الخاصرة الرخوة- دراسة/ أ‌. عمر عبد الرحمن نمر


صدرت رواية الكاتب جميل السلحوت عن مكتبة كل شيء- حيفا 2019 وتقع الرواية في 260 صفحة من القطع المتوسط...
قرأت الرواية، وبعد القراءة دارت في ذهني الأسئلة الآتية:
ماذا أضافت رواية الخاصرة الرخوة إلى العالم الروائي؟ هل أضافت سمة نوعية، وأفرزت جديداً في نوع الرواية؟ هل جددت في تقنيات الرواية، ومعمارية بنائها؟ هل تعدّت القالب الاجتماعي، وتجاوزته إلى عالم يبشر بتغيير أنماط اجتماعية سائدة؟ هل هي رواية نسوية؟ هل هي نص مرآوي لممارسات اجتماعية نقشها الجهل والقيم البالية؟
أسئلة لها مبرراتها..
الخاصرة الرخوة، رواية تنطلق من المجتمع، بكل تجليات المجتمع ومناشطه، حيث ترصد ثقافة هذا المجتمع، وتتأمل علاقات إنتاجه، وترسم صورة للمسيطر على هيكلية الإنتاج، والمتحكم في قيمه ومعاييره الاجتماعية، فهي أشبه ما تكون بشجرة زرعت في تراب، ولما اشتد ساقها، اتجهت أغصانها وفروعها في اتجاهات مختلفة، في حين يجمعها ساق واحد، وجذر واحد.
ولعل القاسم المشترك في أحداث الرواية، يتمحور حول المرأة، فهي البطلة الرئيسة بتمظهراتها كافة، وقد أولت الرواية أهمية قصوى للمرأة التي تعيش مجتمعاً ذكورياً بامتياز، فهي كسمكة تسبح ضد التيار، بينما القرش يهاجمها من كل اتجاه.
نعم، عالجت الرواية مسألة المرأة، المرأة العورة في رأي المجتمع المتسلط، فهي المولودة غير المُرحَّب بها، والشابة مصدر الجنس المشتهى، والعجوز التي لا ترث، ولا يحسب لها حساب، ولا يؤبه لرأيها، فهي في حالاتها كلها تعيش على هامش الحياة، لا رأي لها، ولا يسمع لها، ولا قرار لها، حتى لو كان في شيء يخصها كالزواج مثلا (جمانة).
انقسمت المرأة في الرواية إلى ثلاث نساء، وهي تقنية روائية أجادها قلم الكاتب السلحوت، حيث توازت مسارات النساء الثلاث، لكنها تلاقت بأسلوب بنائي منظم، وبنتيجة واحدة (الطلاق).
- جمانة، الجميلة، المتعلمة، الطموحة، التي تفكر وتحاول توسيع آفاق تفكيرها، لكنها تقمع، تحاول كسر القيد، لكن سلطة الذكر توقفها عند حدّ يرسمه الذكر أسلوب ممزوج بالإهانة والذل، عانت الأمرّيْن، حاولت الانتحار مرّتيْن، ونجحت بالخلاص بطلاقها من أسامة.
- صابرين، النموذج الموازي لجمانة، تتمرد على تقاليد المجتمع، وتخلع الحجاب وكأنها تهرب من ثقافة محيطها، لتركض خلف برجوازية عقيمة، هذه البرجوازية المزيفة ترى المرأة دمية تلهو بها، وتملّها ثم ترميها، ويكون مصيرها الطلاق، وبذا تلتقي بنتيجتها مع جمانة.
- عائشة، البريئة المتهمة، تطلقت نتيجة الجهل ( جنايتها أنها ذات غشاء بكارة مطاطي)، تحملت عاقبة ذنبها! وسترت نفسها، إلى أن برأها المجتمع في ولادتها من زوجها الثاني (فارس، الأسير المحرر) وختم مختار البلدة على شهادة براءتها، بشهادة آخرين...
ويتفرع من هذه المحاور بقية الشخوص التي أدارت الأحداث، برؤية كل منها، وخلقت الحوارات التي كشفت عن هويتها، والصراع بنوعيه الخارجي والداخلي، فهناك فاطمة أم أسامة المرأة الغيورة، التي تعتمد في قيمتها أنها امرأة ولود، فتاّنة، لا تحب جنس النساء، وتقدس الذكورة.
وأم جمانة البسيطة التي تحب الخير للناس كافة، وتحب أن تستر ابنتها، وأم عائشة التي طارت فرحاً عندما برّأ الطب ابنتها، وكشف الحقيقة، وأخرجها من بحر العيب، وهناك نسرين أخت يونس البرجوازية التي تعانق الكادحين (تراقص رأفت)، وعشرات من النساء الكومبرس، وهذا يتوازى مع القسيم الآخر( الذكور).
- عيسى الحماد (أبو جمانة) لاجئ يعمل في قلي الفلافل ليعيل بناته الخمس، يحب بناته ويقدر قراراتهن، ولعل اللجوء قد طور عنده منزلة المرأة، بضرورة تعليمها، واحترام قرارها.
- أبو أسامة متغطرس إلى حدّ كبير، لكنه يدور في فلك زوجته.
- أسامة، زوج جمانة، متدين، متشدد، تكفيري، يرى في المرأة أداة طيعة للرجل، ومصنعاً للإنجاب.
- فارس، الزوج الثاني لعائشة، أسير محرر.
- يونس، البرجوازي اللعوب، عبث بصابرين وتزوجها مجبراً، حتى إذا وضعت حملها، طلقها.
إن هذه النماذج البشرية الحياتية كفيلة أن تولد الحدث، وتطوره، وتشتق من خلاله الصراع المؤسس على ثقافتها وتربيتها ومدى فهمها للحياة، هذا الصراع أبرز: 
العلاقة بين الحماة (أم أسامة) وكنتها جمانة.
العلاقة بين أسامة المتطرف دينياً، وجمانة المؤدبة والمتدينة، فبرز خلال الأسرة الواحدة الجديدة( أسرة أسامة وجمانة) الصراع، وكان أشبه ما يكون بحرب بين معسكرين، معسكر متغطرس(أسامة)، ومعسكر صامت مشحون (جمانة)، حيث أراد أسامة أن يفرض آراءه على جمانة، ويجعلها تدور في فلكه، ونمط حياته قسراً، ومن الليلة الأولى التي جمعت قطبي الصراع، حاول الرجل أن يلغي ثقافة المرأة، وأن يؤسس لنوع آخر من الثقافة يرضى عنه، فتدخل في مشيها، ولبسها، وأكلها، وحتى كتبها، وصادر حقها في اختيار أشيائها الخاصة.
وهناك الصراع بين الحماة وعائلة العروس، فالحماة مصدر القوة التي تفرض آراءها على العروس وأهلها، باعتبارها أم الذكر المالك لوسائل الإنتاج ضد قيم الأنوثة والاستهلاك (المرأة)، هكذا في نظرها.
يتلو ذلك أشكال أخرى من الصراعات الذاتية التي صدرت عن تيار الوعي، واشتقت من حالات الانتظار والقلق والترقب حيناً، أو المقارنة والرجوع بالزمن إلى الخلف في سبيل التذكر حيناً آخر، لكن عموم الزمن في الرواية يسير إلى الأمام بشكل عام. زمان يحمل الأحداث المكثفة المضغوطة المشحونة، التي يراها المتلقي قبل أن يقرأها، يراها ماثلة أمامه، تستفزه بعد كل كلمة... وحركة وسكنة... إنه يعيش مجتمع التسلط الذكوري، مجتمع الاستبداد، ويرصد معايير الشرف المترهلة متمثلة بحالة من الشبق الحيواني الشهواني...
لاحظ قول أبي زياد لابنه، عند اكتشاف عدم عذرية عائشة (جهلاً) وخوفاً من الفضيحة: " اتمنحها " ثلاثة شهور ثم اتركها، وكأنها شاة (مانوحة) بعد أن تنهي عملها، وتؤدي وظيفتها، تترك... تباع... تطلق...!
لقد أمسك السارد كلي المعرفة بخيوط النص جميعها، فهو الذي رسم حدود الشخصيات ومدى حركتها، وقدّر طاقاتها ومعطياتها، سارد عليم يعرف الفعل وردة الفعل، ويعلم ما تفكر به الشخصية، بل يرقب شخصياته حتى في غرف النوم المغلقة... سارد انحاز للمرأة ضد الطاغوت الاجتماعي، وكأنه في صراع مع محور خفيّ... وأراد هزّ المفاهيم البالية وزعزعتها، وأن يحدث خرقاً فيها، وتمترس هذا السارد في موضع جلب فيه كثيراً من الآيات والأحاديث الشريفة، والفتاوى الشرعية، ليعزز إمكاناته في المناظرة، وكأنها أسلحة تدين الممارسات السلبية والقيم الفاسدة، وترد على أصحابها، ومن هذا المعنى أرى أن الرواية حملت منهج التغيير، وهذا يناقض من يتهم النصّ بأنه خرج عن المضامين الاجتماعية، بقدر ما أراد تنقيتها وتصحيحها... وقد أظهر النص فعلاً أن جسد المرأة محتل كما هي الأرض محتلة... 
وليس بعيداً عن هذا الحشد الديني، فقد حشدت الرواية كثيراً من التناص الشعبي، وذلك للتدليل على البيئة أولا، وللتدليل على قيمها ثانياً. هذا علاوة على قيمة التغيير التي تضمنتها الرواية، ومن هذه الأمثال الشعبية والعبارات: البرقوق بالسوق، كلام مراجدة حجار، القطعة ولا القطيعة، غلب بستيرة ولا غلب بفضيحة، رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا، اللي بروح السوق بتسوق، ما أغلى من الولد إلا ولد الولد، اللي بقرب المسعد بسعد... وقد جاءت هذه العبارات – بشكل يثير الدهشة- في سياقاتها وبلسان شخصياتها لرسم مشهد حياتي ما... وخصوصاً في حوار الشخصية مع نفسها (المونولوج) أو مع غيرها (الديالوج) وما كشف هذا الحوار، من رؤى متوازية غير متصالحة... ولعل التوازي الكاشف يظهر أيضا بشكل جلي في البنية الروائية نفسها:
زواج جمانة بسيط التكاليف...... زواج صابرين باهظ التكاليف
حياة جمانة قبل الزواج وأثناءه ........... حياة صابرين قبل الزواج وأثناءه
حمانة تضع مولودها في بيت مترهل على يدي داية عجوز...... وصابرين تضع مولودها في مستشفى هداسا...
فقر...... غنى وبرجوازية عفنة. رجعية..... تنويرية. قيم بالية...... تغيير. ذكر.... أنثى...
قامت الرواية على مسيرة ثلاث نساء (جمانة، وصابرين، وعائشة) وأرى أن الرواية كانت مكتفية بسيرتهن، وما تفرع عنها سواء أكان ذلك في أحداث أم شخصيات، وانبنى المضمون على هذا الثالوث، وهنا أرى – وبتواضع- أن زجّ المحور الهامشي الذكر الذي تأنّث ( ميمون/ ميمونة) وعلاقته الشاذة بيونس في بيت حنينا، ودور المؤسسة الأجنبية في حماية ميمون وتهريبه من الوطن إلى باريس... أظن أن هذا المحور كان حشواً في الرواية، وقد حرف بوصلة المضمون قليلاً عن مسارها...
في صفحة 81 وقبل زواجها، وصفت جمانة المرأة بأنها " خاصرة المجتمع الرخوة " الشريحة الأضعف في المجتمع، وإن كانت هذه العبارة هي عنوان الرواية، وعتبتها الأولى، فإني أرى أنها كانت عتبة الرواية ومدخلها وميدانها ومعمعانها وخاتمتها، فالخاصرة الأضعف/ المرأة المقهورة، التي لا تعي حقوقها، أو التي تعيها، لكنها ضعيفة ولا يمكنها تحقيقها ضمن ظروفها الذاتية والموضوعية... هذه الأضعف يتلمسها المتلقي في كل حرف من حروف الرواية... 
وعود على بدء، فإن النص وضع المشكل في المخبر، عاينه وشخّصه، وطرح بشكل غير مباشر البدائل التي تتأسس على رؤية التغيير الاجتماعي... بصورة جريئة، تجاوزت النمط التقليدي للرواية، نعم، لقد عاشت المرأة في الفضاء الروائي، وعكست واقعها، وألمها وأملها، وتوقها نحو تحقيق أنسنتها –إن دق التعبير.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق