في الدورة العاشرة من مسابقات واحة الأدب في الكويت، فازت قصة الأديب السوري المعروف محفوض جرةج "هاجر ولم يهاجر" بالمركز الثامن، وستنشر في كتاب "فائزون" مع باقي القصص الفائزة. ألف مبروك للصديق العزيز، وعقبى لابداع آخر. واليكم القصة:
كان الشارع العام يسبح في ضوء الصباح الندي. وقف المهاجر إلى جوار الطريق بقامته النحيلة ، وبوجهه الذي لوحته الشمس، و بجواره حقيبة سفره السوداء .
استند إلى شجرة بجانبه كسير الفؤاد والدمعة في عينيه، شاحب الوجه، وقد ارتسمت ابتسامة ذابلة على شفتيه المرتجفتين يفكر في الدرب المخيف الذي سيسلكه، وهو المثقوب صدره بطعنات الحياة القاسية التي رسمت أخاديدها على جبهته وكأنه طيفٌ رسمته ريشة فنان .
شعَّ بريق غريب بعينيه الذابلتين، بكى في هدوء الصباح. انهمرت دموعه قطرات لؤلؤية. كان الأمر ثقيلا ً على روحه، همس في نفسه: كم أنت جميلة يا مدينتي حين ينام السحر بين جفنيك!. وما أتعسكم أيها المهاجرون المقتولون وأنتم بالحياة، ستعيشون غربتكم والألم يعتصر نفوسكم!. كم ستتذكرون ماضيكم الجميل الذي طويتموه في ربوع هذه المدينة الرائعة. لن يكون بإمكانكم نسيانها لأن الحنين سيرهقكم .
وبعد ذلك حاول التقاط حقيبته فخانته يمناه، وخارت ثقته التامة بالهجرة، ثم ألقى بوجهه المرهق على الشجرة، حيث بدا كل شيء واضحا أمامه من خلال غمامة الهجرة القاسية، فتأرجحت بعينيه شوارع وأحياء مدينته التي تعصف في روحه كريح كثيفة .
عاودته ذكريات الماضي، فتأوه طويلا، وطفرت من عينيه دمعتان انهمرتا بين أخاديد وجنتيه الذابلتين. ثم بدرت منه التفاتة رأى فيها ما خلفته الحرب من خراب، فأجهش بالبكاء، وتنفس الصعداء وتمتم ببعض العبارات: كم هي رائعة هذه النسمات الباردة التي تبعث الحرارة في دمي. كم أنت رائعة أيتها الفراشة البيضاء، وكم أتمنى أن أضمك إلى صدري .
لن أندم بعد الآن، فما عادت تغريني الهجرة، فإن نسيتك فلتنسني يميني، لهفتي عليك أنت ما دمت حية، وحبك مغروس كخنجر في قلبي لا أقدر أن أنتزعه لأنني متعلق بك وبأحلامي التي ستضيع إن هربتُ مصطحبا ً كآبتي الجارفة .
كيف أنسى شبابي الطافح بالأفكار المفرحة على دروبك؟. كيف أنسى كل شيء مما مضى؟. كيف أنسى السنوات التي بددتها في العمل على ازدهارك، فكما ترمي الشجرة أوراقها الصفراء ها أنا أرمي كلمات الهجرة المعسولة عني وأتركها للريح كي تذروها .
لم أتبين ملامحك بكل هذا الوضوح إلا الآن، فالأشياء الكبيرة لا ترى إلا من مسافة بعيدة. ها إني أتفادى السقوط في دوامة الهجرة. سامحيني فلم تعد الهجرة تعنيني.
وحمل حقيبة سفره السوداء وقفل راجعا إلى بيته الصغير مبتهجا، ولم يعد الارتعاش يخايل أفكاره ويقضُّ مضجعه .
0 comments:
إرسال تعليق