أسعد الخوري يكتب "رسالة لبنان ومعناه" لفيليب سالم: رؤية فكرية حضارية لمستقبل لبنان

في بطرام - الكورة بشمال لبنان وُلد فيليب سالم ونشأ في ضيعة هي مثال للريف اللبناني الأخضر الجميل والنقيّ. عاش مع عائلةٍ وأهلٍ وأبناء ضيعة يعشقون الشمس وضوء القمر والحكايات... 
الحياة هادئة وهانئة في بطرّام، لكن أحلام الفتى الصغير كانت كبيرة. وكلما أطلّ القمر "ساطعًا" في ليلِ الضيعة ليضيء البيوت والحارات الصغيرة، كانت الآمال والأحلام تتعاظم لدى فيليب سالم. 
عَشِقَ الأرض وزيتونها الأخضر وناسها الطيبين. وبقي - أينما كان في الدنيا - وفيًّا لتراث قريته وأهله وناسه. في أقاصي الأرض، على بعد ثمانية آلاف ميل من بطرّام، يحرص فيليب سالم على أن يضع في مكتبه بعيادته في مدينة هيوستن الأميركية، غصن زيتون من أرضه، وزجاجة زيت من كرمه، وحبّة تراب من ضيعته بطرّام... وليس هذا "ليذكّرني من أين أتيت بل بِمَنْ أنا أكون وليقول لي كل يوم: أنتَ من لبنان الذي لولاه لما كنتَ من انت".

يعترف فيليب سالم أن بينه وبين جبران خليل جبران حبّهما للأرض في لبنان. وهو يقول في هذا الإطار: عندما يتكلم جبران على صدى الناي، في وادي قاديشا، أكاد أسمعه. وكم سمعتُ هذا الناي في حياتي. وعندما يصف (جبران) كيف كانت الشمس عند الغروب "تلملم أشعّتها الذهبية كالبخيل من رؤوس جبال شمال لبنان" أكاد أراها. وكم رأيتُ من بيتنا في بطرّام هذه الشمس ذاتها "تلملم أشعتها الذهبية كالبخيل" من تلك الجبال. كان هذا لبنانه: الأرض والهضاب والجبال والسماء، الحصّادون والمزارعون والناس الطيّبون...
وهذا أيضًا، لبنان فيليب سالم. الضيعة اللبنانية الوادعة. صوت فيروز وشعر الرحابنة وسعيد عقل وخليل حاوي والأخطل الصغير... الجبال والسهول الخضراء. زيتون الكورة. بيته التراثي القديم في بطرّام بصنوبراته الدهرية، ومصطبته المتواضعة، يناجي منها القمر كل ليلة!

الحبر والكلمة
"الكلمة التي لا تُعمَّد بالحبر، تموت".
كانت هذه وصيّة غسان تويني لفيليب سالم. هذه الوصية دفعت طبيب السرطان ليصبح كاتبًا، ينشر مقالاته في السياسة والاجتماع والطبّ على الصفحة الأولى من جريدة "النهار" اللبنانية منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو مستمر بالكتابة حتى اليوم.
افتتاحيات البروفسور سالم، صدرت في كتاب بعنوان (رسالة لبنان ومعناه) عن دار نوفل (هاشيت - أنطوان) في بيروت، (330 صفحة من القطع المتوسط). مقدمة الكتاب للدكتور فارس ساسين. وهو طرح السؤال: باي لبنان يؤمن فيليب سالم؟ وأجاب: يبدأ بالضيعة والإلفة والأهل، بالشجر والتراب والضياء، ويسافر بالحكايات والأغنية والحنين الى الحواضر والمهاجر، ويتعارك في كل آن مع آلامه وأمراضه ولعناته، ما استُقدم منها وجاء من "لعبة الأمم" وما تولّد من ذاته ورسخ فيه. 
فيليب سالم يصف تعلّقه بلبنان بأنه "جنون محبّة"، وفارس ساسين يفسّر الأمر بأن ما يبدو لناظره عاطفة جامحة يُترجَم في المقالات والخطب الى لغة العقل، فنقع، على وطنٍ يسعى عاشقُه الى لملمة ما يميّزه، بل أفضل ما يميّزه ويحوّله الى رؤية متماسكة متكاملة متسامية... ينتقل من عبارة "رسالة لبنان" الى عبارة "معنى لبنان" الأكثر حداثة وحياديّة، والأقل التصاقًا بأيديولوجية سادت قبل الحرب (اللبنانية) وظلّت موضوع أخذٍ وردّ. لكنه يبقى مدهشًا في قوّة تصوّره وعمق رؤيته وشمول عناصره وموضوعيّة نظرته وتنزّهها عن أيديولوجيات المكوّنات الطائفية".

رؤية فكرية
يطرح سالم في مقالاته رؤية فكرية، حضارية، وانسانية صقلتها تجارب وعلاقات مع فئات اجتماعية متنوعة، كما مع احزاب ورؤساء دولٍ عرب واجانب، إضافة الى مفكرين وشعراء وأدباء. هذه النظرة الشاملة المتكاملة يمكن أن تشكّل رؤية لمستقبل لبنان الحرّ، السيّد، الديموقراطي والتعددي.
يدعو سالم الى "الحرية والتعددية الحضارية والديموقراطية" ويرى أنّ "هذا الثالوث هو واجب الوجود للبنان. من دونه يزول معنى لبنان. هذا الثالوث هو رسالة وقوة لبنان الحقيقية. القوة التي لم تتمكن الحروب من تدميرها. هذا الثالوث هو الضمانة للاستقرار. وهو الضمانة لبناء الحضارة". 
يقول سالم: السؤال اليوم، ليس فقط عن هوية لبنان السياسية، بل يتعداها الى هوية لبنان الحضارية. ولبنان لم يكن وطنًا بقدر ما كان رسالة، لم يكن مجده يومًا نابعًا من كيانه السياسي. كان مجده دائمًا نابعًا من كيانه الحضاري. من كونه مساحة للحضارة، من كونه "أكبر من وطن"، من كونه "رسالة للعالم".

الانتشار اللبناني
الانتشار اللبناني في العالم يشكّل فاعلية كبرى. له دور هام ومؤثر في البلدان التي يتواجد فيها لبنانيون يبرزون في شتّى مجالات الحياة: من السياسة الى الأعمال والطب والهندسة والفكر والأدب. لبنانيون أثّروا في تاريخ البشرية وتركوا سمات وبصمات من جبران وامين الريحاني في أميركا، الى مؤسسي جريدة الأهرام في مصر (الأخوان بشارة وسليم تقلا)، الى مايكل دبغي طبيب القلب العالمي، الى عشرات بل مئات اللبنانيين الذين اغتربوا أو وُلدوا في بلدان الانتشار وحافظوا على جذورهم وعاداتهم، ودافعوا وساندوا وطن الأرز، وأحبّوه وعشقوه...
وهنا لا بدّ من التذكير بما يقوله سالم بأن "عالمية لبنان لا تنحصر في وجود العالم كلّه فيه، بل تكون في وجود لبنان في كل العالم. فلبنان موجود وفاعل وحاضر في جميع بقاع الأرض بفضل أبنائه الذين حملوه وأخذوه معهم أينما انتشروا في الأرض، لذلك نقول إن لبنان وطن عربي في الهوية السياسية، لكنّه وطن عالمي في الهوية الحضارية، هو من الشرق إلاّ أنه للعالم كلّه"...

ألم وأمل
فيليب سالم ليس قادمًا من خلفية سياسية تقليدية، بل من عالم مختلف كليًا، عالم العلوم والطبّ، عالم يلتزم الحقيقة وخدمة البشرية. عايش الحرب اللبنانية القذرة لمدة 12 عامًا وهو يحاول البقاء على قيد الحياة والعثور على بصيص أمل وسط اليأس.
يتذكر سالم تلك السنوات بألم وأمل يقول: كنتُ أمضي ليلتي في الملجأ ونهاري في عيادتي حيث أعالج مرضى السرطان. صَقَلَتْ حياتي في بيروت، لاسيما الفترة التي امضيتها في الملجأ، هويتي كلبناني وزادت الى حدّ كبير حبّي للبنانيين من مختلف الانتماءات السياسية والدينية. توصلتُ الى اقتناع بأنهم كلهم ضحايا حرب لم يفهموها ولم يختاروها. علمتني حياة الملجأ في بيروت كيف يستطيع الناس أن يكونوا على قدر التحدّي... وأن يَسْموا الى أقصى درجات الإنسانية عندما تهدّدهم المأساة والموت... لكن، كما اطمئن مرضاي دائمًا، ليس هناك حائط مسدود ولا ليل يدوم الى الأبد، فالشمس تشرق دائمًا في اليوم التالي. ولا ينسى سالم أن يحمّل "القيادات السياسية" اللبنانية مسؤولية ما جرى ويجري للبنان الذي يقف دائمًا في "قلب العاصفة"!
فيليب سالم ينظر الى معالجة الوضع اللبناني من زاوية مختلفة: بسبب ضخامة مأساة لبنان وجذورها الإقليمية والدولية، يحتاج لبنان الى مساعدة العالم للخروج من أزمته الكيانية التي تهدّد وجوده. وهو يسأل: جاء العالم كلّه لمساعدتنا ونحن لا نعرف ماذا نريد، فكيف يمكنه أن يساعدنا؟ وإذا كنّا لا نعرف ماذا نريد فعلى ماذا نتحاور بعضنا مع بعض؟ وعلى ماذا نفاوض ونتكلم مع العالم؟ نخرج من النفق فقط عندما نتفق نحن كلبنانيين، ونكون صادقين في اتفاقنا على أي لبنان نريد... الاتفاق الذي نتكلم عنه ليس اتفاقا بين "الزعماء" و"الأُمراء" الذين همّهم أن يتقاسموا المغانم والمنافع على حساب الوطن، بل هو اتفاق في العمق على هويّة لبنان. اللبنانيون شعب عظيم، إلا أن قياداته كانت دائمًا قيادات هزيلة. 

المحبة لا تفشل
فيليب سالم "معلم" انسانية. هو داعية محبة وسلام. يؤكد دومًا أن "المحبة لا تفشل أبدًا أما الكراهية فهي تفشل كل يوم". هذا الطبيب الاخلاقي لا يدعو فقط الى المحبة، وحبّ الوطن والناس، بل يدعو الى "التمرد على اليأس". ويقول أن أهم ما تعلّمه في الطب، وبخاصة في معالجة الأمراض السرطانية هو التمرد على اليأس لأن اليأس يقف دائمًا حاجزًا كبيرًا أمام الشفاء.
وما يراه على صعيد الطب ينسحب على صعيد السياسة. حيث يكون "التمرد باقتناع اللبنانيين بأن لبنان هو لبنانهم هم، قبل أن يكون لبنان سياسييهم، وبأن لبنان سياسييهم لن يكون يومًا لبنانهم... لأن الذين قَتَلوا لبنان لا يمكنهم احياؤه...".
هذا الواقع يقود اللبنانيين الى الإيمان بلبنان جديد. وطن الرسالة، حيث رسالة جبران خليل جبران هي قسم منها. يقول سالم: سأل جبران السؤال الكبير عن حقيقة الانسان، وعندما نظر اليه لم يرَ جسده بقدر ما رأى روحه، ولم يرَ فيه كائنًا حيًّا بقدر ما رأى كائنًا سرمديًا. وبينما كانت حضارة الغرب تَرى ما يُرى في الانسان، غاص جبران في ما لا يُرى، وتساءل: كيف تُقاس المحبة؟ وكيف يا ترى يُقاس النبل والحنان، وكيف تُقاس طهارة القلب والصداقة؟ وكيف تزن الفرح والحزن والضجر واليأس؟ وماذا عن الشهامة والعدالة وكبر النفس والعطاء؟ فخلُص الى أن عظمة الانسان والمعنى الحقيقي لوجوده يكمنان في ذلك المحيط اللامتناهي فيه الذي لا يُرى ولا يُقاس ولا يُلمس. 
نتيجة ذلك رأى فيليب سالم أن جبران رفض جميع القيود وثار على التقاليد والمؤسسات وأهم ما في رسالته، هذا التمرد المستمرّ على ما يسمّى بـ"الواقع"... فنظر الى ما وراء المعرفة، ورفض ما قَبِلَه الناس.
يؤمن سالم بأن الحرية هي الأساس. دونها لا حضارة ولا تقدّم. ويخشى ان لا يتمكن المؤرخون في المستقبل من الغوص الى عمق القضية الكبرى في هذا الشرق: قضية الحرية. وهو يرى بأن "الحرية تحدّد ماهية الإنسان، والصراع الحقيقي الدائر في هذا الشرق اليوم ليس على الأرض بقدر ما هو على أيّ إنسان نريد؟ فمن دون الحرية ليس هناك علم، ولا جامعات، ولا أبحاث علمية، ولا فنّ، ولا صحافة ولا إبداع. والحرية هي البوّابة الى الحضارة".

الحقّ في الصحّة
أولى فيليب سالم الطبيب قضية الصحة أهمية بالغة. في الذكرى السنوية للاعلان العالمي لحقوق الانسان، يطالب - كل عام - في مقالات له في الصحافة العالمية، بحق الانسان في الصحّة. 
ومع اعترافه بأهمية هذه الوثيقة التاريخية لحماية حقوق الانسان وصونها في كل مكان من العالم، يرى أنها "لم تتطرق بأسلوب واضح ومحوري الى ما نعتبره أهم قضية تحدّد مستقبل الانسان وحقّه في الحياة، إلا وهي قضية الحقّ في الصحة... ونعتقد أن ليس هناك حقّ من حقوق الانسان أهم من حقّه في الصحّة، لان الصحّة هي المدخل الى الحياة، من دونها لا تكون حياة، ومن دون الحياة لا تكون حقوق".
من هنا عمل فيليب سالم جاهدًا مع الأمم المتحدة لتعديل المادة الثالثة من الاعلان العالمي لحقوق الانسان لتقول بالحرف: "إن اهم وأقدس حقّ للانسان هو الحقّ في الحياة، وهذا الحقّ يعني بالعمق الحقّ في الصحّة. لذلك وجِبَ على جميع حكومات الدول والمجتمعات تأمين الرعاية الصحيّة والطبابة لكل مواطن فيها".

الأجيال الجديدة
الأجيال الجديدة، وخريجو الجامعات منهم "تحرّرهم المعرفة من العبودية، وليس هناك من عبوديّة أشدّ وأقوى من عبودية الجهل".
يؤكد سالم على أهمية المعرفة والثقافة التي تضيء الطريق أمام مستقبل الشباب. ويرى أن الإبداع في العمل ليس ممكنًا إن لم تحب عملك. فالحب هو القوة التي تحوّل العمل من شيء تقوم به ويبقى خارجك، الى شيء تقوم به ويصبح هو انت. وأن نوع العمل الذي تقوم به ليس مهمًا بقدر ما هو أهمّ أن تملأ هذا العمل بالحبّ، وتسكب فيه من نفسك.
أما نصيحته الى خريجي الجامعات فهي: "إذهبوا، واعملوا وازرعوا في الأرض وطاردوا أحلامكم، ولكن إياكم أن تنسوا يومًا من انتم، ومن أين أتيتم، ومن هم أهلكم وأيّ أرض في الأرض هي أرضكم".
ويضيف: إنني أدعوكم الى أن تحلموا أحلامًا كبيرة. أحلامًا أكبر من الوصول الى المال والشهرة والسلطة. أحلامًا أكبر منكم. إذ إنكم تجهلون اليوم ما انتم قادرون على صنعه غدًا.

"الابرة" تلازم الطبيب لمعالجة مرضاه وانقاذ حياتهم، وفيليب سالم الطبيب يسعى اضافة الى ذلك، الى حفر الجبل ب"ابرة" الصبر والمحبة والايمان والاناة، بغية اعادة الحياة الى لبنان. لبنان هذا الوطن المعلّق على صليب أملٍ لا بدّ منه، ورجاءٍ لا عودة عنه.

وإذا كان "الفرق بين الظلمة والنور كلمة"، فإن سالم يعرف أن ما كتبه عن صديقه غسان تويني: "أبطال الأساطير لا ينحنون"، تنطبق على عظماء من لبنان يبقون أحياء في النور، كما في ذاكرة الوطن والناس.

كلام الصور:
1 - غلاف الكتاب
2 - فيليب سالم

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق