د. مصطفى الحلوة: عَبْرَ كتاب "شربل بعيني منارةُ الحرف"* د. بهية أبو حمد تروي "تغريبة" شاعرٍ من عالم آخر


مدخل/ صدقتْ الآيامُ وعدَها.. فكانت "ستّ البهاء" وذات الحضور الأدبي الآسر!
ما كان الأستاذ ألبير وهبه مجانباً الصواب، يوم تنبّأ لطالبتِهِ بهية أبو حمد، وهي على مقاعد الدراسة في معهد سيدة لبنان، بمستقبلٍ باهر، في عالم الأدب والشعر اللبناني. فقد "كانت تحفظ- والقول له- معظم اشعار خليل روكز، وكانت تُبدي اهتماماً منقطع النظير وشغفاً في ملاحقة شعراء الزجل اللبناني"، ولطالما كان يُردِّدُ في سِرّهِ أن هذه الطالبة ستكون شخصية مميزة في الحياة العملية" (راجع مقدمة الكتاب، ص ص : 6-7).

د. مصطفى الحلوة
أمين عام الاتحاد الفلسفي العربي
. ها هي السنونُ تمضي، فترتقي تلك الطالبة سُلّم المجد، عابرةً من نجاحٍ إلى آخر، فإذا هي المحامية المُشتهرة، وصاحبة الصالون الأدبي في سيدني، بما يُعيد إلى الأذهان مي زيادة مُتقمّصةً في بهيّتنا!.. وإذا هي تحوز، منذ أيام معدودات وسام الملكة إليزابيت الثانية..!

ولعل آخر مآثرها ولوجها عالم التأليف الأدبي، فكانت باكورتها "شربل بعيني منارةُ الحرف".. هو مؤلَّفٌ يُقاربُ عميدَ الحركة الأدبية في المغترب الاسترالي، يُسلّط الضوء على مشهدياتٍ مُتعدِّدة من مسيرته الشعرية الظافرة، التي ترقى إلى خمسين سنة خَلَوْنَ.

أن تكتب د. أبو حمد عن شربل بعيني، حيث لا يجرؤ كثيرون، فهي تغورُ على منجمٍ، ذهبُهُ أربعة وعشرين قيراطاً... تستحضر ذلك "الشاعر الذي ارتشف رحيق الشعر، ودغدغ أريجَ الحرف، ونهل عبير القافية، وأزهر دواوين شعرية قيّمة، أغنت المكتبات، وتأرجحت على خدود الورد لتُناجي الحب وتداعب العشق" (راجع الكتاب، ص 59).

"منارة الحرف"/ عندما يُطْبَقُ الحصار على البعيني، أديباً من طراز رفيع!
على مدى 228 صفحةً، أحاطت المؤلفة د. بهية أبو حمد بالأديب الشاعر شربل بعيني إحاطةً شبه شاملة، على رُغم ضخامة نتاجه الأدبي الذي يملأ بطون عشرات الدواوين والكتب التي وضعها بين أيدي قُرائه، والمسيرة لما تنتهِ، بل هو مُصعِّدٌ في مراقي الإبداع، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً!

فشربل بعيني لا يعرف الراحة، بل ليس في قاموسه مصطلح الراحة، طالما يتنفس الإبداع، ملء رئتيه، شهيقاً وزفيراً!

على مدى 228 صفحة، ومن خلال خمسة عشر ديواناً شعرياً، أحد عشر بالمحكية اللبنانية، وأربعة بالعربية الفُصحى، كان للمؤلِّفة د. أبو حمد أن تُوثّق مسيرة البعيني، مُتوسِّلةً لونين أسلوبيين، أولهما حوار افتراضي، بصوتها وصوت شاعرنا- والصوتان صوتها نهاية المطاف- وثانيهما عبارة عن مُناجاة، يتلو علينا البعيني مزاميره، نُُصيخ إليه السمع، فيأخذ بمجامع القلوب!

تضعنا الكاتبة بإزاء أديب عملاق، عركته الحياة، وزادته الغُربة نضجاً على نُضج، فأتحفنا بآراء، لا تُغادر قضية من قضايا الحياة والوجود!

هكذا يشفُّ الكتاب عن "المانيفستو" (Manifesto) البعيني- إذا جاز القول- فنتملّى من دواوينه المُترعة حكمةً وفصل خطاب! 
وإذْ تعمّقنا دواوينه الأربعة، التي صاغها بالعربية الفصحى، فقد أسفر عن شاعرٍ لا يقل إبداعاً عمّا باح به بالمحكية في الدواوين الأخرى، وليحتلّ مرتبةً رفيعة بين الشعراء الكلاسيكيين العموديين، الذين توسّلوا البحور الخليلية! ولا عجب، فالعبقرية تتبدّى، تكشفُ عن نفسها، في أية حالةٍ وفي أي لبوسٍ تتزيّاهُ، وفي تقلّباتها المتعدّدة والاختبارات!

" شربل بعيني منارة الحرف".. سيرةٌ ذاتية، بل مسيرةٌ حافلةٌ، بمحطات من حُلو الحياة ومُرِّها.. التزمت المؤلِّفة، في استعراضها، أسلوباً أدبياً ممتعاً شيقاً ، يتسم بحيوية لافتة، كونها لجأت إلى حوار افتراضي، مادتُهُ مادةٌ حقيقية وليس من بنات أفكارها، إذْ أفادت من مجموعة دواوينه، مُفردةً بضع صفحات لكل منها، مُثبتةً صورة لغلاف كل من الدواوين، مع تعريف موجز به، ولتنتقل بعدها على اختيار مقتطفات شعرية، تعمل على إثرائها وتقديمها بحلّةٍ جديدة.

وإذْ يتخذ الكتاب صيغة السيرة الذاتية بل المسيرة- كما أسلفنا- فإن المؤلِّفة تعود القهقرى إلى يوم ترك البعيني قريته مجدليا، فتتوقف عند الوالدة "بترونله"، مصوِّرةً أساها، وهي ترى فِلذة كبدها يُنتزع منها، انتزاع طفلٍ من بين أحضان أمه ( ص ص : 10- 12).

.. تُطوى هذه الصفحة، صفحة الهجرة في بدايتها، ولتُشرَّعَ صفحات وصفحات على تلك الغُربة المتطاولة التي ترقى إلى خمسة عقود، ولتكون المرحلة الأسترالية، عبر هذا العنوان " وابتدأ المشوار الثقافي في أستراليا!".

إبّان تلك الغُربة، تتوثَّق أواصر الصداقة بين أديبتنا المحامية د. أبو حمد وبين البعيني، يوم زفّها بشارةً ولا أجمل: ".. لك عندي بشارة سارة.. لقد وقع الاختيارُ عليك من بين عدة مرشحين، قرّرنا أن نمنحكِ جائزة الشاعر شربل بعيني، تقديراً للجهود الثقافية الجبّارة التي تقومين بها، وبالأخص الجهود المبذولة للحفاظ على الأدب المهجري من الاندثار" (ص 16).

.. هي أمانةٌ، تُشفِقُ الجبالُ من حملها، وحملتها د. بهية! هي أمانةٌ بين يديها ، فراحت ترفع من وتيرة حرصها على إكمال الرسالة الثقافية، في الحفاظ على الأدب المهجري، وكان الجواب الحاسم:".. لك مني العهد، على أنني سأصونُ الأمانة" ( ص 17).

... وإذْ تلٍِجُ الكاتبة إلى صُلب أطروحتها، فَعَبْرَ مدخل تمهيدي عنوانه "الأدب المهجري" ( ص ص : 19- 28)، يضعها على أبواب الدواوين الخمسة عشر، كي تُقاربَها من منظورٍ وجداني حميم، إنطباعي تفاعلي، نائيةً بنفسها عن جفاف البحث الأكاديمي، الذي يُضعِفُ ، بقدرٍ، من حرارة الروح التي يختزنها الشعر!

.. تسألُ شاعرنا عن غيبةٍ له طالت، فيردّ بأنه لا يغيب إلا إذا كان منهمكاً في كتابةِ ديوان وإصداره.. ويُستكمل الحديث بينهما، فيخبرها عن لوعة الاشتياق إلى مسقطِهِ التي تستبدّ به: " لقد اقترنتُ بالغُربةِ الموحشة، أتوقُ شوقاً إلى قريتي مجدليا، إلى أصدقاء الطفولة، إلى أجراس الكنائس إلى رائحة الأرض الطيبة، إلى الهواء العليل المنعش، إلى عنقود العنب الأشقر، إلى البيت والجدار، ورائحة أمي وأبي"( ص، 24).

في هذا المدخل التمهيدي، تتوجه كاتبتنا بالدعاء إلى السيد المسيح، مُلتمسةً من لدُنه العون والمدد، وهي تُعِدُّ نفسها للرسالة التي نُدبت لها:" اعطني السلام، يا إله السلام/ أعطني القوة والصبر لأتابع المسيرة/ مسيرة الثقافة والشعر والتراث/... لقد أتيتُ إليك، فاستجِبْ ندائي" (ص 28).

في "منارة الحرف"/ محطات ومشهديات ورؤى!
خمسة عشر ديواناً شعرياً، تحتلّ المساحة الأكثر اتساعاً من الكتاب، وهي على التوالي: مراهقة/ رباعيات/ الله ونقطة زيت/ عبلى/ مناجاة علي/ اشتقنا/ أوزان/ ظلال/ قصائد مسلية/الغربة الطويلة/ ابن مجدليا/ جنيّة الشعر/ مشِّي معي/ قصائد ريفية/ أُغنية حب إلى أستراليا.

إشارةٌ إلى أن عدداً من هذه الدواوين طبع عدة مرات (لمرتين ولخمس مرات)، مما يُؤشِّر على نفاد الطبعات الأولى، بسبب أهمية القضايا التي تُثيرها، ناهيك عن شهرة صاحبها!

وقد أتبعت الكاتبة هذه الدواوين بدراسة تحليلية مُبسّطة، سلّطت فيها الأضواء ساطعةً على أسلوب شاعرنا الفكاهي، عَبْرَ عناوين فرعية ثلاثة: قصائد مسلية، إضحك ببلاش ومن كل ذقنٍ شعرة!

وقد أُقفل على الكتاب بخاتمة ، جاءت بعنوان: " وأُهدي لكم بكل فخر واعتزاز عُصارة دراستي هذه" ( ص ص : 225- 228).

* استهلالاً بباكورة شعره "مراهقة"، فقد أبدع شاعرنا هذا الديوان، في العام 1968، وهو في حداثة سنّه (14 عاماً)، مُترِعاً إياه رائحة عشقٍ، راحت تفوح في الأرجاء، وليغدو "الحب- بحسب الكاتبة- الدواء الوحيد الذي توسَّلهُ البعيني لإطفاء النار التي لفحت كيانه" ( ص 39)، وكان له، جرّاء هذا العشق الجنوني أن يبني لمحبوبتِهِ "منزلاً من ضلوعه" (ص 41).

* وإذْ نأتي إلى "رباعيات"، المستوحى تسميةً من " رباعيات الخيام"، فإن شاعرنا يُبشِّر ، عبره، بالمحبة والسعادة، ويدعو إلى التآخي، ويثور على اللئام وناكري المعروف ( ص 54).
في مقلب آخر، بقدر ما يأسى شاعرنا لزمن الشعر الجميل ولفطاحله الذين غابوا، يُعلنها ثورة على الجهلة، أدعياء الأدب:" كُلْ واحِدْ صار بالغُربة أديبْ/ وأستاذْ ناقِصْ يحملْ بإيدو قضيبْ" ( ص 49).

* "الله ونقطة زيت"!.. حقاً ، هو أروع دواوينه الخمسة عشر، كما تحصّل لنا، وأوفاها تجسيداً لنضجه الفكري والاجتماعي، وأكثرها التصاقاً بقضايا الحياة وإشكالياتها! ففي هذا الديوان، يتبسّط الشاعر في تعليل علاقته غير النمطية مع الله، مُعلناً على الملأ موقفه العدائي ممّن نصّبوا أنفسهم وكلاء لله على الأرض.. يتكلمون باسمه، وهو منهم براء!

لقد كان لتجّار الهيكل، بل لسائر تُجّار المعابد والمساجد والكنُس نصيبٌ من شواظِ ناره!ّ كيف لا وقد زوّر هؤلاء التجار حقيقة الله، وجيّروه، باسم الدين، لمصالحهم الشخصية الضيقة، مُفترين عليه كذباً وبُهتاناً! 

وإذْ يُدركُ شاعرنا أهمية هذا الديوان، فهو ينصح د. أبو حمد بقراءتِهِ ، كونه من نمطٍ أدبي غير معهود:" إقرأي هذا الديوان، يا صديقتي، كتبتُهُ عن قناعة (اقتناع) شخصية، وبصراحة مُطلقة، معتمداً  على الأمور والمستجدات التي تدور حولنا كل يوم". وهو يسمُ نفسه بالجرأة، ليُواجه الظلم والكفر اللذين يُمارسان من حولنا! (راجع ص 58). 

في هذا الديوان، يُناجي البعيني خالقهُ، بشكل مباشر، فهو أقربُ إليه من حبلِ وريده ! يُناجيه بشفافية مطلقة، ناقلاً إليه ما يكابدُ من ألم، يعتصر فؤاده، وهو يُعاين السلوكيات غير السوية بل المنحرفة، التي يمارسها بعض رجال الدين، مُستغلين الثوب الكهنوتي! فهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ويكدّسونها لتحقيق مآرب شخصية:" تجاره.. تجاره صفّى الدينْ/ بايدَيْنْ رجالْ ملاعينْ/ شيوخْ وكهنهِ وحاخاماتْ/ عَ شفاهن مطبوعة الـ(هاتْ)/ وبجيوبُنْ خبُّوا ملايينْ/... برمتْ الدنيي طُولْ وعرضْ/ تا أعرِف ليش الكفّارْ/ انقرضوا من شوارِعنا قَرْضْ/ وصفّوا بمعابدنا كتارْ" (ص ص : 63- 64).

.. ولآن الله غدا ذات الشاعر بل مرآته، يتوجه إليه بالقول:" وحياتكْ يا الله عارفْ/ إنّكْ مِتْلِي عمْ تتألّمْ!" ( ص 65).

لقد زالت الحُجُب بين شاعرنا وبين باريه، بما يردّنا إلى  المتصوّفة العارفين السالكين، سبيلُهُم الحبّ بل العشق الإلهي:".. ومهما الشهوة تغرّ شبابي/ بستبدلْها بكلمة حُبْ/ حتى لو زتّوني بغابِهْ" ( ص 66).

وإذْ يقفُ شاعرنا على باب الله، مُتوسِّلاً ، لا يرتجي سواه، كي يشمله برعايته ورضاه، يُحذّره من الفرّيسيّين السارقين الذين لم يُقدّر لهم أن يُهدوه إلى سبيل ربه:"خِدْني وارميني عَ جريكْ/ يا ما تاجَرْ فيك حرامي/ يا الله فتِّحْ عينيكْ" (ص 72).

.. تسقُطُ "الكلفة" بين الله وشاعرنا، فيتطارح معه إشكالية الخطيئة، متمثلةً بارتكاب الزنا، ومثالُهُ: أم تعمد إلى هذا الخيار، وليس إلاّهُ بين يديها، كي تطعم أبناءها الجياع، وَقْتَ تخلى عنهم ربُّ الأسرة والمجتمع! 

يستفتيه الشاعر، بصيغة تجاهل العارف، ويُنكرُ أن يُحتسبَ عملها خطيئةً!:".. والأم ال زوجا قمّرجي/ وما بتشوفو للصبحيهْ/ جاعوا طفالا.. كرجِتْ كرجَهْ/ وفتحتْ بابْ البيتْ وصارْ/ الجنسْ يطعمي ولادْ زغارْ/ هيدي رح تحسبها خطِيّهْ؟!" (ص 68).

.. وفي حُمّى تعلُّقِهِ بالله، يُجسِّدُ حبه الخالص له، لا يبتغي جنة، بل نور الله الذي يُضيءُ دربه ويهديه إلى سواء السبيل:" ما بدّي إطمعْ بالجنّهْ/ بدّي كونْ بقربك بسْ/ تاحتى انواركْ مني/ تسطعْ وتصيِّرني شمسْ" (ص 75).

أفلا يردّنا هذا الموقف المترفع عن كل غاية إلى المتصوفة رابعة العدوية التي أحبّت الله، لا طمعاً بجنةٍ ولا خوفاً من نار، بل كان حبها لوجهه الكريم ولأنه أهلٌ لهذا الحب:" أُحبك حُُبيّن، حُبَّ الهوى/ وحُبّاً لأنك أهلٌ لذاكَ/ عرفتُ الهوى مُذْ عرفتُ هواكَ/ وأغلقتُ قلبي على من عداكَ"! 

.. في هجمةٍ جديدة.. وإمعاناً في تعرية تجار الهيكل وفضح أحابيلهم، ها هم يعلّقون الصلبان على الصدور، من مقاساتٍ كبيرة، ليوهموا الناس بعظيم تديُّنهم المزعوم، وستراً لما يُبطنون من شرور!:"".. وبيعلّقوا الصلبانْ عَ صدورُنْ/ وبيكبّروا القياسْ/ تايستّروا بصلبانُنْ شرورنْ/ عنْ عيونْ الناسْ"(ص 76).

في مقلب آخر وضّاء، من "خطاب" البعيني الديني، يستحضر شاعرُنا عدداً من القديسين أصحاب المعجزات والكرامات وعلاماتٍ على تجلّيه في الأرض، اصطفاهم الله، فاتحتهم القديس شربل مخلوف، إلى القديسة رفقا، إلى القديس نعمة الله الحرديني.. ويتوقف عند العذراء مريم، ذات المكانة الكبيرة في حياة البعيني، وصولاً إلى القديس مارون، أبي الطائفة المارونية، والقديسة فيرونيكا، وانتهاءً بالطفل يسوع، طفل ا لمغارة، الذي علّم شاعرنا المحبة، فإنزرعت في كيانه إلى يوم يُبعثون! ( ص ص : 86- 94).

* نروح إلى "عبلى"، فنجدُنا بإزاء أبياتٍ شعرية رقيقة، يتغنّى بمحبوبتِهِ، فتنسابُ في خبايا الروح! وثمّة في الديوان ثورةٌ على الإنسان الشرير ، فيرى إليه ذئباً يعوي! ولَكَمْ تمنّى البعيني أن يُؤدِّي دور الله، ولو لبرهةٍ، كي يُحقّق ما ينهدُ إليه من آمال وأحلام، في عِدادها طمرُ جهنّم بالورد والحب، ومحو الخطيئة المعشِّشة في القلب، وإلغاء الموت، وإعدام زارعي الفتنة بين الأديان!( ص ص : 96- 97).

.. في مجال الحب، ثمة مفارقة اختصَّتْ بالشعراء، فهم لا يشيخون مهما طعنوا في السن! هكذا ما فتئ شاعرنا مُقيماً على عشقه، وهو في الخامسة والستين من عمره:" صِرتْ بالخمسة وستينْ/ وبتحومْ عليّي فساتينْ/ انتي بقلبي ليلْ نهارْ/ وما بعشَقْ غيرِكْ حلوينْ"( ص 97).

وإذْ يرتدُ إلى "عبلاه"، ، فهو يجولُ بها في أرجاء الوطن، وقد تزيَّت طرحةً بيضاء... يزوران سويةً ضيعته مجدليا.. يشتري لها الذهب والألماس من مدينة طرابلس، يصحبُها في جولاتٍ على البترون والكورة وإهدن وأميون وبشري وزغرتا، فيُذيقُها أشهى ما في هذه البلدات، ويُمتِّع ناظريها بأبهى ما تحوي من طبيعة خلاّبة!

لقد كان للهاجس الطائفي المقيت الذي يُؤرق شاعرنا، أن يُطلَّ برأسِهِ، في هذا الديوان! فها هو ذي شاعرنا يتوقف عند معاناة الشرق الذي يحترب أهلوه من أجل الدين (ص 104).

.. يُقفلُ الديوان على مأساة حبّ الشاعر، فقد تركته عبلى وحيداً، وارتحلت إلى البعيد البعيد، غير مكترثةٍ بعواطفه النبيلة تُجاهها!

* في "مُناجاة عليّ" ، يُطِلُّ شاعرنا، بلُغة المزامير النبوية، لُغةِ الكتاب المقدّس، مثمّناً التعايش الإسلامي المسيحي، وذلك من منطلق التقاء الأديان جميعها عند حقيقةٍ جوهرية واحدة:" دينك ديني دينْ الحبْ/ الحبّ اللي بيجمع أكوانْ" (ص 110).

في هذا المجال، ينمُّ شربل بعيني عن رؤيا إيمانية غائرة في أعماقه، نتبيّنُها جليّةً عند كبار المتصوّفة، وفي مقدّمتهم الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، إذْ يتلو علينا "خطاب وحدة الأديان"، إذْ تتمحورُ جميعها حول أطروحة الحب. من هُنا نقرأ في "ترجمان الأشواق": " لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ/ فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ/ وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائف/ وألواحُ توراة ومصحفُ قرآنِ/ أدينُ بدينِ الحبّ أنّى توجهتْ/ ركائبُهُ، فالحبُّ ديني وإيماني"!

* عَبْرَ " إشتقنا"، يذهبُ شاعرنا إلى فكرة مُبتكرة، إذْ يتناغمُ الفنُ والحجرُ ليُنشِدا الحب، فيُقدّمان بذلك أمثولة لبني البشر- وهم من لحم ودم-: " الإزميلْ لمَّنْ بوّسْ خدودْ الحجَرْ/ صاروا البشر يتباوسوا متلو" (ص 113). وكأننا بشاعرنا يتوجّه إلى بني قومه قائلاً: "واعتبروا يا أُولي الألباب!".

.. هي ثورة عارمةٌ على حكام لبنان يُعلنها البعيني، مُطالباً ببُدلاء أخيار منهم، فهم ليسوا أهلاً للمواقع التي يشغلون:"... أطخنْ شنبْ.. ما عاد عندو شَعرْ/ يا ريتْ مرّهْ بتحكم النسوانْ" (ص 115).

في هذا الديوان، لعمالقة من لبنان حضور، من صاحبِ الحنجرة الذهبية الفنان وديع الصافي، إلى الشحرورة صباح، إلى الشاعر الملهم سعيد عقل، إلى صديق شاعرنا بطرس عنداري، وصولاً إلى أمه "بترونله"، وانتهاء بمثلّث الرحمات سيادة المطران بولس صليبا.. كما كانت لبيروت مكانة خاصة في قلب الشاعر.

* في "أوزان"، تغدو بيروت عروساً جميلةً، تذوب حُبّاً وغراماً. وما يلفت أن الشاعر، إذْ كتب هذا الديوان باللغة الفُصحى، فقد أسفر عن عُلوّ قدمٍ في لغة الضاد، على عكس بعض الشعراء المهجريين الذين ضُعفت لديهم اللغة الأم، هذا ما يُدلِّل على استدامة تواصله مع الفُصحى، ناهيك عن تعلُّقِهِ بها.
وعن بيروت التي عشق، فهي باقيةٌ وشماً على يده، لا يمكنُ لعوامل الزمن أن تُغيِّبَهُ: "بيروتُ يا بيروتُ لا تتردّدي/ كلُّ المدائنِ ضيّعت عُنوانَها/ إلاّكِ يا بيروتُ، يا وشمَ اليدِ" ( ص ص : 123- 124). وقد التزم شاعرنا بحر الكامل ، في نظمه هذه القصيدة.

.. هو الشعر الحلال، من لدن شاعرٍ له صِلةُ قُربى بجنيّات وادي عبقر، أوحينَ إليه ما أُوحين.. هو حقاً الشعر الحلال ما نقرأ، ولتشفَّ قصائدهُ عن شاعرٍ، حَجَزَ لنفسِهِ موقعاً مُتقدِّماً في الشعر العربي، فصيحِهِ ومحكِّيهِ!

وكما بيروت، فلبعض العواصم والبلاد العربية موضعٌ أثيرٌ مُنحفرٌ  في قلب شاعرنا وفي عقله... لبغداد ومصر وعمَّان ودمشق الشام وتونس الخضراء وللقدس الجريحة!

.. في هذا الديوان، يُعاوده الحنين إلى "عبلى"، تُدغدغُ أحاسيسه المرهفة... هي طائرهُ الساكِنُهُ ولا ارتحال! :" قد يرحلُ طيرٌ عن عُشٍّ/ لكنّ طيوري لن ترحل" (ص 131).

وإذْ يثور شاعرنا على جبران خليل جبران، بل يُعاتبهُ عتاباً رقيقاً، فلأنّه صامتٌ بإزاء تدهور الحرف والشعر ويباس الزرع وهجر الأرض والكروم ( ص ص : 131- 132). وكأننا به، عبر هذا العتاب الرقيق، يحثُّ جبرانه على إعلانها ثورةً، لا تُبقي ولا تَذَر!

* في "ظلال"- هو ديوان بالفُصحى أيضاً- يستهلُّ شاعرنا بالثورة على الحكّام والزعماء (اللبنانيين بالطبع وليس الأوستراليين!) الذين جنوا على البلد، وجرّوا عليه الويلات والخراب. وبالمقابل يُشيد بالجيش اللبناني، حامي الوطن، مُعلّقاً عليه آمالاً عريضة، لانتشاله مما يتردّى فيه من سوء عاقبة ومصير مشؤوم! 
وعلى غرار ما خلصنا إليه آنفاً، فإن شاعرنا يبدو، عبر هذا الديوان، سيّداً من أسياد الشعر العربي، لا يُشقُّ له غُبار! وحدِّث عن تلك الإنسيابية والرقة اللتين تطبعان قصائده، إلى عُمقِ معانٍ، تتواءم والأسلوب التعبيري، وليخرج النص الشعري من بين يديه خَلْقاً سويّاً! 

.. في "ظلال"، واستكمالاً لخطاب المدن، يُعبِّر البعيني عن حُبّه للرباط (المغرب)، للعراق وشهدائه، لبيروت، مُقيماً صلة رحم بين بيروت الحزينة وبين بغداد الجريحة التي اجتاحها الغُزاة الأميركيون (2003):" هذه بيروتُ يا بغدادُ تبكي/ امسحي الدمعاتِ إنّ الدمعَ أحمرْ/ إن بكيتِ اليوم نبكي كُلَّ يومٍ/ كلُّ شبرٍ منكِ يا بغدادُ جوهرْ" (ص 136).

.. في "ظلال"، يُناجي البعيني أبا الطيب المتنبي، مالئ الدُنيا وشاغل الناس.. يُنبئه عن الكفر العميم الذي يملأ دُنيانا:" يا أبا الطيب مهلاً/ هاهنا الكفرُ يسودُ/ نحنُ نحيا كلَّ يومٍ/ دمعُنا للحزنِ عيدُ" (ص 138).

.. ولعهد التميمي الطفلة الفلسطينية البطلة حضورٌ أيضاً، وهي التي تحدّت الاحتلال الصهيوني بشجاعة فائقة، لهج بها العالم من أقصاه إلى أقصاه: " عهد التميمي أصبحت أملاً/ بنتُ النشامى هزَّتِ الجبلا/ .. والقدس قالت: هذه فرحي/ مثل التميمي لم أجد رجلا" (ص ص : 138- 139).

* في "قصائد مسليّة"، ديوانٌ بالمحكية، يثور شاعرنا على الزواج، مُبدياً رغبةً بالبقاء عازباً، مؤْثِراً التنقُّل، كما النحلة، من زهرة إلى زهرة، يعتصر منها الرحيق! وهل لمتنقِّلٍ من معشوقةٍ إلى أخرى أن يُطيق صبراً على الانحباس في قفص الزوجية؟!:"وأعزَبْ متغنّج ضِليتْ/ تا قطِّع عمري فرحانْ/... الجازه فيها خرابْ البيتْ/ إن ما ظبطِتْ بتصيرْ عريانْ/ .. الله بيعرِفْ مهما عطيتْ/ مُشْ ممكِنْ ترضي النسوان" (ص ص : 144- 145).
.. في هذا الديوان، من باب الثورة على حكّامنا، ثمة ثورةٌ ضد النائب الذي ينتخبه الشعب، واصفاً إياه بالسارق والكاذب:" الشعب انتخبوا وقلّلو: كونْ/ ممثّلنا بمجلس هـَ الشعبْ/ تاري هـَ النائبْ ملعونْ/ معوَّدْ عَ السرقه وعَ الكذبْ" (ص 146).

* عن "الغُربة الطويلة"، فهو يُناجي، عبر هذا الديوان، الوحدة الموحشة، جابلاً من تُرابها إنساناً، ليُشاركه في حياته ويُؤْنِسُ وحدته.

وقد كان لمعاناة شاعرنا، جرّاء غربته المديدة وهجرانِهِ مسقطه، أن تُرسِّخ لديه هاجساً يُعاوده في كل حين، فيؤرِّقُهُ أيّما تأريق:"... يا غُربة الأيام الطويلة/ يا غُربة الشقا والضنى/ قبلْ ما تحكيلُنْ حكيلي/ شو اللّي متخبّالي أنا؟!" ( ص 150).

وفي مواجهة هذه الغُربة، بل تلك "التغريبة"، طفق البعيني يُغنّي للبنان، زارعاً اسمه على شفتيه، وحاملاً صليبه على كتفيه، علَّه بذلك يردُّ له بعضاً من فضلٍ سبق: " صوتي مبحوحْ.. وإيماني/ فيكي يا بلادي خلاّني/ إرفع الصوت وغنّيلِكْ/ رح إزرعْ إسمك عَ شفافي/ وإحملْ صليبك عَ كتافي/ وإطفي بالدمعة غليلكْ/ بركي يا بلادي الحنونهْ/ بصوتي وبدمعات عيوني/ بردِّلكْ نتفِه من جميلِكْ" (ص ص : 152- 153).

في وقفة ذات اعتبار، ومن منطلق واقعي، بل تشاؤمي، لم يَرَ البعيني في الحياة سوى "مشوارٍ يُزنِّرهُ الألم والظلم والشرّ": " مشوارْ جينا.. وكيف رحْ نرجَعْ/ وكل ما ضحِكنا.. العين عَمْ ِتِدْمَعْ" ( ص 155). فهو، عَبْرَ هذه الرؤيا المتشائمة، يأخذنا إلى أبي العلاء المعري، في موقفه من الحياة:" تعبٌ كلها الحياة..."!

وإذْ يُبدي البعيني حُبّه الجارف لمسقطِهِ، بل لوطنه الأم، فإن هذا الوطن لم يُبادله حُباً بحب ووفاءً بوفاء، وهو لا يرغبُ بعودة ابنه إليه!" .. رجوعْ الوطن متل الهموم تقيلْ/ ولبنان مُش عَمْ يشعر بجوعي!" ( ص 158). إشارةٌ إلى أن شاعرنا لا يعني هُنا وطن النجوم، وطن الأرز، بل يعني الوطن الذي أحكم عليه الساسةُ الفاسدون قبضتهم وملأوه من بشاعاتهم والارتكابات!

* عَبْرَ "ابن مجدليا" ، يُجسِّد البعيني حُبَّه الجمّ لمسقطِهِ مجدليا، تلك القرية الوادعة، التي تستبطنُ اسم المجد والحنان، فتذكرها التوراة، إذْ شُيِّدت قبل أن يبني الملك سُليمان قصره من أرز لبنان:"... قالوا: انبنيتْ قبل ما سليمانْ/ قصرو يعمِّرْ من خشبْ أرزاتْ!" ( ص 160).

لقد وصل عشق الشاعر مجدليا إلى حدّ التقديس والعبادة، فأشركها بعبادة ربه، وليغدُوَ لديه ربّان!:" يا مجدليا.. بحبِّك عبادهْ/ رغم الضياعْ بغُربةْ المجهولْ/ ... المجدلاوي بينعطى شهادِهْ/ إنسانْ مخلِصْ بالتقى مجبولْ/ بالمُغترَبْ بيشرِّفْ بلادي" (ص 160).

وإذْ يهيج في قلبه حُبّ مجدليا، يُبدي رغبةً في العودة إلى أحضانها: " ما عادَ بدّي عيشْ بالهجرانْ/ قِرفانْ من كلمة هجرْ قرفانْ/ إبنكْ أنا ومشتاقْ تاشوفِكْ/ عايشْ وحيدْ بغربتي ضجرانْ/... مشتاقْ إرجَعْ بوِّس حروفِكْ/ واوقفْ عَ باب كنيستِكْ ندمانْ!" ( ص ص : 162- 163).

ولم يكتفِ البعيني بالتعبير عن رغبةٍ جارفةٍ للعودة إلى مجدليا، بل يرى أن على المجدلاويين جميعهم أن يعودوا إليها من مغترباتهم، فهي أرض الجود، وهي الجميلة جداً:" .. يا غايبْ يلْلاَ تانعودْ/ عَ الضيعه عَ ارض الجودْ/ وكلّ ما عمّرنا عامودْ/ صوتْ بيصرخْ: آويها" ( ص ص : 165- 166).

* في "جنيِّة الشجر" – ثالث الديوان بالفُصحى- يستهلّ شاعرنا، بصوتٍ صارخٍ للحب والعشق والهُيام، لامرأةٍ استهوتْ القلوب وسحرت الأبصار!
ولقد إنماز "الديوان" بجرأة ملحوظة، حين عبَّر شاعرنا عن حُبِّه العارم، من خلال صورة جنسية، يُهديها لعشيقتِهِ "فافي" (اسم الغنج والدلع)، التي لا ينساها: "أخبرتُها عن حبِّي/ تطايَرَ الشَررْ/ وجلستْ بقُربي/ تناستِ الحذََرْ/ امسكتُها/ قبَّلتُها/ حبستُها في قلبي/ أهديتُها احترافي/ بعالم التجافي/ هنا فقط يا "فافي"/ سنقتُلُ الضجَرْ/ وتقطفُ الثمرْ/ جنيّةُ الشجَرْ" ( ص ص : 168- 169).

* "مشِّي معي"، في هذا الديوان، يذهب البعيني إلى أن شعره هو إيمانُهُ، نامّاً بذلك عن شاعر ملتزم. ففي عُرفِهِ، الشعر، إلى كونِهِ بوحَ وجدانٍ وعاطفة، فهو ثورةٌ عارمةٌ على الظلم والبغي والعدوان ومفاسد المجتمع:" الشعر عندي.. دموع بيّ وأمْ/ وثورة شعبْ بـِ وجُّ ظلاّمُو/.. الشعرْ منّو وزنْ.. مهما يصيرْ/ نِحنا الـ خلقنا الوزنْ وعبدناهْ" ( ص ص : 172- 173).

.. في وقفةٍ عند آلام الغُربة المبرِّحة، ها هو البعيني يعود إلى الوطن، مُتأبِّطاً "حبّه القديم"، يلتقي الأصدقاء القُدامى، يُشاركهم الدبكة: "رجعتْ من الغُربه/ زَلغِطْ يا قلبي/ بكرا رحْ إرجَعْ اتلاقى/ مع حُبّي.. وقدّملو باقهْ/ وقلّو يا حُبّي/ يقطعْ الغُربهْ شو صعبهْ/ يقطعْ الغُربهْ ... والضيعهْ اللّي بعدا هيِّي/ راجعْ تاحوشا بعنيِّي/ وخبِّيها بقلبي" ( ص ص : 177- 178).

وقد كان للشاعر أن يستذكر أمه، مُستعيداً أقوالها له والدُعاء، غير ناسٍ فضلها عليه حتى الممات، وبذا يُجسِّد المحبّة البنوية خير تجسيد، مُرتقياً بهذه المحبة إلى حد التقديس والعبادة:" أمي.. يا أمي.. يا فكرْ شارِدْ/ طول الليالي ساهِرْ وساجدْ/ ما بتنسى ساعة الـ كنتي تقولي/ إلهي يحرسكْ من عينْ حاسِدْ/ لا تفكّري رح ينتسى فضلِكْ/ مهما يا ماما بالدنى بيصيرْ/... يا أم متلا ما انوجَدْ/ يا جفنْ فايقْ للأبدْ/ تاغمِّضْ العِنينْ/ بعُمري عبدتْ تنينْ/ الله الساكنْ بالسَّمَا/ وانتي يا نور العينْ" ( ص ص : 180- 181).

* في " قصائد ريفية"، رابع الدواوين بالفُصحى، يُناجي الشاعر والدته بحنانٍ وألم. وإذْ تُعاوده موجةُ حنين، فهو يتمنّى العودة إلى بلاده، بسُرعة الضوء الأكثر سُرعةً من الصوت:" إحملني أيها الضوءُ إلى ربوعِ بلادي/ فأنت أسرعُ من الصوتِ/ وأخفُّ من الهواءِ/ مُشتاقٌ أنا لتلك الأرضِ الطيبةِ/ التي زرعتُها بأشجارِ الزيتونِ الخضراءِ" (ص 187).

.. أما عن الحبيبة، فمهما بعدت فإن صورتها ستبقى ساكنةً عينيه، ولحناً وابتسامةً على شفتيه، في وحشة تلك الغُربة القاتلة:" مهما بعُدْتِ/ وابتلعتِ المسافاتُ آثارَ قدميكِ/ فلسوف تبقين في العينين صورةً/ وعلى الشفتينِ لحناً وابتسامةً/ تتتلمذُ عليها ثُغورُ الفتياتِ" (191).

* عَبْرَ "أغنية حب لأستراليا"- مسك ختام الدواوين- يتغنّى شاعرنا بموطنه الثاني، الذي شرّع له الأبواب واسعةً، فابتنى فيه مجداً، وأيَّ مجد! يُحدِّثنا عن بلادٍ يُحترمُ فيها الإنسان، بخلاف ما نعهده من أسفٍ في بلادنا! :" شو بخبِرِّكْ عن أرضْ أبعد من خيالْ/ عن شعب عندو للبشر قيمهْ/ حبّيتها والهجرْ أتقلْ من جبالْ/ بصخرةْ همومي زرعْتْ  الآمالْ/ وسِهْرِتْ ليالي تزيد تعليمي" (ص : 195- 196).

وإذْ يروح شاعرنا إلى التبسُّط في "المزايا" التي تتمتع بها أستراليا، يتوقَّفُ عند مشواره الغرامي مع "عبلى"، وهما يَعْبُرانِ "سيرفس برادايس"، الذي يُعدّ من أجمل وأطول الشواطئ في العالم:" اسمك جنّهْ .. وشطّك جنّهْ/ وشمسك عَمْ بتغازِلْ شمسْ / .. زرتكْ مع عبله مشوار/ ما حبِّتْ ترجَعْ عَ البيتْ/ انغرمتْ فيكْ!.. وقلبي إنهارْ/ وما عادتْ تنفَعْ (يا ريت)!".( ص 197)

هكذا، فإن جمال هذه البلاد يُنسي المرءَ حبّه، فتغدو معشوقةً بديلةً من معشوقٍ أو عشيقة!
.. وعن المدن الاسترالية، فلكل واحدة صورةٌ رائعةٌ في الديوان، من بريزبن، إلى أديلاد، إلى تازمانيا، إلى بورت ماكواري، إلى بونداي، إلى مالبورن، إلى فيكتوريا، إلى نيوكاسل... وصولاً إلى داروين وبحورها، وانتهاء ببرث، يمسحُ الوجع عن مدمعها!

أستراليا هي الطبيعة المطبوعة الباهرة، زادتها الطبيعة المصنوعة جمالاً على جمال!

"شربل بعيني منارةُ الحرف" في عيونِ النقد وميزانه!
.. وبعد ماذا تبقّى في الجعبةِ، وقد تتبّعنا الكتاب، خطوة خطوة، أكببنا عليه، استعراضاً وتحليلاً، وتفكيكاً للكثير من مفاصله ومشهدياته والمحطات!

وإذْ وضعناه في ميزان النقد الأدبي، فإننا نرى إليه مُنجزاً إبداعياً من طراز رفيع، وضعته مؤلِّفتُهُ بلغةٍ إبداعيةٍ وجدانية خلاّقة، فأضفتْ على شاعرية البعيني شاعريةً من لونٍ جديدٍ، وبتنا أمام ديوانٍ للدكتورة بهية أبو حمد، يحتوي خمسة عشر ديواناً، ولنغدو أمام شاعرين، وإنْ لَم تحشرْ مؤلفتنا نفسها بين الشعراء! لغتُها، وإن جاءت في إطار النثر، ففيها من روح الشعر وتوهجه ما يرقى بها إلى لغة الشعر!

هو مؤلَّفٌ "نوعي" غيرُ نمطي، لا يُشبه سواه من كُتب السِيَر، وإن جاء في قالِب سيرةٍ ذاتية، بلسان واضعتِهِ وبلسان الشاعر، يُؤرّخ لمحطاتٍ ويُبرزُ مشهدياتٍ مضيئةٍ من حياة شربل بعيني، الذي ملأ دُنيا الاغتراب اللبناني الأسترالي، وبات نجماً لا يخفتُ له ضوء! 

عَبْرَ مروحةٍ من المعطيات، أحسنت المؤلّفة استلالها من خمسة عشر ديواناً شعرياً، هي من عيون دواوينه ونتاجه الأدبي، استطاعت د. أبو حمد أن تُقدِّم لنا شاعرنا، في أحسن صورة وأبهى حضور. 

وقد التزمت الموضوعية، ما وسعها الجهد، على رُغم البُعد الوجداني التفاعلي الذي يسِمُ أسلوبها التعبيري!

وبخلفيةِ المحامي البارع- وهي المحامية والحائزة دكتوراه في القانون- راحت إلى استنطاق شاعرنا، برقةٍ وسلاسة، من دون أن تضعَهُ في قفصِ الاتهام، وراح يُفضي بكل ما لديه، من دون زيادة أو نُقصان!

ولقد كان للحوار الافتراضي الكموني، الذي هندستهُ د. أبو حمد ببراعة فائقة، دوره الفعّال، في إضفاء حيوية على مسار الكتاب، مُخرجاً إياه من مطبّ السردية المملة التي يعتمدها أكثر كُتّاب السِيَر!

هكذا، والحال هذه، ينتمي المؤلَّفُ إلى الأدب التفاعُلي، حيث يتم إشراك الكاتب ومَن يكتب حوله أو عنه، في عمليةٍ يكون لكليهما صوتُهُ ورؤيته، بما يزيد من صُدقية ما نقرأ!

كتابٌ ، بأسلوبه المتفرِّد، يغدو بمنزلة سياحة أدبيةٍ جميلة، في ربوع شاعرنا، وما أجملها تلك الربوع، وفق ما ذهب إليه الأستاذ يحيى السماوي، في تقويمه المقتصد لهذا الكتاب!

بهذا الكتاب، فإن "بهية أبو حمد، سفيرة السلام العالمي، وصاحبة الصالون الأدبي المميِّز في سيدني، "وست البهاء" ، والحائزة ميدالية الملكة إليزابيت الثانية، منذ أيام معدودات، ها هي اليوم تضيف لقباً جديداً إلى ألقابها، فتغدو سفيرة "فوق العادة" إلى فضاء الأدب الاغترابي اللبناني والعربي، ونجمة وضاءة من أنجمه الزُهر!

.. وإذا كان البعيني شربل، في موضع من "رباعياته"، قد دعانا إلى تدبُّر شعره وقراءته من جديد:"قريتْ شعري.. بحبّ إنكْ تفهمو/ وترجعْ تعيدْ قرايتو من جديدْ"، فقد قُدِّر لنا، عبر هذا المؤلَّف، أن نقرأ شعرك، بل أن نقرأكَ بكُلّيتِك، فأسفرت عن شاعرٍ شاعر، أُعطيت نصيباً وافياً من مجدِ الشعر اللبناني الاغترابي، إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها!
***
* - من وحي اللقاء الذي عُقد حول كتاب د. بهية أبو حمد "شربل بعيني منارةُ الحرف"، في القصر البلدي- جديدة المتن (لبنان)، يوم الخميس الواقع فيه 14/6/2019، وقد تكلّم فيه، إلى المؤلِّفة، مدير عام وزارة الثقافة د. علي الصمد وثُلّةٌ من الشعراء.

CONVERSATION

1 comments:

  1. مقالة ممتعة ومفيدة. هي عصارة تجربة جميلة لشاعر الغربة الجميل شربل بعيني، وإضاءة موفقة على كتاب مميز صاحبته الدكتورة بهية أبو حمد.

    ردحذف