قراءة في رواية الأسير باسم خندقجي



بقلم:  خالد جمعة

في التفسير المنطقي للأشياء، هناك دائما صورة نمطية يستريح الناس برسمها عبر معلومات قليلة، ومن هذه الصور، صورة الأسير الذي يقبع خلف جدران زنزانة في سجون الاحتلال.

لكن باسم خندقجي، منذ روايته الأولى، يكسر هذا التصور، ويفتح أبواب الحياة مشرعة، ليناقش أوضاعها على كل المستويات: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، دون أن يخشى دخول حقل الألغام الفلسطيني، خصوصا إذا تعلقت الفكرة بالآخر المحتل، وما يجري داخل أروقته من حياة وأفكار وممارسات، لطالما ظل الأدب الفلسطيني بعيدا عنها إما خوفا من التهم الجاهزة، أو لعدم القدرة على الحصول على التفاصيل التي تجعل من الكتابة عن هذا العدو منطقية وممكنة.

في روايته "قناع بلون السماء"، يذهب باسم خندقجي إلى الحد الأقصى من التخيل الذي يجعل من شاب فلسطيني مكان شاب "إسرائيلي"، وتخدمه المصادفة في ألا يكون موضع شك نتيجة مجموعة من الملابسات.

يعثر "نور مهدي الشهدي" الباحث المختص في التاريخ والآثار، على بطاقة هوية زرقاء لشاب إسرائيلي يدعى "أور شابيرا"، داخل جيب معطف اشتراه من سوق الأغراض المستعملة، ولما كان نور "وتعني أورا بالعبرية" أشقر اللون بعينين زرقاوين أخذهما من أمه التي ماتت أثناء ولادته، فإن شكله وطلاقته في الحديث بالعبرية والإنجليزية، جعلا دوره "كإشكنازي" يبدو سهلا ولا يثير الشكوك.

صديقه الوحيد "مراد"، والمحكوم بالسجن المؤبد، يشكل معاملا موضوعيا لتفكير نور، بأخذه الجانب العملي من الشخصية مقابل الجانب الرومنسي الذي يتمتع به نور، ويظل نور، على امتداد الرواية البالغة 240 صفحة من القطع المتوسط، والصادرة عن دار الآداب في بيروت، يُجري حوارات متخيلة مع مراد، دون أن تصل رسائله إليه، باعتبار أنه كان يسجلها على هاتفه، ورغم ذلك فقد كان يتخيل ردود مراد العنيفة على مواقفه، وإن كانت نابعة منه.

يقوم نور بالتسجيل للعمل مع مؤسسة أميركية ستنقب عن الآثار في كيبوتس "مشمار هعيمق" المقام على أراضي قرية أبو شوشة المهجرة، وهو المكان الذي حدثت فيه واحدة من أكبر وأشرس المعارك التي جرت أثناء نكبة 1948، وكان مبرره الذاتي الذي أقنع نفسه به هو البحث عن صندوق مريم المجدلية ليثبت بعض الوقائع التاريخية، والتي جرت في "اللجون" أو مسيانوبوليس، أو مستوطنة مجدو، رغم أن إحدى رسائل مراد نصحته بوضوح أن يتجه كخبير آثار للتأكيد على ملكية أراضي الشيخ جراح، بصفتها قضية أهم وأكثر إلحاحا من البحث في تاريخ مريم المجدلية.

الكثير من الحوارات تدور بين "نور" و"أور"، يمتطي كل منهما حصان فكرته، ليهدد الآخر، لكن أيا منهما لا يتنازل عن موقفه إلا في النهاية، حين يضطر "أور" إلى السكوت حين يواجهه نور بأن الحركة الصهيونية استثمرت الهولوكوست لتحويله إلى منظومة أخلاقية تشرعن التطهير العرقي، والنتيجة النهائية للحوار، يقول أور لنور عندما طلب منه أن ينظر إليه كإنسان، فرد أور: أخشى من اختفائي أنا إذا أصبحت أنت إنسانا.

يلتقي نور في الكيبوتس بسماء إسماعيل، الفلسطينية من حيفا، والتي تشارك في أعمال التنقيب، وهي التي دائما ما تواجه الإسرائيليين والأميركيين بموقفها من هويتها، وتصرخ بها بوضوح، أنها فلسطينية عربية، وأن الهوية الإسرائيلية مفروضة عليها، وأنها تتعاطف مع ضحايا النازية، ولكن ليس مع الصهيونية التي استغلت الضحايا لتصنع ضحايا آخرين من الشعب الفلسطيني.

إن حالة اغتراب بطل الرواية تتجلى في أسئلته: من أنا؟ من أبي؟ ما الأزقة؟ أين هويتي؟ أين ظلي؟ أين مرآتي؟ ماذا أفعل هنا؟ وأسئلته الكثيرة حول معاملة الأميركيين معه فيما لو كشف لهم عن وجهه الحقيقي.

حين يقرر أن يعترف لسماء إسماعيل بأنه فلسطيني لاجئ يسكن مخيما في رام الله، ويسرد لها قصة الهوية، فترد بأسف عليه: أنتظرُ عمرا كاملا للخلاص من هذه الهوية، وأنت خسرت عمرك كله لترتدي هذا القناع.

يقف باسم في روايته ضد مقولة تشبّه المحتل بمن احتله، ويستشهد بطل الرواية بما كتبه الروائي الإسرائيلي أ.ب. يهوشع، في روايته الإشكالية، عن الغابات التي زرعتها إسرائيل لتخفي آثار القرى المدمرة، ويقوم في روايته بقطع لسان العربي حتى لا يفصح عن القرى المدمرة، لكن هذا العربي يقوم بحرق الغابة لتظهر القرى المطهرة عرقيا من تحت الرماد.

يحلم نور بأنه ذهب إلى البئر التي تجاور الكيبوتس، وعثر على مريم المجدلية عبر سرداب في قاع البئر، وفوجئ بأنها تشبه تماما سماء إسماعيل، بالضوء المنبعث منها ومن مريديها، فيسجل رسالة لصديقه مراد مؤمناً بموقفه المبدئي، "أظلمت آفاق روايتي المجدلية، وحلت محلها تجليات سماء".

تنتهي الرواية بخروج نور من الكيبوتس بعد معركة مسيرة الأعلام في القدس، حيث تم إلغاء عملية التنقيب بسبب الأحداث التي جرت لاحقا، وتقف له سماء بسيارتها خارج الكيبوتس، وتقلّه إلى رام الله، فيما هو يخرج هاتفه ويعيد برمجته من العبرية إلى العربية.

الكثير من الرموز والإسقاطات في رواية باسم خندقجي، لا يترك فيها انتقاداته التي مارسها في روايات سابقة، انتقادات للتاريخ، للتزوير، للممارسات بحق المناضلين، للعنصرية التي تتشكل بناءً على شكل الوجوه، للحجرات والفروقات بينها، للسجن الأصغر والسجن الأكبر، للزيارات والرسائل السرية، لتغيير معالم الجغرافيا لخدمة فكرة مصطنعة.

من الواضح أن اتساع مدارك خندقجي نتيجة ثقافته العميقة التي حصل عليها بعد الحكم عليه بثلاثة مؤبدات، قد عكست نفسها على عالمه الروائي، بكل الإشارات التاريخية للأماكن والوقائع والشخصيات، بكل التفاصيل التي يسردها عن الأمكنة والحوادث التاريخية والقادة الذين جابوا التاريخ، من خلال جغرافية فلسطين.

بعض الأخطاء اللغوية وردت في الرواية، وهي قليلة وكان من الممكن تلافيها، وهناك تعليق أظنه من وضع دار النشر، إذ يشرح التعليق في أسفل الصفحة عن مفهوم "أزرق أبيض" الذي أطلقته اليهودية الشرقية أيالا، فيقول إنه إشارة إلى علم إسرائيل، فيما هو إشارة إلى حزب أزرق أبيض.

وُلد باسم محمد صالح أديب الخندقجي، في الثاني والعشرين من كانون الأول عام 1983 في مدينة نابلس، بدأ دراسته في مدرسة المعري الابتدائية، ثم حصل على الثانوية العامة من مدرسة الملك طلال، التحق بجامعة النجاح الوطنية دراسة خاصة قسم العلوم السياسية ثم حول إلى قسم الصحافة والإعلام.

أثّر مشهد الطفلة إيمان حجو ابنة الأشهر الأربعة التي قتلتها قذيفة دبابة إسرائيلية في حضن والدتها في قطاع غزة، فشكل مجموعة طلائع اليساريين الأحرار، واعتُقل بتاريخ الثاني من تشرين الثاني عام 2004 على يد قوات الاحتلال بعد عملية سوق الكرمل في الأول من تشرين الثاني للعام نفسه، والتي نفذها الشهيد عامر عبد الله من كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، واتُهم باسم بأنه كان أحد أعضاء المجموعة التي خططت للعملية، فحُكم عليه بالسجن لثلاثة مؤبدات.

أصدر من سجنه ديواني شعر هما: "طقوس المرَّة الأولى" الذي تمت طباعته في الدار العربية للعلوم "ناشرون"، ونال إعجاب الكثير من القرّاء، وقامت دار النشر بطباعته مرة أخرى، الديوان الثاني صدر أيضا عن الدار العربية للعلوم ـ ناشرون، وحمل عنوان: "أنفاس قصيدة ليلية" قدمه الشاعر والإعلامي زاهي وهبي، كما أصدر رواية "مسك الكفاية".، ورواية "خسوف بدر الدين"، ورواية "نرجس العزلة"، ورواية "أنفاس امرأة مخذولة"، وهذه الرواية التي بين أيدينا هي روايته الخامسة.

 


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق