حسين شمس آبادي
مهدي ممتحن**
مقتطفات من دراسة مطولة:
حين راح الشعر المعاصر، يتكىء علي التكرار اتكاء يبلغ أحيانا حدودا متطرفة، حاولت الناقدة أن تتناوله بنوع من الدراسة البلاغية رغبة في الوصول إلي القوانين نازك الملائكة وإبداعاتها الشعرية؛ رؤى نقدية/71 الأولية التي يمكن تبريرها من وجهة نظر النقد الأدبي وعلم البلاغة معا. فخلصت إلي القانونين الآتيين:
1ّ » .إن التكرار في حقيقته الحال علي جهة مهمة في العبارة، يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها. فالتكرار يسلط الضوء علي نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمام المتكلم بها، وهو بهذا المعني ذو دلالة نفسية قيمة تفيد الناقد الأدبي الذي يدرس الأثر ويحلل نفسية كاتبه.
2ّ .إن التكرار يخضع للقوانين الخفية التي تتحكم في العبارة، وأحدها قانون التوازن. ففي كل عبارة طبيعية نوع من التوازن الدقيق الخفي الذي ينبغي أن يحافظ عليه الشاعر في الحالات ّكلها. ّإن للعبارة الموزونة كيانا ومركز ثقل وأطرافا، وهي تخضع لنوع من الهندسة اللفظية الدقيقة التي ّلابد للشاعر أن يعيها وهو يدخل التكرار علي بعض مناطقها. إن التكرار يجب أن يجيء من العبارة في موضع لايثقلها ولايميل بوزنها إلي جهة ما.» (المصدر السابق: 276 (وهذان القانونان – علي حد قولها – هما الشرطان الرئيسان في كل تكرار مقبول، فإذا وجدا ّصح البحث في الدلالات المختلفة التي يقدمها التكرار، فيغني المعني ويمنحه امتدادات من الظلال، والألوان، والإيحاءات.
وفي ضوء هذين الشرطين وضعت الناقدة مصطلحات جديدة لثلاثة أصناف من التكرار تخضع كلها للقانونين السالفين، هي:
أ. التكرار البياني
وقد رأت في هذا الصنف من التكرار أنه أبسط الأصناف جميعا وهو الأصل في كل تكرار تقريبا، وإليه قصد القدماء بمطلق لفظ "التكرار" الذي استعملوه. والغرض العام من هذا الصنف هو التأكيد علي الكلمة المكررة أو العبارة.
ب. التكرار التقسيم
وأما تكرار التقسيم فتعني به تكرار كلمة أو عبارة في ختام كل مقطوعة من القصيدة. والغرض الأساسي من هذا الصنف من التكرار إجمالا أن يقوم بعمل النقطة في ختام المقطوعة ويوحد القصيدة في اتجاه معين.
ج. التكرار اللاشعوري
72 /فصلية إضاءات نقدية
واشترطت في هذا الصنف من التكرار أن يجيء في سياق شعوري كثيف يبلغ أحيانا درجة المأساة. ومن ثم فإن العبارة المكررة تؤدي إلي رفع مستوي الشعور في القصيدة إلي درجة غير عادية.
وباستناد الشاعر إلي هذا التكرار يستغني عن عناء الإفصاح المباشر وإخبار القارئ بالألفاظ عن مد كثافة الذروة العاطفية.
ويغلب أن تكون العبارة المكررة مقتطفة من كلام سمعه الشاعر ووجد فيه تعليقا مريرا علي حالة حاضرة تؤلمه، أو إشارة إلي حادث مثير يضحي حزنا قديما، أو ندما نائما أو سخرية موجعة. وإنما تنبع القيمة الفنية للعبارة المكررة، في هذا الصنف من التكرار، من كثافة الحالة الفنية التي تقترن بها. (المصدر نفسه: 279-280( وعلي الرغم من ّ أن مصطلحات الناقدة في أصناف التكرار قد أوضحت ً أسسا ينبغي للشاعر أن يعتمد عليها حين يلجأ إلي التكرار عامدا، فإن دراسة التكرار ذاته لاتشكل في العملية النقدية عند التطبيق إلا جزءاً ً دلاليا ً بسيطا في الكشف، لكونه يرتبط بأبيات معينة من القصيدة لا بمجملها. فضلا عن أنّه كان موجة من التقليد اتكأ عليها الشعر المعاصر في العقد الرابع والخامس من هذا القرن. أما الآن فإن تلك الموجة قد انحسرت، وأضحي التكرار مملولا إن لم يكن عيبا. لذلك لم تشع هذه المصطلحات لارتباطها بقصائد مرحلة معينة، إلي جانب أن النقد المعاصر لايميل إلي إخضاع الشعر
المعاصر إلي المصطلحات البلاغية خشية من أن ينعت كاتبه بالتقليدية، والجمود، وعدم مواكبة المرحلة. فقد ألف الناس في هذا الزمن الهجوم علي المنهج البلاغي في دراسة الشعر، ولم يألفوا تحبيذه وتقريظه وتشجيع مريديه، اللهم إلا في الدراسات الجامعية التي طورت المنهج البلاغي القديم حين أفادت من المصطلحات الأدبية الغربية وأدخلتها ضمن محاور الصورة، والرمز، والأسطورة، وغيرها، وتلك قضية يتشعب الحوار فيها.
(كمال، 1986م: 197 (
6 .التشبيه الطويل
بقي من إبداعات نازك في المصطلح النقدي ما أسمته بـ"التشبيه الطويل"، قاصدة نازك الملائكة وإبداعاتها الشعرية؛ رؤى نقدية/73
به ضربا من التشبيه يستعمله علي محمود طه ويضيف به ابتكارا وتعقيدا إلي أسلوب التشبيه الشائع قديما. واحترازا من أن يظن أنه تشبيه متعدد قالت: «وليست ميزة هذا التشبيه أن المشبه به متعدد وإنما سر جماله وأصالته أنه يخلو من جمود القطعية التي درجت قديما.»
(الملائكة، 1989م: 277 (ومثلت له بأبيات من محمود طه:
هل سمعت أذناك قصف الرعـود في صخب البحر وعصف الرياح؟
هل أبصرت عيناك ركض الجنود في فـــزع الموت وهول الكفاح
إن كنت لم تبصر ولم تسمع فقف إلي ميدانها الأعظم
ما بين ميلادك والمصرع ما بين نابي ذلك الأرقم!!
(محمود طه، 1972م: 105(
لتعلن في ختام هذا الاستشهاد أن علي محمود طه يصب التشبيه في مشهد كامل «فهو لايقول إن حياة الإنسان من ميلاده إلي مصرعهتشبهقصف الرعود وركض الجنود، وإنما يبدأ بوصف الرعود القاصفة، والجنود الفزعين وصفا مثيرا ثم يدعو القارئ إلي أن يشهد ما يشبه ذلك في حياة الإنسان من الميلاد إلي الوفاة. وهذا الأسلوب أكثر شاعرية من أسلوب التشبيهالقديم، لأنه لايعطي التشبيه حسب، وإنما يضيف إليهالتلوين العاطفي والانفعال.» (على، 1995م: 109؛ والملائكة، 1977م: 301-302( ومع أن مصطلح "التشبيه الطويل" كان محاولة جادة في تطوير المصطلح البلاغي وإثرائه، إلا أنه بقي حبيس كتابها "الصومعة والشرفة الحمراء" فلم ير النور علي أيدي النقاد المعاصرين، شأنه في ذلك شأن "التكرار" الذي استبعد من دائرة النقد المعاصر. ولعل السبب أن التسمية توحي بالطول وليس بدلالة التشبيه، وطريقة صياغته وتوظيفه.
القصيدة المدورة ـ البيت المدور
في تعريف العروضين، هو ذلك الذي «اشترك شطراه في كلمة واحدة وبعضها في الشطر الثاني.» ومعني ذلك أن تمام وزن الاول بأن يكون بعضها في الشطر الأول
الشطر يكون بجزء من كلمة.
74 /فصلية إضاءات نقدية
نموذج ذلك قول المتنبي:
أنا في أمة تداركها ّ اللـ ـه غريب كصالح في ثمود
فكلمة "االله" قد وقع بعضها في آخر الشطر الأول وبعضها في أوّل الشطر الثاني.
تقول نازك في كتاب قضايا: «إن التدوير يسوغ في كل شطر تنتهي عروضه بسبب خفيف مثل فعولن وفاعلاتن في البحر الخفيف غير أن التدوير يصبح ثقيلا ومنفرا في البحورالتي تنتهي عروضها بوتد مثل "فاعلن" و"مستفعلن" و"متفاعلن" في البحر الكامل وبسبب هذا العسر نجد أن الشعراء قلما يقعون في تدوير البحر "البسيط" أو "الطويل" أو "السريع" أو "الرجز" أو "الكامل".»
لأسباب تعدها نازك الملائكة في كتاب (الملائكة، 1989م: 113-115) إن التدوير يمتنع امتناعا تاما في الشعر الحر
الحقائق التالية:
1 .كان شعر الشطر الواحد لدي العرب، في العصور ّكلها، ً قديما ً وحديثا، شعراً ّ يستقل ّفيه الشطر استقلالا ً تاما فلا يدور آخره.
وذلك منطقي وهو يتمشي مع معني التدوير الذي لايقع إلا في آخر الشطر الأول ليصله بالشطر الثاني، وذلك في القصائد ذات الشطرين وحسب، وعلي ذلك فإن التدوير ملازم للقصائد التي تنظم بأسلوب الشطرين وحسب.
2 .لأن التدوير يعني أن يبدأ الشطر التالي بنصف كلمة وذلك غير مقبول في شطر مستقل، وإنما ساغ في الشطر الثاني من البيت لأن الوحدة هناك هي البيت الكامل لا شطره. فأما في الشعر الحر الوحدة هي الشطر، ولذلك ينبغي أن يبدأ دائما بكلمة لا بنصف كلمة.
3 .لأن شعر الشطر الواحد ينبغي أن ينتهي كل شطر فيه بقافية أو علي الأقل بفاصلة تشعر بوجود قافية. ومن خصائص التدوير أنه يقضي علي القافية لأنه يتعارض معها تمام التعارض.» (المصدر نفسه: 118(
ثم تزيد نازك علة أخري بأن التدوير يمتنع في الشعر الحر لأنه شعر حر ّ فإن ذلك يجعله في غير حاجة أعني أن الشاعر فيه قادر علي أن ينطلق من القيود، ومن ثم إلي التدوير. وما التدوير، لو ّ تأملنا، إلا لون من الحرية يلتمسه الشاعر الذي كان مقيدا بأسلوب الشطرين حيث الشطر الأول ذو طول معين لاينبغي أن يزيد، فكان الشاعر يطيله بالتدوير ليملك بعض الحرية.
0 comments:
إرسال تعليق