بيروت 1965 كما رآها الدكتور عدنان الظاهر

 1965 / إلى بيروت
توعّكت صحة والدتي في ربيع هذا العام وأُصيت بالذبحة القلبية فأُدخِلت المستشفى في قسم العناية المركّزة. خرجت من مستشفاها مع تصميم وقرار غير قابلٍ للتأجيل : أنْ ترى ولدها البعيد قبل أنْ تموت. إتفقنا عن طريق الرسائل أنْ نلتقي منتصف شهر تموز في بيروت. شرعت من جهتي بتجهيز مستلزمات سفرة طويلة تستغرق خمسة أسابيع. تبدأ الرحلة بمغادرة موسكو بالطائرة إلى ميناء ( أوديسا ) على البحر الأسود في شبه جزيرة القرم. ثم ركوب الباخرة إلى ميناء ومدينة ( فارنا ) البلغاريين ومن ثم تتوقف الباخرة في مدينة وميناء أسطنبول في تركيا. بعد إسطنبول يأتي ميناء ( بيريه ) اليوناني القريب من العاصمة أثينا. ثم ميناء ( فاماكوستا ) القبرصي الواقع على البحر الأبيض المتوسط الدائم الهيجان. بعد ذلك تستقبلنا الإسكندرية المصرية، وأخيراً نصل بيروت. بالإضافة إلى ميناء الإنطلاق، تتوقف الباخرة في ستة موانيء قبل الرسو في ميناء بيروت اللبناني. لحظة الوصول إلى أيٍّ من هذه المحطات تعزف فرقة الباخرة الموسيقية شتى الألحان. وبعد تمام الرسوّ على الرصيف تتسلق السلالم صعوداً إلى الباخرة ثلةٌ من رجال السلطات المحلية في كل ميناء. ثم تأخذ بتدقيق جوازات وقوائم المسافرين وأعدادهم. بعد ذلك تسمح هذه السلطات للمسافرين بالنزول إلى البر الوطني والمكوث في كل ميناء لحوالي الثماني ساعات تكفي للتعرف السريع على أهم المعالم. السفرة البحرية على الباخرة وحدها إنْ هي إلاّ متعة وعطلة لا مثيلَ لهما، خاصةً حين تمخر الباخرة بنا عُباب البحر الأسود حيث تمارس الدلافين إستعراضاتها قريباً من الباخرة لكأنما قد أعدتها خصيصاً لتسلية المسافرين والترحيب بقدومهم. أما النوارس البحرية فلم تكنْ لتفارق الباخرة أينما كنا وكانت. معنا ووراءنا وحولنا تلتقط ما تلفظ الباخرة من فضلات الطعام. كنتُ نهاراً أُمارس السباحة في حوض مكشوف على سطح الباخرة. أما الأماسي فكنت أُقضّيها مع بقية المسافرين في الحفلات الراقصة حتى منتصف الليل. كنا نختلط ببعضنا على سطح السفينة في كافة الأوقات وخاصةً بعد وجبات الطعام. البهجة الطاغية تُنسي الإنسان الإحساس بالزمن. تجعله يطفو على أثير الوجود مخدَّراً أو دون أعصاب. ليس لوجوده حدود أو إنه لا يُحس أصلاً بهذه الحدود. إنه خارج الزمان وفوق المكان.
نسيم البحر رخيٌّ عليل والطعام جيد والوجوه تتبدل مع تبدل الموانيء والمدن. ففي كل ميناء يُغادر الباخرةَ أُناسٌ ويصعد إليها آخرون غيرهم جُدُد. وجوه شتى وأزياء منوّعة وتقاليد وأنماط حياتية تحاكي ألوان طيف قوس قزح. لفت نظري كثرة السياح الذين يركبون الباخرة في ميناء إسطنبول التركي ليغادرونها في قبرص أو بيروت. فيهم الكندي والأمريكي وعوائل تتكلم العربية بلهجة لبنانية تغادر الباخرة عادةً في قبرص !!
كنتُ بالدرجة الأولى مَشوقاً أن أرى الإسكندرية. وصلناها. صعدت على سطح سفينتنا ثِلّةٌ من رجال الشرطة يقودها ضابط شرطة برتبة عقيد، وهي عادةً شرطة حدود. بعد تقليب جوازاتنا وتدقيق وثائق الباخرة وقوائم المسافرين على متنها فتح الضابط المصري أمامه سجّلاً ضخماً ربما بألف ورقة. قلّب أوراقه بعناية فائقة. توقف عند صفحة بعينها. أراح نفسه على مقعده كأنما أزاح عبئاً ثقيلاً عن كاهله. تفرّس في وجه طبيب أردني  كان معنا على الباخرة. قال له بصرامة : غير مسموح لك أن تطأ الأرض المصرية !! ماذا ؟ غير مسموح لطبيب عربي من الأردن أن يغادر السفينة لبضعة ساعات كي يرى بعض معالم الإسكندرية ؟ شيء غير متوقع، بل ولا يُصدّق. كانت مصر يومذاك وكما هو معروف تقود أزمّة العرب نحو الوحدة والعروبة وترفع عالياً لواء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. شيء أذهلني وجعلني أُصابُ بالدوار. إحتججتُ. قلت للضابط بشيء من الوقاحة : كيف لا تسمحون للدكتور ( هشام حمارنة ) أن يرى مدينة عربية وأنتم في مصر تقودون العرب نحو الوحدة الشاملة وترفعون الشعارات القومية الطنانة ؟ قرّب الضابط أُذنه مني متسائلاً : ماذا قلتْ ؟ أرادني أن أكرر كلامي كيما يلتقط إسم الطبيب الأردني كاملاً لكي يتأكد وبما لا يقبل الشك أنَّ هذا الرجل ( هشام ) هو بلحمه ودمه الممنوع من زيارة الأراضي المصرية. قلتُ للضابط إنني سأبقى على سطح السفينة مع الدكتور هشام إحتجاجاً على موقفكم وإستنكاراً رغم أني لا أعرف هذا الرجل ولم أتعرف عليه إلا على سطح السفينة. لم يعلّقْ. بقي على هدوئه وهو يلملم أوراقه ويطوي صفحات المجلد الضخم. توقعت أن يأمرني بالبقاء على السطح ولا يسمح لي بزيارة الإسكندرية لكنه لم يفعل ذلك. أقنعني هشام أن أترك الباخرة وأن أرى الإسكندرية. شكر تضامني معه وقال إنه سوف لن ينسى هذا الموقف الإنساني. ما قصة هشام حمارنة مع الشرطة المصرية ؟ قال لي هشام إنه طُرد من مصر يوم أن كان يدرس الطب في القاهرة بسبب نشاطه البعثي المتميز. وكان الخلاف يومذاك على أشُده بين البعثيين وجمال عبد الناصر. 
تمشيت في منطقة الميناء فإنتبهت إلى كثرة عربات باعة الفول المُدمّس. كما لفت نظري أنَّ الناس هناك يأكلون الفول بقشوره. ثم إسترعى إنتباهي أحد الباعة ينادي خلف عربته الملأى بفاكهة غريبة عليَّ، سمعتُ بها قبلاً لكني ما رأيتها. إنها ( المانجو )، فاكهة بيضوية الشكل أحد خديها أخضر اللون والآخر أحمر. تشكيلة لونية رائعة. قلت فلأجربنّها ما دمت على أرض الكنانة. بعد مساومة قصيرة إبتعتُ واحدة. قلّبتها وهي في يدي يمنةً ويسرةً ثم أعدت تقليبها يسرةً فيمنةً وفي قلبي شيء من الهيبة، بل والخوف. كيف أبدأ بأكلها ومن أين أبدأ ؟ لماذا أقحمتُ نفسي في هذه الورطة ؟ كان البائع يراقبني عن كثب لكأنما أحس أو تكهّن أني في ورطة. عرف بكل تأكيد أنني رجل غريب، غير مصري لا قِبلي ولا بحري. لا صعيدي ولا إسكندراني. مسحتُ قطعة الفاكهة بيدي وقضمتها بشوق العاشق المستهام. صرخ البائع في وجهي مستنكراً فعلتي : إنتَ بتعمل إيه ؟ توقفت عن القضم لأعرف ماذا جرى لهذا البائع المسكين. هل كان يقصدني أنا بهذه الصرخة أم غيري يا تُرى ؟ تلفّتُ من حولي في شيء من الذهول. كرر سؤاله إياه رافعاً كفه عالياً ( إنتَ بتعمل إيه ؟ ). لم أجد، وقد عقدت الدهشة لساني، جواباً معقولاً لسؤاله سوى أن أسأله بدوري ( جرى إيه ؟ ). قال كيف تأكل المانجو دون أن تنزعَ قشرتها ؟ أجبته بكل بساطة وبراءة أني أُجرّبُ هذا الصنف من الفاكهة لأول مرة في حياتي. ليس لدينا مانجو في العراق.
[ خلال إحدى زياراتي لمدينة البصرة جنوب العراق عام 1970 أخبرني أقاربي هناك أنَّ في بعض بساتين البصرة بضعة أشجار لفاكهة المانجو ].    
بعد أن تمشيتُ طويلاً في بعض شوارع مدينة الإسكندرية ( التي بناها الإسكندر المقدوني ذو القرنين ) قررت الرجوع إلى باخرتي في وقت مناسب لئلا يفوتني موعد مغادرتها الميناء. ولكثرة ما تشعبت بي الطرق والشوارع فقدت الإتجاه الصحيح الذي يؤدي بي إلى الميناء فالباخرة السوفياتية الراسية هناك. أسأل من ؟ نعم، أسأل من ؟ لم تطل حيرتي. لمحت من بعيد جندياً بحرياً بالملابس البيض الزاهية والأزرار التي كانت تتوهج تحت أشعة الشمس القوية. دنوت منه وحييته ثم سألته : أي طريق قصير يأخذني إلى الميناء ؟ طلب مني أن أُعيد السؤال. أعدته بحذافيره. لم يتحرك. لم يبدِ أية علامة تدل على أنه فهم قصدي ومحتوى سؤالي. سألتُ مَن ؟ يا إلهي !! أدار رأسه كما يدور فنار الميناء ليلاً، ثم قال بإستغراب : ( بتقول إيه ؟ ). أعدتُ عليه سؤالي فأجاب : ما أعرفش ! مصيبة. جندي بحري ولا يعرف موقع ميناء الإسكندرية. أراد ترك المكان فإستوقفته متوسلاً قائلاً إني أستقل باخرةً ستمخر قريباً في مياه البحر الأبيض المتوسط من ميناء الإسكندرية في مصر إلى ميناء بيروت في لبنان. أفضتُ في بياني لعله يدرك مغزى سؤالي. لعله يربط بين إسم الباخرة والميناء وماء البحر، فإنه رجل بحر. صرخ عندذاك وإنفرجت أساريره قائلاً : آه… إنتَ بتقصد المينةْ. قلت له نعم. قال ( أومّال ما ألتها من الصبح ؟ ) ده المينة، المينة. لا يفهم هذا الشاب البحري كلمة ميناء. يفهمها بإعتبارها مينةْ. رافقني مسروراً حتى مرسى سفينتي. وحين عرف أني طالب عراقي أدرس في موسكو قال بفرح طفولي طافح
إنه قد زار موسكو مرّةً بالغواصة أثناء تأدية بعض التدريبات البحرية. صححتُ معلوماته بأنَّ موسكو لا تقع على ساحل بحر، فكان تعليقه الوحيد : آه… أو مّال… فيها إيه ؟ كان قصده أن يقنعني أنه قد زار موسكو بالغواصة فعلاً حتى لو لم تكن واقعة على بحر !! 
من الذي شعر بالخجل والإحراج، هو البحري أم أنا ؟ أنا الذي خجلتُ مما قال هذا الشاب الذي سيقضّي عمره فوق وتحت مياه البحار. صافحته شاكراً وتسلّقتُ سلّم باخرتي لتواصل رحلتها البحرية حتى نهاية خط إبحارها وهدفها الأخير : بيروت. ما بين الإسكندرية وبيروت لم أكفْ عن ترديد ما قاله هذا الشاب البحري ( آه… أومال… فيها إيه ؟ ). 
ركبت الباخرة في ميناء الإسكندرية عائلة كويتية مع سيارة مرسيدس بيضاء اللون في طريقها إلى الكويت مارّةً بثلاث عواصم عربية هي بيروت وعمان وبغداد. تم التعارف بيني وبين رب الأسرة بعد طعام العشاء. قال لي إنه موظف في وزارة التربية الكويتية. وحين علم إني طالب عراقي أواصل دراستي في جامعة موسكو سأل على الفور : أفلم تحمل معك شيئاً من الفودكا الروسية ؟ كان معي بالفعل ثلاث زجاجات منها حملتها هديةً لصديقي حسن عبد الرزاق في العراق. شربنا سويةً زجاجة كاملة في أقل من نصف ساعة دونما مزّة أو فاكهة أو طعام. غلب الكرى نديمي فنام. بعد فترة قصيرة فتح عينيه فقال : أليس لديك المزيد من هذا ؟ وأشار بيده إلى زجاجة الفودكا الفارغة. أتيته بزجاجة ثانية فصكَّ نصفها جرعةً واحدةً ثم نام. تركته وإنسحبتُ إلى صالة الرقص والموسيقى مستغرباً شأن هذا الرجل. كنت أتوقع أن يدعوني مقابل ما قدمت له من شراب إلى بار
( حانة أو مشرب ) الباخرة الرائع والثري بما فيه من مشروبات منوعة مستوردة من شتى بقاع العالم، الروم الكوبي والويسكي الأسكتلندي والجن الإنجليزي والكونياك الأرمني وغيرها وغيرها الكثير. لم يفعل ذلك. نام ولم يحترم حق الضيافة. لقد أثار المزيد من دهشتي حين أخبرني ساعة سكره إنه كان يدعو بعض البغايا إلى شقته في القاهرة ليمارسهن بالتناوب مع شقيقه الأصغر ؟! سألته أفلم تعترض زوجك على هذا الفعل ؟ قال إنها لا تعرف ذلك. نطلب منها البقاء في الحجرات الداخلية للشقة بحجة إنشغالنا مع بعض الضيوف. قال لي مرة وهو يقرّب كأس الفودكا من شفتيه إعتبرْ الكويت بلدك الثاني وسأساعدك إذا رغبت العمل في الجامعة. لم أصدّقه. كيف أضع ثقتي في رجل مخمور جداً يخون زوجه في وضح النهار، ويوزع الوعود جزافاً حين يفقد وعيه ؟
وفي الإسكندرية أيضاً ركبت باخرتنا مجموعة من العراقيين عائدةً إلى بغداد عن طريق بيروت. عرفت من بعض أفرادها إذ كنا جلوساً أمام بار المشروبات إنهم يزورون بين آونةٍ وأخرى مصرَ لا لشيء إلاّ ليمارسوا هواية الرهان في سباق الخيول الذي كان محظوراً حينذاك في العراق. سألته عن مهنته في بغداد فتلكأ أولاً، مصَّ جرعة قويةً من الويسكي ثم قال إنه يعمل دلاّلاً في كراج ومحطة كبيرة للسيارات في جانب الكرخ من بغداد. وأن لديه ترخيصاً خاصاً بحمل مسدس. سألته ولماذا المسدس ؟ تردد كثيراً ثم قال بعد أن أخذ جرعة أخرى كبيرة من كأس شرابه : إنَّ واجبي وبقية رفاقي على سطح الباخرة هو المحافظة على نظام الحكم القومي في العراق وعلى الأنظمة القومية في باقي أنحاء الوطن العربي ! كان هذا الرجل وبقية رفاقه ضخام الجثث منتفخين شحماً ولحماً وجيوبهم ملأى بالنقود. مصائب الزمن . مقامرون ومغامرون وشُقاة ودلاّلو سيارات يحملون السلاح لحماية نظام حكم قومي في بلد لا يستطيع طالب عراقي أن يدخله كيما يرى أهله وذويه. أي نظام حكم هذا الذي لا يرعى حقوق مواطنيه ولا يعترف بقدسيتها أو قانونيتها أو شرعيتها ؟ 
البحر بين قبرص والإسكندرية، وبين هذه وبيروت كثير الهيجان. الأمر الذي يسبب للمسافرين الدوار والغثيان والتقيؤ على درجات متفاوتة. الكل يعزف عن تناول وجبات الطعام في مثل هذه الظروف. والأغلبية الساحقة تفضل النوم هرباً من هذه البلوى. عانيتُ من هذه الظاهرة أيما معاناة حتى أنَّ نفسي عافت الطعام وإستعصى النوم عليَّ فأين المفر ؟
كان في رأسي شيء غير طبيعي وفي معدتي شيء آخر أقوى منه وأمر. فمتى ينقضي هذا البلاء المُقيم ومتى أستعيد سابق عافيتي ؟ متى يهدأ البحر ويكف عن إزعاج ضيوفه الذين كانوا حتى قبل حين مبتهجين مرحاً وصخباً وغناءً يتبادلون النجوىً والسمر على أسطح السفينة ليلاً تحت ضوء القمر وبشتى اللُغى والرطانات ؟ ها نحن أولاء نقترب من هدفنا الأخير بيروت، فلِمَ كل هذا العذاب، أفي البحر نزعة للإنتقام وتدمير بهجة النفوس ؟ هل في البحر طبعٌ متمرّد غامض أم أنَّ قوىً كونية كبرى أخرى أكثر غموضاً وشراسةً تأمره فيعجّل بالتنفيذ ؟ هل سأصل بيروتَ حقاً وهل سأرى والدتي في إنتظاري على رصيف الميناء  حسب الموعد الذي حددتُ في آخر برقية مني للأهل ؟ أما زالت والدتي على قيد الحياة أم أنها قضت نحبها في بيروت أو حتى في الطريق الطويل إلى بيروت ؟ داهمتني هذه الأفكار السود أثناء معاناتي من دوار البحر والتقيؤ المستمر وإستحالة النوم ثم خلو المعدة من الطعام وفقدان الجسد للكثير من مائه وأملاحه. حين يعتلّ الجسد تختلّ المعنوية فتهتزّ موازين القرار وتعصف بالمرء الظنون والفِكر السود. هدأ البحر ليلاً لكني لم أستطع النوم. كنت أُهيء نفسي للنبأ العظيم. أن أرى الوالدة حيّةً ، أن أشم نفحات الأمومة وأن أسفحَ على صدرها عَبَراتي التي خزّنت ُفيها حزن ثلاثة أعوام من الفرقة والمرار ومشقّات الدراسة. ثم الحال الذي آل إليه العراق بعد إنقلاب الثامن من شباط 1963 حيث وجدتُ نفسي محروماً من فُرص زيارة أهلي ووطني. مع الفجر السامي تبدّت لعيني عمارات بيروت العالية والجبال الخُضر الشاهقة المحيطة بها. مشهد رائع لا يمكن أن ينساه المرء. قللّت الباخرة من سرعتها. إذن نحن نقترب من الساحل. أمي ستكون هناك في إنتظاري. لا. ربما ألغت مشروع السفرة أو أجبرها الطبيب على إلغائه. هل عادت ثانيةً إلى مستشفاها ؟ أوَما زالت على قيد الحياة ؟ هل واروها التراب قبل أن تحقق أمنيتها في أن تراني قبل أن تموت ؟؟؟ 
قبل أن يُلقي ربابنة السفينة المرساةَ في قاع البحر ويمدون الحبال إلى رصيف الميناء رأيت إمرأةً مُتشحةً بالسواد تقف في ظل حائط. قلت إنها بكل تأكيد والدتي. مع دنو الباخرة البطيء من الرصيف تأكد لي إنها هي، أمّي. رأيتها تقف شامخة القامة حائرة النظرات كأنها هي الأخرى لا تصدق بأنَّ لقاءنا سيتم أو قد تمَّ بالفعل. كانت تعرف زمن وصول الباخرة السوفياتية إلى ميناء بيروت. كما كانت تعرف أنَّ الباخرة التي دخلت الميناء وأخذت تدنو من الساحل هي باخرة سوفياتية قادمة من ميناء أوديسا. كنت قبل مغادرتي موسكو قد بيّنتُ للأهل في الحلّة وبغداد كافة تفاصيل الرحلة. إذاً لا بدَّ وأن يكون ولدها واحداً من راكبي هذه السفينة. كنتُ ما زلت أراها لكنها لم تستطع تشخيصي من بين بقية المسافرين الذين أصطفوا على سطح السفينة متأهبين لمغادرتها حين تُمدُ السلالم. مُدتْ السلالم فهُرِعتُ إليها مسرعاً وما أن عرفتني حتى صَرَخَتْ ( يُمّه ! ). ألقيت برأسي على صدرها المريض.كلانا يبكي وينشج ويردد أشعار الحزن. أردتُ أن أسألها كيف حال أبي وباقي أشقّائي وشقيقاتي لكني لم أستطع. كلما حاولت الكلام تعثّرت الألفاظ في فمي وإختلطت بالدموع. كانت بي رغبة أن أتملى وجهها وأن أُطيل النظر فيه لكني لم أكنْ لأجرؤ. تغيّر وجه الوالدة. فقد رونقه وبهاءه فأصبح شاحباً هزيلاً وقد عهدته ممتلئاً معافى. إنه المرض. وإن العلّة في القلب. أخذنا سيارة أجرة ( تاكسي ) إلى الفندق الذي حجزت لنا فيه غرفة حين وصلت بيروت قبل يومين. فوجئتُ ! فوجئتُ أنَّ الوالدة قد أعدّت أطباق الطعام والفاكهة التي كنت أُحب. ثم فاجأتني ثانيةً بالحقيبة الكبيرة التي حملتها لي معها وهي العليلة القلب. حقيبة كبيرة ملأى بأنواع الملابس مع راديو ترانسستور ماركة آيوا اليابانية AIAWA . أدارت بعض أزرار الراديو فإذا بصوت إذاعة بغداد يلعلع في فضاء بيروت. كانت قد أعدت سَلَفاً كل ما من شأنه أن يحمل لي المسرة والبهجة. لم أكن أصدق ما ترى عيني. هل هذه هي والدتي حقاً ؟ أُمّي التي أنجبتني وسوّتني إنساناً ؟ أمي التي فارقتها ثلاثة أعوام عصفت أثناءها بالعراق أعاصيرُ وعواصف وسالت على أراضيه دماء ودماء. ثلاثة أعوام مرّت ثقيلة بطيئة وأنا بعيد عن هذه المرأة الصابرة. تذكرتُ عتابها لي قبل ثلاث سنوات في مطار بغداد وقبيل إقلاع طائرتي إذ قالت : أَوَ تسخو بفراقنا يا عدنان ؟ تذكرت قول والدي لي إنه سوف لن يراني ثانيةً. ها إني أرى وأسمع وأُكلّم هذه الوالدة، ولكن أين أبي ؟ من يأتيني بأبي الذي قطع الأمل في أن يراني ثانية ؟ كيف سأفارق الوالدة لسنين أُخرَ وكيف ستتحمل هي هذا الفراق ؟ 
سألتني أما ترتاح قليلاً ؟ إخلع ملابس سفرك ونمْ لبعض الوقت. من يفكّر بالنوم في حضرة الوالدة ؟ قلت كلاّ، أنا مرتاح جداً وسعيد جدّاً بوجودك معي في بيروت. حدثيني تفصيلاً عن أوضاع والدي وإخواني وأخواتي والأقارب. أفاضت في الحديث وأكثرت كعادتها من تناول أقداح الشاي الثقيل والتدخين الذي منعه الطبيب منه منعاً باتّاً. ثم عرّجت على من مات من الأقارب بعد مغادرتي العراق. مات إبنُ عمّتي الحاج فخري إختناقاً تحت الأقدام أثناء ركضة كربلاء الشهيرة، الماراثون الذي يبدأ عادةً من وسط مدينة الهندية ( طويريج ) حتى ضريح الحسين في كربلاء. ترك زوجةً وخمسة أطفال أكبرهم في الثالثة عشرة. قضى صهرنا أبو رياض بالسكتة القلبية فجراً. إستيقظوا فوجدوه مطروحاً على الأرض مفارقاً الحياة. إبن خالتي حمّودي عبّود الجمعة ( أبو أحمد ) مات يصارع مرضاً عضَالاً أصاب عموده الفقري وجهازه العصبي المركزي. ترك وَلَداً صغيراً وثلاث بناتٍ قاصرات. سألتها ألهذه الأسباب قد إتشحّتِ بالسواد يا أُمّاه ؟ سكتت برهةً ثم قالت : وهل رأيتني يوماً بغير السواد ؟
إقترحتُ أن نتمشى وأن نتعرّفَ على بيروت وأسواقها. وافقتْ، ثم أخرجت من أحد جيوبها الداخلية صكّاً ( شيك ) وقالت هاك، حوّله إلى الليرة اللبنانية. كان الصك بالدينار العراقي صادراً عن مصرف الرافدين الحكومي . في بيروت فرع لهذا المصرف. حولّتُ الدينار إلى ليرات وبدأنا جولة التمشي وإستطلاع المدينة الهائلة. دخلنا سوقاً كبيراً يتوسط المدينة إسمه ( سوق سرسوق ). وجدناه عاجّاً بمختلف السياح الأجانب. يتكلّم الباعة في هذا السوق عدة لغات. سمعتهم يتكلمون الإنجليزية والروسية والألمانية ولغات أخرى غريبة عليَّ. كانوا يجرّون الزبائن إلى محالهم جرّاً يفتقر إلى اللياقة. وحين يصطادون الزبون وينجحون في إدخاله المحل ( المصيدة ) يقدمون له على الفور الشاي أو بعض المشروبات الباردة مع المبالغة في كلام المجاملة المنافقة والترحيب حتّى إنه لا يجد مفرّاً من أن يبتاع شيئاً ما دفعاً للحرج. سوق حر والمنافسة قوية جداً على كسب الزبائن. إنه صراع البقاء. 
رجعنا قبل أن يحلَّ الظلام إلى الفندق. كانت الوالدة تعبى فآوت إلى الفراش مبكّرةً. لكني خرجت ثانيةً تحت ضغط اللهفة والرغبة في أن أرى بيروت ليلاً كما رأيتها نهاراً. سمعتها تقول لا تتأخر. نحن هنا غرباء وأخاف عليك. لقد كَبُرتُ أيتها الوالدة، فمم الخوف عليَّ ؟ قالت ( يا صاكعة يا راكعة ). معناها صاعقةٌ قارعةٌ. وهو مثل يستخدمه العراقيون كثيراً. لا مردَّ بالطبع لقرع الصواعق التي تنقضُّ دونما إنذار. الوالدة تحذرني من المجهول ومن شيء لا نتوقعه. قبّلت رأسها فشمّتني بعمق ثم قالت : دير بالك على فلوسك.
خرجتُ أسأل عن منطقة في بيروت إسمها ( برج حمّود ) خاصة بالأرمن. أتيت بيروت أحمل رسالةً وهدايا من شاب أرمني سوفياتي لبناني الأصل يعيش ويعمل أصلاً في مدينة ( يرفان ) عاصمة جمهورية أرمينيا السوفياتية. جاء إلى موسكو لمواصلة دراسة الدكتوراه في أحد حقول الكيمياء، وكنا نعيش على طابق واحد في القسم الداخلي لجامعة موسكو. أرسل ( جورج ) الرسالة والهدايا إلى شقيقته التي تزوجت وبقيت في بيروت ولم تهاجر مع والديها وإخوتها الصغار إلى الوطن الأم أرمينيا. وصلتُ ( برج حمّود ) وليس معي إلاّ إسم شقيقة جورج، أسأل من أرى في الشوارع عن عنوان سَكن هذه السيدة وكيف أصل إليها. إقترح بعض من سألت ـ وقد بدأ نور النهار بالإنحسار ـ أن أحاول هذا الأمر صباح الغد بدل التخبط في الشوارع ليلاً. وأن أسأل مختار المنطقة عن عنوان السيدة الأرمنية وزوجها. أتيتُ برجَ حمّود صباح اليوم التالي فدلّني بعض المارة على مكان دكّانة المختار. رحب الرجل بي وقدم كل مساعدة ممكنة وبذل بعض الجهد حتى إهتدى إلى عنوان هذه العائلة. كان يدقق في سجل ضخم أمامه يتابع الصفحات والقوائم والأسماء وعناوين الدور. فتح التلفون وأخذ يسأل من أكثر من جهة.  ثم تناول قلماً وورقة صغيرة كتب عليها العنوان الذي أروم كاملاً. ودَّعني قائلاً : البيت الذي تريد ليس بعيداً عنك. أشار إلى جهة بعينها وقال خذ هذا الشارع وستجد ضالتك. شكرته وإنصرفتُ أحمل الهدايا والرسالة وفي النفس عزمُ وشوق غريب أن ألتقي هذه السيدة، فلربما أرى في وجهها وفي كلامها حنان شقيقاتي. طرقتُ باب شقة على الطابق الأول في بناية صغيرة أنيقة فإستقبلتني سيدة عجوز طويلة القامة لا تتكلم العربية. ( يا صاكعة يا راكعة )… بذلتُ جهوداً كي أجعلها تفهم من أنا ولماذا أنا هنا وكنتُ أردد إسم شقيقة صديقي الأرمني جورج. رددته عشرات المرات لأنني ما كنت أعرف غيره. سمحت أخيراً لي بدخول الشقة مرددةً كلاماً لا أفقه منه شيئاً. قادتني إلى غرفة إستقبال وأشارت لي بالجلوس. كانت وحدها في الشقة، لذا كان لحذرها ما يبرره. دخلت بعد حوالي ربع ساعة إمرأة عرفتها على الفور. كانت نسخةً طبق الأصل من وجه شقيقها جورج. عرفّتها بنفسي وقدمت لها هدايا أخيها. كانت لحسن الحظ تتكلم العربية باللهجة اللبنانية. بكت وهي تتناول الهدايا من يدي. مسحت دموعها ثم قالت : كأني رأيت أخي ( شِفِت خَييّ ). تقصد إني قد ذكّرتها بأخيها الذي لم تره منذ ثلاثين سنة. هاجر والداه من بيروت إلى أرمينيا يوم أن كان طفلاً في الثانية من عمره بينما بقيت شقيقته في بيروت. قدّمت لي السيدة (جورجيت الأشقر) الأشقر هي الترجمة العربية لإسم عائلة والدها بالأرمنية ) المرَطِبات وبعض الفواكه مع تكرار جُمل الترحيب والمجاملة ثم فاجأتني بسؤال : هل لديكم فواكه تأكلونها في روسيا ؟ قلت لها أجل، موسكو تستورد الكثير. ثم إنَّ جمهورية الأرمن، أرمينيا، مشهورة بأجود أنواع الخوخ والنكتارين. لذا فإنها تنتج أفضل أنواع الكونياك في العالم. إطمأنّت قليلاً ثم سألتني بعد أن ألقت على ما كنت أرتدي من ملابس وحذاء نظرة متفحّصة، نظرة إمرأة خبيرة في شؤون الأزياء : هل لديكم ملابس تلبسونها في روسيا ؟ ضحكتُ. أجبتها وهل ترينني عارياً ؟ قالت أقصد هل أن أخي جورج يرتدي ما ترتدي أنت ؟ قلت لها كلاّ. إنما تأتيني الملابس الجيدة من أهلي في العراق. جورج مواطن سوفياتي وأنا لست كذلك. جاء زوجها فعرفتني عليه. ثم دخل ولدها الأكبر فقدّمته لي قائلة إنه يملك حافلة كبيرة للركّاب يسيّرها بين مركز بيروت والجبل. قبل أن أودّع هذه العائلة الأرمنية سألتني جورجيت أن أحمل لأخيها معي بعض الهدايا والملابس فقط (كان جورج يريد نقوداً بالدولار ). 
بعد أن تعلّم جورج وشبَّ في يرفان حاول بكل السبل أن يُسقط عنه الجنسية السوفياتية
وأن يعود إلى لبنان. كتب شكاوى وطلبات إلى هيئة الأمم المتحدة وإلى منظمّات حقوق الإنسان بل وحتى  إلى الزعيم السوفياتي يومذاك ( ليونيد بريجينيف ).كانت حججه قوية : إنَّ أمه سورية عربية من مدينة حلب السورية وليست أرمنية وإنه يتبع أمه. وإنَّ والده الأرمني المولود في تركيا جاء به من بيروت إلى يرفان طفلاً في الثانية من عمره. وإنه لا يُتقن اللغة الأرمنية ولا يستطيع أن يهضم اللغة الروسية. إنه يحب لغة أمه العربية.لم تنفعه كل هذه الحجج ولم تنفع مساعيه التي  جلبت له الكثير من المتاعب والمحن. قال لي بعد زيارة بيروت إنَّ الأجهزة الأمنية في جامعة موسكو طلبت منه أن لا يتصل بالطلبة العرب. رفض طلبهم فجاءت النتيجة لاحقاً كما كان يتوقع : رُفِضت رسالته لدرجة الدكتوراه في كيمياء البوليميرات ( المطاط والكاوجك ). وحين عاد إلى يرفان ليستأنف عمله السابق في أحد مصانع المطاط وجد نفسه بدرجة مهندس كيميائي بعد أن كان رئيسَ مهندسين. تبع هذه العقوبة تخفيض راتبه الشهري بمقدار الثلث. [ هل غادر جورج أرمينيا بعد سقوط جدار برلين عائداً إلى مسقط رأسه بيروت ؟ ]. أخبرني مرّةً بأحد أسراره على أن لا أبوح به لأحد. قال إنَّه سجّل بإسمه براءتي إختراع. تخص إحداهما تصنيع وسائل تجعل العدو غير قادرٍ على إكتشاف الغواصات تحت مياه البحار أو معرفة مكان تحركها. سألته وهل قبضتَ شيئاً مُجزياً مقابل هذا الإكتشاف الخطير ؟ ضحك بمرارة ثم قال نعم، أعطوني مائتي روبل. ولو كنتُ في دولة أخرى  لقبضتُ الملايين ! لقد رأيت كتاب هذه البراءة بعيني بعد أن أقسمتُ أن أكتم السر وأن لا أبوح به لأحد. 
كنتُ أقضي معظم ساعات النهار مع الوالدة تمشياً أو تسوّقاً وأتركها عصراً في غرفتنا في الفندق كي تنام مبكِّراً. إلتقيت في بيروت و مصيف ( عاليه ) بالكثير من المعارف والأصدقاء القدامى جاءوا بيروت مصطافين أو للتجارة وتسويق البضائع. ومنهم من كان أصلاً في بيروت للدراسة. كان فيهم المدرس ومدير المعارف والمهندس والمقاول والأديب والشاعر وبعض أساتذة جامعة بغداد ممن سجنهم وشرّدهم إنقلابيو الثامن من شباط 1963 فتركوا العراق للعمل في جامعات المملكة العربية السعودية أو المملكة الليبية السنوسية.كما تعرّفت في بيروت على قاريء المقام الشهير الأستاذ محمد القبانجي.
لم تستطعْ مباهج بيروت ومصيف ( عاليه ) و دجاج مصيف ( بحمدون ) المشوي أن تُنسيني الهاجس الأكبر : صحة الوالدة. كانت تغفو سريعاً وتنام نوماً عميقاً مع ضيق في التنفس شديد.كان تنفسها ينقطع أثناء النوم وصدرها يرتج بعنف حين تستأنف عملية الشهيق والزفير. ما كان تنفسّها يسيراً وما كانت دقات قلبها تجري بوتائر منتظمة. الأمر الذي سبب لي خوفاً وجزعاً. ماذا سأفعلُ لو توفيت الوالدة وكلانا في بيروت غريب ؟ أين أدفنها ووصيتها أنْ تُدفَن في سردابها الخاص في مقبرة وادي السلام في مدينة النجف ؟ من سيحمل جثمانها إلى العراق والطريق إليه مُقفَلٌ في وجهي ؟ كشفت لها ذات يوم عن مخاوفي هذه فوافقتْ على فكرة الرجوع إلى العراق ولم يمضِ على لقائنا سوى أسبوعين فقط. أسبوعان مرّا أسرع من البرق. 
كان يوم الفراق ثقيلاً أليماً. تركنا الفندق قاصدين محطة السيارات الصغيرة الذاهبة إلى عمان. أخذت الوالدة مكانها في السيارة وبقيتُ واقفاً بإزائها لا أستطيع الكلام. لم تبكِ كما كنتُ أتوقع. يبدو أنَّ ذهولي وما كنت فيه من حالة شرود منعاها من ذلك شَفَقةً بي.
كان كلانا صامتاً فالفراق أليم والمستقبل مجهول وصحة الوالدة في أيدي قَدَرٍ أعمى لا يعرف الرحمة أو تأخير الأجل المرسوم. نعم، جرّبنا الفرقة حين إفترقنا قبل ثلاثة أعوام في مطار بغداد. كانت الوالدة معافاة وقلبها سليم. كانت تودّعني على أرض المطار. أما الآن فأنا الذي يودّع ولكن، على أرض غريبة وبعيدة عن العراق. هل ستتحمل الرحلة البرية الطويلة من بيروت إلى عمّان ومن عمان إلى بغداد ؟ ماذا ستأكل وما ستشرب في الطريق ؟ ماذا لو ماتت في هذا الطريق ؟ أين ستُدفن ومن سيقوم بمراسم الدفن ؟؟ أفكار سود تراكمت وتلاطمت في رأسي في تلكم الدقائق الحرجة والثقيلة التي تسبق لحظة مغادرة السيارة. خنقتني عَبرةٌ بينا كنا صامتين لا يجرؤ أحدنا على النظر في وجه الآخر. أخيراً نطقت الوالدة قائلةً : سنلتقي هنا صيف العام القادم في بيروت. أنعشني هذا القول المفاجيء. أمدّني بالأمل. شعرت براحة كنت بأمس الحاجة إليها. إذن سيكون هذا فراق عام وليس ثلاثة أعوام. جرّبنا وتحمّلنا الغياب الأطول، ولسوف تهون الغيبةُ الأقصر. 
تحركّت السيارة فهطل دمعي كما لم يهطلْ في سابق عمري. توجّهتُ نحو البحر ألتمس الصبر والسلوى. ما كنت أعي ما حولي، لا البشر ولا السيارات ولا حركة بيروت الحيوية. بقيت أمشي أُداري وأمسح الدموع مردداً بعض الأشعار والأغاني الحزينة التي تصف ساعة الفراق ولوعة المتفارقين. عجباً، كيف ينهار الإنسان فجأة تحت وطأة أمر منتظر ومتوقع ! كيف يعجز عن السيطرة على تدفق مشاعره وطوفان دموعه ؟ ولماذا تأتي الدموع عادةً مع ساعة الفراق ومن أين تأتي ؟ يفقد المرء توازنه الشخصي وإتزانه الإجتماعي حين تغلبه قوة إندفاع الدموع. الدموع تعبير عَفوي لا إرادي عن حزن عميق وضعف أو رقّة في تركيب الروح. وقد تأتي مع الفرح (( ومن السرورِ بكاءُ / المتنبي )).
بلغتُ أخيراً مرامي إذ إنتهى بي المشي المضطرب إلى منطقة جامعة بيروت الأمريكية ومبنى السفارة الأمريكية المطلتين على ساحل البحر. جلستُ على الرمل أُراقب حركة أمواج البحر تقترب من الساحل فتختفي لتأتي بعدها أمواجٌ أُخُر. قلت هذه هي الحياة وها هم أولاء أحبابنا، يأتون سريعاً ويختفون سريعاً فعلام العَجَلة ؟! أين الوالدة وقد كنّا معاً قبل أقل من ساعتين من الزمن ؟
تركتُ ساحل البحر وأمواجه التي تعكس سياق دورة الحياة متوجهاً نحو مركز المدينة التي أفرحتني أولاً ثم ظَلَمتني ونكبتني أخيراً. كنتُ مُتعَباً وجائعاً ومهزوماً ثم وحيداً كاليتيم في لبنان. هذا هو العراق قريب مني لكني لا أستطيع أن أدخل حدوده لأرى بقية أهلي. دخلتُ منطقة الحمراء أتمشى على مهل في شوارعها الجميلة فأثارت إنتباهي لوحة على إحدى البنايات دنوت منها فقرأت (( الملحقية الثقافية العراقية )). صدفة نادرة لكنها صدفة حلوة. هنا بعض العراق وهنا شيء من أرض العراق. كان شقيقي الأوسط ( جليل ) قد كتب لي في إحدى رسائله التي سبقت مجيئي إلى بيروت يخبرني أنَّ الملحق الثقافي هو صديقه ( مصطفى لطفي عبد الجبار ) الذي كان يوماً مدرِّساً في ثانوية الحلة للبنين. كان واحداً من كثير من المدرسين الذين يأتون بيتنا ضيوفاً.كان هذا شأن ودأب  أخي في تكريم وإستضافة المدرسين القادمين إلى الحلة من مدن عراقية أخرى.كان يقول إنهم هنا غرباء وإنهم بحاجة إلى أجواء حميمة تذكّرهم بعوائلهم.كان أخي يومها موظفاً في الثانوية بدرجة ملاحظ.لم أترددْ ولم أُفكّر في الأمر طويلاً. دخلت العمارة ثم صعدتُ إلى الطابق الأول. ضربتُ جرساً ودخلتُ أسأل أحد الموظفين عن السيد الملحق الثقافي. قادني الرجلُ إليه فكانت مفاجأة لكلينا كبيرة. وكان لقاءً ودياً حارّاً. ما كان يتوقع زيارتي وما كان يعرف أني أدرس في جامعة موسكو. رأيت مكتبه الواسع مليئاً بالضيوف. وجبة تخرج وأخرى تأتي. كنتُ جالساً على كرسي قريب منه فأسرَّ إليَّ إنه طلب من وزارة التربية نقله إلى بغداد. قال إنَّ كثرة زوار بيروت وكثرة الضيوف من الأصدقاء والأقارب والمعارف تُثقِل كاهله وتزيد من متاعبه المالية. شعرت بالحرج وأردت أن أقوم مودعاً لكنه، وقد أدرك خطأه ( التاكتيكي )، بادر إلى القول ستكونُ معنا هذا اليوم على الغداء. قالها لكأنما أراد أن يقول إنَّ لكم في عُنُقي ديناً وها إني أرد بعضه في بيروت. 
حين إنتهى دوام الملحقية أخذني ومجموعة أخرى من الضيوف بسيارته الأمريكية الصنع إلى بيته. بعد تناول طعام الغداء رجاني أن أحمل معي رسالةً منه إلى السفير العراقي في موسكو الدكتور محمد الناصر. كنتُ في العهد الملكي أحد طلاّب الدكتور الناصر في دار المعلمين العالية. ثم أصبح بعد ثورة تموز 1958 عميداً لهذه الكلية لفترة قصيرة. ثم كان عام 1961 نقيباً للمعلمين. ولهذه الأسباب مجتمعة وافقت. وافقت أن أحمل الرسالة إلى السفير رغم حذري الشديد. فلقد كانت السفارة في موسكو ونظام الحكم في بغداد ( صيف 1965 ) في وادٍ والطلبة العراقيون في وادٍ آخر.لم أسأل بالطبع عن مضمون الرسالة المغلقة، لكني عرفتُ بعد مقابلتي للسفير في مكتبه في السفارة أنَّ الرسالة تخص وضع كريمته  الدراسي في الجامعة الأمريكية في بيروت ( مختصرها بالإنجليزية A.U.B  ) أي
                      American University of Bierut  
كانت تعاني من صعوبات مع إدارة الجامعة عزاها السفير إلى نشاطها السياسي.
