل أهتمامات الفنانة كون اللون يمتاز بالبناء الأنشائي للتكوينات الفنية للوحاتها بتنوع توزيعاتها الفضائية دون ان يخل التوازن في مساحة اللوحة، كما انها توزع ألونها في فضاء اللوحة بشكل منسجم بين الآلوان الهادئة تجاورها ألوان مشبعة بالقيم اللونية الوهاجة أي الألوان الساخنة لتعكس لنا حجم الصراع من خلال طغيان تلك الألوان على الهادئة منها ...فتتداخل قيمة اللون الظاهرة مع قيمته التمثيلية والانفعالية فى العمل الفنى .
غير أن المعالجة اللونية فى لوحاتها وكما مبين في أدناه تخلق حلماً بلغة الألوان، وقد أتحدت مع ذاتها ، واندمجت مع خيالها ونفسيتها. وهذا المبدا يشرح رسم الأشخاص فى اللوحة بأجساد هامدة وشهوانية ، وبهيئات كتلية، ومساحات لونية كثيفة . إنها لوحات رسم فيها أكثر من مجرد رسم الشخوص، لأنها كذلك ترسم حالة حب بين أشخاص يشكلون ثنائيات مترابطة فى تكوينات مختلفة، بحيث يذوب الواحد فى الآخر .
وفى الحقيقة أن إدراك اللون يرتبط بشعور معين ويستدعى الذكريات ، وتتداخل قيمة الألوان الظاهرة مع قيمتها التمثيلية والأنفعالية فى العمل الفنى إذ" يمكن للون أن يحدد رؤية الفنانة الذي يحتفظ بسمات التلوين وهو عامل تنافر وتقطيع فيرتبط إدراك الفنانة للفضاء بوقوعه تحت الضوء ، فتنشأ في لوحاتها ثنائية (الضوء/ الظلمة)، أو استعمال لون ( فاقع/ باهت)...إلخ، فيتأثر المكان بطبيعة اللون، وتتأثر الذات المدركة بذلك أيضا فتألف مكانا وتنفر من آخر.
فلوحاتها لها جمالية ذات النزعة الإنسانية المرتبطة بالشعور الإنساني المتجسد بالفزع والخوف من الفضاء الممتد الواسع وهذا ما عكسته في بعض من لوحاتها. جاعلة من شخوصها تستنشق القلق ضمن واقع الفضاء المتسع ، فتحاول الفنانة لفت الأنتباه ان في الأتحاد قوة وهذا ما عكسته أغلب لوحات معرضها وحيث كانت المرأة والطفولة محور أعمالها ... 
نظرة سريعة لأعمالها يعكس للمشاهد أستخدامها لعناصر تشكيلية هي من الوضوح والصفاء بقدر ما هي معبرة وذات دلالة من خلال ضربة الفرشات وكمية الآصباغ المستخدمة ففي لوحتها هذه تجد هناك تكثيف في ملئ المساحة من خلال استخدام القياسات الواسعة والأحجام الكبيرة لشخوصها قي اللوحة الفنية بلونهم البرتقالي الغامق الذي يميل الى لون اللهب لتوحي لنا الفنانة مدى قوة شخوصها الحازمة مما تعطي شعوراً بالراحة والاطمئنان والأمان الا ان الأستخدام المكثّف لهذ اللون غالباً ما يشير إلى الخوف من المواجهة وهذا ما عكسته في وجوه شخوصها ، إلا أنها أستخدمت معه وفي أسفل الصورة اللون الاصفر الذي يدل على التفاؤل والمرح والسعادة، وقليل من الوردي الفاتح لما يوحي بالإشارة الإيجابيّة للحب والجمال المتجسد في الألتحام ، والآخضر الفاتح الذي يوحي للولادة والخصوبة لتقول سيكون هناك أمل وطمأنينة وسلام إلا أن هذا اللون قابله قي الجهة الاخرى وفي الافق الازرق الغامق وهو لون عمق البحر وبقع سوداء لتشير الى درجة ما من الخوف والفزع . من هنا ياتي الصراع في لوحتها هذه بشكل يعيد التوازن مع الفضاء الضيق . 
الا ان الفنانة قللت في اللوحة الثانية من  اللون الأزرق الغامق وجعلته في أسفل الصورة ليحل محله اللون الأخضر الذي يشير الى الولادة والتجدد ليلائم مع لون شخوصها إلا أنها جغلت هذه الشخوص في ضياع من خلال الهالة الشبه سوداء التي بدأت تغطي الوجه فحجبت الأضاءة لتجعل ألونها توحي ببعض الشئ عن الخوف من الآتي تجاه المرأة من البقعة الزرقاء الداكنة والتي تميل الى السواد
  وهكذا في لوحتها الاخرى أمرأة جالسة توحي بالحيرة من أمرها ، رغم ان الفنانة أستخدمت اللون الوردي الذي يعدّ واحداً من أجمل الألوان، والأكثر استخداماً عند النساء كونه يأخذ اسمه من الورد، ويرتبط مع الكثير من الإشارات الإيجابيّة كالحب، والجمال، والرقة، والرومانسية وخصوصا رافقه الاخضر ليلائم مع الوردي ونظرة أمرأتها وهي تتأمل المستقبل  إلا أن الفنانة أحاطت أمرأتها باللون الازرق الغامق مع الأسود لتشير الى درجة الخطورة التي لا تزال تعيشها المرأة وأستخدمت في أرضية الصورة البني الغامق المسمى بالرماني لتوحي به بالخريف لتقول درجة الخطر قائمة والرياح شديدة ربما ستعصف بالأنسانية ، ومن أجل خلق درجة من التوازن سحبت الفنانة من ألوانها المبهجة الضياء لتميل الى الألوان القاتمة ليتلائما مع نظرة المرأة بحيرة من أمرها نحو المستقبل .... 
وهكذا الحال في لوحاتها الآخرى أمرأة غرقت بمحيطها فأكتنفها الغموض والخوف رغم أنها أعطتها اللون البرتقال الغامق (الداكن) الذي يميل الى لون اللهب ولون البرتقال وهو يشير الى القوة والصلابة ألا أنه أكتنف باللون الآزرق الممزوج بالأسود إلى درجة طغت على شخصيتها رغم أنها أعطت للمرأة كتلة كبيرة في لوحتها هذه وأحاطت الفضاء باللون البنفسجي الذي يشير الى القيم المثلى والسامية التي تنتظرها الفنانة إلا أن درجة الغموض يزداد في مصير المرأة التي أخفت الكثير من ملامحها وكأنها في حالة غرق .
ما لفت نظري هو هذه المعادلة العكسية المتوازية بين ما توحي لنا ألوانها وما توحي شخوصها ، ففي الوقت الذي ترمز الوانها الى الهدوء والقوة تجد شخوصها ودرجة ظلال ألوانها توحي على عكس ذلك كل هذا لتقول لنا لا يزال مستقبل المرأة في خطر وعبرت عنه بكل وضوح من خلال لوحتها وهي تجسد لنا عروسة لبست البياض الذي يوحي للمشاهد بالاحتمالات التي تبعثها كلمة البياض في نظره كونه من الألوان الحيادية، والمستخدم لدى المرأة في أحلى أيامها كونه يدل على النقاء والطهارة، وهذا يجعل المشاهد في حيرة من أمره حين يربط بين ما يأتي داخل اللوحة والنقاء الذي يرمز اليه ، ألا ان الفنانة ربما أرادت أن تشبر الى المستقبل الغامض الذي ستواجهه المرأة ، هذه القوة الآتية من بقعة اللون البني الغامق الذي يشير الى الخريف بدلا من الربيع وكعادتها دائما
تترك لنا الفنانة ببصيص أمل قادم من لونها الأصفر الفاتح جدا وبعض الأزرق
السماوي وهذا يجعل اللوحة التي تطرحها الفنانة لتمثل العينة التي تعيش في بعدها المتخيل . وفي لوحتها الأخرى رسمت أنثتها وهي بأوج قوتها مرفوعة الرأس والصدر وهي في موضع الركض ولونتها والآرض باللون البرتقالي الدافئ الذي يوحي الى لون اللهب المتقد في الأرض والأبيض الذي غطى أغلب جسمها وهي تحاول بكل قوتها الفرار من واقعها تاركة خلفها شبحها لتصل الى بر الأمان .
 ويتضح درجة الصراع لدى الفنانة رجاء في لوحتها أمرأة تقف بكل قوتها وتمسك بحبل الغسيل وهي تنظر الى الفضاء الواسع الذي يكتنفه السواد الى درجة طغي على اللون الأبيض والبرتقالي ...
فيما مضى نجد يلعب الخيال دوره عبر الحواس ، وهو دائم الاشتغال والإدراك الحسّي لأعمالها الفنية التشكيلية ، فضلا عن العواطف التي تثيرها، فإنها تولّد صورا سوف تغذي ، تجدد خيالنا لتوقظنا من سباتنا العميق لتقول لنا الأنسانية بخطر طالما ان المرأة والطفولة في خطر . فهناك وضع منظوري للصور التي تحتفظ بها ذاكرتنا مع الصور الجديدة التي تتجاوز العمل الفنيَ نفسَه 
مثلما كان مصير المرأة مقلق في لوحاتها هكذا كانت الطفولة حيث جسدت الفنانة هذا الغموض في لوحتيها ، لوحة لطفة تكشف من خلال نظرتها وحجب الأضاءة عن الوانها الوردي والازرق الممزوج بالأسود وقليل من الاصفر هذه الألوان التي عكست سخونة الصراع لتوحي ان مستقبل الطفولة بخطر بدلا من ان تعكس براءة الطفولة التي كان من المفترض أن تجد هذه الطفلة حاملة لعبتها لتفرح إلا أن من وضع الطفلة واللعبة تحس ما تعانيه الطفولة من الأهمال والتشرد . 
وهكذا في لوحتها الاخرى لأطفال أسدل الستار على براءتهم ومستقبلهم وهم حيرى من أمرهم رغم ما أعطته الفنانة من هالة بيضاء واللون البرتقالي إلا أن الأزرق الممزوج بالأسود في أسفل الصورة يعطي أنطباع آخر وخاصة وهو الطاغي لتقول الأطفال في طريقهم الى الغرق ..
وهكذا في صورة أخرى لعالم الطفولة ، رغم ما أعطت لشخوصها ملابس تتلائم ألوانها والطفولة ولكن الفضاء محمل بزرقة مخيفة لما يمتزج مع السواد لذا تجدهم في حالة تشرد...
 في هذا المعرض المنظم في قاعة أوبشن طرحت الفنانة رؤيتها الفنية من خلال نسج علاقات حميمية مع شخصياتها شبه الواقعية بموادها وألوانها، كما تظل ترصد ألم ومعاناة الإنسان المتمثل لديها بالمرأة والطفولة من خلال فيض من الألوان الباهتة والداكنة ، يتمايز فيها الواقعي بالمتخيل ، إنها لوحات ذات بعد إنساني تصور لنا صراعها مع المستقبل الآتي ، لوحات كان من المفترض أن تشير الى الفرح بدلا من الخوف من المستقبل ولكن هذا هو الواقع الذي تراه ،
لوحات تعطي للمشاهد والزائر للمعرض انطباع الحضور والغياب في آن واحد، لوحات تجسد بانزلاق الواقع الذي يشوبه بلا واقعية ولا مكترث، خال من المعنى لغياب المستقبل الذي كانت الفنانة تتأمله فبقدر ما يحس المشاهد بالمتعة يثير الظل في ألوانها الفزع أو الرعب في الحياة العادية، انه صراع لا يحتمل عقباه .
الا أن الفنانة تؤكد جاهزية صراعها لما تتمتع به من القوة لذا تقول سيكون المستقبل لنا من خلال الأتحاد وتقبل الآخر بدرجة متساوية كما نجد في صورتها هذه التي أستخدمت فيها اللون الأصفر والأزرق والأحمرار بدرجاته والأخضر وبقدر متساوي... والملفت للأنتباه غطت أعين الرجال بعصابات زرقاء ربما أرادت أن تبين قصر النظر لدى الرجل من جهة وفي الأخرى ترشدهم للنظر بعيدا وإلا سيكون مستقبل الأنسانية في خطر .
فالفن هو درب من دروب الحياة، بالفن فقط يمكن للفنانة رجاء أن تحيا فى عصر من اختيارها ويمكنها أن تنفتح على الصراع القادم فلوحاتها هي تأشيرة لعبور الحدود والتحدث بأكثر من لغة .
وأنطلاقا من هذه الأعمال يمكننا القول قدمت الفنانة رجاء أنجازا تشكيليا ثريا ومتميزا ومن خلال ريشتها ومجموعة ألوان أصباغها وأناملها الناعمة فكشفت من خلالها عن مدى أحترافها في أستخدام اللون لتكون قادرة على عكس درجة صراعاتها مع المستقبل الغامض لقدرتها على تناول عوالم فريدة وترجمتها عبر مجموعة من ألألوان لتترجم لنا ما حققته من بعد تعبيري لافت للنظر من خلال خبرتها الواسعة ورصدها بعين ذكية للعناصر التي تشكل البعد الجمالي والرؤية الشديدة الألتصاق بمستقبل المرأة والطفولة في عالمها فكانت مسيرتها الفنية مشرقة .  

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق