المجموعة القصصية ( السقوط من البندول ) للكاتب أحمد عثمان.. قراءة في الرؤية والتشكيل

 


بقلم / مجدي جعفر



يقدم الكاتب أحمد عثمان في مجموعته القصصية ( السقوط من البندول ) تجارب إنسانية حميمة، يمتح فيها من واقعه المعيش، ويعيد لنا تشكيل هذا الواقع في صور مبهرة ومبدعة، وكان أمينا وصادقا في عكسه لهذا الواقع المتخيل من خلال إيهامه لنا بواقعيته وكأنه حقيقة ماثلة أمام أعيننا، وكان أيضا على وعي بصير بهموم ومشاكل مجتمعه الذي ينطلق منه، ونستطيع في هذه القراءة رصد العديد من الملامح التي تُميز تجربة الكاتب القصصية في هذه المجموعة البديعة :

الملمح الأول : القرية المصرية وتحولاتها.

الملمح الثاني : الانحياز إلى الفقراء والمهمشين.

الملمح الثالث :  بعض من هموم الوطن ومآسي الأمة.

الملمح الرابع : محاولة السيرعلى درب المتصوفة.

الملمح الخامس : اغتراب الانسان المعاصر وتشظيه.

وقراءتي لهذه المجموعة هي قراءة الممسوس بغواية فن القصة، هذا الفن المخاتل، والمراوغ الجميل، ولن نكتف بما أثارته المجموعة من قضايا ورؤى وأفكار، بل سنتوقف عند بعض الحيل الفنية التي لجأ إليها الكاتب،وتوسله بالفنون الأخرى لإثراء نصوصه القصصية، وكيف استطاع أن يحقق لقارئه المعادلة الصعبة التي طرفاها : الاقناع والإمتاع.

( 1 )

العنوان – لوحة الغلاف – الإهداء :

اعتبر الباحث السيميولوجي بأن العنوان هو العتبة الأولى للولوج إلى النص، وهو النص الأصغر، المُضمر فيه الرسالة التي يريد الكاتب إيصالها إلى المتلقي، واعتبره البعض أيضا النص الموازي، وكما اهتم الباحث السيميولوجي بالعنوان كان اهتمامه أيضا بلوحة الغلاف، وبالنظر إلى لوحة الغلاف كفضاء بصري مهم، نرى اللون الغالب على اللوحة هو الأبيض، وفي أعلى الغلاف ساعة تبدو عتيقة، يتدلى من بندولها رجل يتأرجح في الفراغ، وعلى أعتاب السقوط، فالساعة ترمز إلى الزمن، فهل ينصب اهتمام الكاتب قبل الشروع في قراءة المجموعة بالذين يسقطون من الزمن؟.

ويأتي الاهتمام بالزمن من الإهداء أيضا، حيث يهدي مجموعته إلى سنين عمره التي توارت بالحجاب، التي طفقت تعانده ويعاندها، وهنا يُظهر لنا الكاتب شخصيته المقاومة، ونحن دائما نُثمن فعل البطل المقاوم والإيجابي ونمجده، فظل يقاوم سنين العمر حتى انتصرت له.

وقصة ( السقوط من البندول ) التي حملت المجموعة اسمها، هي إحدى قصص المجموعة الجياد، التي تؤكد وعي الكاتب بالزمن، وإدراكنا للزمن لا يتأتى إلا كلما تقدمنا في العمر، وقد أحسن صنعا باختيار بطل النص كاتبا ذاع صيته وطبقت شهرته الآفاق، وعلاقته بالزمن في طفولته وصباه وشبابه تغيرت مائة وثمانون درجة عندما بلغ من الكبر عتيا، وهذه العلاقة قدمها لنا الكاتب باقتدار من خلال الساعة المعلقة على الجدار، وهي أداة من أدوات قياس الزمن الفيزيقي، وكان إدراك الكاتب بطل النص، الشيخ الهرم الطاعن في السن الذي اشتعل رأسه بالبياض، كان إدراكه للزمن من خلال الآثار التي تركها عليه، ليس بتجاعيد الوجه واشتعال الرأس شيبا ووهن الجسد والاتكاء على العكاز فحسب، بل الآثار النفسية أيضا، والزمن النفسي لا يُقاس أبدا بمقاييس الزمن الفيزيائي، والزمن النفسي هو الزمن الأهم بالنسبة للكاتب، وإنشغاله به يفوق إنشغاله بالزمن الفيزيائي، وبدا الزمن النفسي / الأدبي حاضرا بقوة في العديد من القصص، وخاصة القصص التي اقترب فيها من تخوم الصوفية.


والساعة المعلقة على الجدار:

( أمست دقاتها المتتابعة مطارقا تقض مضجعه، وتشعل توتره، تجلد شيخوخته بسياط لا ترحم ) ص 56.

ولعل القارئ يكون قد تبين من خلال هذه الجُمل القليلة آثار الزمن في شيخوخته على حالته النفسية التي ساءت والمزاجية التي تعكرت، وهذا ما جعله يقبل على فعل غرائبي، وهو محاولته إيقاف هذا الزمن، بل تعدى الفعل من محاولة إيقافه إلى محاولة العودة به إلى الوراء!.

حاول أن يدير مفتاح الساعة بالاتجاه العكسي :

( أداره دورة ..اثنتين .. ثلاث .. تعثر، تراخت يداه .. فترت عيناه، تهاوى جسده – منزلقا على جدارها بطيئا – إلى القاع، تشيعه جلجلة الدقات بصخب ضحكاتها، والبندول يواصل إزاحاته غير عابئ ) ص 57.

نهاية قوية وحاسمة للقصة، وتثير في عقل المتلقي العديد من الأسئلة الوجودية، مثل : الحياة والموت، وصيرورة الزمن، وديمومته، والوجود والعدم، ... إلخ.

( 2 )

القرية المصرية وتحولاتها :

الزمن حاضرا بقوة في جُل القصص، يُغيب أشخاصا، وأماكن، وحرف ومهن، وعادات وتقاليد، وقيم وأخلاق، و.. و ..، ومن خلال وعي الكاتب بالزمن يرصد في قصص ( الزغلولة .. نخلة جدي، ماكينة داوود، آخر الدنيا ) التغيرات التي طرأت على القرية المصرية :

1 – في قصة ( الزغلولة .. نخلة جدي ) يقدم لنا باختزال وتكثيف شديدين من خلال الزغلولة / النخلة قرية ( العلواية ) ونشأتها، واعتمد فيها على الموروث الشفاهي، والحكايات المروية عن الأب عن الجد عن .. عن ..، فيقول :

( حكى لي أبي – رحمه الله – عن جدي، عن جده، قال : إن جدنا الأكبر " إدريس " هو من جاء بفسيلتها وزرعها في هذا المكان، حين كان هذا البيت الكبير – في بدايته – حجرة واحدة ابتناها ليقيم فيها وجدّتنا إلى جوار أغنامه وإبله، لم يكن في ذاك الفضاء الشاسع وقتها غيره لسنين طالت – وكأنما فطن المترجلون – من بعده – بدوابهم لهذا البراح والمراح، فأقاموا إلى جواره، وابتنوا مثلما ابتنى، ... ) ص62.

والكاتب مغرما في هذه القصة بالحكي الشعبي، والحكاية هي العمود الفقري لقصته، وأظهر فيها قدرته الفائقة على انتقاء الحكايات التي ينقلها عن أبيه عن جده وعن جد جده، مستخدما خاصية الانتقاء، وهي خصيصة مهمة، ولأن الفن انتقاء واختيار من الواقع، فاختار الكاتب من الزمن الممتد منذ نشأة القرية المواقف والحوادث التي كانت مضيئة في سماء ذلك الزمن البعيد، منذ اللبنات الأولى للمكان وبعثه الأول، وصولا به إلى الآني والحاضر، ورصد حركة الزمان في المكان وجدليته معه، وإزاحته لبعض معالمه، ورصد أيضا التغيرات التي طرأت على الشخصية الريفية.

الكاتب يمجد الآباء والأجداد الذين روضوا أرض العلواية، التي كانت قفرا، ففاضت بالخيرات بفضل عرقهم وسواعدهم وجدهم واجتهادهم، فهم من صنعوا لنا الحياة.

2 – في قصة ( ماكينة داود ) ص 67 يوقفنا كيف غيب الزمن ماكينة داود ( وابور الطحين )، ولم يبق منها غير صوت الماكينة الذي يطن في أذنيه، وحكايات أمه عن العفاريت التي تسكنها، والتقاط الطفل الشارد لذبحه على سيرها لكي تدور، ويرصد من خللها التحولات والتغيرات الخطيرة التي حدثت للقرية، فالعائدون من بلاد النفط تخلصوا من البيوت الطينية وشيدوا مكانها عمارات عالية بالطوب الأحمر والحديد والأسمنت، وعلى أرض الماكينة انتصب برجا شاهقا، يناطح السحاب!.

3 – وفي قصة ( آخر الدنيا ) ص 70، يختفي ( المسقى ) الذي يجري فيه الماء لري الأراضي المنزرعة، فالأجيال المعاصرة قاموا بردمه، واقتلعوا الاشجار، وعبدوه طريقا عريضا طويلا وعلى جانبية أقاموا البيوت والعمارات!.

4 – وفي قصة ( عم مهران .. الحاذق ) ص 73، هل يُسقط الزمن العم مهران الرجل الحاذق الذي يداوي بالأعشاب، ويعرف لكل مرض العشب الناجع لعلاجه، ويعف عن أخذ مقابل من مرضى القرية، ويعالج الذين يعانون من وجع في المفاصل، ومن الروماتيزم، يعالجهم بدهن الثعابين التي يصطادها له الأولاد، ويكافأهم على صيدهم الثمين بحبات ( الكرملة ) :

( يشق جلدها بمديته الصغيرة الحادة – كمشرط جراح – ويمرُطُ دُهنها بيده من الرأس حتى الذيل، ويعبئُه في " حق " من النحاس ويُحكم غلقه مُدخرا إياهُ ليُعالج به من أصابهم الروماتيزم وتيبست مفاصلهم ) ص ص : 76 – 77.

هذا الرجل الذي يعرف دروب علم الفلك، والخبير في حساب الأهلة، والعالم بالطب والتداوي، ماهرا أيضا وحاذقا في صناعة الحرف اليدوية من الخامات والمواد المتوفرة بالبيئة الفلاحية، فيصنع السلال من البوص و ( القفاف ) من الخُوص، وهو يتعيش منها، ولا يأكل إلا من صُنع يده :

( فإذا ما أعوزته الحاجة، ينهض حاملا معوله يجتث بعضا من البوص الذي ينمو – بغزارة – على ضفة النهر، فيشققه بسكينه الحاد المُعد لهذا الغرض، ثم لا يلبث أن ينسج منها سلالا ذات أشكال وأحجام يتهافت عليها الناس لما يعرفون عن إتقانه صناعتها .. وفي أحيان اخرى قد يعتلي جذوع النخلات – المباحة – فيجتز بعض السعف، فيجدل من أوراقه " المقاطف والقفاف "، ويترك الجريد ليجف فيصنع منه الأقفاص، وفي ساعة الصفاء يشكل منها الكراسي والمناضد ) ص 74.

الكاتب اهتم اهتماما كبيرا بالقرية القديمة التي رسخت في ذهنه مذ كان طفلا، ووصفها وصفا دقيقا، ويضعها في مقابلة ومواجهة مع القرية المعاصرة، ليكتشف القارئ أن البيوت الطينية قد غيبها الزمن وأزاحها البندول غير عابئ بصراخها، وحلت بدلا منها العمارات العالية والأبراج الشاهقة كما سقط وابور الطحين من البندول أيضا، ومساقي الأراضي سقطت هي الأخرى، وبارت الأرض وأُهملت وجُرفت، حتى ألعاب الأطفال اختفت مثل السيجة والبلي والاستغماية وغيرها، ومعرفة مقاييس الزمن التي كانت تُقاس بحركة الشمس والظل، غيبها الزمن، واختفت بعض الحرف والمهن، واختفت قيم أخلاقية في المجتمع الريفي ومنها قيمة التكافل الاجتماعي، فكان خراج الزغلولة يذهب إلى الفقراء والجيران والأصدقاء قبل أن يطعمه أصحابها. 

 ( 3 )

المهمشون والفقراء :

يقترب الكاتب في بعض قصصه من الناس البسطاء والعاديين، والهامشيين والفقراء الذين يعيشون على أطراف الحياة،ومعاناتهم ومكابداتهم من أجل الحصول على كسرة خبز وحسوة ماء، من أجل لباس يسترهم، ويغوص الكاتب في دواخلهم، مستبطنا همومهم وأحزانهم الكثيرة، وأفراحهم القليلة.

1 – في قصة ( زفاف ) يقدم لنا أوجاع ( على الله ) وهذا هو اسمه، محدود الذكاء، قوي البنية، لا عمل له ليقتات منه، ويعتمد على ما يجود به الناس والباعة عليه من أطعمة، لا يمد يده أبدا لأحد طلبا لصدقة حتى لو تضور جوعا، ولا مأوى له، يتكور آخر الليل على رصيف محطة القطار، تتحلق حوله القطط والكلاب والجرذان، يلقي لها بما جادت به الناس عليه، تتعارك على الأكل، وحينما تشبع تهدأ، فيروح هو في النوم، وحينما يسألونه : متى تتزوج؟ يرد عليهم يوم الخميس، ويتفاجأ الناس به يوم الخميس :

( وجدوه ملقى بجوار الاستراحة ميتا، وأسماله مشبعة بدمه، إثر نزع كليته اليمنى، حسبما جاء بتقرير الطب الشرعي، ومحضر البحث الجنائي ) ص 40.

مأساة ( على الله ) تكشف حال المجتمع، وما وصل إليه من انهيار القيم والأخلاق وفسادها. 

2 – قصة ( سياط ) ص 36 : مأساة أطفال الشوارع الذين يتم اسغلالهم من قبل عصابات الأشرار لتوظيفهم في السرقة والنشل، والصبي الذي يمر يومه ولا يجد صيدا، ويخشى سوط معلمه الذي ينهال على جسده، وكيه بسيخ الحديد المجمر إذا عاد من ( سرحته ) بكفي حنين، وكلما لاح له أساليب العقاب المؤلمة، يتكور على نفسه خوفا ورعبا، ولكنه يفيق على دقات حذاء لسيدة انيقة، فيتعقبها، ويغافلها، ويخطف حقيبتها، ويولي مسرعا، فتصرخ السيدة مستجيرة بالمارة، فيلاحقونه محاولين الامساك به، يروغ منهم، ويزوغ، ويجري في الاتجاه المعاكس :

( تروعهم صرخة عاتية أطلقتها مكابح سيارة، يهرعون نحو المصدر .. تلجمهم بشاعة المشهد، حين رأوه جسدا متكوما وسط المحتويات المبعثرة، وخيط دماء ينسال من فمه ..) ص 37.

3 – قصة ( يوم مختلف ) ص 25 : الرجل الفقير الذي يخرج من بيته مع شروق الشمس، ولا يعود إلا مع غروبها، يجوب الشوارع والحواري والأزقة، وينادي : بيكيا .. بيكيا .. روبابيكيا، وبالكاد يتحصل على قروش قليلة لا تفي بمتطلبات حياته الأساسية، وضاقت زوجته به وبحياته، وتجرأت على جلده بلسانها السليط، ومعايرته بفقره، وشكواها التي لا تنقطع من طبق الفول الذي لا يفارقهما، ويداها اللتان برى جلدهما الغسيل، والديون التي تتراكم ولا أمل في سدادها، البقال، وبائع الخبز، و .. و ..، وبدا له هذا اليوم مختلفا، فالنداءات عليه من الشرفات ومن البلكونات، ومن كل الاتجاهات تستحثه على التريث والتوقف قليلا، ويذهبون إليه فرادى وجماعات، يحملون في أياديهم وفوق رؤسهم وعلى أكتافهم أكياس من القماش ومن البلاستيك، ويلقون بها في صندوق عربته، ولم يصدق نفسه وهو يرى تلالا من الحقائب والأكياس مكدسة في الصندوق، وأثار عجبه ودهشته بأنهم لا يطالبونه بأثمان هذه الأشياء، فانتفخت أوداجه وغزته السعادة، وراح يمني نفسه بالرزق الوفير، والخير الكثير، ويتخيل ردود فعل زوجته ( النكدية ) .. وماذا ستقول له؟ ومضى فرحا وهو يعد من لم يتمكنوا من اللحاق به بأنه سيعود إليهم غدا، فهم في رأيه الكنز الذي فتحه الله له، فصندوق العربة امتلأ عن آخره، وقبل أن يصل إلى سوق ( الكانتو ) توقف ليرتب حاجياته، فهو يخشى من جشع التجار في السوق، فتكون المفارقة :

( أزاح الغطاء، ومال بجذعه ليخرج بضاعته .. ارتسمت على وجهه علامات الدهشة، لما وجد يديه تغوصان بباطن الصندوق .. أدركته قشعريرة مما يلامس، اعتدل سريعا، وقد جحظت عيناه من محجريهما، وتملكه الفزع، لما رأى كفيه قد اكتستا بطبقة سميكة من طين أسود أنف من رائحته النتنة .. تراجع للخلف هلعا، وهو يحملق تارة في الصندوق، وأخرى في راحتيه .. ) ص ص : 28 – 29.

4 – قصة ( قلوب ) ص 13 : المرأة التي تستخدم جمالها ودلالها وأنوثتها، مستغلة سطوتها على رجال السوق، فتلين قلوبهم، ويسيل لعابهم

5 – قصة ( سوق الجمعة ) ص 41 : الموظف الذي لا ينافق رئيسه ولا يهادن من أجل ترقية أو علاوة أو بدلات، ولا يسالم، ويتسم بالصدق والأمانة والأداء المثالي لوظيفته، وعُرف بين زملائه ب " الفقري "، فيرفض الرشى والمال الذي يأتي من استغلال الوظيفة والتربح منها بطرق ملتوية وغير مشروعة، هذا الموظف ( الفقري ) يُعاني ضيق اليد وعُسر الحال، ويعاني من شظف العيش، فراتبه الهزيل لا يسد أقل حاجيات أسرته الأساسية والضرورية، فيضطر للعمل بأحد المطاعم ليُحسن من دخله بعد انتهاء عمله الوظيفي، ويؤلمه حال ولده في هذا الشتاء القارس، الذي أصاب صدره وعظامه، وتصاحبه نوبات السعال، وحشرجات الصدر تلازمه ، ولا يفارقه الزكام، فملابسه التي يذهب بها إلى المدرسة، خفيفة، وغير مناسبة لفصل الشتاء، فيتوقف أمام " فترينة " أحد المحلات، ويروح يحدق في الملابس التي تناسب ولده، ويتخيله فيها، ويبدو بها في عينيه أكثر أناقة واكثر وجاهة من أبناء الذوات، ولم لا وهو أكثر منهم ذكاء ووسامة، ولكن أسعارها تصعقه صعقا، يتحسس الجنيهات القلائل التي في جيبه، فتتهاوى أحلامه، وينزل إلى أرض الواقع، ويبيت النية ويعقد العزم على الشراء من سوق الجمعة، وبينه وبين نفسه يعتذر لولده :

( اعذرني يا ولدي، فأبوك " فقري " كما يشيعون عنه، لكنه يسير بينهم – دائما – مرفوع الرأس، مرهوب الجانب، ألا يكفيك هذا ميراثا؟ ) ص 43.

وهذا حال أصحاب القيم النبيلة والأخلاق الحميدة في هذا الزمن.

6 – قصة ( أرزاق! ) ص 44 : الرجل " الأرزقي " الذي يعمل يوما، ولا يجد من يطلبه للعمل أياما، ولا تجد زوجته في الدار، ما تسد به رمقهم، فيتألم الرجل ويبكي في صمت وهو يصيخ السمع إلى معدهم التي تصرخ وأمعاءهم التي تتلوى، وفي لحظة يأسه من العثور على عمل في هذا اليوم، يتفاجأ بيد حانية، تتأبط ذراعة، ويسير به صاحبها إلى مائدة كبيرة وعامرة بالخيرات، وبرقت في ذهنه فكرة بعد أن اجترح صيامه ببعض تمرات :

( مسرعا راح يجمع من حوله ما طالته يداه من أطباق " الفوم " التي لم تجد من يلتهم ما تحويه – في كيس كبير يلازمه، ثم انسل خارجا، بينما الحوار مستعر – على أشده – بين الأفواه والأطباق ) ص 45.

( 4 )

هموم الوطن والأمة :

انشغل الكاتب في بعض قصصه بالهم السياسي، وبالهموم الوطنية والقومية. 

1 – قصة ( أزيز ) ص 48 :

ينقل الكاتب من سرادق عزاء عضو مجلس الشعب، الحوارات التي تدور همسا أحيانا، وزعيقا أحيانا أخرى بين وجهاء القوم الذين جاءوا لأداء واجب العزاء، وهذه الحوارات كاشفة وفاضحة للسياسيين ورجال الأعمال وغيرهم من صفوة المجتمع المصري : 

( هذان السمينان عن يميني يتسم حواراتهما بالهدوء

-يا باشا أنصحك تكن لما تعدي الهوجة .. الحكومة عينيها مفنجلة وودانها تسمع دبة النملة .. داري على شمعتك .. ) ص48.

هل هؤلاء من القطط السمان التي أثرت ثراء فاحشا، واستفادت من انفتاح السادات، انفتاح ( السداح مداح ) بتعبير الكاتب أحمد بهاء الدين؟ 

هل هؤلاء من رجال نهب المال في زمن مبارك، زمن الخصخصة وبيع القطاع العام بتراب الفلوس، فالبندول قد أزاح رجال الأعمال الوطنيين وأتى بأمثال هؤلاء الذين ارتبطوا مع الحكومة بزواج كاثوليكي، ولا ينفصم عرى هذه العلاقة إلا بالموت؟

ومن الحوارات أيضا :

( أما هذان المتأنقان عن شمالي، فيجري حديثهما ناعما تتخلله ضحكات خافتة ماجنة :

-أم العيال مشغولة بالعيال .. الحرص واجب يا صديقي .. طبعا فاهم ..

يهز رأسه بالإيجاب :

-طبعا طول عمرك محظوظ – آخرتك قطران .. ) ص 48.

وتتوالى الحوارات الكاشفة والفاضحة، وتدور بين الذين يجلسون خلفه :

( -استقال من الحزب بعد ما غضبوا من شُح يده .. ترشح مستقلا .. يموت إذا ابتعد عن كرسي البرلمان .. الحصانة يا عزيزي .. المفتاح السحري.

-طول عمره كان سككه شمال .. اطلب له الرحمة .. ) ص49.

2 – قصة ( أوجاع الضياع!! ) ص 33 :

يقدم الكاتب في هذه القصة جناية الحرب على الإنسان، من خلال أم وطفلها نزحا من بلدهما بسبب الحرب، ويعيشان في أحد المخيمات بالصحراء : ( وعيونهما تحتبس مشاهد خلفاها في فرارهما .. بيتهما وحديقته .. الشارع الممتد، والحارات الهابطة مع انحدار التلة .. الأهل والجيران ) ص 33.

ويرصد معاناتهما في لفح الحر القائظ صيفا في المخيم، والبرد القارص شتاء، ومعيشتهما : ( أياد تمتد إليهم بالعطايا، وأياد كسيرة تستقبلها .. تتحاشى نظرات الشفقة والرثاء ) ص 33.

وتتعلق عيونهما بالشاشة، تتابع ماتنقله الكاميرات، وما يقوله المراسلون والمحللون، وفي نبأ عاجل :

( انفجارات عاتية، ركام أسود كثيف يملأ المشهد، يحجب ماوراءه، .. )

يصرخ الصبي :

( -أماه .. أماه .. أليست المئذنة المتهاوية هذه للمسجد القريب من بيتنا؟

نعم هو .. أعرفه ) ص 34.

ومشهد جثة زوجها الغارق في دمه لا تفارق مخيلتها، فكان مطروحا على عتبة ذات المسجد الذي أطلقوا رصاصتهم الغادرة على المصلين، وأردت إحداها زوجها قتيلا.

والزوجة مكلومة بضياع الزوج وضياع الوطن، فما الذي يبقى بعد ضياعهما؟.

يقدم لنا الكاتب المرأة في هذه القصة ( مقاومة )، فالسكوت عن المقاومة في هذه الحالة طريق إلى الجنون!!.

( 5 )

محاولة السيرعلى درب المتصوفة :

لم يكن الطريق معبدا أمام المريد للوصول، فثمة حفر ومطبات، وجُدرا وأسوارا عالية، واجتيازها يحتاج إلى جهاد ومشقة.

ويستهل قصة ( حالة وجد ) ص 15 بالدرويش في حلقة الذكر:

 ( يتصبب عرقا، يتساقط من وجهه كالمطر، وهو يميل بجذعه يمنة ويسرة في حركة منتظمة تتجاوب مع دقات الدفوف وصوت المنشد : الله حي ) 

وهذه هي الصورة النمطية للكثرة الذين ينتظمون في حلقات الذكر، ومع اشتداد دقات الدفوف وتسارع صوت المنشد تتسارع وتتلاحق حركاته، حتى يغيب عن كل ما حوله من الموجودات، ويتهاوى على الأرض، وهنا يظهر له الشيخ الوقور صاحب اللحية البيضاء بابتسامته المحببه، يبشره :

(- مبروك يا ولدي .. خطوت خطواتك الأولى )

وبلل شفتيه بماء الإبريق، وناوله كسرة خبز، وقليلا من الملح.

هل يستطيع أن يواصل الطريق؟.

في قصة ( السبيل ) ص 17 تأتي الخطوات التالية والأهم، وعلاقة المريد بالشيخ، والوصول لنهاية الطريق ليس بالأمر السهل الميسور، فيسأل شيخه :

( - ماذا هناك يا مولانا؟

-السؤال واسع بلا انتهاء وعميق بلا ابتداء يا بُني، يلزمه علم كثير كثير .. )

حمل أطنانا من الكُتب والأسفار، وتزهد ناسكا في حضن النخلة، لا يكف عن القراءة والبحث والتقصي والاطلاع، ما ترك شاردة ولا واردة إلا وألم بها، ومضى بعد عام ونيف إلى شيخه يبشره، فيقول شيخه :

( - ما عرفت شيئا .. ما يُغني علمك عن عينيك .. ) 

فحلم المريد : ( العبور إلى حياة الرغد التي يهفو إليها قلبه، تلك المقيمة خلف الأستار الحاكمة )

فهل يمكن أن يجتاز ذلك البرزخ ويقف على الأسرار، ويصل؟

وهل يمكن ان يحل الله في الموجودات، يحل في شيخ ناسك وزاهد وعابد، ويكون عينه التي يرى بها واذنه التي يسمع بها ويده التي يبطش بها، إنها نظرية الحلول التي قال بها بعض العارفين، ومنهم ابن العربي، وراح يرصد ويتابع ( ذلك المُهاب الذي يسد المجاز ويحكُمُه، يحصي حركاته وسكناته، .. )

عاد لشيخه مبشرا :

( - راقبته – ما غمض لي جفن يا مولانا – يكاد يقتلني العطش، اتوق أن أبلل جفاف حلقي من إبريقك .. )

ويطلب منه الشيخ أن يعود مرة أخرى للتحقق، ويحذره من الغضب، ولكن المريد بعد هذه الرحلة الطويلة والشاقة، امتلأ بالمرارة والقنوط، غُمّ عليه دربه، واحتواه التيه، وتفرقت به السُبل ..

 ( 6 )

اغتراب الإنسان المعاصر وتشظيه والتمرد على القصة ( الموبسانيه ) :

التزم الكاتب في أكثر من ثلاثة أرباع قصص المجموعة بالقصة ( الموبسانية ) من خلال محافظته على الحدث، والزمان، والعقدة، ولحظة التنوير.

 وتأتي بعض القصص ( ربع المجموعة تقريبا ) متمردة على هذا النموذج، وفي قصته الجديدة المتمردة لا نرى بناء تقليديا، وإنما نرى أنفسنا في مواجهة حدث جاد.

في قصة ( مطاردة ) ص 51 : الرجل الذي انتفخت رأسه، وصعدت حتى قبة السماء، ثم هوت على الأرض، ويواصل الركض خلفها، ويحاول أن يختطفها قبل أن تدهسها سيارة، ولكنها تفلت منه.

= ومن قصة ( حادث دهس ) ص 53 : الرجل الذي يفشل في بيع قلمه العتيق والنادر الذي ورثه أبا عن جد يرى الناس في السوق :

( رواد السوق يسيرون على رءوسهم! فيما تحملق فيه أقدامهم، ترمقه بنظرات ساخرة مستهزأة، تؤازرها قهقهات سكارى صاخبة .. تتعالى تارة، وحين تخفت يعلو نحيب لا يعرف مصدره .. )

لماذا الرأس انفصلت عن صاحبها في قصة ( مطاردة ) ولماذا الناس في قصة ( حادث دهس ) كانوا يسيرون على رءوسهم، وكانت الأقدام هي الأعلى؟

في هذه القصص لا يقدم لنا الكاتب قصص منطقية أو يقدم لنا حدوتة متتابعة الأحداث، إنما يعالج فكرته معالجة فنية متوسلا بالصورة والحدث والمفارقة والتداخل بين الأشياء، وهذا الأسلوب التقدمي في الكتابة اقتضته ظروف معاناة الإنسان المعاصر، وإحساسه بالوحدة والاغتراب، فمن حباه الله مثلا عقلا علميا جبارا لم يعد يجد له مكانا في هذا الزمن، فالمكان والمكانة أصبحت لمن موهبتهم في أقدامهم مثل لاعبي كرة القدم، والقلم رمز العلم لا يجد من يشتريه، بل دهسته الأقدام!!

إنه اغتراب صاحب العقل في وطنه، الذي اختلت منظومة قيمه.

المجتمع اليوم يقدم من موهبته في قدمه ومن موهبته في حنجرته ومن موهبتها في خصرها على العالم والفيلسوف والأديب والشاعر والفنان التشكيلي وغيرهم من الذين يعانون وأصبحوا غرباء في أوطانهم، فالقدم صارت في الأعلى والرأس في الأسفل، وتم دهس القلم بالأقدام!!

= وفي قصة ( حالة تلبس ) ص 22 : فقاعة صابون من الفقاعات التي يلهو بها الأولاد على الشاطئ، تتلبسه، وتصعد به إلى السماء، ويرى عجبا، وينقله لنا عبر الرحلة الغرائبية :

( في كبد السماء تراءت لي الأرض بكامل استدارتها .. تتباعد شيئا فشيئا، وجيوش الظلمة تتقاطر حولي تملأ الفراغ .. )

( انفجار رهيب مفزع ذاك الذي دوّى حين احتكت الفقاعة بنهاية الغلاف، فقذفني إلى فراغ سحيق )

( يختطف بصري جسم ضخم، كأنه جمرة عظيمة يهوي مخترقا نحو الأرض، فأتتبعه .. اصطدام هائل أراه ولا أسمع له صوتا، بدا لي عمودا عملاقا من أحجار وركام – تتخلله أجسام وأشياء لم أتبينها – يتصاعد مخلفا فجوة عميقة مستعرة باللهب، ربما باتساع قارة كبيرة، .. )

( شاهدت أقواما – لا حصر لهم – مجللة بالسواد تتطاير ثم تهوي، ومسوخا مخيفة تلاحقهم .. )

( أتفقد ما حولي من أجرام بكافة الأشكال والألوان والأحجام .. النور والظلام صنوان لا يفترقان هنا .. )

( كل يسبح في مساره بانسياب وهدوء وسلام، إلا هذه المصنوعات البشرية!!، أينما يممت أرى عجبا .. أقمار ومركبات وأجسام غريبة أجهلها، تنفر – فجأة – من مداراتها، وتختفي في غمضة عين .. )

( أُخريات – وبلا مقدمات – تفتك بعضها البعض، فتتناثر حُطاما يسبح في الفراغ .. في مدى بصري أرى مركبات عملاقة – وكأنها ثعبان موسى – تتمدد من بعضها أذرع  ضخمة مخيفة، فتلقف ما يعنّ لها، وتسحبه – إلى جوفها – غنيمة .. )

هل محاولة غزو الإنسان للفضاء بصواريخه ومركباته سيكون له الأثر السيء على الكون؟، هل تدخل الإنسان يفسده، ويختل توازنه ونظامه الدقيق؟

القصة تثير العديد من الأسئلة.

وتأتي لغة هذه القصص مكثفة، لا تخضع لقواعد لغة البلاغة التقليدية، ويحاول جادا أن يُدخل قارئه في عالم قصته، ويورطه فيها، ويجعله شريكا معه في انتاج النص، فيترك فضاءت كثيرة وعلى القارئ أن يقوم بملئها، وهذا ما نادى به ( رولان بارت ) وغيره.

هذه النماذج القصصية المتمردة في المجموعة، ترينا أقكار الكاتب التقدمية، ومعالجاته غير التقليدية، فيقوم بتقطيع الحدث، وتفتيته أحيانا، واستعمل الحوار بذكاء، والأهم أنه سعى إلى تحطيم الحدوتة نفسها!.

وليست ( الحدوتة ) وحسب هي التي أخرجها من المتن، فأخرج أيضا ( الحدث، والحبكة، ولحظة التنوير ) وغيرها من مكونات القصة التقليدية.

والكاتب استفاد في هذه القصص من تجارب تيارات الحداثة، فاستطاع أن يمزج الشخص في المكان والزمان، ويشكل من خلال تقاطع هذه الخطوط  إضاءة قوية لتجربته القصصية، ووضع قارئه بداخلها، كي يرى ويسمع ويلمس ويشارك ويعيش بالكلية مع النص.. لا أن يقف على الهامش!.

 ( 7 )

التناص واسترفاد التراث :

يسترفد الكاتب من مصادر التراث العديدة والمتنوعة :

أ – التراث الديني : يبدو تأثر الكاتب بالقرآن الكريم، وتناثرت ألفاظه في ثنايا قصص المجموعة، وتناص معها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر : " ثم ولى ولم يعقب " ص13.، " يتوجس منهم خيفة " ص20، " وكأن على رءوسهم الطير  ص 24"، " توقفوا قبل أن يعودوا سيرتهم الأولى " ص36، " قبل أن يعودوا سيرتهم الأولى " ص 37، " أتوارى من القوم " ص 49، " وقد وهن العظم مني " ص54، " يعود سيرته الأولى " ص 54، "، " عادت سيرتها الأولى " ص 56.

= ويأتي عنوان قصة ( قبل الطوفان .. بعد الطوفان ) ص 19 ليثير الأسئلة، فالطوفان دال على ( نوح ) عليه السلام، وهو الأب الثاني للبشرية، والقصة تنبئ في نهايتها بطوفان آخر قادم :

( - لا فائدة .. لا فائدة .. رُدُّني إلى مأمني؟

" تلك كانت آخر صرخاته قبيل أن يغمرهم الطوفان من جديد .. وآخر ما دونت " ) 

ووازن الكاتب ببراعة بين البشرية في زمنها الأول، حيث كان الإنسان يعيش في الكهوف، والبشرية اليوم التي أصبح ( العلم ) هو دينها الجديد، والبعثة العلمية التي عثرت على كائن بشري يعيش في أحد الكهوف، اختلفوا فيما بينهم حول عمره، وحملوه إلى معاملهم :

( أشبعوه فحصا وتحليلا، من شعر رأسه حتى أظافر قدميه .. استنفروا لمكنونه أحدث أجهزتهم .. حين سرى الإشعاع تحت جلده، وتدفقت الموجات تخترق جوفه، تململ الجسد، ثم اهتز .. يشتد، يتصاعد بى انقطاع .. شهقة عاتية مدوية تندفع إلى رئتيه، ينتفض – على إثرها – جالسا، .. )

وبعث هذا الكائن البدائي من جديد، ومجابهته بهذا العصر وعلومه، كان له بالغ الأثر السيء على نفسه، وعلى سلوكه وتصرفاته، فأخضعوه بصرامة، وبلا إنسانية، لأحدث ما وصل إليه العلم من نظريات وتقنيات حديثة، تقيس كل شيء بدقة، إن اتخاذ العلم إلها لهذا العصر، سيكون السبب في قدوم طوفانا أخر!!.

ب – من التراث الفرعوني :

قصة ( أصداءُ البردي ) ص 58 :

يستعيد الكاتب لنا في هذه القصة أسطورة إيزيس وأوزوريس، ليصدمنا بالواقع الآني، والإشارة في نهاية القصة إلى النيل الغاضب والحزين من حفدة إيزيس وأوزوريس!!.

ج– التراث الفني وخاصة الرسم والفن التشكيلي، ففي قصة ( نظرة .. فابتسام .. ) يتماهى الكاتب مع لوحة الموناليزا للفنان العالمي ( ليورنادو دافينشي ) وهي من أشهر اللوحات.


د– توظيف التراث الموسيقي الشعبي في قصة ( الناي و المزمار )، فالناي في يد الشاب ( سالم ) هي الأداة الأنسب للتعبير عن الحزن والشجن، وعذابات الحب ولوعة الفراق، وحرمانه من حبيبته التي زوجها أبوها لغيره، وهذه الأله هي التي امتصت الكثير من أشجانه وأحزانه، وربما كانت بديلا لهذا الشاب القروي عن الانتحار، لفقده ليلاه، وفي المقابل يأتيه مشهد فرح ليلى عبر دقات الدفوف وصوت المزمار، لتعمق جراحه، وأحزانه، وكان الكاتب بارعا في الجمع بين الصوتين صوت الناي وصوت المزمار.

 ( 8 )

العناوين :

جاءت عناوين قصص المجموعة جيدة، باستثناء أربع عناوين، وهي :

أ -  عنوان قصة ( الزغلولة .. نخلة جدي )، إضافة نخلة جدي إلى الزغلولة جعل العنوان فاضحا وكاشفا من البداية للنص، ولو اكتفى الكاتب بالزغلولة لكان أوقع، والقارئ لن يكتشف أن الكاتب يتحدث عن النخلة إلا من السطر الأخير في الصفحة الأولى، وحذف النخلة من العنوان يجعل القارئ أولا في شوق لمعرفة تلك الشجرة التي يتغنى بها، وثانيا مراوغه الكاتب لقارئه على مدى صفحة كاملة وعم كشفه عن كنه تلك الشجرة لا تصريحا ولا تلميحا يثير عقله ويشعل خياله، وثالثا اكتشافه لها بعد مدة لا بأس بها من القراءة من خلال إشارته إلى العراجين وصعوده إليها صبيا لجني بعض البلحات التي كأقماع السكر، كل هذا يجعل المتلقي الذي كان يلهث في القراءة، يتوقف ليلتقط أنفاسه، ويستعيد النخلة، وربما يعاود قراءة الصفحة الأولى مرة أخرى التي راوغه الكاتب فيها، لتصبح النخلة لدية لبنة رئيسة من لبنات النص، وعتبة مهمة، ويواصل القراءة وهو يبحث عن دلالتها ورمزيتها، فهي قديمة قدم القرية، وشاهدة على تحولاتها، وما أصابها من عطب ومرض أصاب القرية كلها بشرا وحجرا، واستدعاء أهل العلم والخبرة لعلاجها حتى لا يغيبها الزمن وتسقط هي الأخرى من البندول، هي صرخة من الكاتب لإنقاذ الحجر، والبشر الذي أصابه العطب.

ب - عنوان قصة ( عم مهران .. الحاذق ) كنت أتمنى أن يحذف الكاتب أيضا كلمة (الحاذق ) ويدع قارئه ليكتشف بنفسه كم كان العم مهران ماهرا وحاذقا وخبيرا وعالما.

ج - عنوان قصة ( بقايا مهترأة ) كان من الممكن استبداله بعنوان آخر، وليكن ( عذراء المرفأ ) وهي جملة مفصلية وردت في متن النص، وهذه العذراء هي البطلة، والتي بنى عليها الكاتب الحكايا، وتستحق أن تحمل القصة اسمها.

د - قصة ( رسائل بائسة ) ص 73، وهي من القصص القصيرة جدا الجياد، ولا تقل روعة ولا جمالا عن القصة القصيرة جدا الأخرى والتي جاءت تحت عنوان ( مطاردة )، ونتحفظ على كلمة ( بائسة ) في العنوان، فيمكن حذفها أو البحث عن عنوان بديل، فالأم التي ابتلع البحر وحيدها، وتذهب إلى البحر كل يوم، لتبعث له برسائلها، لا يمكن أن تكون رسائل بائسة أبدا، فهو حي في داخلها، وينمو ويكبر مع الأيام، ويحاورها كما تحاوره، فهو حاضر لديها رغم الغياب.

2 – بدايات ونهايات القصص:

القصة الجيدة كما يقول ( أنطون تيشكوف ) هي القصة المنزوعة المقدمة، ووفر الكاتب لقصصه بدايات قوية، ويدخل في الحدث مباشرة، وكانت النهايات قوية أيضا 

= قصة ( فعل علني .. ) :

يستهلها بالحدث مباشرة : ( لاحقها .. أمسك بكتفها عُنوة .. استشاطت غضبا لفعله، استدارت فلطمته، ثم صرخت تستغيث بالمارة .. ) 

= قصة ( ماكينة " داوود " ) يستهلها بصوت :

" توك .. توك .. توك .. "

وينتقل مباشرة من التعبير بالصوت إلى التعبير بالكلام واللغة :

( دفعات متتابعة من عادم وابور الطحين .. تندفع من فوهة المدخنة محدثة ذلك الصوت الرتيب المخيف .. كلما خرجت دُفعة، ارتجف لها قلبه الصغير، وازداد اختباء في حضن أمه .. ) 

وكما بدأ قصته بالصوت ينهيها أيضا بذات الصوت الذي لم يخفت صداه في أذنه منذ كان طفلا، فيذهب إلى ذات المكان شيخا عجوزا متوكأ على عصاه، ليجد برجا شاهقا انتصب مكانها، وعندما سأله أمن البناية الشاهقة عن بغيته :

( غمغم وهو ينصرف متوكأ على عصاه عائدا، يجوس بها بين الوريقات المتساقطة من أشجار الجاكارندا على الجانب المواجه وصوت الوابور يطن في أذنيه رتيبا :

" توك .. توك .. توك .. "

= نهاية قصة ( عم مهران .. الحاذق ) الذي كان يتخذ من ذراع الكوبري – الذي تقطعه القطارات – الضلع الأكبر لبناء الخص الذي كان يعيش فيه، فإذا كان الزمن قد غيبه وسقط من البندول علمه بعلوم الفلك والطب والتداوي بالأعشاب ومهارته في الحرف اليدوية وورعه وتقواه وأخلاقه الحميده وخصاله الماجدة، فإن الذاكرة الجمعية الشعبية قد أطلقوا اسمه على الكوبري الذي كان خُصه بجواره :

( وهاهي القطارات مازالت تأتي وتذهب قاطعة الكوبري الذي اسميناه باسمه .. كوبري " عم مهران " )

= قصة ( أزيز ) : وبدايتها : ( هو من فرع العائلة المنطلق إلى أعلى، وأنا من الفرع الذي تدّلى .. لم تتشابك أغصاننا يوما ..)

= قصة ( بقايا مهترئة ) : لو انتهت القصة عند  ( .. وتولي وجهها صوب الإطار المُغبر الراقد على الجدار المقابل تستقبل ابتسامة تركها يوما، وأبحر .. ) لترك للقارئ فضاءات أرحب وأوسع، ويمكن الاستغناء عن الخمسة أسطر الأخيرة بالبتر والحذف.

= نهاية قصة ( خُواء ) ص30 : 

كان من الممكن أن تنتهي بهذه الفقرة الرامزة والدالة والبديعة :

( تغبم الرؤى أمام عينيه، تحتجب المئذنة التي كانت تتراءى له من بعيد عبر شرفة طابقه الملكي في بنايته العملاقة، يضغط هلالها بفكيه .. على رقبته بلا كلل ولا هوادة، ودموع مهيضة ساخنة تتساقط مطرا مالحا تلسعه، فينقلب صارخا .. يرفع يديه، يمدها لأعلى نحو أكف خشنة يابسة لطالما ردها كسيرة يستجديها ليتشبث بها، فتتقهقر مبتعدة غير مكترثة لحالة )

والتسعة أسطر التي جاءت بعد ذلك، كانت مفسرة وشارحة، بلغة خطابية ووعظية، واللغة الخطابية والوعظية عدوة الفن الأول.

= نهاية قصة ( أرزاق ) ص 45 :

الرجل الفقير، والذي يعمل يوما، ويتعطل أسبوعا، والأولاد يتضورون جوعا، فيعود إليهم من إحدى موائد الرحمن بالطعام، ويحلق فرحا إليهم، ويسأل زوجته عن أولاده، فقد جاء إليهم برزق  كثير، فتخبره  بأنهم اكلوا وشبعوا، ويلعبون الآن مع أولاد الحارة، أنظر إلى النهاية الرائعة :

( تتقافز على وجهه المنحوت علامات استفهام بشتى الألوان، وشرر الاستنكار والغضب يتشظى من عينيه.

قبل أن يسرح خياله بعيدا، ويجنح في دروب الشك، راحت تروي له القصة .. )

وسكت الكاتب، سكت ولم يسكت، فترك لقارئه قصة الزوجة التي تحكيها لزوجها، والقارئ سيكتب قصة موازية، ولكن بطلتها الزوجة، وكأن هذه القصة حُبلى بقصص كثيرة، فكل قارئ سينسج قصة وفقا لخياله وثقافته ومعتقداته، قد يأجج قارئ الشك في نفس الزوج، وأن الزوجة تحت ضغط الفقر والعوز والحاجة وصراخ الأطفال جوعا، فاضطرت أن تاكل بثدييها!!

وقد ينحى قارئ آخر منحى مختلف، ويفترض بأن أحد الخيرين، ونحن في شهر الصوم، ويعلم بحالهم أو دلهم احد عليهم، فذهب إليهم بالطعام، فالنهاية تفعل بالقارئ الأفاعيل.

= بداية ونهاية قصة ( حادث دهس ) ص 52 مدهشة وجميلة.

= بداية ونهاية قصة ( السقوط من البندول ) ص 56 من أكثر البدايات والنهايات دهشة وجمالا!.

3 – المفارقة التصويرية :

أ – قصة ( فعل علني ) : الرجل الذي يلاحق المرأة في الشارع، ويمسك بكتفيها، فتستشيط غضبا، وتلطمه على وجهه، وتصرخ، وتستغيث بالمارة، الذين أشبعوه ركلا ولكما، ويقودونه إلى قسم الشرطة، ومن ثم إلى " سراي النيابة " وهناك يتم اكتشاف أنه زوجها!!.

ب – قصة ( نظرة .. فابتسام ) : السيدة الأنيقة ذات العيون الجميلة والنظرة الساحرة والتي تشبه الموناليزا، وكل من بالكازينو يعتقد أنها تنظر له وحده، وتبتسم له وحده، وكل يُمني نفسه، وكل يفكر في النهوض، والجلوس إلى جوارها، ويتفاجأوا برجل : 

( تبدو عليه المهابة والوقار – يخطو نحوها .. حين أدركها، ..، ضمها إلى صدره، ثم أرخى جفنيها، .. )

تتكشف المفارقة في النهاية، ولاحظ دلالة ( أرخى جفنيها ) والتي توحي بأنها فاقدة للبصر او عمياء!!

 وتتجلى المفارقة أيضا في قصص : ( قلوب ) ص 13، ( زفاف ) ص 38، ( تصاعُد .. تصدُّع ) ص : 46 وغيرها من القصص سواء كانت المفارقة كلية أو جزئية.

.........................................................

وبعد :

أرجو أن نتوقف في قراءة لاحقة على عناية الكاتب الفائقة برسم شخصياته، واستخدامه الطيب للرمز، وحواره الذي يكشف أدق خلجات النفس، وتغير طرائق السرد، وقصر الجملة التي تأتي في أغلب قصصه سريعة وخاطفة، ومزجه الجميل بين المتناقضات، وولعه الشديد بالمشاهد الكونية، وخاصة مشهد الغروب،وغيرها من الوسائل والتقنيات والحيل الفنية التي جعلت نصوصه القصصية أكثر ثراء وأكثر تألقا وجمالا!.

المجموعة القصصية ( السقوط من البندول ) للكاتب أحمد عثمان، إضافة حقيقية لفن القصة العربية، هذا الفن المخاتل، المراوغ الجميل، ويستحق كاتبها كل الحفاوة والتقدير.

..................................................................



CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق