في البدء كان العراق: كتاب جديد للأب يوسف الجزراوي

 


صدر للاديب العراقي المغترب الاب يوسف جزراوي مجموعة شعرية جديدة بعنوان (فِي البَدْءِ كَانَ العِراقُ) عَنْ الاتحاد العام الكتّاب والادباء العراقيين / فرع ميسان.

تقع المجموعة  فِي ٢٣٦ صفحة مِنْ الحجم الوسط.

تقديم الشاعر جوزيف موسى إيليا ودراسة الشاعر والناقد حامد عبد الحسين حميدي رئيس اتحاد كتّاب ميسان.

**


(في البدء كان العراق) اشتغالات  المنفى ومنظومة الذاكرة اليقظة .

حامد عبدالحسين حميدي – ناقد عراقي 


(1)

النصُّ المحفّز الذي يوقظُ فينا رغبةَ التأمل والمتابعة ، هو نصٌّ فاعلٌ بامتياز ٍيعتمدُه الشّاعر مِن خلال منظومةِ ارسالياتٍ محدّدةٍ ومتكاملةٍ الرؤى، ثمّ يتلقفها القارئ وبشحناتٍ متتاليةٍ لتكشفَ له فيما بعد عن حُزمة مُترابطة مِنَ التداعياتِ الداخليةِ والخارجيةِ ، فعالمنا الباطنيّ متراكمبجملةٍ من التورطات المتخمة بواقعٍ لا يحتملُ إلا أبعاداً متفاوتة ، ربّما في نهاية الأمر تحرّضُنا على الانفلاتِ أحياناً أو التمسكِ أخرى بماتبقى لنا ، وشتانَ ما بينَ الاثنتينِ ، فللمفردةِ والتركيبِ خطورة أقوى مما يتوقعه الآخرون ، والقارئُ الفاعل يجدُ فيها لذّة ومتعة التقصيّ عن تلكالفضاءات المُزدحمة في ماهيات النصِّ الناطق ولو ضمنياً ، نحنُ هنا سنتعرفُ على شاعرٍ امتلكَ كلَّ الأدواتِ الفنيةِ الناجعةِ ، واتضحتْأمامنا قدرته على تطويعِها وبحسبِ ما يقع نُصْب عينيه ، مِن يومياتٍ متناقضةٍ ، فهو مُدركٌ لكلّ ما يدورُ حوله ، مِن عبثية ضاجّة ، وفوضويةخارجة عن حدودِ المعقول ، مما ولّدتْ لنا مسارات مختلفة ، ذات فِكرٍ صادِم وبعيد كلّ البُعد عما جُبِلنا عليه ، لعلّ(الأب يوسف جزراوي) فينصوصهِ يتحركُ وعلى وفق منظومةٍ داخليةٍ ذات نسقيةِ الشّعور المتجذّر لوطنهِ ، واحساسهِ المُرهف في خلقِ عالمه الخاصّ بعيداً عن وسوسةِالغرباءِ الذين يحاولونَ تمزيقَ صورةِ الوطنِ وتدميرَ معالمهِ الأثريةِ وضياعها : 

عن دموع كاهنٍ بغدادي 

بكى وطنه حنيناً 

على حواف الأرصفة 

المُبتلة بدموع الغرباء .. ( آثار دمعة)

ممّا توالدتْ لديه صورٌ أخرى لهم ، فالموتُ والدمارُ وتشظّياتُ الواقع المريرِ ، وفجيعةُ مخلفاتِ الاحتلالِ المقيت ، وتغييرات في ديموغرافيةِالانسانِ العراقيّ ، وهذيانات الدروبِ الحالكةِ ، التي كانتْ وما تزالُ تعجّ بالخرابِ والفسادِ ، بعدما كانَ العراقُ بلداً آمناً مُطمئناً ، خيرُه الوفيريمتدُ الى الشّعوبِ الفقيرةِ المحتاجة ، ليشبعها محبّة وسلاماً ، هذه الصّورةُ الشّعريةُ المحفّزةُ لذهنيةِ القارئ ، تكمنُ فيها استرجاعيةَ ذاكرةٍيقظةٍ :

وكيف أرثي شعباً 

كفّه صارت صحناً 

لشعوب افتقرتْ وجاعتْ ( نخلة استطالت بها المنايا).

ثمّ تتنفّسُ لديه رئتا الصّبر بأيقونةِ الانتظار، وهو يداعبُ أمله علَّ بارقةً منها تطفئ ذلك الهوسُ الرافدينيّ والعشقُ الممزوج بنكهة الفنجانِ الذيتفوحُ منه رائحةُ القهوةِ :

فالانتظار سيجلس 

على مقعد بقربك 

يثرثر كثيراً ببلادة 

وينتظر بفارغ الصبر 

مكاملة من وطن 

يدعى الانتظار !! ( قارئة الفنجان).


(2)

غلبتْ على أسلوبيةِ نصوصِ (الأب يوسف جزراوي) مسحةُ الصّور الدينيةِ والاقتباساتِ والتضمينات مِن الكتبِ السّماوية المنزّلة والحكموالأمثال والطقوس الشعبية المشهورة ، لِما يمتلكُه مِن تطلعاتٍ ثقافيةٍ ودينيةٍ عاليةٍ ، وقيمةٍ انسانيةٍ رفيعةٍ ولما يحملُ بينَ خافقيه مِن هدفٍ نبيلجعلَ مِن نصوصهِ ، مُرسلات ذات طابع انساني لا تشوبه شائبة ، فصوتُ التسامح والمحبّة والسلام ، وتوحيد الرّؤى ونبذ الفرقة والتناحروالبغضاء كانتْ أبرزُ ما حملته نصوصُه ، ودعتْ إليه ونطقتْ بمفهومات كبيرة ، لتكونَ مِحوراً مهمّاً في تقريبِ مفهوماتِ الرّسالات السّماويةوبما تضمنته مِن مبادئ عليا ضِمن خطابياتِ ( النداء والاستفهام ) :

وبصمتٍ عاتب السماء 

ربّاه 

ما هذا الشقاء ؟

لا تغفر لهم

لأنهم يعلمون ما يفعلون .. ( لقد مات أعزل) 

لتهيمنَ على نصوصهِ النّزعةَ الرّوحيةَ الطافحةَ بكلّ كمالياتِ الذّات المسالمةِ ، والجوّ الهادئ الذي تنسجمُ فيه طقوسٌ ذاتَ منحىً تراتيليّ ،لتتعالى الأصواتُ هاتفةً ، أنّ الحياةَ لعمل الإنسان الحرّ الخالد ، لمَنْ يوقدُ شمعة لينيرَ بها طريقَ الآخرينَ ، كما نجدُ ميولَه الى استخدام ماتداولَ على ألسنةِ الناسِ واشتهر ، ومنها : 

وقلت لنفسي :

كذب المنجمون ولو صدقوا

لكن على ما يبدو

أنها صدقت في كذبتها !! ( قارئة الفنجان) 

فعبارة ( كذب المنجمونَ ولو صدقوا ) مقولة متداولة ومشهورة ، وكذا استخدامه (اتقِ شرّ مَن أحسنت أليه !!) ، في قوله :

لئلا تردّد مع القائلين :

اتقِ شرّ من أحسنت إليه !! ( قارئة الفنجان)

في أغلبِ نصوصهِ ، نجدُه يحاكي لغةَ القرآنِ الكريم مُقتبساً قوله تعالى : ليس على الأعمى من حرج ) في قوله :

وليس على المغترب 

حرج في ذلك!! ( قارئة الفنجان )

كما نجدُ في أسلوبهِ ثورةً عارمةً لا يمكنه أنْ يخفيها بل يطلقَ لها العنان مع تصاعدِ غلواء الرّوح المتأججة الثائرة، وهو يعاني من غربتهِوابتعادِه عن موطنهِ الأصليّ ليكونَ رهينَ منفى و حلمٍ لا حدَّ له :

احذري أن تقتفي أثر مهاجر 

منحه الاغتراب جنسيتين 

في وقت يأبى ساسة وطنه 

منحه أمان الإقامة !! ( احذري ) .

فمعالمُ صورته الحقيقية التي تظهرُ لنا جلياً بينَ نصوصهِ هنا وهناك ، فيها إيمانٌ مطلقٌ بالفكرِ الهادفِ غير الملوث بالمظاهر الدنيوية الزائلةحيثُ شخصيته المتحرّرة والمنسجمة مُجتمعياً مع كلّ المكوناتِ :

لي فكر يختلف 

ينبذ التخلف والتعصب 

لا يمتّ الى العنصرية بصلة 

ولا يستهويني التخوين 

إذ لست من هواة 

تمزيق الصورة الاجتماعية للآخرين . ( احذري ).


(3)

القارئُ سيجدُ في هذه المجموعةِ الشعريةِ ، علائقيةُ الشاعرِ بالوطنِ ونخيله وكلّ ما طرأ عليه من حوادثٍ جمّة ، رغبةً منه في عدم الانسلاخ عنه، لأنّه ابن بارّ يعي ما يدور خلفَ الكواليس من مؤامراتٍ كبيرة ، تحاولُ من خلاله القوى الخارجية الاطاحة به ، وزّجه في دهاليز الظلمة الأبدية، مما جعله متعلّقاً بكلّ حدثٍ صغيرٍ أو كبيرٍ مترقّب ليرى أنّ روحَه عالقةٌ هناك : 

وعلام التعلّق بعراقيّ 

عيناه كشاشة تلفاز 

تبث أحزان العراق .. ( أحذري ) 

كما نلحظُ النفسَ الشعريّ الطويل الذي يحظى به (الأب جزراوي) لتمتدَ قصائدُه ضمنَ فضاءاتٍ شاسعةٍ من الأسطر ، تتحرّك بحريةٍ تامّةٍ ،وبأسلوب ذي منحى منبسط سلس فلا تعقيدَ ولا نبو ، بل فيه كتلة من التناغمات المترابطة ، هذا الأمر ربّما يعودُ لكونهِ رجل دين واعٍ ، اعتادَعلى تلاوة الصلوات التي طالما تبركنا بسماعها ليجسّ مكامن الوجع والحزن في قلوبنا ، ليضمدَها بالغفرانِ والابتهالِ الى اللهِ تعالى ليمسحَعنّا كلّ الذنوبِ ...


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق