بقلم الطبيب الاختصاصي أمراض نفسيّة: باهر بطي
( الكون ساعة هائلة من حيث تبدأ تنتهي, ومن حيث تنتهي تبدأ, بلا انقطاع.....من حرّك هذه الساعة ) يفتتح ( كريم عبدالله ) روايته (عنقود من الشيزوفرينيا ) بهذا التساؤل لندخل معه في ملحمة كلكامشية حداثوية. أقول كلكامشية لأنها رواية اشتملت على كل صراعات وتساؤلات كلكامش من عشتار التي تجتاح صورها الرواية في أزمتها مع التفاحة, الى الصراع مع الشرير خمبابا ثم انكيدو الذي مات ومواجهة حقيقة الموت ودور الحية في مشكلة البشرية مع الخلود, وإن كان كلكامش قد وجد في النهاية تعريفاً لمعنى الحياة الا ان كريم يصر على استفزاز القارئ بلغة تسيل عذوبة فيما هو يشاكس ويظل يتركه في حيرة حتى آخر سطر.
محاور رواية "عنقود من الشيزوفرينيا" تؤكد انها عنقود منسوج بلغة ادبية مبدعة بعناية فائقة بين انتقالات المفردات والجمل الصورية والسردية وبين مستويات العمق الفكري للرواية. الابداع الادبي ( لـ كريم عبدالله ) ينقل الصورة ( عفواً أقصد صوراً عنقودية ) بسرد تعبيري وشعري في الوقت ذاته يتنقل بالقارئ بين حالات من الدهشة والاشمئزاز وحالات الاستفزاز ومسائلة تلغي الثوابت في عقل ( أنا ونحن ).
الرواية تمتلك عدة مستويات وسأبدأ بالمستوى التوثيقي في الرواية لكل من تاريخ رعاية الصحة النفسية في العراق , ثانياً الواقع النفس اجتماعي للفرد والمجتمع العراقي , ثالثاً الواقع السياسي للمرحلة الحاضرة من تاريخ العراق . وعلى المستوى الاعمق والكلي يوجد التساؤل الفلسفي متمثلاً بالسؤال الوجودي ( من انا ومن نحن واين موقع انا من نحن .؟. ) وماهية الانسانية وطبعاً السؤال الخالد: ماذا ولماذا الحياة والموت .؟ .
لنبدأ رحلتنا مع التوثيق لأزمة المريض العقلي في العراق ونقرأ في ص 8- 9 ( الجميع يتفقون ان هذا المكان يبدو للناظر إليه من الخارج جميلاً....أما لو دخلت إلى أعماقه فستجد اختفاء الحياة وانطفاء السعادة والاحلام المجهضة, وتتلمس بنفسك آثار القمع والاضطهاد والتسلط ). هذا هو واقع المريض العقلي سواء كان (فاقد) ام (مستقر). واقع المرضى الحقيقي انهم في ( الردهات المقفلة بأقفال الخوف , يتكاثر خلف ابوابها المتصدعة حزن مزمن......ضحكاتهم بكاء طويل مزمن , المستقبل كالماضي يبتسم متهكماً على تلول الخيبات.... ماذا يعني أن تكون مصاباً بالفصام وأن تقبع بلا أفراح في عمق هذا الظلام..... ثقيل هو الأسى الواقف الى جانبك يرافقك حتى المثوى الاخير حيث تحمل احلامك الصغيرة مجاذيف عارية ذاكرتها بلا تواريخ ). ونجد الصفحات ص 76 الى ص 84 امثلة على حوارات واحداث تتنقل ما بين رسم معاناة مرضى في مستشفى والمعاناة النفسية للمرضى في مجتمع يقول بالرحمة ولا يعرف معناها الحقيقي, فنجد مريض يقتل مريض نتيجة النظام المتخلف للرعاية في المستشفى , الى معاناة مريضة مثلية الجنس . ووسط هذ التنقلات حوارات الصراع النفسي للمريض مع الذات ومع المجتمع القمعي . ورغم ذلك يبقى الحوار بين الامل واليأس مستمر فيقدم ( كريم عبدالله ) مقترحا على لسان مريضة (اننا الان نعيش هنا هذا قدرنا بعد ان تخلى عنا الجميع....قد يظن الذين خارج جدران هذا المكان باننا مجنونات لا يمكن الاطمئنان منهن ومن شرورهن لكنني ارى باننا اصبحنا نشترك جميعا في مكان واحد). نعم هذا الوعي يمكن ان تجدوه داخل المستشفى يعبر عنه مرضى, وفي ص 84 يقترح مريض متعلم اقتراحاً بنّاءاً وتنموياً, ولكن ( كريم عبدالله ) كالعادة يتركنا هنا في حيرة بين تصديق تحقق الامل أم الاستمرار في الحلم بالأمل. هل سيتحقق فعلاً مشروع المريض (مهند المهندس الزراعي) وهل سيتم تطبيق نظام البيوت المحمية (ص 110) بدل ترك المرضى في قاع نسيان المجتمع والاهمال القاتلين .؟ . هل يمكن ان يكون كل عراقي كلكامشاً يحكم بعدل وإنسانية ويتبنى مفهوم ( كريم عبدالله ) لمعنى العمل الجماعي من أجل حياة سعيدة (ص١٠٤ الاعمال الكبيرة تبدأ من …) ؟؟؟
الرواية توثق وتغور في الصراعات النفس اجتماعية للمجتمع العراقي وتكون عشتار هي مسبار الغور . عشتار في واحدة من الرحلات في الرواية تتقمص شخصية (وزيرة الكردية) لتبحر في ثنايا الرواية في بحثها عن لذة لا يسمح بها المجتمع فتسقط اسيرة الجنون بسبب الصراع بين الرغبة والخطيئة . الصراع في مجتمع لا يستطيع ان يطور مفهوم لحقوق الانسان وكيف يمكن احترامها مع الحفاظ على الانتماء الجمعي , وعلى الاغلب تذهب النساء ضحية الاتهام بالعهر. وأيضا يبقى ما يسمى بالشذوذ الجنسي عاراً يدمر ضمير يتصارع مع شهوة تصل الى حدود الهوس المرضي ولكن يبقى المجتمع يحاسب هذا الانسان ذكرا ام انثى بدون اي تفهم وتقدير لعامل الاندفاع بسبب المرض النفسي . في ص 121 نهاد تناجي نفسها المعذبة ( أنا الملعونة الشريرة , انا المكروهة من الجميع فليطاردوني ويرجمونني بالحجارة....فشلت في كل شيء مع نفسي مسلوبة الارادة وعقلي فارغ, لا أحد يغفر لي شروري الخارجة عن سيطرتي, ....أحاول ان اتخلص من شرور نفسي بالانتقام, عليهم ان يتحملوا ما ارتكبوه بحقي كلهم ساهموا في سقوطي نحو الحضيض) أسأل نفسك عزيزي القارئ كم عاقل يستطيع ان يستكشف دواخله كما تستكشفها هذه المجنونة لئلا يقع في السلوك الانتقامي بشكل أو بآخر؟؟؟ .
وطبعاً لابد ان يضم العنقود حبات عن الواقع السياسي للمرحلة الحاضرة من تاريخ العراق. جسد العراق الذي انتهكته صراعات سياسية بين قوة عظمى أحتلته ولاعبين سياسيين فاسدين استخدموا أسم الله حتى كفر البعض بالله بسببهم, اذ استخدم اسم الله دون فهم حقيقي للإنسانية في الدين ومعنى ان يقول الامام علي عليه السلام "من لم يكن لك أخاً في الدين كان نظيرك في الخلق" فصارت عقلية القطيع الطائفي تتحكم بالعراق. يقع المرضى وسط قتال بين القاعدة الامريكية وهؤلاء اللاعبين (ص 151), وتحترق ردهات في المستشفى في خضم هذا الفساد والصراع, ويسأل ( كريم عبدالله ) ايضاً دون خوف (ص ١١٧ من المسؤول عن قتل الكفاءات .؟. ) ويستعرض الاحتمالات (عملية سرقة ام تصفيات سياسية ام عمليات مدبرة من قبل جهات مجهولة لتصفية البلد من الكفاءات..!!!), وفي ص (116) يذكرنا ( كريم عبدالله ) كيف ان آلامنا اصبحت لقمة سائغة يتداولها مراسلي القنوات الفضائية كل يمضغها وفق اتجاه القناة السياسي ليغسل بها عقول القطعان. اما نحن العراقيين فلانزال نتصارع في حوارات, اغلبها يظهر على شكل عنف دموي وليس حواراً عقلانياً , في ص 125 يتنقل الحوار بين ( تأثير التناقضات الداخلية والضغوطات الخارجية.....- فقدان العدالة....- لقد تورط الانسان في هذه المذابح , اصبح عبدا لمعتقداته ونزواته ورغبته بالانتقام. -نحن لا نمتلك فضاءً نمارس فيه حريتنا, فضاء يرفض العسكر والخرافة, وتكون السلطة للقانون....).
ونصل اعماق العنقود المجنون بالتفكير بمعنى الوجود, اقول انه مجنون لان عقل انسان الشارع العادي يقبل ما يقال له بدون مسائلة للحقيقة فيسمى "عاقل"! في ص 93 يكمن السؤال الوجودي للمجنون (من انا, من نحن, ومن هم سنبقى نحن هم الذين نحن.....نحن الشاهدون على هشاشة الواقع, نحن الوارثون لإرث الخراب العنيف......, لقد قدر علينا ان نكون نحن.), فالمجتمع لن يميز ال (أنا) بل سيبقى يحكم على (هم) وفق منطق قطيع ال ( نحن). فيما يبحر القارئ بين السطور سيجد دائما الصراع بين الحياة والموت الذي يواجهه الانسان الذي فقد مكانه في المجتمع ليدفن حياً في المستشفى ويجد الوقت والظرف المناسبين ليتعمق في حقيقة الصراع بين فائدة الحياة وفائدة الموت, ويواجه صدمة كلكامش بموت أنكيدو فيستمر بالبحث عن ماهية الحياة بين الرغبة في خلود مؤجل او مجهول أو غير ممكن, والبحث عن سعادة حياة مفقودة ولكن مصطنعة في عالم الواقع. وعلى مستوى آخر سينتقل ( كريم عبدالله ) بالقارئ من الوجه الديكارتي لعملة (أنا أفكر اذن انا موجود) الى وجه (أنا مجنون اذاً انا غير موجود) وهو الوجه الآخر لمعنى الحرية عندما يتصارع العقل مع التفاحة بشهادة الغيب (ص 154- 155: آه ايها الضمير المستفيق في زمن الوهم, متى تمنحنا الطمأنينة بدلاً من وخز سياطك....ما هي حقيقة وجودنا في هذا الزمن, كيف سنصل الى معرفتها ونحن نعيش ها هنا.....ما الفائدة من التمسك بالأخلاق وقد تساوى الجزاء في حالة تطبيقها أو بعدم ذلك.....لا بد من وجود عالم آخر تتحقق فيه العدالة والسعادة, لكن من يضمن لنا وجود هذا العالم الآخر .؟؟؟!!! . ويصبح رمز الانسان التفكري بعمق لدى ( كريم عبدالله ) : (ما زلت امتلك المتناقضات, الموت والحياة, الوجود واللاوجود, الخير والشر, السعادة والتعاسة......انا ادرك مقدار هذه المعاناة, وارغب بألاّ اتخلص منها, أي عشق للآلام ارتكبه بحق نفسي.) ثم في ص 160 -161 نقرأ (حينما تنتابنا نوبة الجنون نكون اكثر سعادة يتخاصم الجسد مع الوعي, لا سلطة لأحد على الآخر كل يغني على ليلاه, يهرب الجسد بعيداً ويمارس افعاله دون رقيب بينما وعينا يمارس رياضة أوهامه في فضاء شاسع, اننا سجناء افكارنا....ربما ما يفعله الجسد هو بعض من الحرية, وان ما يقوم به الفكر حرية بأضعف الايمان) .!! .
ويبقى دائما العقل المتحرر من أقصى قيوده في رحلة الذهاب والاياب اللا متناهية في مشاكساتها, فنجد في ص 124 (ها هو العالم يغتسل مني في منيّ القبح بينما الانسانية محاصرة بالغام هائجة, أخفت فراديس الامل مؤسسات الأديان التي شوهت وجه الله.......الذين يحرقون الجمال في جحيم الرب بشرهم بالثبور يوم يأتي نبي الخصب يزرع بذور الامل ينمو في النفوس الرب لا يقتل اولاده) الامل هو (ما زالت الارض حبلى بالأيمان, لن تتنازل تحت طغيان الكراهية بعدما ملأتها الحروب فجيعة, لابد أن تعود صافية يظللها قوس الله...سيجئ نبي الجمال يؤمن بالحياة, ويعيد للإنسانية بسمة عريضة, ينشر الامل في الارض وتورق الاحلام اياماً جديدة).
ولكن هذه ليست الخاتمة بعد, لا خاتمة لهذه الرواية العنقودية, إذ يبقى ( كريم عبدالله ) يجادل لماذا وماذا هو الموت وتبقى (الريح تعبث بمكر بأوراق الشجر) ويستمر الاستفزاز (ص 164 هل وجودنا حقيقة في هذا العالم, ...فهل ان هذا العالم عالم حقيقي....هل نحن شيء ام لا شيء .؟؟؟!!). وفي الصفحات الثلاث الاخيرة يتدلى العنقود الى (علينا ان نكون اوفياء للحياة حتى نتحمل الموت علينا ان نعشق الموت حتى نعيش الحياة)!...(اين يكمن النور, في الموت ام في الحياة, هل ان حياتنا هذه جديرة بان نعيشها كما هي ما الخير والشر في الحياة, وما الشر والخير في الموت..)!...(أنا قررت ان انهي هذا العنقود من الشيزوفرينيا بهذه الطريقة لكي لا يتكرر مرة اخرى......ربما كانت الحياة قصيرة, ولكنها كانت جميلة وتستحق, لقد اشغلت حياتي بالكثير من الاعمال الخيّرة, الان انا آمل بان تستمر حياتي وتكتمل, الان سأنعم بالراحة الابدية, الان سأعبر الى الضفة الاخرى بأمان.....ستبقى الحياة هي الخير الاعلى, فلولا الموت لما كانت هكذا مدهشة ونادرة.....)...... لا تستعجل ايها القارئ الكريم فصدمات العنقود لم تنتهي بعد فالكاتب الكريم يبقينا في حيرة مستفزة لحرية اختيارنا مع سطره الاخير (سقطت يده من على صدره حرة متدلية في الفضاء, بينما الاخرى مازالت تمسك بقوة في مسند الكرسيّ).
د باهر بطي
طبيب أختصاصي أمراض نفسية
بورتلاند, أوريكون, الولايات المتحدة
0 comments:
إرسال تعليق