الجانب التأملي ** **
بقلم : محمد الحسن – طرطوس .
يفتتح الشاعر مفيد نبزو مجموعته الشعرية الجميلة { ناي بلا حنين } ببيتٍ للشاعر الباكستاني محمد إقبال , يقول فيه :
في غابة الشرق نايٌ يبتغي نَفَساً
يا شاعر الشرق هل في صدرك النَفَسُ
فالشرق غابةٌ من السحر والإلهام والجمال ، نبع الأسرار الغامضة ، ينادي بصوته الخفي : هنا بدأ كل شيءٍ ، هنا ولدت الشمس ، وأشرقت على الكائنات ، هنا ارتفعت جبال الأحلام الأولى شامخةً نحو السماء ، بانتظار المتسلقين ، هنا اتقدت لأول مرة شعلة المعرفة ، هنا نزل النور القدسي من السماء ، ومشى على الأرض ، مسطراُ أول سطرٍ في كتاب التاريخ ، هنا ، وهنا ، وهنا 00 ، فالشرق غابةٌ لا يعد ولا يحصى ما تشتمل عليه من أسرارٍ ، ولكنه الآن في حالة شحوبٍ وكأن الروح على وشك أن تفارقه ، فهبّ أيها الشاعر لنجدته ، اسكب روحك في جسده ، هذا إن كنت تملك روحاً ، وإلا فابتعد عنه ، يكفيه ما هو فيه ! 0 والشاعر مفيد نبزو عندما يفتتح مجموعته الشعرية الجميلة بهذا البيت إنما يبين جزئياً أو يلمح إلى المبدأ الذي صاغ عليه قصائده ، يعترف ضمناُ بكونه مسكوناً بهاجسِ اسمه الشرق ، وبحلم أن يبعث من الرماد كطائر الفينيق الأسطوري ، وبما أنه مهد الحضارات الأولى ، الغابرة ، القديمة ، الأصلية ، الأصيلة ، حيث ظهر الإنسان هذا الكائن العجيب ، وتكونت أول المجموعات البشرية ، وشقت طريقها في هذا العالم ، فإن بعثه يعني بعث الإنسان ، جَمْعَ شتات روحه المبعثرة في هذا الزمان من شتى أصقاع الكون ، وبثها في جسده وإعادته إلى كامل سموه ، وعظمة قدس كينونته ، هذا ما يحلم به الشاعر مفيد نبزو في هذه المجموعة الشعرية الجميلة والهامة ، وقد بدت تجربته ناضجةً ، قاطعةً لأشواطٍ بعيدةٍ ، أظهر من خلالها مقدرةً مميزةً في العزف على أوتار الشعر ، وتوظيف المفردات ، وبناء التراكيب ، وشحنها بالطاقة ، ورسم الصور الشعرية ، والحفاظ على اللغة المشعة الموحية في مجمل جسم القصيدة ، وهذا أحد الأمور المظهرة للموهبة الحقيقية ، فكثيراً ما نصادف شعراء يفتتحون قصائدهم بلغة خصبةٍ وجميلةٍ ، و لا يلبث أن يظهر عليها التعب والإرهاق ، ومن ثم تتحول إلى لغةٍ نثرٍ عاديٍّ ، القصد منها إيصال حمولةٍ إخباريةٍ ، فتبدو مفرداتها وتراكيبها ثقيلةً بطيئةُ كعربات النقل الكبيرة ، وذلك عندما يتغلب العقل على العاطفة ، أو الفكر على الشعر ، ومن المؤشرات على ضعف الموهبة تصديق الشاعر لذلك الوهم المتمثل في إمكانية رفع سوية القصيدة من خلال دحيها بالأفكار والكلمات والعبارات المتكاثفة المتراكمة على بعضها البعض ، وملء الصفحات وراء الصفحات بما يدعو إلى الفتور تجاهها ، لخبو جذوتها ، واستنفاذ شحنتها الشعرية واستمرار الكلمات ـ مع ذلك ـ في التدفق رافضةُ الصمت ، مثل الخيول المنفلتة التي يعجز السائس عن ضبطها أو السيطرة عليها ، أو كالفرس التي تذهب براكبها حيث تريد ، فهي التي تقوده ، لا هو 0 ولا أعني هنا أن المستوى الفني للقصيدة يتناسب عكساً مع طولها ، أو أن القصائد الطويلة تأتي في الدرجة الثانية من حيث القيمة الأدبية ، بل أعني ضرورة التزام المفردات بالشاعرية سواءً قلت أم كثرت ، فاللغة حاملٌ للشعر ، والشعر غيرها ، هو يجيء معها كما يجيء الضياء مع الشمس ، أو كما يجيء الظلّ مع الشيء ، 00 الظلال المومئة والإيحاءات والإشعاعات كانت وما تزال موطن الشعر الأصيل ، ومهما نسينا من أشياء لا يجب أن ننسى أن الشعر عملٌ نفسي ، يبدأ في النفس , وينطلق باتجاه العقل ، أي أنه تعبيرٌ عن الأحاسيس والمشاعر ، وهذا أمرٌ لا يمكن أن يتساهل معه ، لأنه به يكون ، فبمجيئه من جهة النفس في قوالب من المفردات والتراكيب الظاهرة هو شعرٌ ، ولو جاء من جهة العقل لكان فكراً ، باختصار : الكلمة نثر وبريقها شعر ، والشاعر مفيد نبزو في مجموعته { ناي بلا حنين } نجح إلى حدٍّ كبيرٍ في تحقيق هذه المعادلة ، ومنذ القصيدة الأولى المازجة بين الشكل القديم والحديث ، نرى عنوانها { طيور الشفق } ، مؤلَّفاً من كلمة : طيور0 وكلمة : الشفق 0 فلكلتا هاتين الكلمتين دلالة لغوية ، محملة بمعنى مهمتها إيصاله إلى كل المستمعين كما هو ، ولكن بإضافة الكلمتين إلى بعضهما نحصل على التركيب { طيور الشفق } ، وهذا بريق دلالي ، موحٍ ، تكلم بالظلّ ، إشعاعٌ معنوي ، يحتاج إلى تأملٍ ، وإعمال فكرٍ وخيالٍ ، إنه تدخلٌ من جهة النفس ، انعكاسٌ للأحاسيس والخيالات على كون اللغة ، أثّر على وضعها ، واجتذبها نحو خاصية الحالة النفسية المسيطرة على الشاعر ، تحول من العام إلى الذاتي ، وغوصٌ في الأعماق ، وهذا هو الشعر 0 ولو تابعنا القصيدة لرأينا هذا التركيب { طيور الشفق } يحتلّ في كيانها وهيكليتها مواقع مختلفة ، يعرض من خلال كلٍّ منها معنى مغايراُ ، مؤكداُ على ارتباطه بالحالة النفسية لا بطبيعة اللغة ، يقول الشاعر :
سلينا عن الظلّ كيف انكسرْ
وعن نسمةٍ من رذاذ القمرْ
ورحلة عشقٍ بضوء القمرْ
سلينا عن البوح بوح الشجرْ
بأهزوجةٍ من طيور الشفقْ
و بحسب ما سبق ذكره : الشعرية في هذه الكلمات تتبدى على عدة مستويات : في تصوير الظلّ على لأنه لوحٌ من الزجاج ، يمكن أن ينكسر فيما لو ضرب بحجرٍ مثلاً ، وفي ما يقصده من كلمة ظلّ ، عن أي ظلّ يتكلم ؟ ولا يطول بنا التفكير حتى نعرف : نعم إنه يقصد الإنسان الذي أرهقه عنت الحياة المعاصرة ، فلا يبدو أنه يعيشها بل يحملها كثقلٍ كبيرٍ على ظهره ، جعلته ينحني ، وينكسر ، إذاُ هو معاقب بالحياة ، وكل ذنبه أنه جاء إلى هذا العالم في زمنٍ كافرٍ ، يبحث فيه حتى عن نسمة الهواء ! وقطرة المطر ! ، ويحنّ إلى تلك الأيام النائية الجميلة ، أيام كان هناك عشقٌ وغرام ، وضوء قمر ، وشجرٌ أخضرٌ باسقٌ يبوح بأروع الأسرار ، وأيام كانت الشمس تشرق في هالةٍ سحريةٍ من غناء الطبيعة الخالد ، فيبدو كما لو أن الشفق الوردي طيور تغني 0 يقول في المقطع الثاني :
سلينا عن الليل فينا يموتْ
يئنّ يجنّ بصوتٍ خَفوتْ
عن الشمس توقظها عشتروتْ
لنهمس نشدو ونحن سكوتْ
وتصدح فينا طيور الشفقْ
يتضح هنا أكثر أن الحديث عن الإنسان ، الكائن الشقي الذي هو نحن ، حيث أن الفرد يمثل المجموع ، وما يعانيه من آلام قاتلةٍ في ظلمة وحلكة هذا الزمن الموحش ، وينتظر بصيص الأمل وهو ما يرمز إليه بإشراق الشمس الجميلة بعد أن توقظها عشتروت إلهة الخصب والعطاء والنماء ، وعندها نشدو أعذب الألحان ، أي نعيش ونسعد بكل ما نستطيع ، وتصبح أغنية الطبيعة التي أشار إليها بطيور الشفق في المقطع الأول أغنيتنا نحن ، لقوله : وتصدح فينا طيور الشفق 0 أي نحب هذا العالم الرحب ، و نضمّه إلى صدرنا ، و لا يعود ثمة من انفصالٍ فيما بيننا وبينه 0 وهذا يؤكد ما تحدثنا عنه من أن الشاعر مفيد نبزو يحلم ببعث الشرق ، ويرمز به إلى بعث الإنسان ، وعودته أو صعوده إلى قدس طهارة وسمو كينونته ، وليس فقط زوال ألمه و شقائه ، ومن هنا كان استعماله لرمز عشتروت 0 إلى آخر هذه القصيدة الجميلة التي يتساءل فيها ويبحث ويتأمل .. وإحدى مهام الشعر الأصيل طرح الأسئلة ، من خلال ما يعتمل في النفس من أحاسيس ومشاعر ، تتوقد على جمر الحيرة من التواجد في هذا العالم الكبير ،
في قصيدة بعنوان { تأملات } يتحدث شاعرنا مفيد نبزو عن الخيبة التي يحصّلها المرء من النظر في غرابة شكل الحياة ، وطبيعة كينونتها ، فيقول
خبرتُ العمر أياماً تمرّ
ومثل اليوم أيامٌ تفرُّ
فما للمرء من جدوى بشيءٍ
إذا ما كان أعذبه يضرُّ
و يؤكد بمرارةٍ في آخر القصيدة على اللاجدوى من العمل طالما كل شيءٍ زائلٌ وقبض ريحٍ ، فيقول
فيمضي العمر والدنيا هباءٌ
ولا شيءٌ يدوم ويستمرُّ
وفي قصيدة بعنوان { حظ جريح } يتحدث عن مفارقات الحياة ، حيث الغبي ينال كل شيءٍ ، الأمور تُفعَل معه من تلقاء نفسها ، ويأتي أولاُ ، بينما ـ منطقياُ ـ يجب أن يأتي أخيراُ بسبب جهله و غبائه ، والذكي الألمعي تتمنع عليه ، فيبدو غبياُ بسبب فشله ، و يأتي أخيراُ ، 00 يظهر في آخر الركب ، فارغ اليدين ، أو بخفي حنين ، مؤكداُ بذلك عدم خضوع الحياة للمنطق ، يقول :
فكان العيش في الدنيا نصيباً
لمن لا يعشق الدنيا كفاحا
ذكي العقل أعرفه غبياً
فكم من جاهلٍ يلقى النجاحا
وهذا النوع من القصائد يكتسب مشروعية دائمة ، لأنه يتحدث عن أمرٍ يتعلق بطبيعة الوجود وبنيته الداخلية التي لا يمكن أن يخرج أو يحيد عنها ، أي عن أمرٍ مستمرٍ عبر الزمان ، وجميلٌ وعصريٌّ قوله :
جراحي أورقت ثمراً لغيري
وغيري زفّ للقلب الجراحا
..........
إن الشاعر عندما يطلق العنان لخياله ، ويدعه بلا رقيبٍ ، يحمله هذا الخيال إلى العلل الأولى والحقائق الأصلية النائية ، فيراها من بعيدٍ , ويصور ظلالها في كلماته , وربما الشاعر بنفسه لا ينتبه إلى ذلك ، فللأمور تعلقٌ بالبدايات ، والخيال الشعري متفردٌ بمدى الطاقة التي زودته بها ، من هنا وجِد مفكرون كبارٌ دعوا إلى النظر والتأمل فيما قال الشعراء ـ لا الفلاسفة ـ لمعرفة الحقيقة أو أصل الوجود ! . وقد عكس الشاعر مفيد نبزو هذه الحقيقة في عدة أماكن منها قوله البديع :
أنا ذات الكل والكل بذاتي
كلما غبت تجلت كلماتي
فهذه رؤية لما في الغور العميق , لا تتاح لغير من تكشفت الحجب الكونية عن عيون قلوبهم , وأكثفها حجاب النفس المنسوج من كل ما يوهم الانفصال , فالعناصر التي تتألف منها هذه النفس هي الصفات الوجودية المنسحبة على سائر الموجودات . وبالتالي فالجزء يمثل الكل حقاً ، بما يجعل من معرفة الإنسان لنفسه ـ فيما لو تمكن من ذلك ـ معرفةً لكل شيءٍ ، وعندما تتكشف له الأسرار العميقة المحبوكة منها ، يكون قد أحاط بكل علمٍ ، ولا يتبقى ما تحتاج إلى معرفته ، ولهذا قال الفيلسوف الكبير سقراط { اعرف نفسك }
ولكنها مهمة مستحيلةٌ , ومن أين لنا بنوعية عقولنا البشرية إدراك الأصول والجواهر والأسرار , كل ما بإمكاننا مواصلة البحث والتأمل , و الحرص على عدم فقدان الأمل رغم شعورنا الأليم بفراغ كامنٍ وراء الأشياء يجعل الحصول عليها لا يغيّر شيئاً , وهو ما يوحي به قوله في قصيدة بعنوان صيد الأمل
أحنّ لرحلتنا في الجديدْ
أحنّ لطير الرجاء البعيدْ
.......
........
الخاتمة
لقد أظهر مفيد نبزو في مجموعته الجميلة { ناي بلا حنين } موهبةً شعريةً مميزةً ، وتقنيةً عاليةً ، ورصيداً معرفياً كبيراً ، و من حيث البناء الفني استعمل في صياغة قصائده كافة الأشكال المعروفة ، من الشكل الكلاسيكي ، إلى نظام التفعيلة ، إلى شعر النثر ، معلناً انتماءه إلى الشعر الحقيقي من حيث أطلّ ، وطالما أن بريقه يشع من اللغة والتراكيب والصور ، فليس ثمة من معنى لمسألة الوقوف عند الشكل الخارجي أو القالب , فالخمر تبقى خمراً مهما كان نوع الكأس الذي صبت فيه ، والماء لا يستطيع أن يزاحمها على مكانتها ، حتى و لو صب في كأسٍ من الذهب .
0 comments:
إرسال تعليق