جمانة حداد: "حارس الموتى" كتاب تتركه مرغماً وتعود اليه متحمساً


‏‎كتبت الشاعرة والناقدة جمانة حداد في جريدة "النهار" اللبنانية مقالة نقدية عن رواية "حارس الموتى" للكاتب اللبناني جورج يرق، في ما يلي نصًها:
‏‎ثمة روايات تقرأها كأنك تشاهد فيلم سينما، لفرط اعتنائها بالتفاصيل ومشهديتها المتقنة وقدرة كاتبها على عرض شخصياته بسلاسة ووضوح لا ينالان من عمق العمل ولا يسطحانه. رواية جورج يرق الثانية، "حارس الموتى" (منشورات "ضفاف" ٢٠١٥)، تنتمي الى هذا النوع. زد جرعة التشويق العالية في مجريات حوادثها (ليس مستغرباً ان يكون بطلها، عابر، مولعاً بقصص أغاثا كريستي)، تأتِ النتيجة كتاباً تتركه مرغماً وتعود اليه متحمسا. يسمّون هذا النوع في العالم الادبي الانغلوفوني "بايج تورنر"، اي أنه مؤلف يستفزّك على تقليب صفحاته.
‏‎"حارس الموتى" تحشرنا في معمعة الحرب الاهلية اللبنانية، تحت القذائف، داخل الملاجئ، وراء المتاريس، في ثكن الميليشيات، وحتى في برّاد الموتى. نتابع حكاية الشاب المولع بالصيد الذي علق بالغلط في ظرف غامض ادى الى وضع حياته في خطر، فهرب من قريته ولجأ الى بيروت في عز الحرب. هناك ينتمي الى إحدى الميليشيات، لا لشيء سوى ليأكل ويشرب ويكون له سقف، بعدما تشرد لمدة في شوارع بيروت. ثم ينتقل، في النصف الثاني من الكتاب، الى العمل في برّاد الموتى في أحد المستشفيات، يهندم الجثث ويرتّق الأشلاء قبل تسليمها الى عائلة الفقيد او الفقيدة. هكذا ينتقل عابر أيضاً من جهة القاتل أو المحارب، الى جهة القتيل أو الضحية، فيكتمل أمامنا مشهد الحرب بكل فظاعته.
‏‎في القسم الأول، يمنحنا البطل غالباً الاحساس بأنه شخص "بارد"، لا يتورط عاطفياً في ما يشهده إلا نادراً. الوصف هنا يغلب على المشاعر، والحدث على التفاعل معه. لعل الظرف الوحيد الذي نكتشف فيه وجهه المتعاطف عندما تجبره قيادة الميليشيا على ممارسة دور القنّاص بسبب براعته في التصويب: آنذاك يمتنع عن قنص الابرياء، على العكس من زميله، بو فهد، الذي تتمثل سعادته في قتل المارة.
‏‎الأمور تتغير في القسم الثاني، الأكثر سطوعا في الرواية، فنرى بطلاً أكثر "إنسانية". كأن الحياة بين الموتى توقظ عابراً من خدره. يعبر من ضفة المتفرجين الى ضفة الموتى/ الأحياء. افتتانه بالصبية القتيلة، يجعله ينظر اليها ويتعامل معها كأنها على قيد الحياة، كأنه بذلك يرفض موتها. هكذا يقول في الصفحة 211 مثلاً: "جسد الفتاة لم يبارحني. جسدها، لا جثتها". أما ذروة العمل الأدبية في رأيي، فتتمثل في مشهد تحضيره لجثته في أحد الأحلام: فصل مؤلم في شاعريته وواقعيته.
‏‎يقول بطل جورج يرق في الصفحة 198: "كأن هذه الجثث ليست سوى نوافذ أطل منها على السماء".
‏‎أربعون عاماً، ولا تزال تلك النوافذ مغلقة.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق