مقاربة نقدية في رواية ( مشاعر تائهة ) للكاتب شحتة سليم




بقلم / مجدي جعفر 


استفاد شحتة سليم من دربته وخبرته في كتابة القصة القصيرة، ووظف تقنياتها في كتابة روايته ( مشاعر تائهة )، وأهم هذه التقنيات في رأيي هي الاختزال والتكثيف، فخلت روايته تماما من الثرثرة واللغو والترهل، فنجد الاقتصاد في كل شيء، وعلى قدر الحاجة، وصف المكان : المنزل، الشارع، الكلية، القرية، مقامات الأولياء، ... إلخ.

انظر إليه وهو يصف بيت عائلة بطل نصه ( رابح عبدالرحمن ):

( بيت كبير، طرازه المعماري قديم، تزين واجهته الرسومات والأشكال الجميلة، يطل على ميدان واسع بوسط البلد )

هذا الوصف الخارجي للمنزل، أما الوصف الداخلي له :

( كان البيت متعدد الطوابق، كثير الحجرات، كثير الأفراد، يموج بالحركة، تختلط فيه الأصوات، أسفله مقهى " مرجانة " الذي يستأجره عم صالح، وبجانبه يفترش "عم أبو الحسن " الرصيف لبيع الجرائد )

انظر كيف استطاع في جمل قليلة أن" يأنسن " المنزل، ويجعله يضج بالحركة والحياة، ويمكن للقارئ أن يطالع بالنص أيضا اللوحات الفنية البديعة التي رسمها الكاتب بالكلمات مثل مقامات الأولياء وزيارتها والتبرك بها.

والاقتصاد أيضا في رسم أبعاد شخصياته وخاصة البُعد الخارجي الذي يقدمه بنسب قليلة جدا بالنسبة للبُعد الداخلي: الجد، الأب، الأم، و ( رابح جاسر أحمد عبدالرحمن ) بطل النص وحبيباته : ريهام، وسلمى، وهبة، وقد استفاد أيضا من القصة القرآنية التي لا تركز على رسم الشخصية من الخارج قدر الاهتمام برسمها من الداخل، وصراعاتها، وأفعالها وردود أفعالها، وممارستها الحياة في محيطها الاجتماعي، فانصب اهتمام الكاتب على رسم الشخصية من الداخل، كما فعل مع شخصية ( رابح ) كاشفا عن الصراعات الموّارة داخل نفسه، واشتجار الأفكار وتصارعها بعقله، فيقدم لنا بطلا يعاني من أزمات نفسية خانقة، وهذا يتطلب منا في مقارتنا الإشارة ولو باقتضاب إلى المنهج النفسي، أو بالأدق مدرسة التحليل النفسي التي تأسست على يد ( سيجموند فرويد ) وتألقت على يدي تلميذيه ( يانج ) و ( أدلر )، فظواهر الإبداع في الأدب والفن عند ( فرويد ) كما يذهب الدكتور صلاح فضل ماهي إلا تجليات لظواهر نفسية، وكشف ( فرويد ) عن منطقة اللاوعي أو اللاشعور، وألقى الضوء عليها، واعتبرها المسئولة عن السلوك، كما اهتم بدراسة الأحلام التي هي تنفيس للاشعور، وتعبرعن المكبوتات في اللاوعي، وأوجزها بتعبير الدكتور صلاح فضل ( في التكثيف والازاحة والرمز ) وهذه الخصائص هي التي رصدها أيضا في الأعمال الفنية والأدبية التي قام بقراءتها ودراستها دراسات وافية وعميقة، سواء كانت لوحة تشكيلية أو قصيدة شعر أو رواية أو مسرحية، وقد أطلق أسماء بعض مصطلحاته على شخصيات من الأدب تم دراستها مثل ( عقدة أوديب ) أو عقدة ( الكترا )، وما يعنينا من مدرسة التحليل النفسي لفرويد هو الوصول إلى نتيجة مهمة، فحواها أن مرحلة الطفولة هي أخطر المراحل التي يمر بها الإنسان، فهي التي تحدد مساره في المستقبل، وتتحكم في سلوكياته، ففي السنوات الأولى تتشكل شخصيته، والطفولة هي التي تتحكم في تصرفات الإنسان طوال حياته، فالحرمان مثلا أو التجارب القاسية والمؤلمة في الطفولة تلقي بظلالها السيئة على الشخصية، وتؤرقه في حياته، ويصبح غير سوي النفس، وأزمة ( رابح جاسر أحمد عبدالرحمن ) تعود إلى سنوات طفولته، وسنرصد في عجالة بعض المواقف المؤلمة التي أثرت في شخصيته في طفولته :

1 – السخرية :

أ – السخرية من اسمه :

قبل سن المدرسة وفي الكُتّاب :

( في أول يوم وضع الشيخ حاجزا بيني وبينه، عندما سألني عن اسمي، قلت :

-رابح. اسمي رابح.

بتعجب واستنكار

-رابح؟! لماذا رابحا؟! وماذا ربحت؟!.

سكت ببراءة طفل ولم أرد، ونطق العريف :

-رابح يعني فائز يا شيخنا، اسمه فائز.

-أعلم يا متخلف رابح يعني فائزا، ولكن اسمه رابح وليس فائزا .. على أيه حال رابح. خاسر، كلها أسماء ربنا.

بسرعة البرق أذاع العريف اسمي بين صبية الكُتّاب الذين وجدوا في السخرية مني ومن اسمي تخفيفا من حدة الشيخ وقسوته أثناء مراجعة الماضي ) ص 38

وتتواصل السخرية من اسمه في المدرسة أيضا، ففي أول يوم دراسة، يسأل مدرس الرياضيات كل تلميذ عن اسمه :

( -رابح. اسمي رابح.

-رابح؟! نحن لم نبع ولم نشتر .. لازلنا في اليوم الأول .. ماذا ربحت؟!

علا ضحك التلاميذ )

( -قل الاسم بالكامل؟

-رابح جاسر

-رابح خاسر .. كيف؟

علا ضحك التلاميذ أكثر، واخذوا يتبادلون القفشات مع المعلم )

ب – السخرية من جسده الضعيف

ظل جسده الناحل وبنيته الضعيفة محل سخرية وتهكم ومصمصة الشفاه، كيف لطالب بهذه المواصفات الجسدية الضعيفة أن يلتحق بالثانوي العام؟!

( كنت صغيرا سنا وجسما، حتى إن جارنا قال ساخرا مني :

-ستكون صغيرا جدا في الثانوي )

وعندما رق مشرف النشاط لحاله وهو بالصف السادس بالمدرسة الإبتدائية، وأراد أن يدمجه مع التلاميذ، ويُكسبه الثقة بنفسه، اختاره ضمن فريق الشرطة المدرسية، واختار له أحد فصول الصف الرابع بدلا من السادس :

( وخصني بأحد فصول الصف الرابع، قائلا وهو يربت على كتفي 

-حتى تستطيع السيطرة عليهم

للأسف لم أستطع حتى السيطرة على نفسي )

2 – العقاب البدني :

الشيخ في الكُتّاب لا يكف عن عقابه بلا شفقة أو رحمة، وعصا الشيخ تترك آثارها المبرحة على جسده الناحل الضعيف، وتترك أيضا كسورا في النفس وشروخا في الروح، وضرب الشيخ المبرح جعله يهرب من الكُتّاب، ويلوذ بالسيدة ليشكو لها :

( أجلس جوار المقام ساعات طوال، أفعل كما يفعل المريدون من التعلق بشباك المقام، ولا أنسى أن أشكو لها الشيخ الذي يضربني كثيرا ويضحك مني التلاميذ )

وباكتشاف جده لهروبه وغيابه عن الكُتّاب :

( وجدت عصا جدي في انتظاري، .. )

3 – اليتم :

عرف رابح اليتم مبكرا، فمات والده ( جاسر أحمد عبدالرحمن ) وابنه الأكبر ( رابح ) دون الرابعة من العمر، وترك خلفه أيضا شقيقه الأصغر رمضان، وزوجته ( زينب ) التي عاشت معه ست سنوات فقط، هي أجمل سنوات عمرها، وعاشوا جميعا في كنف الجد وتحت رعايته.

4 – أوامر الأم وعزله عن محيطه الاجتماعي :

من الآثار السيئة لتربية الأم :

( إياك أن تكلم أحدا، إياك أن تلعب مع أحد )

( وجدت نفسي آخر الأمر أعيش في الفصل بمفردي، وحيدا، لا أصدقاء لي، الريبة والتوجس متبادلة بيني وبين الجميع ) ص 45

5 – الآباء يرسمون مستقبل أولادهم والأموات يتحكمون في الأحياء :

كان حلم جاسر أحمد عبدالرحمن لولديه أن يكون ولده الأكبر طبيبا والأصغر مهندسا، وبعد انتقاله إلى جوار ربه، أرادت زوجته زينب أن تحقق له هذا الحلم، وتمكن منها، ولن ترضى بغيره بديلا، فيوم التحاقه بالثانوي العام، تقول :

( هذه هي الخطوة الأولى في تحقيق حلم والدك، الطبيب، لن أرضى بغير الطبيب.

ثم تلتفت إلى رمضان :

-وأنت شد حيلك .. مهندس إن شاء الله، إن أردتما اسعاد والدكما في قبره واسعادي اجتهدا لتحققا أملنا فيكما )

وتلاقت رغبتها مع رغبة الجد، وفعلت كل ما بوسعها لتحقيق هذه الأمنية :

أ – إبعاده عن السياسة :

فهي تريد له أن يتفرغ للمذاكرة فقط، والابتعاد عن أي شيء من شأنه أن يبعده عن تحقيق حلمها وحلم والده، فعندما غزا صدام العراق دولة الكويت، وكان قد التحق بالثانوي، وحاول أن يبدي رأيا في هذا الغزو، صرخت في وجهه، فلم يبق على تحقيق الحلم غير خطوة، ونصحته بالابتعاد عن مثل هذا الكلام الفارغ، وعليه التفرغ فقط للمذاكرة وتحصيل الدروس، وجده هو الآخر رغم ولعه بالسياسة، يوصيه بالاجتهاد فقط في تحصيل دروسه لتحقيق رغبة والده رحمة الله عليه، وحاول اقناعها بأنه لا يريد أن يكون طبيبا، ولكن كان اصرارها شديدا على تحقيق رغبة الوالد، وعندما شكا لشقيقه الأصغر رمضان، قال ساخرا بأنه هو الآخر سيكون مهندسا طالما هذه كانت رغبة الوالد رحمة الله عليه، كما ستكون أنت طبيبا لأن هذه رغبته، فالأموات يتحكمون فينا، ويختارون لنا مستقبلنا، وعلينا أن نحقق رغباتهم!!.

ب – ابعاده عن البنات :

اكتشاف امه حبه الصبياني لريهام وهو بالمرحلة الابتدائية، وتدبيجه لها عبارات الغزل وجُمل الهيام، فثارت ثائرتها، وعنفته، وهددته بجده، إذا لم يبتعد عن هذه البنت، ويكف عن هذه الأفعال التي تعوقه عن المذاكرة، وتبعده عن تحقيق الحلم، وتتقصى بحيل المرأة أحواله مع البنات حتى بعد التحاقه بكلية الطب، وبمجرد أن عرفت بأنه يتعاون مع زميلته ( سلمى ) أثناء الامتحانات :

( زميلتك يارابح؟! أتكلم البنات وتصاحب البنات يا رابح؟! أهذه آخر التربية؟! ... ) ص 87

ج – تقليص الزملاء والأصدقاء إلى اثنين فقط :

ترفض أمه أن ينضم إلى شلة بالجامعة، وتلاحقه بالأسئلة من كلمت اليوم؟، ومن التقيت به؟، وتسأله عن كل صغيرة وكبيرة، وتحاصره بعشرات الأسئلة، ويخبرها بعلاقته بزميليه أشرف وعبدالعليم، فتقول بعد أن اطمأنت لهما :

( يكفيك الاثنان، لا تصاحب أحدا غيرهما )

6- عشرات اللاءات :

عشرات اللاءات من الأوامر والنواهي هي التي عمقت الأزمة النفسية بداخل ( رابح ) وجعلته منطويا على نفسه، ومنغلقا على ذاته، خائفا دائما ومترددا أبدا، يقول عن نفسه :

( مشاعر الخوف والقلق ، الارتياب في الجميع ومن الجميع دائما هي المسيطرة، الشعور بانك أقل من الآخرين، عبارة أنت أصغر سنا أو شكلك صغير ترن في أذني عند كل تجمع، أصبحت عائقا في الكثير من المواقف، ثقتي بنفسي ضعيفة بل تكاد تكون منعدمة، صوت أمي دائما يرن في الأذن الأخرى : لا تحدّث .. لا تلعب .. لا تذهب .. لا تصاحب .. لا .. لا .. لا .. ) ص 62

ولعل القارئ يكون قد توقف على بعض أسباب أزمة ( رابح )، ويبقى السؤال هل المنهج النفسي كان كافيا للتعامل مع هذه الرواية؟

يقول الدكتور صلاح فضل : ( قصارى ما يبلغه المنهج النفسي لتحليل الأعمال الأدبية إنما هو اضاءة بعض المناطق الخاصة في العمل الأدبي تاركا بعض المناطق – وهي الغالبية – في الظل، لأن فهمها وتفسيرها لا ينتمي إلى هذا المجال، ولا تفلح معها أدواته )

ولعلنا نكون قد نثرنا بعض قطرات الضوء من خلال هذا المنهج على بعض المناطق، ورواية شحتة سليم على قصرها واكتنازها، ولكنها في غاية الثراء، وفيها من رواية ( تيار الوعي ) التي بدأها عربيا كاتبنا الأكبر نجيب محفوظ في روايتيه اللص والكلاب، وثرثرة فوق النيل، وهي المرحلة التالية له بعد مرحلة الواقعية النقدية في الثلاثية وما قبلها، وشاعت رواية (تيار الوعي ) بعد ذلك بين الكُتّاب المصريين والعرب، وهي أصلا امتدادا للرواية النفسية، ولكنها لا تهتم بمنطقة الوعي أو الشعور، واستفادت هي الأخرى من منطقة اللاوعي أو اللاشعور التي كشف عنها ( فرويد )، وشخصيات هذا التيار عموما على وعي بأزماتهم، ويتمتعون إلى حد كبير بالذكاء، وهذا ما ينسحب على ( رابح عبدالرحمن )، فهو يعي أزمته، وهو ذكي ومتفوق دراسيا، والتحق بكلية الطب التي لا يهواها ولا يحبها، ومع ذلك كان من أوائل الكلية، ويرى الدكتور عبدالبديع عبدالله أن الهدف من كتابة رواية تيار الوعي ( الكشف عن الكيان النفسي للشخصيات. وهي لا تستقل بفنية خاصة. بل تعتمد على عدة أساليب تتباين تباينا كبيرا عن الأساليب التقليدية، وإن لم تختف تماما )

ويستخدم الكاتب فيها الوسائل التي يستخدمها الموسيقي أو الشاعر أو المصور، كالرمز والصور المتكررة أو المتصلة، ويستفيد من الفنون الأخرى، ومن أهم الأساليب المستخدمة ( المنولوج الداخلي ) وهدفه تقديم المحتوى الداخلي أو النفسي للشخصية، والاستفادة من الفن التشكيلي والسينما وغيرها.

وخلاصة القول بأن الكاتب توسل في كتابة روايته بمعظم هذه الأساليب، وسنشير إلى بعضها في عجالة في السطور المقبلة.

البطل مثقفا :

إذا كان الجد قريب الشبه من السيد أحمد عبدالجواد بطل ثلاثية نجيب محفوظ، من حيث ولعه بالسياسة والنساء، فإن رابح عبدالرحمن قريب الشبه هو الآخر من كمال أحمد عبدالجواد، المثقف الحائر في الثلاثية، وإذا كانت أسئلة كمال عبدالجواد أسئلة وجودية مثل : الله، الحياة، الموت، الإنسان، فإن أسئلة ( رابح ) تعبر عن ذات منشطرة، ونفس متشظية، وهما نموذجان لعصرين مختلفين، ونحن لا نسعى إلى المقاربة بينهما في هذه العجالة، رغم أن المقاربة مغرية، ولكن المؤكد أن ثقافة رابح هي التي جعلته على وعي بأزمته، وهذا الوعي كان أحد العوامل المساعده في انفراج الأزمة، حتى لو تأخر هذا الانفراج كثيرا، وبتتبع روافد ثقافته :

أ – مكتبة والده العامرة بنفائس الكتب.

ب – الجرائد والمجلات

( كان جدي – رحمه الله – يحب قراءة الجرائد، ومتابعة الأحداث، هذه الهواية التي سرت منه إلى والدي ثم إلىّ ) ص 41

ج – مكتبة المدرسة

د – مكتبة الكلية

( معظم الوقت أقضيه في مكتبة الكلية، قراءة دواوين الشعر في عصوره المختلفة، روايات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس، بدأ الأدب وقراءة الأدب تأخذني من الطب ودراسة الطب ) ص 109


التطهر بالكتابة :

لماذا نكتب؟

هل نكتب لأننا نملك شهوة الاصلاح كما يقول صلاح عبدالصبور، ونريد أن نغير العالم.

لا يدعي رابح عبدالرحمن الذي ضبطته أمه متلبسا بفعل الكتابة، فعنفته لأن هذا يشغله عن الدراسة، وعن تحقيق حلم والده بأن يكون طبيبا، لا يدعي بأنه يريد تغيير العالم، ولكنه يكتب لأنه مأزوما نفسيا، وهو على وعي بأزمته ويريد لها أن تنفرج، فهو يريد من خلال الكتابة أن يقوم بتشريح نفسه التي بين جنبيه، مثل الطبيب الذي يقوم بتشريح الجثة ليجتث الألم، فهل يمكن من خلال الكتابة أن يجتث ذلك الألم النفسي؟ فهو ينقب داخل نفسه مثل عالم الآثار كما يقول للبحث عن أشياء مفقودة، وهو يقاوم بالكتابة :

( وللكتابة نداء خفي كأنه وساوس الشياطين، تأخذك إلى عوالم أخرى كثيرة ) ص 19

ويشبهها بالنداهة :

( تأخذك إلى عوالم بعيدة ) ص 19

فهو يكتب ربما ليجعل الحياة ممكنة وأكثر احتمالا، فهو يكتب الخواطر والشعر، وهي دالة على مواقف عاشها، وتعبيرا عن مشاعر حب في مراحل عمره المختلفة، يكتب ليفضفض :

( الكتابة هي الفضفضة مع النفس لاسترجاع الماضي بذكرياته، تلك التي تطاردني في اليقظة والمنام ) ص 21

ويضيف :( هي نوع من محاسبة الذات )

وهي :( كشف المستور، والتقليب في الدفاتر القديمة )

وهي أيضا :( التنقيب كما يقول علماء الآثار، ربما أجد شيئا ذا قيمة )

( هي رفع النقاب عن هذه النفس وكشفها )

كان الكاتب موفقا غاية التوفيق، عندما وضع بطل نصه ( رابح عبدالرحمن ) في مقطعه السردي الأول في مواجهة مع ماضيه، ويتعرف القارئ عليه مثقفا واعيا لأزمته، ولم يلجأ إلى الطبيب النفسي لمساعدته، ولكنه بممارسة فعل الكتابة بدأ يتطهر ويبرأ من علله النفسية حتى لو استمرت بعضها معه حتى منتصف العقد الخامس.


سيرة ومسيرة عائلة ( رابح عبدالرحمن ) وسيرة ومسيرة الوطن :

الفن اختيار من الواقع، واختار كاتبنا من واقعنا المعاصر أحداثا مرت بالوطن وكان لها الأثر الكبير في تحولات الوطن، وكان لها تأثيرها على الشخصية المصرية، وعكس هذه التحولات من خلال عائلة تمثلت في ثلاثة أجيال، جيل الجد، وجيل الأب، وجيل الحفيد ( رابح عبدالرحمن )، وأهم هذه الأحداث التي أوردها الكاتب في إيجاز غير مُخل، هي :

1 – ثورة 1919م

2 – حرب فلسطين 1948م

3 – ثورة يوليو 1952م

4 – هزيمة يونيو 1967م

5 – موت الزعيم جمال عبدالناصر

6 – تولي السادات الحكم.

7 – حرب أكتوبر

8 – حادث المنصة الشهير


9 – اتفاقية السلام في ( كامب ديفيد )

10 – غزو صدام العراق للكويت.

وعائلة ( رابح عبدالرحمن ) عائلة وطنية بامتياز، فالجد من عشاق ومريدي عبدالناصر، وشارك كمقاول أنفار في بناء السد العالي، وشارك في حرب فلسطين، وكان له بطولات خارقة، وباع ميراثه كاملا بقريته، واشترى بيتا بوسط البلد بالقاهرة، لعله يشهد قيام الثورات، فلم يكن قد ولد حين قامت ثورة 1919م، وحين اشتعلت ثورة 1952م كان يعيش بعيدا بالقرية، ولم يشارك فيها، ويتمنى أن ينال شرف المشاركة في ثورة قادمة بعد أن استقر وعائلته بالقاهرة في بيت من البيوت الكبيرة، متعدد الطوابق، وابنه جاسر كان له شرف المشاركة في حرب أكتوبر، وساهم مع ابطال أكتوبر البواسل، في دحر العدو، وهزيمته هزيمة ساحقة، فالعائلة هي ثمرة من ثمرات ثورة يوليو، التي أفرزت الطبقة المتوسطة، وارتبطت مع الحالة الوطنية في علاقة حميمة، وتكاد تكون هذه العائلة التي تمثل الطبقة المتوسطة هي والوطن لحمة واحدة.


شخصية الجد :

قدم لنا الكاتب شخصية الجد ببراعة، فهي شخصية ثرية موضوعيا وفنيا، فالجد : ( رجل طويل القامة، واسع الصدر، عالي الصوت، خشن الملامح، مفتول الشارب، العصا لا تفارق يده، يشبه شخصية السيد أحمد عبدالجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، له هيبة، عندما تتأمله تشعر أن الأيام منحته قساوتها، قلبه معلق باثنتين : الصلاة والنساء ) ص27

وشخصية الجد تمثل شخصية ابن البلد في ذلك العصر خير تمثيل، فهو يقرأ الجرائد والمجلات، ويتابع الأخبار في الإذاعة والتلقاذ، ويتحلق حوله أصحابه بالمقهى ليحدثهم عن أحوال وأخبار الوطن، وعن بطولاته في حرب فلسطين، وعن عشقه لفلسطين، والغصة والمرارة التي بحلقة فلا يدري السبب الذي جعلهم ينهزمون في فلسطين رغم أنه وحده قتل مائة من الصهاينة، وكانوا يفرون أمامهم كالجرذان، ولا يدري أيضا السبب لهزيمتنا في 1967م، وكأن الأسباب التي تُساق لتبرير الهزيمتين غير مقنعة له، ولم تزل الأسباب الحقيقية مسكوت عنها، ولم يتم إماطة اللثام عنها حتى اليوم، ومات الجد دون أن يعرف الأسباب الحقيقية.

وعشقه للنساء لا يقل عن عشقه للوطن، فهو خبر المرأة :

( خبير بألوانهن، ومزاياهن، وعيوبهن، يعرف مواطن الجمال في كل واحدة، وكأنه نقّاد في سوق الجواري، يتباهى بمغامراته مع النساء وفحولته معهن )

وشخصيات الرواية قليلة، وتأتي شخصية الأم من الشخصيات المهمة والفاعلة في الرواية، وساهمت بنصيب وافر في تعميق الأزمة داخل ( رابح )، وجاءت شخصية الأب من الشخصيات المثالية، وهو من أبطال أكتوبر الذين تم تهميشهم بعد قرار السلام! وتم تهميش الطبقة المتوسطة كلها، وتقليصها، ومسخها وهي عماد أي مجتمع، فالمسكوت عنه في الرواية كثير، ولا شك أن القارئ قادر على قراءة المسكوت عنه في هذه الرواية.

المزج بين المتناقضات :

المزج بين المتناقضات كما يقول الشاعر والناقد الدكتور حسين علي محمد : ( هي خاصية من من خاصيات الشاعر المعاصر الذي لم يقف عبثه بالعلاقات المألوفة بين عناصر الصور عند حدود الجمع بين عناصر الأشياء المتباعدة عن طريق تراسل الحواس وغير ذلك من الوسائل الفنية وإنما يتجاوز ذلك الأمر إلى مزج المتناقضات في كيان واحد يعانق في إطاره الشيء ونقيضه، ويمتزج به متخذا منه بعض خصائصه ومضيفا عليه بعض سماته تعبيرا عن الحالات النفسية والأحاسيس المبهمة التي تتعانق فيها المشاعر المتضادة وتتفاعل )

وهذا ما يتضح في رواية شحته سليم، وخاصة في المشاهد التي تتناول الجد وولعه بالنساء ومغامراته وفحولته معهن، وخشوعه وتبتله وتضرعه في الصلاة ودموعه التي تنهمر حتى تخاله وليا من أولياء الله الصالحين.

وحيرة بطل النص ( رابح عبدالرحمن ) في محاولته الجمع بين شيئين متباعدين، ويقف بينهما حائرا خائفا مترددا، يتعلثم لسانه وترتعد أوصاله، فهو لم يزل بعد يعاني من أزماته النفسية، ففي أول يوم له بالكلية ينصحه محمود ابن شارعهم الذي سبقه إلى الكلية بعام :

( تعرف على كل الناس ثم تخير أصدقاءك، لا تكره أحدا، صاحب وتحدّث، حاور وتعلم واستفد من الجميع ) وترن في أذنه في نفس اللحظة لاءات أمه وأوامرها ونواهيها لا تصاحب، لا تصادق، لا تحدث، لا .. لا .. لا ..

والمشاهد التي يحاول ( رابح ) أن يجمع فيها بين الأشياء المتباعدة، ويفشل كثيرة، ومن هذه المشاهد مشهد الأستاذ الذي ذهب إليه والد ريهام الذي ضبط خطابا منه يعبر لها فيه عن لواعج قلبه وهمسات نفسه وفيوضات روحه وهيامه وحبه لها الذي بلغ حد الوله والعشق، ويقول له الأستاذ بعد أن طيب خاطر الرجل وأقنعه بانها تصرفات صبيانية، يقول له :

( لا تتوقف عن الحب والكتابة ) ويمنحه كراسة أخرى بدلا من الكراسة التي كان يدبج فيها خواطره لحبيبته وأخذتها أمه، وأخفتها، وعنفته، لأنه خالف تعليماتها، فلاءات أمه هي التي تكبله، وترن في أذنه باستمرار.

فالكاتب يقابل بين المشاهد المتباعدة بمهارة.

وشحته سليم اهتم بالتحليل النفسي لشخصية ( رابح )، ولهذا جاءت أفعاله أو تصرفاته لها ما يبررها، وعناية الكاتب برسم شخصية ( رابح ) عناية كاملة أفادتنا نحن كقراء في تبين سلوكه وأفعاله، وأفادتنا أيضا في تفسير سلوكياته التي قد تبدو غريبة أحيانا، واهتم الكاتب أيضا بالحوار الذي يكشف خلجات نفس بطله ( رابح )، وجاء حواره معبرا عن طبيعة شخصيته ومصورا لملامحها النفسية.


القص واللصق :

يثري شحتة سليم نصه الروائي باستخدام هذه التقنية، فهو قد يأتي بخبر أو صورة من مجلة أو جريدة، وتنتظم النص، فأنظر إاليه وهو يصف صورا لحادث المنصة من مجلة المصور :

( هذه صورة القاتل وهو يصوب بندقيته نحو الرئيس، ثم وهو يندفع نحو المنصة، صورة للمنصة وقد سادها الهرج، صورة للكراسي وقد تجمعت فوق جسد الرئيس، صورة للنائب وهو في سيارته التي كانت تجري به مسرعة )


نصوص داخل النص :

ينشر الكاتب نصوصا كاملة لمحاولات ( رابح عبدالرحمن ) في الكتابة، وهي تتراوح بين الخاطرة وقصيدة النثر، وهذه النصوص ليست مقحمة على النص الروائي، ولكنها بدت وكأنها من نسيجه المحكم، وهي مبثوثة في صفحات كثيرة في الرواية، وأشير إلى بعضها: ص 99 ( بدون عنوان )، ص 107 تحت عنوان ( طلل القلم )، ص 140 ( بدون عنوان ) وهي نص شعري عميق، هذه النصوص بحاجة إلى قراءة جادة وربطها بالمسار العام للرواية، وربطها بالحالة النفسية للبطل ( رابح )، وقد ألقت هذه النصوص على الرواية ظلالا من الرومانسية الجميلة، التي افتقدناها، وانحسرت منذ صعود تيار الواقعية النقدية على يد كاتبنا الأكبر نجيب محفوظ، وانزوت للظل تاركة للمدارس الأخرى التي تلتها سرعة الانطلاق.


الزمن :

الكاتب على وعي بالزمن، سواء الزمن الخارجي أو الزمن الداخلي، والاشارات الزمنية كثيرة تشير إليها الثورات والأحداث الكبرى والقرارات المصيرية، والتي أشرنا إليها من قبل، والاشارة الزمنية الصريحة للبطل أنه كان بالصف الأول الثانوي عندما ابتلع صدام العراق دولة الكويت، وتأجلت الدراسة أسبوعين، وكان عمره في ذلك الوقت ( 15 ) سنة، ويعود للكتابة والبحث في ماضيه وقد بلغ ( 47 ) سنة :

( منتصف العقد الخامس، كهلا أصبحت، الشيب المشتعل يملأ الرأس، التجاعيد الكثيرة تملأ الوجه، الصوت بات وهنا، منكسرا، ليس لشيءإلا تواضعا أمام سطوة الزمن )

( عندما أنظر للخلف يبدو لي الطريق طويلا مشيته في سبع وأربعين سنة )

ويستخدم تقنية ( الفلاش باك ) وهي تقنية سينمائية بالأساس، ويعود إلى مرحلة الطفولة ( وفيها تشكلت أزمته ) ويسير بالزمن تصاعديا ليس بترتيب علم نفس النمو ( طفولة، مراهقة، شباب، .... إلخ، ولكن يأتي الزمن تصاعديا وفقا لتصاعد المراحل التعليمية، الكُتّاب فالابتدائي فالإعدادي فالثانوي فالجامعة فالعمل بوحدة صحية بإحدى القرى، ثم الاستقرار بالقرية والزواج بهبة إحدى بنات القرية، والرواية لا تسير في كل مساراتها وفقا للزمن الطبيعي، ففي الأحداث الكبرى يتم اختزاله وتكثيفه، ففي سطور قليلة يختزل على سبيل المثال لا الحصر، الحقبة الناصرية :

( اتفاقية الجلاء والتأميم والصمود أمام العدوان الثلاثي، مصانع الغزل والنسيج في المحلة، مصنع الحديد والصلب في حلوان، مجمع الألومنيوم في نجع حمادي، قانون الاصلاح الزراعي وانتصاره للفلاحين الذين أصبحوا ملاكا للأراضي والبيوت، بعد أن كانوا أُجراء في أراضي الإقطاعيين، الكهرباء، والجمعية الزراعية، وبطاقة التموين، السد العالي، ...، .. )

وفي علاقاته العاطفية، قد يتوقف الزمن، وقد يمر بطيئا، وقد يمر بسرعة البرق، فهو الزمن النفسي الذي لا يُقاس بمقاييس الزمن الطبيعي.


ونشيد بلغة الكاتب وبشعريتها، وبفنيته الواثبة التي قدم من خللها للمكتبة العربية نصا بديعا وماتعا، والكاتب قادر على التجاوز والإضافة وإثراء فن السرد العربي.


المراجع :

1 – مناهج النقد المعاصر – د . صلاح فضل - مكتبة الأسرة

2 – الرواية الآن ( دراسة في الرواية العربية المعاصرة ) – د . عبدالبديع عبدالله – مكتبة الآداب 1990م

3 – جماليات القصة القصيرة ( دراسات نصية ) – د . حسين علي محمد – الشركة العربية للنشر والتوزيع 1996م.


ورقة نقدية لمناقشة الرواية مساء الأربعاء المصادف 6 / 9 / 2023م بالنادي الرياضي بمدينة كفر صقر – محافظة الشرقية

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق