مقاربة نقدية في المجموعة القصصية ( بقايا وجع ) للكاتبة مني عبدالحليم


بقلم / مجدي جعفر

تضم هذه المجموعة ( 27 ) نصا قصصيا، منها تسع قصص قصيرة، و( 16 ) قصة قصيرة جدا، وقصة واحدة طويلة ( أما بعد ) احتلت أكثر من نصف المجموعة، ( 37 ) صفحة بالإضافة إلى نص ( كلام قديم ) الأقرب إلى قصيدة نثر العامية المصرية منه إلى القصة القصيرة، ونصيب القصة الفصيرة والقصيرة جدا من المجموعة ( 30 ) صفحة.

وسنقدم في هذه العجالة قراءة مقتضبة في قصص المجموعة القصيرة والقصيرة جدا.

أولا : القصة القصيرة.

قراءة التسع قصص القصيرة في هذه المجموعة تؤكد أننا أمام كاتبة تعي الأصول التي يقف عليها فن القصة، هذا الفن المخاتل، والمراوغ الجميل..

والملاحظ  من البداية أن الإشارات الزمنية حاضرة بقوة في هذه المجموعة، بدءا من قصة العنوان ( بقايا وجع ) :

( نظر إلى ساعته المُعلقة على الحائط التي لم تتوقف منذ سنوات، وفجأة توقفت!! )

واستهلت المجموعة بقصتين يشيران إلى الحضور الزمني أيضا من العنوان ذاته، وهما : ( ثلاثون دقيقة ) و ( خمس وأربعون  دقيقة )، وليس آخر القصص التي تشير إلى الزمن، قصة ( إسقاط ) وهي من القصص القصيرة جدا الجياد، واختارتها الكاتبة لتحتل ظهر الغلاف :

( ارتجفتُ من دقاته المتتالية، ونظرت، إذ بها الثانية بعد منتصف الوجع، .. )

هل ثمة علاقة بين الوجع والزمن؟.

إن وعينا بالزمن لا يتأتى إلا كلما تقدمنا في العمر، وهو هاجس الإنسان عامة والمرأة خاصة، وإذا كانت الكاتبة قد عنيت عناية خاصة برصد وجع الأنثى، فإنها لم تغفل رصد وجع الرجل أيضا، حتى الحصان كان بطلا لإحدى القصص، رصدت فيها برهافة شديدة معاناته وأوجاعه، وفي جُل القصص اهتمت بالزمن النفسي، وكشفت من خلاله أوجاع الإنسان، في معظم فترات حياته، أنطر إليها وهي تصف بلغة فنية عالية حال بطل قصة ( بقايا وجع ) الذي حزم أمتعته ويريد أن يغادر الديار، فأزمته الحقيقية أنه يتيم الأب، ولم تصرح بذلك من البداية، ولكنها تعتمد لغة الإيحاء والتلميح، وابتعدت عن التصريح، فتبدأ قصتها :

( نطر إلى ساعته المعلقة على الحائط التي لم تتوقف منذ سنوات، وفجأة توقفت!! ) .. 

( وكأن صورة أبيه المُعلقة أعلاها قد أحرقت عقاربها )

وهي بداية مدهشة، ومثيرة للفضول والتأمل، وتحمل رمزية شفيفة، وبطل قصتها الذي ذهب والده إلى الرفيق الأعلى، وتركه وسط إخوة كُثر، ولكنه يشعربينهم  بالغربة والوحدة، ويعاني من أزمات نفسية داخلية خانقة، وبلغة فنية بإمتياز، تصوغ قصتها، وتكشف عن حال بطلها :

( أحكم إغلاق حقائبه، كما أحكم زر قميصه على ذكريات يحملها بقلبه )

( فتح درج مكنبه، تتناثر الأوراق في وجهه، كمن ترسل غضبها عليه )

وإذا كان موت الأب أحد أسباب أزماته وأوجاعه، فالحبيبة التي أسرت عقله واستعمرت قلبه ضاعفت من هذا الوجع، والكاتبة كانت بارعة في الموازنة بين ثقل همومه وثقل الحقائب التي يحملها، وفي المطار طلبوا منه إرجاع بعض الحقائب بحجة أن الوزن زيادة، وكان يرى بأن حقائبه أخف وزنا من الحقائب التي سمحوا لأصحابها بالمرور، وإتمام إجراءات سفرهم، وكأنهم لا يزنون الحقائب، بل يزنون ما بداخله من هموم وأوجاع وأحزان!!

وكان من الممكن أن تنتهي القصة عند عدم السماح له بالسفر، لكن لا أدري لماذا انحرفت الكاتبة بالقصة، وأدارت حوارا مطولا بين بطل قصتها والنادل بالمقهى، استغرق أكثر من ربع القصة دون أن يضيف شيئا للقصة البديعة، بل قد يخصم منها.

= وفي فصة ( ح ي ا ة ) ص 20 : تقدم لنا الشاب الذي يضيق ذرعا بأقوال البشر وتصرفاتهم، ويتمنى الشاب أن يخلو الكون من هؤلاء البشر الذين يعكرون صفو الحياة بأفعالهم المزرية، والأماني تسير معه منذ صغره، وتكبر وتكبر معه، ولأنه من هواة الصيد، فكان يلقي بآخر سمكة اصطادها بالنهر لتحقق له أمنيته، وظل على هذا الاعتقاد، وفي كل مرة يأمل أن تتحقق أمنيته التي وشوش بها للسمكة، وذات مرة، ربما كانت الأخيرة، تمنى أمنية، وسرها في قلبه، وتفاجأ :

( انكسر المقعد، فأوقع به على حافة النهر، ووقعت من يده سلة السمك الذي ظل يصطاده منذ الصباح الباكر .. رجع إلى بيته فارغ اليد نادما على كل الأماني السابقة! )

القصة بدأت بالأمنيات وانتهت بالندم، وكأنها أرادت أن تقول ليس بالأماني فقط يحيا الإنسان، فيلزمه مع الأمنية أو الحلم الفعل والإرادة لتتحقق الأمنية أو يتحقق الحلم على أرض الواقع.

= وفي فصة ( همسة ) ص : 33، وهي من أجمل القصص، الرجل الذي يلقي بحصانه المريض من أعلى حافة النهر، وظل ينازع الموت لثلاث أيام، حتى رق لحاله أحد المارة، فأبلغ فرق الإنقاذ، وتم نقله لعلاجه بمزرعة للخيول، وتبين الكاتبة كيف استقبله أبناء جلدته من الخيول، والحوار الراقي الذي دار بين الطبيب المعالج والحصان المريض، والذي يرفض في النهاية العلاج ويؤثر الموت ليستريح من شرور البشر.

= وفي قصة ( تكون أو لا تكون ) ص 18 : تدخل الكاتبة في الحدث مباشرة، فالشاب الصغير يريد أن يسافر وحده، ليحقق ذاته، ويختلف الأب والأم حول سفره، وتكشف آثار الغربة على الأسرة : الزوج والزوجة والابن، الابن الذي في إجازة العام الجامعي الأول ويتمرد على الواقع الاجتماعي، ويسعى لبناء شخصيته المستقلة، والرافضة لإملاءات الوالدين، والاذعان والخضوع لهما، ويريد السفر، والأب والأم سبق لهما أن جربا الغربة، وقد انفصلا بعد الغربة، ولم تفصل الكاتبة في أسباب ودواعي الانفصال، تاركة لكل قارئ أن يتخيل تلك التفاصيل، ويملأ الفراغات التي تركتها الكاتبة، وكأنها أرادت من القارئ أن يشارك معها في انتاج النص، وهذا أسلوب فني متقدم جدا في الكتابة، نادى به نقاد الحداثة وعلى رأسهم " رولان بارت ".

وجود الشاب الصغير بعد انفصالهما في كنف جده، جعله يرى ويدرك حياة جديدة ومختلفة عن الحياة التي خبرها مع والديه.

وإذا كانت قصص المجموعة تتسم بالبدايات القوية، فتأتي النهايات على نفس القوة، فأنظر إلى النهاية الجميلة في تلك القصة :

( ارتدى عباءة جده، وأزال ما فوق شفتيه من شعيرات صفراء، توجه إلى مقر المجلس العرفي الذي يرأسه جده، فوجد أبويه في الانتظار! )

= قصة ( هدف ) ص 29 : رغم الصياغة الفنية الجيدة، تظل فكرتها وموضوعها من الأفكار والموضوعات المكرورة، والتي طرحتها السينما كثيرا.

= قصة ( ورقة أخرى ) ص 35 : قصة فيها قدر كبير من الغموض، وكُتبت في ثلاثة مشاهد قصيرة ومكثفة، تجبر القارئ على إعادة القراءة مرة بعد أخرى، فالقصة لا تهب نفسها للقارئ من القراءة الأولى، ولا تكشف عن كل أسرارها، ولكنها مع كل قراءة تبوح عن سر من أسرارها، وتكشف ولو عن طرف خفي من جمالياتها، وكُتبت هذه القصة بتقنيات القصة القصيرة جدا، وسنقارب قصص الكاتبة القصيرة جدا في السطور التالية.


ثانيا : القصة القصيرة جدا.

عرف العالم كله القصة القصيرة جدا المكتملة فنيا في أمريكا اللاتينية في بدايات القرن العشرين، وأخذها الغرب عنها، وفي نهايات هذا القرن انتقلت إلى بلاد العرب، وظهرت أول ما ظهرت في سوريا والعراق وفلسطين، وتألقت في المغرب العربي، ثم وصلت إلى مصر، ونجحت في أن تفرض نفسها كجنس أدبي جديد له خصائصه وسماته، وهي لم تأت من فراغ، وإنما جاءت لتلبي حاجات إنسانية وموضوعية وجمالية، فالتطور التكنولوجي المتسارع، والعولمة، والتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والإيقاع السريع للعصر، كل هذا وغيرة أوجد هذا الفن القصصي القصير الحجم جدا، ليتلائم مع أبناء هذا العصر، عصر الفضائيات والموبايل  والفيس بوك واليوتيوب والانستجرام والذكاء الاصطناعي.

والكاتبة منى عبدالحليم قدمت لنا عددا من القصص القصيرة جدا، تشي بقدرتها الفائقة على تفوقها في كتابة هذ الجنس الجديد، الذي لا يقدر على كتابته إلا الموهوبين الأكفاء، ومن أهم سمات قصصها :

1 – القصر الشديد للحجم.

2 – الإيحاء والتلميح.

3 – الرمز الشفيف وغير المُلغز.

4 – الجُمل ذات الإيقاع السريع التي تتلاءم مع سرعة العصر.

5 – اللغة المتوترة والتي تتسم بالديناميكية، وتضج بالحركة والحياة.

6 – التقاطع مع الشعر.

7 – الانفتاح المحسوب على الفنون الأخرى.

8 – الاقتصاد المكثف للغة.

= من قصة ( إسقاط ) ص 12 :

( ارتجفتُ من دقاته المتتالية، ونظرت، إذ بها الثانية بعد منتصف الوجع، تحركت يدي بلهفة لتلتقطه، فابتعد حتى سقط أمامي وسقطت معه ذكريات .. ومازلت نائمة )

إنه الخوف من الزمن الذي يصيب الإنسان عامة والمرأة خاصة بالفزع والرعب، ويتنامى هذا الخوف كلما تقدم بها العمر، هل تنجح في إيقافه بعد منتصف العمر؟  حاولت فسقطت كل آثاره على شكل ذكريات، ولم تقم الكاتبة الصراع بين الإنسان والزمن على أرض الواقع وأثناء البقظة، ولكنها آثرت أن تقيمه في الحلم المنامي، لتبتعد عن المواجهة المباشرة وهي أكثر إيلاما وليست في صالحها، فمن القادر على غلبة الزمن؟ وهذا الزمن " البعبع " قد يتحول في الحلم إلى شيء آخر، يتشكل في رمز يُمكن الحالم من مواجهته، ويصبح الحلم في هذه الحالة تنفيسا، ومحاولة للاستواء النفسي.

 = وفي قصة ( أنا لست أنا ) ص 13 :

( ليتك تعود كي تتعرف علىّ، نعم أنت كما أنت، هذه بسمتك، هذه كلماتك، هذه رائحة مكانك، ولكن أنا .. لست كما أنا! )

يجاول القارئ في هذا النص أن يبحث عن أسباب تحولها وتغيرها، ويحاول أن يجيب عن أسئلة مثل : لم؟ ولما؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا لم تعد هي كما كانت؟.

= قصة ( خطوات ) ص 21 :

( لم تبحث عني؟ .. هذا ليس يومي، ولكن جئت من أجل عشق نام في أحضان الفضاء، وكانت أرجله في الماء. )

صورة كونية بديعة، يتماهى فيها العشق مع الكون ذاته، وتصويره بإنسان يسد الكون كله، فينام في أحضان الفضاء، وأرجله في الماء، وربما أرادت أن تشير إلى ما نعانيه وسبب أوجاعنا، وهو أن ماينقصنا هو الحب، وأن ما يجب أن نبحث عنه سواء في داخلنا أو خارجها هو بحثنا عن الحب، وتنميته ومراقبة اكتماله، ووصوله حد العشق، ووصول الإنسان إلى هذه الحالة يصبح مفردة من مفردات الكون، يتماهى مع كل الموجودات، إنها دعوة للتصالح مع النفس ومع الله ومع الكون.

= قصة ( دعاء ) ص 21 :

( أنفق آخر مليم كان بحوزته، نفذ الوقت لطول رسالته .. تفقد بعينيه المكان قبل مغادرته، تحركت الأنفس طالبة الرحمة )

ربما تشير إلى فعل الخير، وجزاء فاعله، الإنسان الذي ينفق أمواله في أفعال الخير، وعندما تنتهي رسالته في هذه الدنيا حتى لو طال عمره، فعند مغادرته إلى الرفيق الأعلى تتحرك الأنفس التي بسط يده إليها بالمال حتى آخر مليم في جيبه، ولم يقبضها أبدا، تتحرك هذه الأنفس بعد قبضه للدعاء له.

= قصة ( رؤية ) ص 22 :

( شاشات التلفاذ تملأ المكان، الكل منتظر لحظة نزول البطل من الطائرة .. مرت الدقائق ثقيلة، لأنه وصل على بعير!! )

لعبت المفارقة التصويرية دورا بنائيا مهما في هذه القصة، بل بُنيت القصة بأكملها على المفارقة، وجمعت الكاتبة بمهارة بين الماضي البعيد ورمزت إليه بالبعير، والحاضر ورمزت إليه بالطائرة وبشاشات التلفزة، والكل ينتظر البطل المخلص، وبالتاكيد الكل يرسم له صورة على غير مثال، وفقا لخيال كل قارئ، وثقافته، ورؤاه، وأيدولوجيته، وتكون المفاجأة أن هذا البطل المنتظر قادم من الماضي السحيق على بعير!!

وهذه القصة تتفق في معناها وإن اختلفت في مبناها مع قصة ( رغبة ) التي تشير إلى هؤلاء الذين تجمدت أفكارهم ورؤاهم.

= قصة ( سير ) ص 23 :

( ومضى كل في طريقه دون التفات، وبقيت آثار الأقدام في مكان واحد )

كل يسير في هذه الحياة في طريق دون أن يلتفت للآخر، وكأن على عينيه عصابة، والكاتبة أرادت أن تقول : المفروض أن طريقنا واحد، وأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وآثار أقدامنا في رحلة السير تؤكد ذلك.

= قصة ( غباء ) ص 24 : قصة مؤلمة وموجعة، فمن الغبي في هذا النص؟ هل هو أم هي؟ 

الغبي الحقيقي هو من تسبب في عدم الأمن والأمان.

( -أتريد مني شيئا قبل أن أغادر بلدي؟

-ارحلي إلى الأمان، إنها ليست بلدك)

= قصة ( قصة لم تكتمل ) ص24 :

تقدم الكاتبة في هذه القصة رؤيتان في غاية السمو، رؤية البطلة :

( من النظرة الأولى، تنازلت من أجل البقاء في عينيك شامخة، حاملة الابتسامة، مانعة نفسي من الركض وراء الحلم .. )

فالكاتبة تعبر عن الأنثى خير تعبير، وتعمق من رؤيتها في المقطع التالي :

( تحملت ان أصطف وراء القلب، حاملة زهرة في يدي فذبلت )

إنها تعبر عن المرأة نفسيا وعاطفيا وعقليا ووجدانيا، وتأتي الرؤية الأخرى لتمثل البطل، فيقول :

( أما أنا فقد زهدت بعد أن أدركت أننا ولدنا من أجل الفناء )

إنه الموت مرة أخرى، والكاتبة منحت المرأة المساحة الأكبر للتعبير عن مشاعرها، فالمراة بطبعها تميل إلى الفضفضة والبوح، وهي عاطفية بطبعها، أما هو فقد اختزلت الكاتبة رؤيته في سطر واحد، والكاتبة تقارب بين رؤيتين إحداهما تمثل القلب / المرأة، والأخرى تمثل العقل / الرجل.

= قصة ( مسافات ) ص 28 :

( وقفت على بُعد أمتار من صيحته الأولى، تضاعفت المسافة عند الصيحة الثانية، لقد أسكن الفزع قلبي، لم أعد أطيل النظر من نافذة غرفتي المطلة عليه، حيث تحمل نسماته ذكريات منتصف العمر )

تتسع الهوة بينهما، ويتملكها الفزع ويسكنها الخوف مع كل صيحة منه، تترك صيحاته غُصة في الحلق وندبة في القلب، ولم يكن أمامهما من بُد سوى الانفصال، والذي جاء في منتصف العمر.

 = قصة ( هل ) ص 32 :

الحلم الأفلاطوني المثالي الذي لا يوجد إلا في أخيلة الشعراء، ومن الصعب أن يتحقق على أرض الواقع، فيتم اجهاض الحلم ومحاولة نسيانه، فالحياة ليست بالمثالية التي نتصورها، فهي أشبه بالبحيرة  التي تعكر ماءها بأفعال البشر.

= قصة ( وعندما ) ص 37 :

من القصص الجياد التي بُنيت هي الأخرى على المفارقة التصويرية، انتظار الحبيب الذي لا يجئ والاكتشاف في النهاية زيف وعوده.


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق