الموسيقا لغةُ الوجود ظهرت قديمًا منذ الأزل، وامتدّتْ مِن همساتِ الطّبيعةِ وهديرِ البحرِ وصمتِ الحجر، مِن حفيف الشّجرِ وزقزقةِ الطّيور، ومِن خريرِ الماءِ وأصواتِ وظلالِ الأحياء، فتعلّقَ بها الإنسانُ لحاجتِهِ لها، ولِما لها مِن مدلولاتٍ وآثارٍ وانعكاساتٍ إيجابيّةٍ على الكيان البشريّ، ومعَ التّطوّرِ تبدّلت وتغيّرت زمكنيّة الموسيقا مِن الأبسط إلى الأعقد، ومع تطوّرِ صناعةِ الآلاتِ الموسيقيّةِ والطّرُقِ الحديثةِ بتلقينِ الموسيقا، تجاوزت الموسيقا المكانَ الجغرافيّ بتميّزِها، واخترقت الزّمانَ التّاريخيّ بخصوصيّتِها، وامتلكت الحواسّ والإحساسَ دونَ منازع!
اليومَ، وبعدَ أن ازدادَ وعيُ المجتمع للموسيقا وكبُرتْ حاجتُهُ لها، اتّسعتْ دائرةُ الاهتمامِ والأُطُرِ التي تُساهمُ في تنميةِ المواهبِ الموسيقيّة، وتعتمدُ على رفع الذائقةِ السّماعيّة وتعزيز الانضباط، بذل المجهود والتعمّق والمثابرة والمتابعة، والتّوافق الصّوتيّ الهارمونيّ بينَ الآلاتِ، لخلقِ جيلٍ مِن الشّباب والشّاباتِ يدرسون هذا الفنّ الموسيقيّ بأساليبِهِ الممنهجة، ويلتقطون مدلولاتِهِ بدرايةٍ وذائقةٍ رفيعة.
أحدُ هذهِ الأطر الموسيقيّةِ المَحلّيّةِ في بلادِنا هو المعهدُ الموسيقيّ في عبلين، وقد كان الأثرُ السّامي في بلورةِ هذهِ النّواة وتشكيلِها في حيّز الوجودِ، للاستاذ الموسيقيّ المِقدام نبيه عواد عام 1993، لحبِّهِ وعشقهِ الغامضٍ للموسيقا، إذ عملَ كمُدرّسٍ للموسيقا في الجليل بينَ السّنواتِ 1985- 2003، في النّاصرةِ وشفاعمرو وعبلّين وكوكب، ولمسَ وجودَ مواهبَ فنّيّةٍ كثيرة، تستحقُّ الاهتمامَ والرّعايةَ والتّبنّي والصّقل في إطارٍ رسميّ!
وعادةً ما ترتبطُ الانطلاقةُ بظروفٍ ومؤثّراتٍ، لكن حُبّ الأستاذ نبيه عوّاد للموسيقا وانتماءَهُ لبلدِهِ وللموسيقا الأصيلةِ، وطموحَهُ وتعطّشَهُ اللاّ محدودِ في المساهمةِ في رفْعِ شأنِ بلادِنا فنّيًّا وثقافيًّا، وبسببِ النّقصِ الفنّيِّ والفراغِ الموسيقيِّ الّذي يحتلُّ جزءًا كبيرًا في بلادِنا، كلُّ هذه الظروف كانتْ دوافعَ ومُحفّزاتٍ تحتاجُ بلورتُها إلى مبادرةٍ وعزْمٍ وتصميمٍ ومثابرةٍ، لتطويرِ ورعايةِ الفنِّ الموسيقيِّ، كإرثٍ مُهمٍّ يعكسُ ثقافتَنا المحلّيّة.
فانطلقَ بمغامرةٍ جريئةٍ واثقةٍ ومميّزةٍ، لم تقتصرْ على مُدرّسينَ عرب للموسيقا الشرقية فقط، بل ومُدرّسينَ أجانب للموسيقا الغربيّة أيضًا، بدعمٍ مِنَ المجلسِ المَحلّيّ، ليكونَ المعهدُ الدّفيئةَ الحاضنةَ موسيقيًّا لعبلين ومنطقةِ الجليل القريبةِ، ولرعايةِ وترعرعِ المواهبِ موسيقيًّا مِن جيلٍ صغيرٍ جدًّا، فلاقى المشروعُ استحسانًا وتجاوبًا والتفافًا.
يعملُ المعهدُ الموسيقيّ على تنميةِ المهاراتِ الموسيقيّةِ المعرفيّةِ والتقنيّةِ والذّوقيّة، بمنهاجٍ دراسيٍّ يتناسبُ بفصولِ الدّراسةِ ومستوياتِ الطّلاّب وأجيالِهم نظريًّا وعمليًّا، والإقبالُ على تدريسِ الموسيقا في ازدياد، والمعهدُ الموسيقيُّ في عبلين مستمرّ في نموّهِ المُطّرد خلالَ الأعوامِ التّاليةِ في الكمّ والكيف، وفي وضعِ حجرِ الأساس لأهمّ وأرقى مراحل مستقبل الأجيال الناشئة، وقد تخطّى كلَّ الصّعوباتِ والمشقّاتِ بوعيِ وتطلّعاتِ الأهالي المثقّفين، فكانَ حصادُ النّجاحِ متزامنًا في المعهدِ الموسيقيّ وجوقةِ الكروان، بشكلٍ لا نظيرَ لهُ وما زال.
لقد أخرجَ المعهدُ الموسيقيُّ في عبلين كوادرَ فنيّةً واعدة إلى الوجود، وعلى صعيدِ الإنجازاتِ العامّة، فإنّ مايسترو الكروان الفنّان نبيه عوّاد؛ مؤسّسُ المعهدِ الموسيقيِّ للعزف وجوقةِ الكروان للغناءِ في بلدة عبلين الجليليّة، يُشرفُ على الكثير مِن المهرجاناتِ الموسيقيّةِ المَحلّيّة، ويعملُ كلّ ما بوُسعِهِ للمساهمةِ بنهوضِ الحركةِ الموسيقيّةِ والغنائيّةِ لأسمى الدّرجات في بلادِ الحنين.
وها المعهدُ الموسيقيُّ قد بدأ في جمْعِ الغلّةِ على البيدرِ الموسيقيّ، فاختارَ ستّة مِن خرّيجي المعهدِ التّفرّغَ كلّيَّا للموسيقا، ومتابعة الدّراسةِ العليا في الجامعات، وإثباتِ جدارةٍ وكفاءةٍ في العزفِ، بدلالاتٍ ومعانٍ كبيرة في الاعتماد على الذات، رغمَ كلّ الظّروفِ الصّعبةِ والتّمويلِ المؤسّساتيّ الشّحيح.
كما يعملُ المعهدُ الموسيقيُّ حاليًّا على تأسيسِ فرقةِ أوركسترا مِن الطّلاّب الرّواد في الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّةِ والكلاسيكيّةِ الشّرقيّة، ترافق تدريبات ونشاطات جوقة الكروان أيضًا.
منذ مطلع عام 2011 انتقلَ المعهدُ الموسيقيّ في عبلين إلى مقرِّهِ الجديدِ المستقلّ الرّائعِ الهادئ، ليُتابعَ نشاطاتِهِ الموسيقيّة وارفةَ الظّلال، وعلى مدار أيام شهر حزيران 2011 وبرعاية المجلس المحلّي في عبلين، دُشّنَت قاعةُ المعهدِ الجديدة بسلسلةٍ ناجحةٍ مِن عروضِ العزفِ للطلاب في نهاية العام الدراسي 2011 مِن ذكورٍ وإناث، وحظيت هذه العروضُ بحضورٍ واسعٍ مِنَ الأهل والأصدقاء.
عروض في مجموعاتٍ للوتريّاتِ والنّحاسيّاتِ وآلاتِ النّفخ والإيقاع، وبصمتِ الحضورِ الاستثنائيّ انسابت الموسيقا بدبيبِ حركتِها إلى الآذان والوجدان، تعزفها أناملُ طفوليّة، وتحلّق ألحانًا في سمواتِ حضورِها الوارفِ عذبةً شيّقةً انفعاليّة، تُلامسُ الجسدَ وتثيرُ الرّوح بإبداعِها ورغبتِها الصّادقة، وبمستوياتٍ معرفيّةٍ وفنيّةٍ وذوقيّةٍ مختلفةِ الأجيال، والحضورُ بقلوبٍ خاشعةٍ وعيون صافيةٍ يُصغون لنقاوةِ هذهِ اللّحظاتِ الموسيقيّةِ الخالدةِ مِن أعمارِ أبنائِهم.
0 comments:
إرسال تعليق