بقلم / د . سعد ياسين يوسف
كما في الفنّ التَّشكيليّ تتعدد الرؤى للَّوحة بحسب زاوية النظر إليها وثقافة المتلقي وما يسبغه عليها من معانٍ ورؤى جديدة لم تكن تخطر حتى في بال من رسمها، وهذه هي سمات الإبداع الحقيقيّ الذي يترك دوائر التلقي تتسع من نقطة ما تشكل مركزاً في القراءة ومحوراً لها .
وفي مجموعة ومضات الشَّاعر كريم عبد الله ( سوتيانك الأحمر ) الذي تتجلى فيها سيميائيّة اللَّغة بأعلى مراحلها والتي صدرت عن دار المتن ببغداد مؤخراً نجد أن الشَّاعر قد لجأ إلى لغة تكثيف عالية في القصائد مما منحها عمقاً دلالياً غير مسبوق في قصائده السَّردية الطوال التي كان يطلُّ بها علينا .
وليس غريبا أن يلج الشَّاعر إلى هذا المضمار بكل ما فيه من معانٍ أيروسيّة ، فالأمثلة كثيرة على هذا النحو من الإثارة في الشِّعرالعربي كما في شعر أمرؤ القيس في الشِّعر الجاهليّ وأبي النواس وبشار بن برد ومطاع بن أياس في العصر العباسي .
وفي الدّراسة التحليليّة لديوان ( سوتيانك الأحمر ) التي تضمنها هذا الكتاب يتجلى بوضوح هذا التّعدد في الرؤى والتَّناول للأثر الذي أنجزه شاعرنا كريم عبدالله وتردَّدت أصداؤه في مرآة الأديبة العربيّة إيمان مصاروة التي أستفزتها نصوص المجموعة لتحللها وفق مسطرة قصيدة (الهايكو)على الرّغم من أنَّ الشَّاعر حينما أصدر مجموعته لم تكن موسومة بوسم قصائد الهايكو .
ومع ذلك تأتي محاولة المبدعة إيمان مصاروة لتثري القراءات التي قدمت والتي ستقدم لهذه المجموعة من قصائد الومضة أو كما يسميها البعض الشَّذرة أو النَّثيرة والتي أسمتها على أنها ( هايكو ) رغم تعريفها لقصيدة الهايكو بأنها : (هي نثيرة أو قصيدة بسيطة ومضغوطة في بنائها، تبدو ظاهريًا أنَّها سهلة المنال لكنَّها استطاعت استقراء المرئيات كالطبيعة بتفاصيلها.) وفي موضع أخر تدمج النثيرة بالهايكو لتطلق تسمية جديدة هي ( نثيرة الهايكو)
ولتأكيد ذلك أستشهدت بالأصوات التي أصرت على ولوج وتعريب قصيدة الهايكو اليابانية في الوطن العربي وفي المقدمة منهم الشَّاعر الفلسطينيّ عز الدين المناصرة والشَّاعر المغربي عبد الكبير الخطيبي وسامح درويش والذين وقفوا بوجه من أكد أنَّ النَّثيرة والشَّذرة والومضة هي امتداد لتطور القصيدة العربية المعاصرة ولا حاجة أنْ نستورد الشِّعر من اليابان وندجنه ونحن أمة شعر متجدد ، فيما تساءَل آخرون هل سيكتب اليابانيون قصيدة الشَّطرين العمودية ؟
ومن الثابت أن للبيئة الثقافيّة التي تحيط بالمبدع أثرعلى المبدع وتوجهاته وما يتبناه ويعتقده ولذا فنحن هنا بصدد التناول النقديّ الانطباعيّ التحليليّ لإيمان مصاورة لمجموعة الشاعر كريم عبد الله (سوتيانك الأحمر ).
بعد المقدمة التي تناولت فيها تاريخ وتقنيات قصيدة الهايكو وأبرز مناصريها والتأكيد بأن كريم عبدالله كتب هذا النوع من الفنون الشعريّة تتجه نحو دراسة نصوص الشَّاعر بلغةٍ انطباعيّة تحليليّة تفكك من خلالها شفرات ومضاته المترعة بالتَّكثيف والحسّ الشعريّ الوجدانيّ في ضوء الوضع السياسيّ والإجتماعيّ المحيط بالشَّاعر وبرؤية المتتبع القريب جداً إلى نتاج الشَّاعر سيّما وأنها كانت قد قدمت دراسة سابقة عن شعره في مجموعة (تصاويرك تستحم عارية ).
ولذا فكلما أقتربت رؤية النَّاقد من الشَّاعر اتضحت رؤاه الفنيّة وأدرك عمق الشَّاعر ورأى تفاصيل نصف قمر نصوصه المعتم ليسبر أغوارها بيسر وسهولة ، ولذا فهي تدرك مقدار الهمّ الوطنيّ الذي أكتنفته قصائد المجموعة وإلتزام الشَّاعر في ومضاته برسالته الوطنيّة والإنسانيّة حينما تناول مامرَّ بالعراق من حروب وويلات أنهكت كاهل شعبه لسنوات طويلة .
لقد سلطت الضوء في دراستها التحليلية على هندسة نصوص الشاعر وترابطها من حيث المعنى والبناء ووصفت البعض منها بأنها كقطعة واحدة وهذا ما لمستهُ في الومضات السَّبع عشرة التي أوردها ضمن نص طويل بدأها بجملة ( في لحظة الوداع ) ولو أستخدمناها مرة واحدة ودمجنا كل الومضات التي وردت فيها لأصبحت قصيدة نثر رائعة بصورها وقوة تكثيفها .
كما أهتمت إيمان مصاروة بلغة القصائد وتأكيد الشَّاعر كريم عبدالله في نصوصه على استخدام الفعل المضارع في مقطوعات "قصيدة الحرب" مما يدل على الحيوية والحركة وسهولة تتبع المتلقي ولقرب زمنها وديمومة حركتها مشيرة ألى "أن نصوص الشَّاعر تميزت بمهارة في خلق علاقة تماثلية بين الدَّال والمدلول وذلك بالتغلغل في أسرار اللّغة والتَّمتع بالقدرة على معرفة الحمولات اللَّفظية والمعنوية التي تتمتع بها الأسماء وتمنح إمكانية للتآلف بين مفرداتها التي تبدو ظاهريا غير متجانسة. لكنها أصابع الشَّاعر البارع التي تصنع كيمياء لغوية بين الألفاظ المتباعدة "، وهذه قراءة خلّاقة تحسب للمبدعة أيمان مصاروة في تحليلها لنصوص كريم عبد الله .
كما تناولت في دراستها لنصوص الشَّاعر الآيروسية في (سوتيانك الأحمر) من منظور نفسيّ وليس من منظور حسّيّ بمعنى الإثارة الجنسية ووصفتها بأنها "رغبات مكبوتة في أعماق الذات وربما هي أمنيات ممنوعة أو أحلام من الصعب تحقيقها .!! لكن المتلقي سيلمس بوضوح التأثير الحسّيّ والجنسيّ المهذب الذي أراده الشَّاعر في نصوص هذه المجموعة من خلال مداعبة خياله ورسم الصَّور الشِّعرية العارمة وتأجيج الإحتدام الكامن في معاني النصوص من خلال الكتابة الأيروسيّة والتي أخذت تسميتها من أسم الإله الإغريقي "أيروس"، وهو إله الرَّغبة والحبّ والخصوبة .
لقد أرجعت المبدعة أيمان سبب عمق المعاني وجمال الصَّور في نصوص كريم عبدالله إلى اشتغال الأخير على نفسه بشكلٍ جيد وإلى أستعانته بمواهبه المصاحبة لموهبة الشِّعر والمتمثلة بكتابة النصوص المسرحيّة والدّراسات الأدبيّة والنَّثر بأشكاله، إضافة إلى أنَّه رسام وموسيقي وسارد وليس شاعراً فقط ، وهذه حقيقة مهمة في الكشف عن مرجعيات وينابيع الإبداع في نتاج الشَّاعر .
ومما يلاحظ هنا في هذه الدّراسة طول الأقتباسات الشِّعرية أحيانا والتي تصل إلى صفحتين مما يثقل الدّراسة بأستشهادات لا مبرر لها ومن الممكن اختزالها ، ولكن ربما سعت إيمان إلى أن تتيح الكثير من النّصوص أمام المتلقي الذي لم يكن ليحصل على المجموعة لسبب أو لآخر .
والمتتبع لقصائد المجموعة سيجد أنَّ الشَّاعر كريم عبدالله تناول البيئة العراقيّة الريفيّة الأصيلة بكل تسمياتها ومفرداتها وطراوة طينها الحرّي وكم كنت أتمنى أن يتم التوسع في الحديث عنها لأنّه أستخدمها بشكل جماليّ هائل وحميميّ ومن الممكن دراستها من وجهة نظر مثيولوجيّة وثقافيّة .
بقي أنْ نقول أن قصائد ( سوتيانك الأحمر) بغض النظر عن تسميتها بقصائد (ومضة) أو (هايكو) تبقى قصائد مهمة في الشعريّة العراقيّة الحديثة وريثة التجديد في الشِّعر العربيّ وبما تمتلكه من تكثيف وسلاسة وابتعاد عن التعمية والإنغلاق .
كما أن دراستها وفق هذه الرؤية النقديّة المضمخة بذائقة شاعرة عربيّة مهمة يفتح المجال أمام قراءات ودراسات نقديّة ثقافيّة وبنيويّة وسيميائيّة أخرى في قابل الأيام .
0 comments:
إرسال تعليق