بعد أن غادرتْ الوالدة غدتْ بيروت بجمالها وجبالها وملاهيها وأسواقها العامرة جحيماً لا يُطاق. فلا الجبل ألهاني ولا رفقة بعض الأصدقاء. زاد من بلواي أني أُصبِتُ بنوع من الحساسية في صدري غريب. كنتُ أسعل بقوة مع كل شهيق وزفير. في هذه الأجواء القاتمة والمؤلمة جسداً وروحاً وجدت طريقي إلى مطعم يحمل إسم فلسطين. ( فلسطين ) عام 1948 حيث قاتل أخي الأكبر في الفوج الأول من اللواء الأول تحت قيادة عبد الكريم قاسم. ثم مجيء موجات اللاجئين الفلسطينيين إلى العراق حيث درّسني اللغة العربية عام 1949 ـ 1950 الأستاذ الفلسطيني ( محمد سليم رشدان ). كان هذا الإنسان الرائع يشكو من سلوك مدير مدرستنا مر الشكوى وما كنا نعرف السبب. ما أنْ إنتهى العام الدراسي حتى أنهى عقده وترك العراق في مغامرة مجهولة وهو يردد أشعاراً للمتنبي :

منْ يهنْ يَسهُلِ الهوانُ عليهِ
ما  لجُرحٍ    بميّتٍ   إيلامُ  

واحتمالُ الأذى ورؤيةُ جانيهِ 
غذاءٌ  تضوى  به   الأجسامُ 

ذلَّ  مَن يغبطَ الذليلَ  بعيشٍ
رُبَّ عيشٍ أخفُّ منه الحِمامُ 

لقد دأب هذا الرجل الرائع على كتابة بعض هذه الأبيات على السبورة كلما دخل حصة اللغة العربية. 
حين كنت أرتاد المطعم أرى مأساة فلسطين مثل بانوراما تتجسد فيها أمامي كافة فصولها وأبعادها. أرى فيها شيئاً من محنتي في الوحدة والتغرب. أرى أخي المقاتل. أرى المربي الفلسطيني الفاضل وأكاد أرى دماء عبد الكريم قاسم تصبغ جدران مطعم فلسطين.كان عبد الكريم قاسم قد أسس نواة جيش تحرير فلسطين بُعيد ثورة تموز 1958 وعهد إلى أخي إياه قيادة وتدريب هذه النواة. قتل قاسم البعثيون والقوميون في شباط 1963 بدعوى إنه رجل ( شعوبي ) غير قومي وغير وحدوي. 
ما كنتُ أرتاد إلاّ هذا المطعم. كنت أجد فيه بعض التعزية ونوعاً من السلوى، بل وشيئاً من النشوة الصوفية الغريبة. هنا في هذا المكان أرى عام النكبة. وهنا يتراءى لي أخي و عبد الكريم قاسم وأستاذي الفاضل محمد سليم رشدان. وفيه أسمع قصيدة ( أخي جاوز الظالمون المدى ) بصوت محمد عبد الوهاب. وأقرأ القصيدة الأخرى ( يثربٌ والقدسُ منذ احتلما / كعبتانا وهوى العُربِ هوانا ). ثم صوت فيروز تغني ( أجراسُ العودةِ فلتُقرَعْ ). 
أصبحتُ وقد تعكّرت الأجواء من حولي وفي داخلي أتعجّل موعد مغادرتي بيروت. سيكون وضعي في موسكو أفضل بكل تأكيد. سأجد في موسكو أشياء كثيرة تُلهيني وتنسيني محنتي بوالدتي والأفكار السود التي جعلت الحياة تظّلم في عيني ( وما اسوّدت الدنيا بعيني لضيقها / ولكنَّ طَرَفاً لا أراكِ به أعمى ـ للمتنبي ). نعم، سأستأنف في موسكو أبحاثي، وسأرى الأصدقاء والصديقات الذين فارقت. ستكون ( سونيا ) في إستقبالي على أرض المطار حاملةً بيدها بعض الزهور. ستفرح بما حملت إليها من هدايا. سأزور معلّمة الرقص السيدة نزاروفا. سأزورها في بيتها لأقصَّ عليها أخبار والدتي وأصف لها مدينة بيروت. سأحمل إلى الباحثة العلمية ( أفدونينا ) صندوق اللُبان الذي طلبتْ ماركة السهم Arrow . غدت الأيام ثقيلةً لا أدري كيف أقضيها. فقدت طعمها السابق فصرتُ أعد الساعات. أكثرت من زيارة ساحل البحر ورأس بيروت ومنطقة الحمراء. كما زهدتُ بالجبل ومصايفه الشهيرة المطِلّة على بيروت والبحر. غدا مذاق بيروت في فمي كالتراب. تجمّدت حركتها وحيويتها وأصبح كل شيء فيها خشباً لا روحَ فيه. 
هكذا تقضّت أيام الأسبوع الأول من شهر آب 1965 منتظراً نهايته لأعودَ إلى موسكو التي أحببت رغم ما لاقيت من محن في باديء أمري معها وفيها. إمتدت لي فيها جذور وأصبح لي فيها تأريخ وحققت في دراستي نجاحات أفخر بها وأعتز. ما قيمة بيروت دون والدتي وباقي أهلي ؟ ما قيمة بيروت دون دراسة وبحث وهدف ؟ لا شيء. أنفق في هذه المدينة ما حملت لي أمي من نقود. أما في موسكو فإني أنفق من مخصصات مجزية أستلمها في نهاية كل شهر. ثم لديَّ في موسكو غرفة محترمة معها حمّام مزوّد بالماء الحار والبارد صيفاً وشتاءً. هكذا تأهبت روحاً وجسداً لفراق بيروت والعودة ثانية لموسكو الدفء والشمس صيفاً والثلوج شتاءً. 
حان يوم الرحيل. نهضت مبكّراً، حزمت حقائبي وإتجهت إلى ميناء بيروت الذي ما كان بعيداً عن فندق إقامتي.
في رحلتها البحرية إلى ميناء ( أوديسا ) السوفياتي تمر الباخرة بالمدن والموانيء ذاتها ولكن في الإتجاه المعاكس : من بيروت إلى الإسكندرية فقبرص ثم ميناء بيريه اليوناني وبعدها تأتي إصطنبول التركية ثم فارنا البلغارية يليها ميناء كونستانسا الروماني وأخيراُ تُلقي السفينة مراسيها في أوديسا ومنها إلى موسكو بالطائرة.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق