شكرا ً جزيلا ً أخي وصديقي الغالي الشاعرالأديب المجلي و المهندس الأستاذ محمد الحسن فدراستك لكرم الغزل ذات أسلوب نقدي أدبي متفرد ومميز بتحليله ، واليوم دراستك ناي بلا حنين دراسة نقدية تغوص في أعمق الأعماق لتكشف اللآلئ ، وتضيء على جوانب عديدة بقدرة فائقة واستيعاب عميق للدلالات التي أعطيتني من خلالها أكثر مما أستحق وهذه الرؤيا للناقد المتبصر الواعي بإدراكه شمولية الكلمة وعمقها أساسها المحبة وجوهرها الاحترام المتبادل ، أكرر شكري ومحبتي من محردة التي تفخر بك ابنا ً بارا ً ونجما ً سطعت في سمائها بالأدب الرصين والشعر المبتكر المحلق بين ربات الخيال وعذارى الفجر .
دراسة بقلم : الأديب الشاعر المهندس محمد الحسن
منشورة بشكل مقاطع :
مقطع آخر من دراسة أدبية لمجموعة { ناي بلا حنين } للشاعر مفيد نبزو
الدراسة طويلة وأنا أقدم منها مقتطفات
المقدمة
عندما تتداخل العواطف والأحاسيس المركبة في النفس الإنسانية ، وتتشابك وتتعقّد بشكلٍ يصعب بل يستحيل وصفه ، أو التعبير عنه ، أو إظهاره للآخرين في صورة لغوية ، كي يحسوا ويشعروا بما يعتمل في داخلنا ، عندها يتدخل الناي ، فالموسيقا كانت وما زالت تتحدث بلغةٍ أفصح ، و تصل إلى ما هو أبعد بكثيرٍ مما يصل إليه الكلام ، لأنها أخف وأنقى وأصفى ، تقطع المسافات والأبعاد بأجنحةٍ غير مرئيةٍ ، وتبدي العوالم السرية ، المكنونة المخزونة ، في صورٍ ظاهرة رغم خفائها ، وبذات نوع التأثير على جميع أصحاب النفوس النقية والأحاسيس المرهفة ، فيفهم كلّ منهم الآخر في
غياب الحامل اللغوي ، من هنا : هذا الناي البديع بلا حنين لأنه عزف حتى شفّ وتحول من كثيف إلى خفيف ، من مادة إلى روح ، من لفظ اسميّ إلى سر معنوي ، داخلاً في النور الظلي إلى حيث الحقيقة النهائية . فهل يعدنا الشاعر باختياره لهذا العنوان بأن يقول ما لا يقال بالكلام ؟ هل يعدنا برحلةٍ إلى عوالم سحرية لم تشهدها عينُ ، ولم تسمع بها أذنُ ، ولا تصل إليها غير الموسيقا الأصيلة ذات الصلة بالجوهر ؟! . فالشاعر المبدع قادرٌ على صنع المستحيل ، القلم في يده يتحول إلى عصا سحرية يضرب بها جدار البياض على سطح الورقة ، فتنبجس ينابيع الحياة ، وتتجدد دورة الفصول ، وباللوحات الفنية المذهلة التي يعرضها أمامنا يوحي لنا بما لا يحاط به ، وبما لم يخطر ببال اللغات 0 ........
ثم بعد توضيح كون هذه المجموعة الشعرية الجميلة تنطوي على ثلاث جوانب : تأملي ـ غزلي ـ وطني
........
الجانب الغزلي في المجموعة الشعرية { ناي بلا حنين } للشاعر مفيد نبزو :
ويبدو فيه ممتلئاُ بفرحة الحياة ، مسح عن وجهه ما رأيناه في تأملاته من حزن الحكمة ، وحكمة الحزن ، والتفكير في أسرار الوجود ، وغرابة سيرورة الحياة و مضى ـ بعد شكواه وحيرته ـ يغني وينشد للجمال والفرح . وكيف لا نتوقع منه شعراُ يقطر عذوبةً وروعةً والملهمة بنفسها ظهرت أمامه متجليةً في صورةٍ ؟ ! ، فلنستمع إليه يقول :
شفتاكِ فيها فلةٌ
همستْ فجنّ قرنفلي
والشعر شلال الندى
يهدي الضياء لجدولي !
من الفنيات الشعرية المستعملة في هذا المقطع الشفتان اللتان هما من فلّ ، كما لو أنّ الحبيبة حديقة من الجمال النوراني العلوي لا تعرف من أين تبدأ بوصفها ، وأيضاً إضفاء الصفات الإنسانية على القرنفل ، وجعله يفهم , ويعي الكلام ، ويشعر ويحس بروعة الهمس الدافئ . وأقول : إن الرقة الآسرة ، والنداوة ، واخضلال الرؤى ، وجمال اللغة ، وعذوبة وقعها في النفس ، وسهولة التراكيب والألفاظ ، ومتانة سبكها ، والعاطفة الصادقة الحارة ، كل هذا من صفات الجانب الغزلي في مجموعة { ناي بلا حنين } للشاعر مفيد نبزو 0 وربما كان خير مثال على ذلك قصيدته الرائعة بعنوان بوح ونظرة يقول فيها :
ما أينع الزهر إلا وانتشى الوترُ
يا غرة الصبح آب الصيف والسهرُ
من بوحك البحة الغناء والدررُ
من أي نكهة عطرٍ أي حالمةٍ
يا برعم الروحِ ذاك البوح والنظرُ ؟!
قصيدة محلّقة بجناحين من الخيال الشعري الجامح ، يظهر من خلالها مدى تمكن الشاعر ومقدرته وامتلاكه لناصية اللغة ، وطاعتها وانقيادها له ، وصوغه منها قلائد الدرر بمهارةٍ عاليةٍ ، وما أجمل قوله { من ثغرك القرمزي الوعد أقطفه } ، وما أجمل أن يئوب الصيف والسهر ، وتضيء قناديل الفرح والأنس ليالي العاشقين ، ويشتعل البوح والنظر ، وإن الحياة لتُحَبّ من أجل هذا النوع من المواقف والصور , ومن أجلها يغتفر لها ما تحيطنا به من كوارث وآلام وأسقامٍ . في قصيدة بعنوان : عيناك والغزل 0 يقول :
عيناكِ كم يحلو بها الغزلُ
من سحرها الإشراق والأملُ
السحر فيها آسرٌ نضِرٌ
والليل فيها ساهرٌ ثمِلُ
واحاتها لغزٌّ يحيرني
آفاقها الفردوس والأزلُ
سلاسة وانسيابية مدهشة ، وصور شعرية بديعة , فمن سحر العينين يشرق الأمل ! , و ليلٌ سكران بخمرة اللقاء البديع في حقول الأحلام المرئية من جهة الواقع ! ، وواحات واسعةٌ من الأسرار والألغاز العجيبة الغريبة ، وآفاق من الخلود والجنان ، رقة وعذوبة آسرة ، وحيوية الإيقاع الموسيقي ، وتناغم الألفاظ , وكل هذا ـ وغيره ـ يترك أبلغ الأثر في النفس ..
*
مقطع من دراسة كتبتها منذ حوالي عشرة أعوام عن مجموعة { ناي بلا حنين } للشاعر مفيد نبزو
.............
..... في الجانب القومي والوطني من مجموعته الشعرية الجميلة بعنوان : ناي بلا حنين . يشيد الشاعر مفيد نبزو بالماضي العريق للشرق , وبأصل كونه الرفيع ، وحقيقته الخالدة ، فهو مهد الحضارات وأرض الأنبياء وملتقى الأرض مع السماء وجهة إشراق الضوء على العالم بأسره ، ومن هنا يتغلغل في زوايا التاريخ , وينأى إلى حيث الحركات الأولى ، ويبدأ فخره بالوقوف أمام مدينة أوغاريت العظيمة الشامخة حيث ظهرت الأبجدية ، ينظر إلى تلك المدينة التي قدمت للبشرية كنزاُ لا يقدر بثمنٍ ، ويستحضر الأمة بأسرها فيها ، ويقول :
يا أمة الشمس يا بنت الهوى حسبا
إلا لعينيك هذا الشعر ما كُتِبا
ويسترسل في حلمه مع حياة الماضي الأثيل ، مفعماً بمشاعر الاعتزاز بالذات والأصل ، بقوله :
أرض الحضارات سل عنها معالمها
هل تغرب الشمس هل فيها الضياء خبا
مشاعرٌ رفيعةٌ تجتاح الشاعر ، وتملأ كيانه ، وحياة { تأملية } خفية ، مستمدة من التاريخ ، يحاول ألا ينغصها بإلقاء نظرةٍ على الخارج وإيذاء العين برؤية الحطام المتناثر في كل مكان ، خارطة ممزقةٌ ، ومناظر مؤذية للبصر ، دمشق وحدها صامدة ، ولكنها محاصرة ، ومخططاتٌ صهيونية وأمريكية وأطماع إمبريالية واستعمارية على وشك ابتلاع المنطقة ، والجميع نائمون أو منوّمون ، حتى ولا رغبة لهم في الدفاع عن أنفسهم ! ؟ ومن هنا , ينهي قصيدته بالقول :
الأبجدية أوغاريت مولدها
والشام باكورة التاريخ ما انتسبا
التغني التاريخ العريق والبلاد الخيرة بجميع مدنها وقراها عمل يبدو أن الشاعر أخذه على عاتقه كمهمة وطنية حرص على تأديتها بأفضل شكلٍ ، فرسم الصور الجميلة ، وعزف الألحان المؤثرة مفعماً بالحبّ والإكبار ، وبعاطفةٍ صادقةٍ ، نجح ـ من خلالها ـ في حمل القارئ على المشاركة الوجدانية . و يبدو من خلالها أن لشاعرنا ثقة لا تتزعزع بهذا الشرق , وبدمشق التي هي فجر التاريخ حقيقةُ لا مجازاُ ولا حلماً شعرياُ ، وهي التي ستفرض إرادتها بصمودها ونضالها وستكون لها الكلمة الأخيرة ، كما كانت لها الكلمة الأولى ، فدمشق { الشام } هي الآمرة الناهية في النهاية ، وهي كل شيءٍ ، كما يقول الشاعر في قصيدة بعنوان يا شام :
يا شام أنت الهوى والسحر والعبقُ
يا شام أنت الندى والشعر والعبقُ
من ألف عامٍ عرفتُ الشام شاعرةً
يوحي لها الفجرُ أو يوحي بها الغسقُ
وكما كتب ـ باعتزازٍ وفخرٍ ـ عن الأرض والتاريخ وأصل الشرق العريق ، كذلك كتب عن الإنسان المبدع ابن هذه الأرض الطيبة ، ممن شهدت بنبوغهم الأجيال ، وتركوا بصماتهم على تاريخ الفكر الإنساني ، وأشعلوا حياتهم شموعاً لطرد ظلمة هذا العالم 0 جميلةٌ ومحكمة الصياغة قصيدته بعنوان { أمام ضريح أبي العلاء المعري } التي قالها مكبِراً هذا المفكر والفيلسوف والشاعر المختلف عن سواه ، فهو لم يتكسب بشعره ، ولم يقف أمام قصور الخلفاء والأمراء ، ولم يسافر بحثاُ عن ممدوحين يغدقون عليه من بحور جودهم وكرمهم ، لقد سمى بالشعر واستعمله في معالجة مواضيع أرفع وأهم ، مواضيع تبحث عن السر الكامن وراء كل ما هو موجودٌ ، وما يتصل به من أسرارٍ غامضةٍ ، ولقد جاء بالكثير البديع المفيد ، و إذا لم يتمكن من إزالة الغموض المحيط بالأشياء ، لوقوفه على أساسٍ يتعدى الفكر الإنساني ، يكفيه فخراُ أنه حاول ، وبحث ، عندما كان الآخرون يلهثون وراء الدرهم ، كما وأن له فضلاُ لا ينكر على الشعر العربي يتمثل في محاولة الخروج به من أسر التقليد ، إلى فضاء التجديد ، وتعميق خط الفلسفة فيه ، ومده بالطاقة والحياة ، كل هذا بهر الشاعر مفيد نبزو كما بهر سواه من الشعراء والكتاب والمفكرين على مر السنين ، فتوجه إليه بقصيدةٍ يقول في بدايتها
هذا الضريحُ من الحجارةِ
أم ضريحك من شعورُ
كلٌّ مع الدنيا يدورُ
وأنتَ في فلكٍ تدورْ .
.. ولما تنته بعد ..
0 comments:
إرسال تعليق