هَلْ أُصيبَ هذا الزّمانُ بديمومةِ الدَّوخةٍ ولوثةِ الزَّهايمرِ،
وبداياتِ أو نهاياتِ التَّخريفِ؟!
أنظر بإمعانٍ إلى الزَّمنِ، إلى الحياةِ، ووقائع الأحداثِ، فيبدو لي وكأنَّ الزَّمنَ قد شاخَ أكثر من اللّازم، هل وصلَ إلى مرحلةِ الشَّيخوخةِ المُريعة، وإلى حدِّ التّيهِ والانهيارِ والانحدارِ نحوَ مُنعرجاتِ الضّياعِ، رغمَ كلّ ما يتوفَّر للزمنِ مِنْ تقنياتٍ وتطوُّراتٍ في سائرِ مجالاتِ الحياةِ، معَ هذا أراهُ في حالةِ توهانٍ وضياعٍ لا يخطرانِ على بالٍ، أراهُ بعيداً كلَّ البُعدِ عَنِ الأهدافِ الإنسانيَّةِ الخلَّاقةِ. هَلْ أُصيبَ هذا الزّمانُ بديمومةِ الدَّوخةٍ ولوثةِ الزَّهايمرِ، وبداياتِ أو نهاياتِ التَّخريفِ؟! أكادُ لا أصدِّقُ أنَّهُ مَعَ كلِّ هذهِ العلومِ الّتي وصلَ إليها الإنسانَ مِنْ تقنياتِ وتكنولوجيا العصرِ، وهو ما يزالُ يتخبّطُ بكلِّ قباحةٍ في تُرَّهاتِ الحياةِ، ويتشبّثُ بكلِّ ما هو دموي وغرائزي وغير إنساني، تاركاً جواهرَ الحياةِ وأرقى الأهدافِ تتلظّى في جُعبةِ النِّسيانِ. أليسَ كما يُقالُ بالاصطلاحِ الشَّعبيِّ الدَّارجِ: "المالُ وسخُ اليدينِ"، هو وسيلةٌ مِنْ وسائلِ العيشِ، لكنّي أرى إنسانَ هذا الزّمان، يلهثُ ليلَ نهارٍ خلفَ جَمْعِ المالِ بُطرقٍ لا تمتُّ نهائيّاً بإنسانيّةِ الإنسانِ، بقدرِ ما تجنحُ رؤاهُ نحوَ بوهيميّةِ الإنسانِ، وكأنَّ المالَ هو الهدفُ الأقصى لوجودِهِ على وجه الدّنيا، وكأنَّهُ جاءَ إلى الحياةِ مِنْ أجلِ المالِ فقط، ونسي أنَّ وجودَهُ أسمى بكثير مِمَّا يلهثُ خلفَهُ، فقد نسي إنسانيّتَهُ ككائنٍ سامٍ، ونسيَ جوهرَ وجودِهِ على وجهِ الدُّنيا وتشبّثَ بالقشورِ وغاصَ عميقاً في غبارِ الحياةِ، إلى أنْ أصبحَ ملطّخاً بسماكاتِ الغبارِ. وهذا الكلام ينسحبُ على سياساتِ كبارِ الدُّولِ وأصحابِ رؤوسِ الأموالِ العملاقةِ وأصحابِ القرار، وكأنَّ هدفَ الإنسانِ الأقصى هو هذا اللِّهاثُ خلفَ المالِ، ونسي هؤلاءُ أنَّ الإنسانَ هو أسمى المخلوقاتِ، فلماذا لا يُمارسُ بدورهِ أسمى المُمارساتِ على وجهِ الدُّنيا.
***
أرى إنسانَ هذا الزَّمان في أوجِ ما يشهدُهُ عصرُنا من تقدُّمٍ كبيرٍ وحضارةٍ متراميةِ الأبعادِ، ينحرفُ نحوَ مفارقاتٍ مؤلمةٍ، وبعيدةٍ عن جادةِ الصَّوابِ والخيرِ والسَّلامِ. كأنَّهُ نسي جوهرَ إنسانيَّتِهِ ووئامِهِ، وانجرفَ بكلِّ وحشيّةٍ نحو عوالمِ الحربِ والدَّمارِ، يستنطقُ عبرَ هذهِ الحروبِ أشنعَ أنواعِ العنفِ بدلاً عَن استنطاقِ العقلِ، ويُشيِّدُ فيها الخرابَ بدلاً عَنِ العمرانِ. غائصاً في ترّهاتِ الحياةِ وزخارفها الزّائلةِ، إلى أنَ غدا بعيداً عَنْ دائرةِ النُّورِ، متنكِّرًا لما وصلَتْ إليهِ البشريّةُ مِنْ رقيٍّ ومعرفةٍ، ومُحمِّلًا العالمَ أوزارَ صراعاتٍ تَطمسُ البصيرةَ قبل أن تَرى هلالاتِ النّورِ.
لقد أصبحَ انحرافُ الإنسانِ عَنْ جادةِ الصَّوابِ ومعالمِ الخيرِ والسَّلامِ، مشهدًا متشابكاً في تعقيداتِهِ، تتداخلُ خيوطُهُ السِّياسيّةُ والاقتصاديّةُ والاجتماعيّةُ والنَّفسيّةُ، حتَّى تكادُ لا تميَّزُ بدايتَهُ عن نهايتِهِ. فمنذُ أنْ انفتحَ العالمُ على عصرٍ تُسخَّرُ فيه المعرفةُ لخدمة الرَّفاهِ وتُسابقُ فيه التكنولوجيا حدودَ الخيالِ، توقَّع المرءُ أنْ تزدادَ مساحاتُ الوئامِ والتّفاهمِ والتَّناغمِ بينَ البشرِ، إلَّا أنَّ الواقعَ يكشفُ يوماً بعدَ يومٍ عكسُ ما كنّا نتوقَّعُهُ، إذْ تزدادُ الصِّراعاتُ انشراخاً، وتتنوَّعُ أشكالُ الانحرافاتِ، وكأنَّ الإنسانيّةَ تخوضُ حربًا خفيَّةً مَعَ ذاتِها قبلَ أنْ تساهمَ في بناءِ كينونتِها الخلّاقةِ.
ويتجلّى هذا الانحرافُ من خلالِ تعطُّشِ بعضِ الدُّولِ والجماعاتِ إلى فضاءِ القوَّةِ والنُّفوذِ، حيثُ يتمُّ استغلالُ التقدُّمِ العلمي لتطويرِ أدواتِ الدَّمارِ بدلاً عن أدواتِ البناءِ، فيتحوّلُ العقلُ البشريُّ إلى مهندسٍ لحروبٍ تلتهمُ البشرَ والشَّجرَ وكلَّ أنواعِ الاخضرارِ. وتُصبحُ المصالحُ الضيّقةُ، السَّياسيّةُ والاقتصاديّةُ، وقودًا لهذه الصِّراعاتِ الَّتي تكتسحُ الحدودَ والجغرافيا، ولا تُصغي لصرخاتِ الأبرياءِ والَّذينَ يجنحونَ نحوَ السَّلامِ، ولا تعبأْ بمنجزاتِ الحضارةِ البشريّةِ الَّتي وصلَتْ إليها على مدى قرونٍ مِنَ الزِّمانِ، وكانَ يُفترضُ أنْ تُطفئَ جذوةَ العنفِ لا أنْ تُؤجِّجَها.
ويزدادُ الإنسانُ انحرافاً، على المستوى الاجتماعي، حينَ تُستبدَل قيمُ الرَّحمةِ والمسامحةِ والعدلِ بروحِ التَّنافسِ المَحمومةِ، وحينَ يفقدُ الفردُ بوصلةَ العبورِ في فضاءِ القيمِ الأخلاقيّةِ وسطَ شراهةِ الاستهلاكِ والبحثِ المحمومِ عن الامتيازِ والمكانةِ، نرى كيفَ تتفكَّكُ الرَّوابطُ الإنسانيّةُ تفكُّكاً مُشيناً، وإزاءَ هذا التفكُّكِ والانهيارِ في القيمِ، ينشأُ العداءُ المميتُ بينَ فئاتِ المجتمعِ بدلاً عن التَّعاونِ، وتتحوّلُ علاقةُ الإنسانِ بالإنسانِ إلى علاقةِ صراعٍ دفينٍ، قائمةٍ على العنفِ والعنفِ المضادِّ بطريقةٍ مأساويةٍ موغلةٍ في أشنعِ الممارساتِ. وتنعكسُ هذهِ الحالاتُ الانشراخيّةُ على المستوى النّفسي انعكاساً ساحقاً، لأنَّ ضغوطَ الحياةِ الحديثةِ رغمَ رخائِها الظَّاهري، تدفعُ الكثيرينَ إلى الاغترابِ الدَّاخلي، حيثُ يتقاطعُ الشُّعورُ بالفراغِ مَعَ البحثِ المتعثّرِ عن ماهيّةِ وجوهرِ الوجودِ، فتتولدُ حالاتٌ مِنَ التَّوتَّرِ والكراهيّةِ. وفي غيابِ المصارحةِ الذَّاتيّةِ والوعي العميقِ، تتحوّلُ هذهِ الاضطراباتُ إلى سلوكيَّاتٍ مُنحرفةٍ، تُفاقِمُ مِنْ ضراوةِ الصَّراعاتِ بين الأفرادِ والمجتمعاتِ، وتُعزِّزُ إنشراخَ الإنسانِ مَعَ ذاتِهِ قبلَ إنشراخِهِ مَعَ الآخرينَ.
وأرى إزاءَ هذا التَّوهانِ عَنِ الذَّاتِ، أنَّ أكبرَ تحدٍّ يواجهُهُ إنسانُ اليومِ هو أنْ يُعيدَ اكتشافَ إنسانيَّتِهِ، وأنْ يترفّعَ عن تلكَ النّزعاتِ الّتي تدفعُهُ نحوَ الخرابِ، وأنْ يُرمِّمَ الجسورَ المتصدِّعةَ بينَهُ وبينَ أخيهِ الإنسان، ويجاهدَ في معالجةِ ذاتِهِ المعطوبةِ، قبلَ أنْ ينهارَ ما تبقّى مِنْ صرحِ الحضارةِ الَّتي شُيّدَتْ بعرقِ الأجيالِ وروحِ السّلامِ. وأرى أيضاً أنَّ ما وصلَ إليهِ الإنسانُ اليومَ مِنْ تشابكاتٍ وتناحراتٍ مع بني جنسِهِ، يُجسِّدُ مفارقةً كبرى في مسيرةِ الحضارةِ البشريّةِ، فكلَّما اتَّسعَتْ رؤاهُ وقدراتُهُ على الفهمِ والتّواصلِ والتّطويرِ، ضاقَ صدرُهُ في فضاءِ التَّعايشِ والاختلافِ.
لقد أصبحَ الإنسانُ يعيشُ في زمنٍ تتقاطعُ فيهِ الثَّقافاتُ والأفكارُ والاعتقاداتُ على نحوٍ لم تعرفْهُ البشريَّةُ من قبل، ومَعَ كلِّ هذهِ التَّقاطعاتِ بينَ الثَّقافاتِ، تتَّسعُ الهوّةُ بينَ البشرِ بدلاً مِنْ أنْ تضيقَ. وكأنَّ العالمَ، على رحابتِهِ، ضاقَ بما في النُّفوسِ مِنْ خوفٍ، وبما في العقولِ مِنْ تعنُّتٍ، وبما في السِّياساتِ مِنْ جشعٍ وأطماعٍ. وإنّ ما يدعو للأسفِ أنّ كثيرًا مِنْ هذهِ الصِّراعاتِ لم ينجمْ عَنِ العجزِ أو الحاجةِ، بل نجمَ عن سوءِ الإدارةِ، والجشاعةِ، وغيابِ العدالةِ، واحتكارِ الحقيقةِ من قبِل فئاتٍ مُعيّنةٍ، ترى في اختلافِ الآخرِ تهديدًا، لا إثراءً وتطويراً وتحديثاً.
ومع هذا، فإنَّ الصُّورةَ الّتي تلوحُ في الأفقِ، ليسَت قاتمةً بالكاملِ؛ فهناك في المقابلِ ملايينُ البشرِ يعملونَ ليلَ نهارٍ، من أجلِ توطيدِ دعائمِ السّلامِ والعدالةِ والحرّيّةِ والمساواةِ، ويؤمنونَ بأنَّ الإنسانَ وُجِدَ ليعمِّرَ، لا ليُدمِّرَ؛ ليبني، لا ليهدِّمَ. وما وصلَ إليهِ الإنسانُ اليومَ ليسَ قدَرًا حتميًّا على البشرِ، بَلْ جاءَ نتيجةَ خياراتٍ تراكمَتْ على أيدي المستغلِّينَ، والمناهضينَ للحياةِ الكريمةِ، ويمكنُ استبدالُها بخياراتٍ أخرى، إذا امتلكَ الإنسانُ شجاعةً لمواجهةِ الذّاتِ أولاً، والاعترافِ بأخطائِهِ، وإعادةِ ترتيبِ أولوياتِهِ، بناءً على قيمٍ أعمقَ مِنَ المصالحِ الآنيّةِ الجشعةِ والصِّراعاتِ العقيمةِ. ويمكنُ أنْ يحقِّقَ الإنسانُ أرقى الأهدافِ، شريطةَ أنْ يسعى إليها بصدقٍ وإخلاصٍ، ويَعدَّ الآخرينَ امتدادًا لذاتِهِ لا أنْ يعدَّهم أعداءً لهُ. ولكي يحقِّقَ هذهِ الطُّموحاتِ والأهدافَ، عليهِ أنْ يخرجَ مِنْ دائرةِ الاعوجاجاتِ والانحرافاتِ الَّتي يتخبّطُ فيها، ويبذلُ قصارى جهدِهِ، جنباً إلى جنبٍ مَعَ مَنْ يرفعونَ لواءَ السَّلامِ والوئامِ والتَّعاونِ بينَ البشرِ. ولكي يتمكَّنَ الإنسانُ من قيادةِ الفكرِ الخلّاقِ نحوَ بوَّاباتِ السَّلامِ والوئامِ، لا بدَّ مِنْ مقاربةٍ شاملةٍ بكلِّ الاعوجاجات لمعالجةِ جذورِ الخللِ والانحرافاتِ، ويمكنُ تحقيقُ هذهِ الأهدافِ من خلالِ إعادةِ بناءِ الوعي الإنساني عبرَ التّربيةِ السَّليمةِ على كافّةِ المساراتِ، ولا يمكنُ تحقيقُ سلامٍ دائمٍ بعقلٍ لم يتربَّ على احترامِ الإنسانِ لأخيهِ الإنسانِ، ولهذا ينبغي أنْ تقومَ التّربيةُ منذُ الطُّفولةِ وتستمرَّ حتّى مراحلِ التّعليمِ العليا على أنْ تنمِّي قيمَ التَّعاونِ بدلاً عن إثارةِ التَّنافساتِ والصِّراعاتٍ العمياءِ بينَ البشرِ، والترِّكيزِ على زرعِ التَّعاليمِ التَّربويّةِ المفيدةِ للجميعِ كي يتمكّنَ المرءُ مِنْ حلِّ النّزاعاتِ بطرقٍ حضاريّةٍ وإنسانيّةٍ راقيةٍ. وكلُّ هذا يساهمُ في ترسيخِ ثقافةِ الاختلافِ بينَ الشُّعوبِ، وأنَّ الحقيقةَ ليسَتْ مُلكًا لطرفٍ واحدٍ دونَ غيرِهِ. وهذا يؤدّي إلى تعزيزِ التَّفكيرِ النَّقدي الّذي يؤدِّي إلى التَّطويرِ نحوَ الأفضلِ، ويتحرّرُ الإنسانُ مِنَ التَّعصُّبِ والانغلاقِ على الذّاتِ. فالعقلُ الواعي هو الحصنُ الأوّلُ ضدَّ العنفِ والانحرافِ. وهو الَّذي يقودُنا إلى تحقيقِ العدالةِ الاجتماعيّةِ وإلغاءِ الفوارقِ بينَ أفرادِ المجتمعِ، لأنَّ أغلبَ الصِّراعاتِ المنتشرةِ في العالمِ، ليسَتْ وليدةَ الشَّرِّ، بَلْ هي وليدةُ الظُّلمِ والحرمانِ واللّا مساواةِ بينَ البشرَ. وعندما يشعرُ الإنسانُ أنّهُ مهمَّشٌ، تنبثقُ النِّزاعاتُ وتُصبحُ هي لغتُهُ الأخيرةُ. ولهذا يجبُ توفيرُ الفرصِ الاقتصاديّةِ والتَّعليميّةِ بالتَّساوي لجميع أفرادِ المجتمعِ مِنْ دونِ أيِّ تمييزٍ، وبناءِ أنظمةٍ قانونيّةٍ تُحاسِبُ القويَّ قبلَ الضَّعيفِ. وتوزِّعُ الثَّرواتِ بما تحفظُ كرامةَ الإنسانِ. لأنَّ العدالةَ ليسَتْ فضيلةً فحسب؛ إنّها شرطٌ من شروطِ تحقيقِ السَّلامِ. ولا بدَّ مِنْ تعزيزِ الحوارِ بينَ الثَّقافاتِ والأديانِ، لأنَّ الخوفَ مِنَ الآخرِ غالبًا ما يكونُ مُنبعثاً مِنَ الجهلِ بِهِ، ولذلكَ فإنَّ الحوارَ الحقيقيَّ الصَّافيَ الخلّاقَ، يزيلُ الخلافاتِ، ويُعيدُ الإنسانَ إلى إنسانيتِهِ، ويفتحُ الحوارُ لنا الأبوابَ المغلقةَ بكلِّ سلاسةٍ، ويؤكّدُ لنا أنَّ الاختلافَ ليسَ تهديدًا، بَلْ مصدرَ تنوّعٍ وثراءٍ. ولا بدَّ مِنَ التَّأكيدِ على بناءِ أنظمةٍ سياسيَّةٍ رشيدةٍ ومسؤولةٍ، لأنَّ الصِّراعاتِ الكُبرى بينَ الدُّولِ تُصنعُ في غرفِ السِّياسةِ المعتمةِ، بعيداً عنِ الأضواءِ. ولهذا لا بدَّ مِنْ إيجادِ قياداتٍ سياسيّةٍ شفافةٍ، بعيدةٍ عَنْ لُغةِ الاستبدادِ، تعملُ على خدمةِ الإنسانِ لا خدمةِ المَصالحِ، على أنْ تعطيَ هذهِ السِّياساتُ الأولويّةَ للسلامِ والتّنميةِ والحفاظِ على كرامةِ الإنسانِ أينما كانِ!
وعندما تُصبحُ السُّلطةُ خادمةً للمجتمعِ، لا سيّدةً عليهِ، تنتفي الحروبُ وتتلاشى الصِّراعاتُ بينَ البشرِ. وعلى سياساتِ الدُّولِ أنْ تركّزَ على استثمارِ فضاءِ الإبداعِ وآفاقِ التَّنويرِ الثَّقافي للارتقاءِ بالحياةِ نحوَ أرقى بهاءِ العمرانِ، لا نحوَ شراهاتِ التَّدميرِ، لأنَّ استثمارَ الفكرِ الخلّاقِ هو الَّذي يقودُنا إلى أرقى مستوياتِ الحياةِ والعيشِ الكريمِ. ولهذا ينبغي أنْ ندعمَ كلَّ أنواعِ الفنونِ والآدابِ الَّتي تُجسّدُ تنويرَ حياةِ الإنسانِ وتُحقِّقُ مآربَ الإنسانِ في جميعِ أصقاعِ الدُّنيا، ونبثُّ هذهِ الطُّموحاتِ عبرَ الإعلامِ المسؤولِ الَّذي يُضيء العقولَ بدلاً مِنْ أنْ يؤجِّجَ النِّزاعاتٍ. وكلُّ هذهِ الآفاقِ تقودُنا إلى تحقيقِ وتعزيزِ الصّحةِ النَّفسيّةِ والاتزانِ الدَّاخليِّ والتَّأمُّلِ العميقِ معَ الذَّاتِ، فلا سلامَ خارجي دونَ سلامٍ داخلي.
وكلُّ هذا يقودُنا إلى التَّركيزِ على تجديدِ مفهومِ الإنسانيّةِ المشتركةِ، لأنَّ التَّرابطَ الإنسانيَّ هو حجرُ الزَّاويةِ في ترسيخِ فضاءَاتِ السَّلامِ. وإنَّ الخروجَ مِنَ الفوضى والانحرافاتِ والصِّراعاتِ والحروبِ، ينطلقُ مِنْ عدَّةِ مساراتٍ ورؤى وتوجُّهاتٍ كما أشرنا آنفاً، وهكذا فإنَّ التَّحوّلَ الحضاريَّ يبدأ مِنْ داخلِ الفردِ ويتمدّدُ إلى المجتمعِ والدَّولةِ والقارّاتِ والعالم. والإنسانُ قادرُ على تجديدِ وعيهِ وفكرِهِ ورؤاه، واستعادةِ أخلاقِهِ، وتفعيلِ طاقاتِهِ الإبداعيّةِ، ويستطيعُ أنْ يحوّلَ هذا العالمَ مِنْ مسرحِ صراعاتٍ إلى فضاءِ تعاونٍ وتآخٍ وتضامنٍ. فالسَّلامُ ليسَ هديَّةً، بلْ اختيارٌ يوميٌّ ورسالةٌ متكاملةٌ، تُبنى على أسُسٍ متينةٍ خطوةً خطوةً وجيلًا بعدَ جيلٍ.
ستوكهولم: 4. 12. 2025
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
رئيس تحرير مجلّة السَّلام الدولية



0 comments:
إرسال تعليق