عباقرة أضاؤوا العالم بعبقريتهم وماتوا فقراء

"الفقر والغنى" بريشة ويليام باول فيرث 1888

إعداد واختيار عادل محمد
1 شباط 2020

فلاسفة وموسيقيون وفنانون قسا عليهم الزمن في حضورهم وأنصفهم بعد رحيلهم
هل يدهش المرء إذا قيل "لا كرامة لنبي في وطنه"؟ الإجابة "لا" مدوية، لأنك تجدها في حيوات الشخصيات الواردة هنا، ومنها الفيلسوف والأديب والموسيقي والتشكيلي، والمساهمات العظيمة التي أثرت بها النشاط الحضاري الإنساني... على أن المرء يدهش إزاء قسوة الزمن عليهم رغم مواهبهم التي قلما تأتت لغيرهم. كيف انتهت لوحات رجل كفان غوخ في أيد اشترتها بمئات ملايين الدولارات بينما الفنان نفسه عاش في فقر مدقع ومات معدما؟ وإذا قلنا إن موزارت مات فقيراً بسبب عجز عصره عن استيعاب عبقريته، فما الذي يبرر رحيل مايكل جاكسون غارقا في الديون وقد مكّنته قدراته الموسيقية – الغنائية - الاستعراضية من بيع 750 مليون نسخة من ألبوماته في حياته؟ قائمة الذين سقطوا من سماء العظمة الى هاوية الفقر طويلة، ونختار هنا نذراً يسيراً من أسمائها:

فنسنت فان غوخ

(30 مارس / اذار 1853 – 29 يوليو / تموز 1890)

قبل ثلاثين سنة، في مايو (أيار) 1990، اشترت دار "رايووي سايتو" اليابانية للنشر "بورتريه الدكتور بول غاشيه" بمبلغ 82.5 مليون دولار في مزاد بدار كريستي النيويوركية لم يدم أكثر من ثلاث دقائق.

ويُخيّل للمرء أنه لو قيل لصاحب اللوحة، الفنان الهولندي فنسنت فان غوخ، وهو حي أن هذه اللوحة ستباع يوماً بذلك المبلغ لسقط في التو واللحظة ميتاً بالسكتة القلبية... مثلما كان سيفعل إن أتاه نبأ أن لا أحد اليوم يستطيع شراء أعماله – مثل "زهرة عباد الشمس" و"ليلة نجماء" – سوى كبريات المتاحف في الدول الغنية وحفنة صغيرة من أثرى أثرياء العالم. فقد عاش هذا الرجل مترحلاً وعالة على أخيه ثيو. لم يجد طوال حياته من يبدي مجرد الإعجاب بإنتاجه الفني دعك من دفعه المال لشرائه. لا غرو إذن أن يختل عقله فيقضي فترات في المصحات العقلية وأن يقطع أذنه اليسرى إثر مشادة مع صديقه الفنان بول غوغان ثم ينتحر عن 37 عاماً، تاركاً وراءه 2100 عمل فني وجيباً خالياً بالكامل من النقود.

 اوسكار وايلد

(16 أكتوبر 1954 – 30 نوفمبر 1900))

"اعرف انني مخطئ عندما يتفق معي الناس"
"التجارب هي الاسم الذي يطلقه الجميع على أخطائهم"
"حب الذات بداية غرام مدى الحياة"
"شيء واحد فقط أسوأ من أن يلوك الناس سيرتك وهو: ألا يلوكون سيرتك"
"أفضل علاج للإغراء هو الانصياع له"

اشتهر بأقوال مأثورة كهذه. واشتهر بأنه شاعر مفوّه، وقاص بلغ ذروته في روايته الشهيرة "صورة دوريان غراي"، ودرامي أصاب نجاحاً مدوياً بمسرحيته "أهمية أن يكون الإنسان إيرنست" (اختار "ايرنست" لأنها اسم علم وكلمة تعني "شغوف"). هذا هو الكاتب الآيرلندي أوسكار وايلد الذي عرف بعدة أشياء منها أنه كاتب عبقري ولسان حال التيار المعروف بـ"الجمالية" أو "الفن من أجل الفن". وقد نشأ هذا الرجل من أسرة ثرية في دبلن، وعندما انتقل إلى لندن صار من نجوم المجتمع المخملي وذاق رغد العيش في صحبة الارستقراطيين. لكنه عُرف أيضاً بمثليته الجنسية التي قطعت عنه تيار المال من أسرته ثم أدت إلى محاكمته بتهمة الفحش وسجنه سنتين مع الأشغال الشاقة في 1895. ولدى نيله الحرية مجدداً كان قد صار كسيراً جسدياً ومعنوياً فقضى بقية عمره في منفى اختياري بباريس حتى مماته مفلساً في 1900 بعد معركة قصيرة مع التهاب السحايا.

فولفغانغ أماديياس موزارت

(27 يناير / كانون الثاني 1756 – 5 ديسمبر / كانون الأول 1791)

برع موزارت في عزف البيانو وهو في الخامسة من عمره، وفي السادسة حظي بشرف العزف في البلاط الامبراطوري في فيينا، وفي الثامنة ألّف سيمفونيته الأولى. ولدى وفاته المبكرة وهو في سني الشباب كانت مؤلفاته قد وصلت إلى أكثر من 630 من سيمفونية إلى أوبرا إلى كونشيرتو إلى سوناتا إلى قداس موسيقي إلى أغنية كنسية إلى سائر أشكال الموسيقى الكلاسيكية الأخرى. وبلغ شأوه أن بيتهوفن سعى إلى لقائه "للتعلم منه".

على أن كل هذه الموهبة لم تتح له رخو العيش، وبدأت الحظوظ تعبس في وجهه، فراح يرزح تحت وطأة الديون جزئياً بسبب سعيه وزوجته إلى حياة البذخ. ثم نال الفقر من صحته بسبب اضطراره للتأليف وإحياء الحفلات بشكل مستمر. وعندما توفي في 1791 كان معدماً فدفن بأرخص جنازة ممكنة وفي قبر بلا شاهد بمقابر عامة في فيينا (انظر سيرة حياته في "اندبندنت عربية"، 28 يناير 2020).

فريديريك نيتشه

(15 أكتوبر / تشرين الأول 1844 – 25 أغسطس / آب 1900)

ربما عُرف هذا الألماني بفلسفته العميقة التي خلقت تأثيراً على التيارات الفكرية حتى اليوم ونال شهرته منها. لكنه كان أيضاً شاعراً وقاصاً ومؤلفاً موسيقياً وناقداً ثقافياً وعالماً بفقه اللغتين اللاتينية والاغريقية (إضافة إلى لغته الأم) ووصل حد تمكنه أن حصل على مقعد الأستاذية في جامعة بازل السويسرية وهو في سنه الرابعة والعشرين لا أكثر.

وربما كان أشهر كتبه المترجمة الى العربية هو روايته الفلسفية "هكذا تكلم زرادشت" التي كتبها على مدى سنتين (1886 - 1885) في أربعة أجزاء وتعالج أفكاراً مثل أن الوجود الكوني يكرر نفسه إلى ما لا نهاية، وما يسميه "موت الإله" الذي قصد به أن عصر التنوير العلمي قضى على الأفكار الدينية المسيحية وأيضاً فكرة الإنسان الخارق (السوبرمان) أو المثل الأعلى الذي يجب أن يسعى البشر للاحتذاء به.

على أن العقل الوقاد الذي تمتع به هذا المفكر بدأ يتمرد عليه فاختل إلى درجة الجنون وعاش معدماً بقية أيامه في رعاية والدته المسنّة التي توفيت قبل أن تؤول هذه المهمة إلى شقيقته اليزابيث.
وليام بليك

(28 نوفمبر / تشرين الثاني 1857 – 12 أغسطس 1827)

قيل عن نظمه قصائده الرؤيوية إنه "أعظم شعراء الحقبة الرومانسية". وقيل عن قدراته التشكيلية والإيضاحية إنه "أعظم فنان أنجبته بريطانيا". وفي 2002 احتل المرتبة الثامنة في قائمة أعظم مائة شخصية في التاريخ وفقا لاستطلاع أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي).

وكفيلسوف، تميّز وليام بليك بعلاقته العسيرة مع المفاهيم التي أتى بها عصر التنوير، فاختلف مع عقلانية هذا التيار الجديد وحسيّته قائلا إن الخيال هو العنصر الأهم على الإطلاق في الوجود الإنساني. واختلف مع الكنيسة أيضا متمسكا بإيمانه الصوفي بتوحد الإنسان والذات العليا، ووصل به الأمر حد إدانة مؤسسات كالزواج باعتباره شكلا آخر للعبودية، ودعا الدولة لرفع يدها عن سائر أشكال النشاط الجنسي بما فيها اللواط والسحاق والبغاء والزنى معتبرا هذه جميعا جزءا من حريات الإنسان الأساسية.

وبسبب آرائه المارقة على أعراف المجتمع وتعاليمه فقد اتُهم بالجنون وفشل في كسب رزقه سواء من كتاباته أو لوحاته، فعاش فقيرا ومات معدما في 1827 ودفن في مقبرة بنهيل فيلدز في وسط لندن (مصنّفة معلما تراثيا الآن) بدون شاهد فوق قبره.

في ذكرى وفاته: دستويفسكي الكاتب الإنساني المأساوي

مثّلت حياة  الكاتب الروسي الكبير، فيودور دوستويفسكي، حلقة غامضة ومثيرة مثل رواياته العظيمة التي كتبها لتخلد في سجل التاريخ الإنساني. 

ولد دستويفسكي في موسكو عام 1821، وعاش حياة متقلبة، امتزجت فيها المأساة بالروح الإبداعية والبحث والعمق النفسي والتاريخي والديني، ليصبح أحد أعظم الأدباء في العالم.

بدأ بكتابة الروايات القصيرة، أولها المساكين عام  (1846)،التي حققت نجاحا كبيرا لكن مهّدت لمسيرة متقطعة بسبب باعتقاله بتهمة تحريضه على التخريب المزعوم ضد القيصر نيكولاس الأول عام 1849. 
شكلت تجاربه في السجن رؤية فنية وفلسفة دينية عميقة، في أعماله العظيمة، التي أضحت رغم تراجيديّتها عنوانا هاما وبصمة منفردة في القرن التاسع عشر..

وكان زواجه “الصادق” من آنا سنيتكينا ، بعد فترة من العوائق التي عاشها، مثالا للاستقرار العاطفي، التي دفعته لإكمال ” الجريمة والعقاب” (1866) ، الأبله (1868) ، الإخوة كارامازوف (1880). 
روايات جعلت من دوستويفسكي أحد أفضل الأدباء الذين عاشوا على الإطلاق بفضل خصائص فنية قامت على الحداثة الأدبية ،الوجودية ، الجانب النفسي ، واللاهوت ، والنقد الأدبي. وغالبا ما يطلق على أعماله بـ”النبوية” لأنه تنبأ بتوجهات الثوار الروس  إذا وصلوا إلى السلطة، في وقته اشتهر فيه بنشاطه كصحفي وعرف بآرائه السياسية.

يشتهر كل عمل من هذه الأعمال بعمقه النفسي وانعكاساته على القارئ والمتابع لها، ووصف بأنه أعظم علماء النفس في تاريخ الأدب.

واعترف سيغموند فرويد، مؤسس علم النفس التحليلي، في مدونته في رؤى دوستويفسكي النفسية الهامة. 

فقد أثرت الأحداث الرئيسية في حياته من الحكم عليه بالإعدام والسجن في سيبيريا ، ونوبات الصرع، على قدرته في نقد الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي تجاوزت التاريخ فكانت استباقية وخرجت من حجاب الجغرافيا لتمس مختلف دول العالم وليس روسيا فقط، فحقّقت شهرة كبيرة.

واستفاد في كثير من الأحيان من الأحداث الدراماتيكية في حياته لخلق أعظم شخصياته. ومع ذلك ، فقد بقيت بعض الأحداث في حياته غائمة في الغموض.

رواية الجريمة والعقاب وهي ثاني روايات دوستويفسكي الكاملة بعد عودته من منفاه لخمس سنوات في سيبيريا، تعكس مرحلة “النضوج”  الأدبي للكاتب الروسي، في الوقت الذي كان فيه مدينا بأموال كثيرة أثناء محاولته مساعدة عائلة أخيه ميكائيل الذي مات عام 1864.

وصورت الصراع النفسي الذي روديون راسكولنيكوف، وهو طالب فقير في سانت بيترسبيرج، خطط للقتل مربية قاسية من أجل مالها ليتمكن من تحرير نفسه من الفقر وتوزيعه البعض منه على الفقراء.

وفي الإخوة كارامازوف، تناول الروائي القضايا اللاهوتية والفلسفية المتعلقة بالشر والحرية والإيمان. وقدم فيودور كارامازوف، الأب المسرف والشرير، وعلاقته بأبناءه الثلاثة و ابنه غير الشرعي الذس أهمله مما ولّد الحقد والكراهية بينهم.

وعلى عكس العديد من الكتاب الروس الآخرين في الجزء الأول من القرن التاسع عشر، لم يولد دوستويفسكي في طبقة النبلاء. وقد شدد على الفرق بين خلفيته وخلفية ليو تولستوي أو إيفان تورجينيف وتأثير هذا الاختلاف على عمله.

​المصدر: المواقع العربية 



CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق