عن الأديبة:
شوقية عروق منصور، من مواليد الناصرة، عملت في مجال الصحافة، ولها زوايا ثابتة في عدة صحف، تكتب القصة والشعر والمقالة السياسية والاجتماعية. كُتبِت دراسات أدبية حول قصصها وشعرها، وحازت على جائزة الإبداع عام 2002، صدر لها:
1- امرأة بلا أيام، مجموعة قصصية 1978.
2- خطوات فوق الأرض العارية، مجموعة قصصية 1980.
3- النبض في جوف محارة، همسات نثرية 1981.
4- ذاكرة المطر، قصائد وطنية 1985.
5- شمس حضورك أسطورة، قصائد 1993.
6- اسمك تهليلة زمرد، قصائد غزلية 1995.
7- قل كلمتك وامشِ، مقالات 1995.
8- أحلام مبعثرة، مجموعة قصصية 2002.
9- غاب نهار آخر، مقالات سياسية 2005.
10- الخرائب المعلقة، قصائد 2006.
11- سرير يوسف هيكل، مجموعة قصصية 2013.
12- قلم رصاص، مقالات سياسية 2017.
13- المالح في زمن السكر، مقالات سياسية 2018.
14- مأذون من الليكود، مجموعة قصصية 2019.
15- الرحم المجنون، رواية منجزة (تحت الطباعة).
قبل المقدمة:
من السهل أن تقرأ وتستمتع، ومن السهل أيضاً أن تتذوق النص، ولكن في الوقت نفسه ليس من السهل أن تكتب عن النص، فالكتابة عن الكتابة أمر فيه من الصعوبة ما فيه، وذلك بسبب البحث الدؤوب في عالم سردية النص وعلائقه، وسياقاته المختلفة وتأويلاته المنفتحة على أبواب كثيرة، علاوة على التحري حول الناصّ وعلاقته بمنجزه، ثم انعكاس ذلك في الواقع.
كأنها مقدمة:
مأذون من الليكود، للأديبة شوقية عروق منصور، عبارة عن مجموعة قصصية تألفت من ست عشرة قصة قصيرة، في ثلاث وتسعين صفحة، صدرت عن دار الوسط اليوم وشوقيات للإعلام والنشر، رام الله- الطيرة (المثلث) ط1، سنة 2019.
وجاء ترتيب صفحات الكتاب على الشكل الآتي:
في الصفحة الأولى: توصيف للكتاب.
وفي الصفحة الثانية: تمهيد للكاتب البرتغالي (فرناندو بيسوا) يقول فيه: لست مجرد شخص هناك، أنا مقيم طيلة الوقت، على جرف دمعة، لا تجيد السقوط.
ثم تأتي صفحات النصوص، وفي آخرها صفحة للتعريف بالكاتبة، يليها صفحة الفهرس.
مقدمة:
لولا أني قرأت للأديبة شوقية عروق شيئاً عن مكتبتها البيتية، وترتيب كتبها، والصورة المعلقة في حائطها، وكرسي الكتابة، وما تخيلته من هدوء المكان، وثرائه المعرفي، بحيث أيقنت أن هذه النتاجات الأدبية المختلفة هي وليدة ذاك المكان، ولو لم أقرأ ذلك النص عن مكان الكتابة لتخيلت الأديبة تجلس على شاطئ البحر، تتأمل زرقته الجميلة الهادئة، وصراع أمواجه العنيف، حتى إذا وصلت رمل الشاطئ تكسرت وذابت، وصراع أحيائه، أسماك كبيرة ، ووحوش بحرية تفترس الأسماك الملونة الزاهية... ويتولد السؤال: لكن، لماذا تخيلت المبدعة تتهيأ للكتابة في هذا الجو؟
لأن المنجز الأدبي للأديبة يقول ذلك. فرغم أنها تتحدث عن صراع عميق، عن صراع وجودي، كان من نواتجه القتل والسجن والتعذيب والنفي والتشريد في جهات الأرض كافة، رغم ذلك كله فإنك تقرأ جملاً منسابة كماء يترقرق مختالاً في مجراه، وتسمع موسيقى الألفاظ كصوت خرير الماء. عبارات بسيطة فيها شاعرية، وعند اقتران بعضها ببعض يتولد الجمال الأسلوبي الذي يميز كتابات الأدبية شوقية عروق، وهنا تتكون الصورة الساحرة التي يجدر التأمل فيها، ومن وجهة نظري، هنا يكمن التميز في هذه النصوص، فرغم ما تتضمنه من تجليات حياتية عاشها الفلسطيني في الداخل الفلسطيني بقوة السيطرة الاستعمارية الإحلالية. الفلسطيني الذي لم يرحل عن أرضه وبقي مرابطاً فيها، رغم هذه المعاناة والعلائق العدائية في المحيط، جاءت العبارات متصالحة مع بعضها بعضاً، وجاء هذا التصالح بمثابة ميزة أدبية رائعة تفرّدت بها الأديبة، مما أضاف للمكتبة العربية مراجع أدبية فيها الجديد غير المستهلك.
نعم، يتجلى الصراع والمقاومة والعناد منذ القصة الثانية (مأذون من الليكود) والتي تدل عتبتها (عنوانها) على صراع حديّ، فتخيل أن المأذون الذي يعقد قران الزواج، الرجل المؤدب المهذب، المنتمي لربه وشعبه، المزيّن بآيات القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة. تصور هذه الشخصية التي يمكن أن يكون لها قدسية ما، ومكانة اعتبارية ما، تصور هذه الشخصية تتشكل في بوتقة حزب الليكود، تنتمي للحزب اليميني، تسبّح بمبادئه التي تنادي بقتل العروبة، وتشريد الناس وسلب أراضيهم وبيوتهم، وتدمير ثقافتهم وهدم تراثهم، شخصية تنظر لأدبيات الحزب، وتنادي لانتخاب شخصياته، شخصية تعلق أعلام الليكود وشعاراته، شخصية تزورها أقطاب الحزب وتتباهى بذلك. إن هذه الشخصية الإشكالية التي حملت صفاتها الصراعية بين أقصى اليمين إلى أقصى اليسار لم تأتِ صدفة، بل جاء المأذون نتيجة توظيف حكومي لأذناب الحكومة وعملائها. وقد تعنونت المجموعة القصصية بعنوان قصتها الثانية (مأذون من الليكود) ، للتدليل على هذا الصراع المتأجج باستمرار. ومن رحم الصراع تولّد السرد، ليقول إن عروساً عربية أصيلة تمردت على هذا القانون، ورفضت أن يختم هذا الليكودي عقد قرانها، رغم أهمية ختمه وضرورته، (فهو مأذون الحارة) وهي من القيادات الشابة التي تدعو إلى التحرر والنهوض، لذا كانت وتيرة الاشتباك عالية، ورغم حكمة الشابة وحيلتها لوصلت الأمور إلى فسخ خطبتها وطلاقها.
يقول مريد البرغوثي في (رأيت رام الله) ص74 " الاحتلال يمنعك من تدبر أمورك على طريقتك، إنه يتدخل في الحياة كلها، وفي الموت كله، يتدخل في السهر والشوق والغضب، والشهوة والمشي في الطرقات، يتدخل في الذهاب إلى الأماكن، ويتدخل في العودة منها، سواء أكانت سوق الخضار المجاور، أو مستشفى الطوارئ، أو شاطئ البحر أو غرفة النوم... إلخ).
لقد أشارت قصة (الموت في إسرائيل) إلى صراع العامل العربي الذي يعمل بقلق وبلا اطمئنان لأنه يعمل تهريباً بلا تصريح عمل، هذا علاوة على استغلال قوته الجسدية، ضمن قانون من يملك ومن لا يملك، المستغِل والمستغَل. وبالتالي يسقط هذا العامل من علو ويموت، وتعقّد سلطات الاحتلال آلية تسليمه إلى ذويه، لدرجة أنه يهون عليهم الموت، مقابل تسلم الجثة ومواراتها التراب.
إنها قمة الصراع، وقمة الصراع أيضاً أن تتحول المجيدل إلى ( مجدال هعيمق) بمنطق القوة، و(عبرنة) أطلال البلدة بعد تهجير أهلها منها (قصة: لم تخرج ذاكرتي للتقاعد، وقصة بائعة الزيت). ولا يكتفي المحتل بسرقة الأرض وتهجير الناس من بيوتهم، بل يسرق أيضاً ما يدل على ملكيتهم لبيوتهم قبل تهجيرهم، إنه يسرق أرضهم وسماءهم، أسماءهم وماءهم وهواءهم... وتراثهم وحكاياتهم، فمن امتلك الحكاية امتلك الرواية، ومن امتلك الرواية امتلك الأرض. إن قصة (الإبريق النحاسي) تدلل على هذه السرقة، كانت مأساة عندما سرق الوزير الإسرائيلي الإبريق النحاسي التاريخي، ذاك الوزير الذي ينافقون له، ويتملقونه، ويصفقون له، بمساعدة مدير المدرسة موظف الحكومة، المتملق لها والمسحّج لها طول الوقت. نعم، لقد استطاع الاحتلال أن يحول كثيراً من الأذناب والعملاء إلى أدوات له، يديرون الأجواء العربية، وهؤلاء باعوا أعز ما يملكون من كرامة وأنفة في سبيل الوظيفة والكسب، فكان منهم: المأذون، والشرطي، ومدير المدرسة، ومعلمها، وآذنها... إلخ. وبالرغم من هذه البطولات السلبية التي أفرزتها البيئة بشرطها الاحتلالي الإحلاليّ المقيت، ورغم تولد هذه البطولات المتسلحة بإمكانات التعالق مع الاحتلال والنفاق للمحتل. ومن الجدير بالذكر أن عدداً كبيراً من هذه الشخوص كان يتعامل مع الاحتلال بشكل سري قبل سنة النكبة (1948)، وبعد النكبة ظهر ليتعامل في العلن، كما ورد في قصة الإبريق النحاسي (يقال إن عمه كان يتعامل قبل 48 بالسر، وبعدها عَ المكشوف). برغم هذه التشكيلات من هذه البطولات العفنة (بطولات أذناب الحكومة) ظهرت بطولات معاكسة تماماً، بطولات تمتّ للأرض بصلة القرابة، وعاطفة النخوة، وصدق الإباء والانتماء، فظهر الشهيد الذي بلل الأرض بدمه وزرعها حُبّاً، وظهر المعتقل الذي حول زنزانته إلى وعي تاريخي (قصة بائع الزيت). وهناك المُهجّر الذي حمل فلسطين إلى السويد، واستشهد في مخيم اليرموك (ألو فلسطين بتحكي)، وهناك من رفض بيع أرضه إلى السماسرة والصهاينة (بائعة الزيت) وهناك شهيد لقمة العيش (الموت في إسرائيل). إن هذه البطولات مبررة وتأتي في سياقاتها الزمنية والجغرافية لتشكل مسلكاً وممارسة حياتية، وتبني حكاية في معمارية حكايات الوطن، ولعلها الخط المعادي والموازي (حيناً) والمشتبِك (أحياناً)، والضدّي للبطولات السلبية التي ولدها الاحتلال.
هناك ظهور لافت للمرأة الفلسطينية في هذه القصص وذلك لإيمان السارد أن المرأة نصف المجتمع وأكثر، وهي المربية المنتجة، ومن هنا نرى نوعاً من تحيز السارد نحو بطولات المرأة وإبرازها، فهي المناضلة وحامية أرضها (بائعة الزيت)، وهي المدافعة عن أرضها وكرامتها (مأذون من الليكود)، وهي المطالبة بحقها في الميراث ( المسترجلة)، وهي المطالبة بحقها بالاسم والوجود (شادية وشوقية والجد حسن). وبينما ظهر الرجل في بطولات عميلة عفنة، لم نجد المرأة قد تلوثت بوحل هذه البطولات.
لقد استطاعت الأديبة شوقية عروق رسم البطل النموذج الذي يمكن أن تكون حياته ممارسة طبيعية، ومعيشة يومية في فلسطين المحتلة، وخصوصاً في ذاك الجزء المحتل سنة 1948. وباقتدار أيضاً وظفت الكاتبة السارد جزئي المعرفة (صورة هو/هي) الذي ركز على الجانب الرئيس في الحكاية حيناً (الموت في إسرائيل) إضافة إلى توظيف السارد المشارك حينا آخر (أنا في دار الصياد)، وفي كلتا الحالتين تميزت الحكايات بالموضوعية والبعد عن الشخصنة برغم أن الكاتبة تتحدث عن ذاتها وتجربتها في (أنا في دار الصياد، وشادية وشوقية والجد حسن).
تميزت النصوص بالعبارات السهلة الموشحة بموسيقا هادئة، متحتها الكاتبة من قراءاتها، وتأملاتها وملاحظاتها للواقع المعيش. وراوحت هذه اللغة بين العامية ولغة الشارع للتعبير عن مثل شائع، أو حكاية شعبية، أو عادة عامة، وجاءت الكلمات: جورة غميقة، راس يابس، بير عميق السر، وإن أمطرب في بلاد بشّر بلاد، برد يقص المسمار، طلت البارودة والسبع ما طل، عيب المرا تستنى، جبل عَ جبل ما بلتقي... وأرى أن هذه العبارات بصورتها المبسطة تلك، قد أدت وظيفتها الاجتماعية التي انطبعت صورتها في ذهن العامة ووعيهم. وتسمو هذه اللغة وتزهو ، وتتكاثف لتكون أقرب إلى الشعرية "حين أزرع مسماراً من تابوت الذاكرة، يبقى مكان المسمار حفرة، لا بد أن يعشش فيها عصفور يلتقط نشوة الفرح، ويبحث عن حرارة أنفاس، عاهدت الكتاب على الرقص فوق إيقاع أوراقه، أنا هنا تنمو فوق حجارتي سنابل الزمن، وقمح الحياة تطحنه الأيدي التي تصنع منه خبزاً ". (أنا في دار الصياد).
وهنا يمكننا القول إن مستويات الخطاب اللغوي لم تكن على الوتيرة نفسها بل تدرجت في أكثر من منزلة، صعوداً وهبوطاً، وكل درجة ناسبت السياق الذي أتت فيه، وهذا يدلل على طواعية اللغة بقلم الأديبة شوقية عروق.
بقي أن نقول: إن المنجز (مأذون من الليكود) أضاف جديداً معرفياً للمكتبة العربية، حيث تعرض لممارسات في زمن معين ومكان معين هو الداخل الفلسطيني المحتل، وما خلّفه الاحتلال من قيم تغيّرت، وأخرى تعفّنت، كما أنه أضاف جديداً فنياً للنص الأدبي الواقعي، حيث تجلى بروح السرد السلسة، وقوة السرد المعبرة عن الواقع، وهذا تأتى من طاقة الكاتبة، ورؤيتها في التعبير عما أرادت بقلم سيّال رائع
0 comments:
إرسال تعليق