فاطمة ذياب في بيت ساحور



كتبت آمال عواد رضوان ـ
الصالون الفني في بيت ساحور استضاف الكاتبة والروائية فاطمة ذياب، للاحتفاء بروايتها "مدينة الريح"، وذلك بتاريخ 12-10-2017، ووسط حضور من المثقفين والفنانين والمهتمين بالثقافة، وقد رحبت الفنانة ريهام إسحق مديرة الصالون الفني بالحضور وبالضيوف، وتحدثت عن فكرة الدوافع لإقامة الصالون الفني في (بيت ستي العتيق- العقد) بعد ترميمه، وما تحلم وتطمح أن يقدمه في خدمة الفن والثقافة، وقد تولت عرافة الأمسية الأديبة الشاعرة آمال عوّاد رضوان، فرحبت بالحضور والمضيفين والمنظمين، ثمّ تحدثت عن منجز فاطمة ذياب الأدبي منذ سنوات السبعين ثم التحاقها بسلك الصحافة، لتستمرّ في كتابة قصص الأطفال، وقصص للكبار(الخيط والطزيز- وجدار الذكريات)، ومسرحية (سرك في بير)، وكتاب مقالات (الضحك المر) ورواية (مدينة الريح)، وكتابها الأخير توثيق لمسيرة والدها (المختار يوسف عبدالله ذياب)، ثمّ كانت مداخلة الشاعرة روز شوملي حول رواية مدينة الريح، وتحدثت المحتفى بها فاطمة ذياب عن أهم وأبرز المحطات في مسيرتها الأدبية، ثم كانت مداخلات وتساؤلات من الحضور، وقد عرض د. قسطندي شوملي مقارنة سريعة حول الرواية المعاصرة وما تطرحه من مواضيع تضم الماضي والحاضر باسلوب شيق، وفي نهاية اللقاء تم التقاط الصور التذكارية.
مداخلة روز شوملي بعنوان: مراجعة رواية مدينة الريح للروائية فاطمة ذياب: منذ السطور الأولى للرواية، تعبّر الكاتبة عن غربتها واغترابها في المدينة التي تسكن فيها، وتقارنها بالمدينة التي تريد. منذ البداية نعرف أن فاطمة ذياب تبحث عن مدينة أخرى، مدينة فاضلة، يكون فيها الجميع متساويين في الحقوق والواجبات؛ فاطمة تريد مدينة تحبها؛ تزرعها في بؤبؤ العينين".، وتنزرع فيها بالمقابل. وفي بحثها عن المدينة الفاضلة، تبحث فاطمة ذياب عن ذاتها لتحقق انسانيتها وكينونتها. وتقول في ذلك: "أحاول أن أرسم صورة لمدينة أخرى في ذاكرتي، أحاول أن أتذكر ملامحها. أحاول أن أراها بعين عذراء تماما كما كانت أيام كنت ومدينتي أقرب من حبل الوريد". تتشكل الرواية في طبعتها الثالثة من مدخل و 22 فصلا. أما المدخل فهو كلمة وفاء وامتنان. ومن أول فصل حتى آخر فصل، نجدنا مشدودين للرواية. وما يشدنا فيها هذا القلق الذي تعاني منه بطلة الرواية، وهذا الرفض لمدينة يسودها الخراب كما لو أنها المدينة التي تحدث عنها ت. س. اليوت، أو توفيق صايغ في مقدمته لمجموعة جبرا القصصية "عرق وبدايات من حرف الياء". لا أدري إن كانت الكاتبة قد قرأت عن مدينة اليباب، وإن لم تقرأ، فقد اكتشفت في المدينة، كما تشير الرواية، إلى انحدار في القيم، وتدهور في المعايير، وتشويه لما هو جميل. ومن خلال الرواية، نكتشف أن للاحتلال دور في هذا التشويه.
منذ الفصل الأول للرواية، نتعرف على الشخصية الأساسية في الرواية، فهي امرأة في الستينات من العمر، وهي ابنة المختار، رغم ذلك، تشعر بالاغتراب في مدينتها التي بدأ ينبش فيها الخراب، المحكومة بعادات وتقاليد تشدها للخلف. تبحث عن نفسها وعن مدينة أخرى، لا يوجد فيها سيد ومسود، مدينة تسمع صرختها، مدينة تزرعها في بؤبؤ العينين وتحبها هي في المقابل. وبطلة الرواية وساردتها هي ابنة المختار، السيد، الذي له السلطة المطلقة، تماما كصورة السيد في ثلاثية نجيب محفوظ... سيد كل شيء. سيد بيته وعشيرته ومدينته. وهو الذي يقرر كل شيء بما فيه الكتاب الذي تقرؤه ابنته. ومن تحكم السيد الأول تبدأ الحكاية، ومن التمييز بين الولد والبنت تسير الحكاية، وهذا ينطبق على كل بيت في مدينة الكاتبة. المتنفس الوحيد الذي أعطاها هامش حرية هو الكتابة. في الكتابة خلاصها.

والسيد ليس فقط رب المنزل، فهناك سيد آخر هو رب العمل . كلاهما يتحكمان بالمرأة في فضاء البيت وفي مجال العمل. وفي الحالتين مطلوب من المرأة أن تقدم الولاء والطاعة. لكن بطلة الرواية انسانة تعي ذاتها، كما أنها صحفية وكاتبة، ولها شخصيتها المستقلة، ولفترة عملها في الصحافة، كانت تسكن في مدينة أخرى غير مدينتها، وهذا ما أعطاها نوعا من الحرية. وضمن عملها في الجريدة، زاد احساسها بمعاناة النساء. لذلك نجد الكاتبة تفتح ملفات الميراث، والاغتصاب، وتعدد الزوجات، والطلاق، لأنها تؤمن بأن للمرأة حق في حياة كريمة. ومن الطبيعي أن تدخلها هذه الموضوعات في تناقض مع السيدين (رب البيت ورب العمل)، كما تدخلها في تناقض مع العادات والتقاليد السائدة. وفي حديث لها مع زميلها في العمل وصديقها تقول: ""كانت غاية أحلامي أن أحتل ولو ربع مقعد في قصر السيد. ولم أكن أعرف يومها أنني كي أُقبل قطروزه (خادمة) في هذا القصر عليّ أن أفعل ثلاثة، أن أرى بعين السيد، أن أسمع بأذنيه، أن أتكلم بلسانه."[1]

وأحيانا يتم تغيير التقاليد والعادات لتكون في مصلحة السيد، أو لمصلحة الرجل على حساب المرأة. وكمثال على ذلك مسألة الميراث. فقد كانت المرأة تأخذ حصتها من الميراث مثلها مثل الرجل، لكن بعد النكبة، "جاء اليهود واحتلوا البلاد وشلحوا العباد أراضيهم، اتفق الرجال أن يورثوا الذكور كي يحفظوا الأملاك داخل العائلة"[2]. لذلك يمكن القول بأن "البنت هي الضحية الأولى للاحتلال والمجتمع"[3]. كما كان شائعا في تلك الفترة تعدد الزوجات حيث كان الرجل يتزوج أكثر من امرأة طمعا في المال والأرض.

ومنذ البداية نكتشف أن الرواية لها حكايتان: حكاية المرأة وحكاية المدينة. يتقاطعان ويفترقان. فالرواية مكتوبة بحس نسوي واضح. تبيّن فيه وضع المرأة في المدينة اليباب. المرأة التي تعيش مع وحدتها، في مجتمع لا يرحم.

الرواية تتكشف عبر المونولوغ الداخلي الذي يعطي بعدا سيكولوجيا للنص، وشخصية دبدوبة تمثل الجانب الفطري العفوي لبطلة الرواية، نراها تطلّ من وقت لآخر لتقول ما تتحفظ الكاتبة عن قوله صراحة. دبدوبة تمثّل "الهو" بحسب التحليل الفرويدي، طفولية من جهة، ومتطرفة من جهة أخرى.  وما يجعل الرواية مشوقة، هو الأسلوب الذي استخدمته الكاتبة للرواية. فهي من جهة، تستخدم المونولوغ للتعبير عن ذاتها، ومن جهة أخرى، تستخدم الرسائل في مخاطبة صديقها في العمل، ولمخاطبة المرأة بشكل عام في مقدمة رسائلها التي تبدأها ب "أيتها الأنثى"؛ وهنا، نراها تخاطب جميع النساء بدءا من نفسها. تقول: "أيتها الأنثى المائية الابتهالات والكلمات، من ضجيج عنادك وأريج تواضعك... وسكرة مفرداتك، أحاول أن التقيَك في رسالة فوق طاولة ريح المدينة[4]. كما تستخدم الكاتبة اللهجة العامية حينما تتحدث الجدة عن النكبة، وما عرفته ورأته وهذا يعطي النص مصداقية عالية.

وتتميز الرواية بالتناص الذي يتكرر في كل الفصول. فتستخدم الكاتبة أمثلة شعبية أو مقاطع شعرية لآخرين تضمنها نصها دون أن يشعر القارىء بافتعال أو تكلف في النص. وعلى سبيل المثال، تقول لزميلها في العمل: "أنا أعرف وأنت تعرف أننا هنا في حقل السيد الجديد والمقاول الجديد (نحرث وندرس لبطرس) من أجل لقمة عيش لا أكثر ولا أقل".[5] وهذا التناص يتكرر بشكل لافت في النص الروائي.

وتتفاعل الكاتبة مع الوضع في العراق متأثرة بما حدث لأطفال العراق في زمن الرئيس الأمريكي بوش، فتكتب رسالة  لزميلها بمرارة: "صوت أطرافه المبتورة ما زالت تصرخ... انتزعني من أمام الشاشة الصغيرة المحنطة...يا ناس أعيدوني لطفل عراقي يبحث عن أطرافه لينهض ليأكل ليشرب ليعيش مثل خلق الله".[6]

وفي مكان آخر تستخدم التناص: "خذوا ما شئتم من أوراق التين والتوت لتستروا عوراتكم ان استطعتم. نحن هنا كما الأرض منزرعون في يومنا وأمسنا في شمسنا وظلنا وأقدارنا نكتب التاريخ وندونه كما تعلمنا "دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة". وتستمر الكاتبة في التعبير عما يعتلج في صدرها من قهر وشعور بالظلم وتنهي كلامها بمقتطف "ولا بد أن يستجيب القدر"[7] من قصيدة "إذا الشعب يوما أراد الحياة". وهنا تعني فلسطين والعراق.

ويتميز نص فاطمة الروائي بالسخرية والدعابة. وهذا ما يجعل النص خفيفا للقراءة، لكنه عميق من حيث معانية المخفية والمتوارية خلف الكلمات. وفي كثير من الأحيان، تتضمن المواقف سخرية مرّة من قبل الكاتبة، إما بسبب انتهاك هذه المواقف لكرامة المرأة، أو بسبب سطحيتها التي ترد عليها بسخرية مرّة. وكثير من هذه المواقف تأتي ضمن الموروث الاجتماعي الذي يعتبر، لدى المجتمع مقدسا ولا يجوز تغييره.

 وعن المدينة تقول الكاتبة: "مليون وجع أحمله داخلي وعلى كتفي من مدينتي التي فقدت بكارتها في ليل اغتصاب...وظللت من محاولة إلى محاولة أعالج قسوة المدينة التي أحبها وأبحث عنها"[8]. وفي مكان آخر تقول: "أنا في رحلة بحث عني وعن فكرة تخصني وتحضنني، تلمني كي تجمعني انسانة أخرى في مدينة أخرى، في زمن آخر".[9]

تتميز الرواية بنثر جميل، بتداعيات ومونولوجات، بصور شعرية تجعل القارىء يحلق في عالم الرواية الشعري. فكأننا أمام لوحات جميلة ترسمها بخفة الشعر وعبقه. وبصورها، وألوانها وحسّيتها. ولا تخلو صفحة من هذه الصور الشعرية التي تشد القارىء للوصول إلى الخاتمة. 


[1] فاطمة ذياب، مدينة الريح ط.3.، دار الوسط اليوم للاعلام والنشر، رام الله، 2013، ص.28. 

[2]فاطمة ذياب، مدينة الريح، ط.3.، دار الوسط اليوم للاعلام والنشر، رام الله، 2013ص.28.

[3] المصدر نفسه

[4]  ص. 29

[5] ص. 38

[6] ص. 40

[7] ص. 43.

[8] ص. 38

[9] ص.39 

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق