ضمن منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي صدر كتاب “مطارحات في أروقة المعرفة” (مراجعات وبحوث في الفكر العربي المعاصر) للدكتور مصطفى الحلوة وهو كتاب موسوعي يقع في 700 صفحة من القطع الكبير.
يبدأ الكتاب بكلمة شكر من المؤلف جاء فيها: إقتداءً بالحديث النبوي الشريف: ” من لم يشكر الناس لا يشكر الله!”، أتوجَّهُ بجزيل الامتنان إلى الصديقة المهندسة والأديبة الشاعرة، ذات اليد الخضراء ميراي شحادة حدّاد، إذْ أخذت على عاتقها ، وعاتق “مُنتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة الثقافي” إصدار هذا المؤلَّف، مواكِبةً إيّاهُ، حتى خروجِهِ إلى عالم الضوء!
أهدى المؤلف كتابه إلى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده، وجاء في الإهداء:
أرفعُ هذا الكتاب صلاةً لروح الأديب المتمرِّد، شاعر الكورة الخضراء
عبد الله شحادة… أرفعُهُ صلاةً تتنزَّلُ عليه بَرْدًا وسلامًا !
أرفعُهُ صلاةً، ضَوْعُها نارنجُ مدينتي الفيحاء.. ترانيمُها قرعُ أجراسِ كنائسها وتراتيلُ المآذن!
أرفعُهُ صلاةً..”فاتحتُها” و”الله محبّتُها” تشقّانِ عنان السماء، وتُعلنان أن عبد الله ما دانَ إلاّ لله، وإرتحلَ عن هذه الفانية، كيومِ وَلَدَتْهُ أُمُّه!
قدم د. مصطفى الحلوة لكتابه بدراسة ألقى خلالها ضوءًا على محتوى الكتاب جاء فيها:
مفتتح…
إذا كُنّا قد تخيَّرنا “مُطارحات في أروقةِ المعرفة” عُنوانًا لمؤلَّفِنا، فما ذلك إلاّ تزكية للنزعة الجدلية، التي تتحكَّم بمفاصِلِهِ: مراجعاتٍ نقديةً (الباب الأول) وبحوثًا ودراساتٍ (الباب الثاني)، حيثُ اليدُ الطُولى والكلمةُ الفصلُ للعقلانية، في ما ننتهي إليه من خُلاصاتٍ وأحكام.
ويبقى السؤال، من وحي هذا العنوان: هل ثمة صوتٌ نُطارحُهُ ونُناظِرهُ، ونروحُ معه إلى حِجاجٍ، ويُلقي كل واحدٍ منّا الأسئلة على الآخر؟!
بلى! ثمة حوارُ حيٌّ بيننا وبين ما عمدنا إلى مُقاربتِهِ من مؤلفّاتٍ لكتَّابٍ وباحثين، وكذا الأمر مع أطروحات أخرى يحفلُ بها هذا الكتاب.
هو النهجُ الذي اعتمدناهُ في كتابنا “مُقابسات زُريقية بين شاعر الفيحاء سابا زريق وسابا الحفيد”(2016)، كما الذي ترسَّمنا خُطاه في موسوعتنا المعرفية “80 كتابًا في كتاب” (2018)، ومؤخَّرًا في مؤلَّفِنا، الذي صدر في سيدني/ أستراليا، بعنوان:” شربل بعيني بين الفُصحَى والعامية”(2020).
د. مصطفى الحلوة
ومما يُعزِّزُ من تبنِّينا هذا النهج، ونحنُ نأتمُّ بالعقل، مُشيرًا في صُبحنا والمساء (بالإذن من أبي العلاء المعرّي!) ذهابُنا في “مُطارحاتنا”، التي بلغت ستًا وأربعين، إلى أروقة المعرفة، فحططنا الرحال فيها، بما يعني ذلك من تأشيرٍ على رُواقِ أرسطو، مؤسِّس المدرسة المشَّائية (peripatos)، ومُلهم أتباعها، عبر العصور. وهي المدرسةُ التي انتمى إليها فلاسفةٌ عربٌ عِظام، كالكِندي والفارابي وإبن سينا وإبن باجة وإبن رشد، والتي تعتبر أن للمنهج العقلي حاكميته، وفق الشيخ الرئيس: بل إنّ العقل هو الطريق الوحيدُ للمعرفة الحقَّة.
هكذا، على طريقة المشَّائين وتقفِّي خطوهم، نمضي مع المؤلفات التي نُقاربها، وفي عدادِها “مطارحاتٌ في أروقة المعرفة”.. نروحُ معها: ذهابًا وجَيئةً، نُسائلها، وهي المُفصِحةُ، بل الأكثر إفصاحًا ، وإن كانت في حالةِ صمتٍ، أو يُشبَّهُ للبعض أنها في حالةِ خُرْس!
لقد كان لبعض النقّاد والجادّين المنصفين أن يقبضوا علينا، مُتلبِّسين بهذه الخاصِيّةِ، في تناولهم موسوعتنا، آنفة الذكر. فها هي الباحثة والأستاذة الجامعية غادة السمروط، تذهب إلى هذا الحُكم:”.. ففي النقد، لا يذهبُ الحلوة إلى الذوق، في مقاربةِ النصوص، هو يحملُ مشعل النقد العلمي، ويهتدي بالأسس والمقاييس، التي وضعها النقاد وجهابذةُ الباحثين المعاصرين(..) ولم يجنح قلم د. مصطفى الحلوة إلى الميل والعاطفة(…) فهو يعزفُ على الموضوعية وأوتار العقل المُنير!” ( من كلمة لها، في حفل إطلاق موسوعتنا، في مركز الصفدي الثقافي في 23/11/2017).
بيدَ أننا، كما أشرنا في تلك الموسوعة، لا نُبرئُ نفسنا من جنوحٍ، بعضَ مرَّاتٍ، إلى حالةٍ من التفاعُلِ حميميةٍ مع النصوص، التي تسلكُ سبيل الكتابة الإبداعية المبهرة! كأننا بهذه الحالة، وعلى غِرار أهل العرفان، نروحُ إلى مُجاهدةٍ، إذْ تتردَّدُ في مسامعنا مقولةُ أحدِ شيوخهم، أبي علي الدقَّاق النيسابوري، أستاذ القشيري:”مَن زيَّن ظاهرَه بالمجاهدة، حسَّنَ اللهُ سرائره بالمشاهدة!”
في المقلب الآخر، من هذه المقولة، كأننا بأهل العرفان يرون أن العقل “الكلاسيكي” قاصِرٌ عن إدراك ما تستطيعُهُ المجاهدة، في معاينتها، من أسرارٍ ومشاهدات نورانية!
من هنا لا بأس على مَن كان النقدُ صنعتَه، والكلمة ديدَنَه، أن يدلِفَ، بقدرٍ معلوم، إلى مجاهداتٍ، شريطةَ أن لا تعتريه نوباتُ شطْحٍ، ولا تحجبه غيبوبةٌ عن الزمن الحاضر، وأن لا تشوبَ مشاهداتِهِ تهويماتٌ، ما أنزلَ اللهُ بها من سلطان!
ولطالما كان يُراودنا هذا السؤال: كيف السبيلُ إلى تعاطي نصٍّ مُصعِّد في معارج الإبداع، استنفدَ فيه صاحبه قدرته الفكرية وسائر إحساساتِهِ، حتى حدود التلاشي؟ هل يُكتفى بالدخولِ على هذا النص، من زاوية عقليةٍ “محضة”، مُتغافلين عن نبض القلب ودفق المشاعر، أم ندخل عليه، بما تنجلي عنه ملكتنا العقلية وطاقتنا الروحية في آن، بما يُشكِّل إحاطةً مُتكاملةً به؟ ألا نجدُنا في مواجهة إحدى الثوابت، فحواها: “إن الشبيه لا يُدركُهُ إلاّ الشبيه؟!”.
يقينًا إن العقل النقدي، المضمَّخ بعبقٍ من نورانية، ينفحُ النص المُقارَبَ حياةً جديدة، فيستحيلُ الناقد كاتبًا آخر لهذا النص، بصيغةٍ قد لا تقلُّ إبداعًا عن إبداع النص / الأساس!
هكذا، لا بد من حالة عشقٍ، نعيشُها، كنُقَّادٍ، مع النصوص الإبداعية. وإذا كان العِشقُ نظير المحبة، في المفهوم الجبراني، فإسنادًا لمطالعتنا هذه، يُقرِّرُ جبران خليل جبران، في كتابه “النبي”، أن العمل المقرون بالمحبة “معناهُ أن تضع، في كل عمل من أعمالك، نسمةً من روحك!”. علمًا أن النسمات الروحانية، مضبوطةَ الإيقاع، لا تنتقصُ البتَّة من دور العقل، بل تروحِنُهُ! أَوَلَمْ يرِدْ في الأثر: “إستفتِ قلبَك!”، بما هي دعوةٌ للإنصات إلى نداءِ القلب، يُخاطبنا، ويُشيرُ علينا في تحديد بعض خياراتنا في مسار الحياة؟!
لقد كان للباحث السوسيولوجي العميد الراحل عبد الغني عماد- رحمه الله- أن “يلتقط” تلك المزاوجة لدينا بين البُعد العقلي والتفاعل الروحي في مقارباتنا، فذهب إلى القول:”.. هو يُخضعُ ما يقرأ، من مساحات النصوص وإبداعات الكتب، إلى رهافةِ الإحساس، وبالوقت نفسِهِ إلى تساؤلات العقل” (من حفل إطلاق موسوعتنا، مرجع سابق).
إذْ نأتي تفصيلاً إلى محتويات الكتاب، فقد ضمّ الباب الأول تسعًا وعشرين مراجعةً نقديةً ، لتسعة وعشرين كِتابًا، تعودُ لسبعة وعشرين مؤلِّفًا، وليغدُوَ هذا الباب بمنزلة الجزء الثالث لموسوعتنا ” 80 كتابًا في كتاب”، من منطلق “وحدة الحال” المعرفية بينهما، بما يرفع عدد مراجعاتنا إلى مائةٍ وتسع مراجعات!
ولقد كان لمراجعاتنا ، في هذا الباب، أن تترجَّح بين فنون الشعر والخواطر والكتابة الإبداعية والرواية والقصة والسيرة، عبورًا إلى الفلسفة وعلم الأديان وعلم الاجتماع وعلم التربية وعلم التاريخ، وهي فنونٌ على وثيق صلةٍ بما نجده في المراجعات، التي تصدَّت لها “الموسوعة”.
وأما عن الباب الثاني (بحوث ودراسات)، فقد إندرجت مقارباته السبع عشرة، تحت الفلسفة والأديان (ست مقاربات)، وتحت علم الاجتماع وعلم النفس والتنمية (سبع دراسات وبحوث)، وتحت الثقافة والتراث والأصالة والمعاصرة (أربعة بحوث).
بقدرِ ما رصدت موسوعتنا المعرفية الحراك الفكري والثقافي، الذي شهدته طرابلس- العاصمة الثانية للبنان- وهو حراكٌ مُندرجٌ في الحراكِ الفكري العربي العام- فقد جاءت مطارحاتنا في أروقة المعرفة لتستكمل بعضًا من مشهديات المدينة ونبضها، على هذا الصعيد، والتي كان يستضيفُها- عَبْرَ ندواتٍ وتواقيع كتب- “مركز الصفدي الثقافي”، و”مركز العزم الثقافي” (بيت الفن)، و”الرابطة الثقافية” و”مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية” وسواها من مُنتديات أدبية.
أما عن الدراسات والبحوث (الباب الثاني)، فهي في غالبيتها أوراق عمل ومداخلات، قدّمناها في مؤتمرات فلسفية، نظّمتها الجامعة اللبنانية (كلية الآداب ومعهد العلوم الاجتماعية)، و”الاتحاد الفلسفي العربي”، و”المركز الدولي لعلوم الإنسان- جبيل “، ومراكز ثقافية أخرى. وقد شارك في بعض المؤتمرات الفلسفية باحثون من دول عربية وأجنبية.
إن هذه المروحة الواسعة، من مراجعاتنا النقدية والبحوث والدراسات، المنضوية إلى ألوانٍ معرفية شتّى، تتوجّه إلى مختلف المشتغلين بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، كما إلى غير المتخصصين المنهمِّين بالشأن الثقافي العام. ولا شك أن هذا التنوّع “الموضوعاتي”، ذي السِمة “الكشكولية”- كما نعتناه في الموسوعة- يُلبِّي خيارات مُتعدِّدة، لدى القرّاء/ المتلقِّين ، أصحاب النزوعات الفكرية والذائقات الفنية المتباينة.
إلى هذه السِمة الإيجابية، ثمة إيجابيةٌ أخرى، تتمثَّل في ذلك البُعد “الإمتدادي”، إذا صحّ القول، لأكثر المقاربات والبحوث والدراسات، ذلك أننا لم نرَ إلى أطروحاتنا بعين اللحظة الحاضرة فقط، بل بعين البصيرة المستشرفة أيضًا .
هكذا، على سبيل المثال لا الحصر، فإن بحثنا الفلسفي “جدلية الأخلاق والسلطة من منظور فلسفي/ مقاربة متحركة عبر كتاب الجمهورية”، الذي مضى عليه قرابة ربع قرن، لا زال يحتفظ براهنيتِهِ، بل كأننا كتبناهُ اليوم ولم يجفّ حبره بعدُ، ليعكس واقعنا السياسي والأخلاقي شديد التردِّي والخطورة.
إن هذا البُعد “الإمتدادي” لمقارباتنا يعود، بالدرجة الأولى، إلى التزامنا قضايا مجتمعنا وشجونه، كما هموم الإنسان مُطلقًا. وفي تثمينٍ لهذا الالتزام، وطنيًّا وإنسانيًا، يرى العميد عبد الغني عماد:”أنّ أبرزَ الفضائل، التي يمكن أن يتمتّع بها المثقف، الانحياز إلى قضايا المجتمع وعدم الإنفصال عنها، أو الشعور بالغربة تجاهها. إنه انحيازٌ واعٍ وموضوعي، بقدرِ ما هو إنحياز نقدي، وهذا ما تميّز به مصطفى الحلوة” (من حفل إطلاق موسوعتنا).
بيد أن الباحثة، في الفلسفة العيادية، د. كارولينا بعيني، تنزاح بأطروحاتنا إلى مصافٍ أكثر شموليةً، حين ترى أن مراجعاتنا تحمل أنفاسًا “يونيفرسالية”، تصعد بنا، لنحتلَّ مكانةً في روح التاريخ! ( من كلمة في حفل إطلاق موسوعتنا).
إلى هاتين السِمتين، ثمة خصيصةٌ، لا يستسيغها ذوو الصدور الضيقة معرفيًّا، فلا تتسع صدورهم لرحابة الفكر، فيأخذون علينا جنوحنا “المفرط” إلى الموسوعية،ومن تجلياتها الذهاب في مقارباتنا إلى تفاصيل التفاصيل، وإلى استطرادات، من ضمن السياق ومن خارجه، على طريقة أبي عثمان الجاحظ!
إننا نرى إلى هذه النظرة/ “التهمة” مدحًا في معرض الذمّ، ولا مجال للتوسّع فيها، حتى لا نُدانَ من فمنا!
في الوجه الآخر من المسألة، فإن من تتسع صدورهم لهذا النمط من الكتابة، يجدون لدينا ضالتهم. ولنا أن نُسجِّل هذه الشهادة، من قِبل باحثٍ وفقيهٍ في الألسنية، الأستاذ الجامعي بلال عبد الهادي، إذْ يقول، في هذا الصدد: “.. ومن يعرف د. مصطفى الحلوة يعرف تورّطه في الثقافة الموسوعية- والموسوعية تستهويني- وهو له، في كل عُرس ثقافي، قرص، يُشبهُ قرص المعمول بالجوز، الخارج للتوّ من فرن مواسم الأعياد”، ويُتابع قائلاً: “ومن دأبِ د. مصطفى، حين يقرأ كتابًا ما أن يُفلِّيَهُ، كما تُفلّى النملة! يقرأ الكلمات، وأزعمُ أنه يقرأ حتى البياض، وعلامات الترقيم!” (منشور في صفحتِهِ على الفايسبوك، بتاريخ 6 آب 2019).
وفي هذا المقام، يُعلِّل الشاعر المحامي شوقي ساسين جنوحنا إلى الموسوعية، فيعزوه إلى تخصُّصنا في الفلسفة: “منهجيّة مدّته بها الفلسفة، وأتاحت له أن يقرأ النص، وما بين يديه وما وراءه” (من حفل إطلاق موسوعوتنا، مرجع سابق).
في السياق عينه، تعمد الباحثة د. كارولينا بعيني أيضًا إلى تعليل هذه الظاهرة المستمكنة منا، فترى إلينا- معاذ الله!- “فيلسوفًا، كما الرعيل الأول من الفلاسفة، حيث الفيلسوف مهندس وسياسي وسوسيولوجي وأديب ولغوي وشاعر وعالم متبصِّر ومستنير!” (من كلمة في حفل إطلاق موسوعتنا، مرجع سابق).
ولم يتوانَ الباحث السوسيولوجي عاطف عطيّه عن دعم هذه الخاصّية، إذْ يرى إليها سمة حميدة، تستجيب للقارئ النهم إلى وسيع معرفة: “.. بل يقرأ (أي أننا نقرأ الكتاب موضوع المقاربة)، ويحفر في قراءتِهِ ، ويُعمل قلمه في الاستنتاج والتحليل والعرض، بما يُشبع نهم القارئ” ( من كلمتِهِ في حفل إطلاق موسوعتنا، مرجع سابق).
بما يخصُّ لغة هذا الكتاب، فإن القرّاء سوف “يكتشفون” أننا لم نحِد عما درجنا عليه، في جميع مؤلفاتنا، فقد توسّلنا لغة، تُشكِّل علامةً فارقةً، وذات “ماركة مسجَّلة” بإسمنا، إذا جاز القول. وهذا ما جعل أسلوبنا التعبيري موضع تثمينٍ وإعجاب- أستغفر الله!- ولسوانا أن يتولى عنّا هذه المهمة. فها هو الطبيب المثقف علي بزّي، من أركان الجالية اللبنانية في سيدني (أستراليا)، وأحد الناشطين في الحراك الثقافي، يصف لغتنا بأنها “لغة بسيطة حتى الاندهاش، وقوية حتى الذهول!”، وذلك بعد معاينتِهِ كتابنا “شربل بعيني بين الفُصحى والعامية”. كأننا به، عبر هذا الحُكم، يروح بنا إلى مدرسة إبن المقفع، في فن الترسُّل، حيث أُطلق على أسلوبه “السهل الممتنع!”.
ولقد توسَّعت الباحثة غادة السمروط، في تبيان الركائز التي تقوم عليها لغتنا، فخلصت إلى الآتي:” هي الكلمة عنده طيِّعة بصلابة، جلِيَّة بأحلامِ فجر، تتأبّطُ الموضوعية والوضوح. أنيقةٌ بحليِّها، تترصَّعُ حجارةً، صاغها الحلوة، من معدن فكره النيّر، تسيرُ ملكةً، لا لغوَ فيها ولا تأثيم، لا يعتريها وهنٌ ولا ذبول!”.
مسألةٌ لا بد من جلائها، فلا تبقى موضع تساؤل، لدى القُرَّاء، فحواها: لماذا نأتي بهذه الشهادات، حول كتابنا، من لدن باحثين وكتّاب، قالوا أكثر ما قالوه، يوم إطلاق موسوعتنا “80 كتابًا في كتاب”؟
لقد أقدمنا على هذه الخطوة لسببين، أولهما- كما أسلفنا- أن الباب الأول من “مطارحات في أروقة المعرفة”، والذي يستهلك ثلثي صفحات مؤلَّفِنا، هو الجزء الثالث لتلك الموسوعة، بل هو الأخ الشقيق لجزءيها. من هنا ، فإن ما يصدق عليهما، تقويمًا، يصدقُ على هذا الباب من مطارحاتنا، وليمتدّ الحكم، فيشمل أيضًا، الباب الثاني، ببحوثه والدراسات . وزيادةً في التعليل، فإننا لم نخرج من جلدِ نهجنا الفكري ولغتنا وأسلوبنا التعبيري، في كل ما كتبنا وما نكتب راهنًا وما سوف نكتبه، في الآتي من الأيام!
وعن السبب الآخر، فقد آثرنا عدم الجهر بمثل ما جهر به هؤلاء النقّاد والباحثون، ذلك أن “مادح نفسه كذّاب!”، كما يُشاع! من هُنا أوكلنا إليهم هذه المهمة- ليس مهمة “الكذب”-، بل الشهادة، من موقع الصُدقية، وتحمُّل مسؤولية ما يخلصون إليه من أحكام.
ولا أُخفي، قرّاءنا، أنني في حَرَجٍ جرّاء ما قد يكون مِن غُلُوٍّ ، في بعض ما قيل! ولقد حرِصتُ، من موقع المسؤولية، التي حمّلني إياها أصحابُ هذه الشهادات، فجهدتُ في أن أتلافى بعض ما جنحتُ إليه، في موسوعتي، من “تساهل”، مع قِلَّةٍ من الكُتّاب الأغرار، من منطلق عدم إحباطهم، فيقلعوا عن الكتابة ، حالَ قسوتُ عليهم، وقد أشرتُ إلى ذلك جهرةً.
ومهما يكن من أمر، فإننا كُنّا ولما نَزَلْ، نُصدِرُ أحكامنا، في جميع مراجعاتنا، “بـِإسم الشعب المعرفي!”. ولا ندّعي عصمةً فيما نذهب إليه، إذْ سيبقى ثمة من يُظلَم، وبالمقابل ثمة من نُبالغ في إنصافه، ويأخذ حقّه “طابشًا!”.
وكما أشرنا، في موسوعتنا، فإن كل ما نخلص إليه قابلٌ للمراجعة والطعن والنقض، من منطلق محدودية تشكيلنا المعرفي:
فقُل لمن يدّعي في العلم معرفةً علمتَ شيئًا، وغابت عنك أشياءُ!
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإننا، لدى منحنا “جائزة شربل بعيني للعام 2020، من قبل معهد الأبجدية- جبيل” وإعلامِنا بأن ثلاثة عشر باحثًا وشاعرًا سوف يتناوبون على تقريظي وتقريظ الكتاب، في حفلٍ عام، يُقام في سيدني، بتاريخ 10/12/2020، بعثتُ إلى القيّمين على الحفل بكلمةٍ كي تُلقى فيه، ومما جاء فيها:”.. فما أنا، والله، سوى درويشٍ سالكٍ طريقَ المعرفة، أحمِلُ مصباح ديوجين، في رابعة النهار. أجوبُ به من مكان إلى آخر، أتقصّى الحقيقة العارية، لا أرتجي جزاءًا ولا شكورًا”.
لهؤلاء الذين قرّظوني في سيدني، ولأولئك الباحثين الذين أثبتُّ شهاداتِهم، في هذا المُفتتح، أردِّدُ على مسامعهم تلك الكلمات!
ما آملُهُ لهذا الكتاب ” مطالعات في أروقة المعرفة” أن يُشكِّل مرجِعًا، يؤوب إليه الطلبة الجامعيون وسائر المهتمين بالفكر، فيفيدوا منه مُعطياتٍ، نزعمُ أنها ذاتُ فائدة. ناهيك عن التدرّب على منهجيَّة البحث العلمي الرصين، وفي ذلك فائدة أخرى.
.. وبمثلِ ما ختمت به مقدمة موسوعتي ” 80 كتابًا في كتاب”، أذهبُ إلى القول: “.. في المأثور الديني الإسلامي، للمجتهد أجرٌ إذا أخطأ،وأجرانِ إذا أصاب! عسى أن نكون قد أصبنا، في ما رُمنا فعله، ونحظى بشرف الأجرين، فنكون بذلك من الفائزين الغانمين!”.
مصطفى الحلوة
0 comments:
إرسال تعليق