كتب جورج عازار السويد - ستوكهولم
يرسم الفنان التشكيلي الأستاذ يعقوب اسحق لوحاته بألوانِ الرُّوح يغمس فيها ريشته المُضُمَّخة بأريج الخيال يبعثر الذِّكرى طوراً بغضب الفنان الذي لا يرضيه غير الكمال وطوراً يعانقها بحميمية العاشق الذي يحنو على تفاصيل المكان والزمان.
ولأن الطبيعة هي الأم الحانية التي ترعانا، وحتى وإن متنا تبقى ملازمة لنا تضمُنا بحبٍ داخلها، لذلك فهو يقدم لها كل فروض الاحترام يعشق حالتها وتحولاتها فهو عاشق حقيقي لها بامتياز.
يعشق انفعالاتها ويكنُّ لها كل الاحترام، فيهيم عشقاً في أعاصيرها وفي جنونها وفي سكونها وفي هداة أشجارها وشموخ جبالها ووهادها.
كأنه مصورٌ فوتوغرافيٌ أنيقُ يستهويه نقل الحدث والصورة يسافر إلى البحر فيختطف منه سحر لوحاته في غفلة أمواجه،
فإن استدار البحر نحوه وأمسكه بالجرم المشهود متلصصاً وماتزال ريشته مضرجةً بزرقة الموج، حينها يرغي اليمُّ مزبداً ويثور فيغتنم الفنان تلك الثورة فتلتقط ريشته هياج البحر ببراعة المحترف الذي لا يثنيه عن غايته سخطٌ او إمتعاض فيواصل إعمال ريشته بغير هُدىً في ابتداع حالاتٍ مختلفةٍ في جسد الطبيعة.
يُضحِكُها حيناً بألوانه كأنه يروي لها أحدث النُّكات فتاتي لوحاته راقصةً مبهجةً تضج فرحاً بأزهى الأشكال، وحيناً يرسم ببراعة حزنها وقد عرَّاها خريف الزمان أو يجعلها ترتجف من برودة الشتاءات القاسية أو يصوِّر لنا شجيرات متناثرة نالت من خضرة أثوابها زعرنة الخريف الأهوج.
ويعود ليفرحنا بعودة الحياة إلى شرايين الطبيعة الظمأى فيختط لون الخضرة مثل بساطٍ على مدِّ النظر يفوح منها بوح شقائق النعمان ووشوشات الياسمين وهمسات الورد الجوري حين يستفيق مع ساعات الفجر النَّدي.
لا يُعمِّدُ الفنان يعقوب اسحق ريشته بجرن الألوان المقدس إلا حينما يدرك اكتمال الحلم وبلوغ الفكرة الوليدة سنَّ النضج، كي تصبح موضوعاً على صفحة الخام البتول، فالمزاوجة بين اللون وخامة الكتان تستلزم طقوساً متميزةً وشعائر معينة لا بد من إنجازها كي ترى النور لوحة ساحرة خلابة تنعش الروح وتدفع الخيال إلى سفر بعيد في متاهات تنساب مع كل إمعانٍ في تفاصيل الحكاية.
ففي عمق لوحاته نرى نحن ذواتنا فيها عندما نصعد على ظهر مركب تتقاذفه بلا رحمةٍ أعاصير هوجاء فيدركنا الرعب ونختار أن نعود مجدداً إلى اليابسة، نسير في تلك السهول الغنَّاء المفروشة بقطرات النَّدى في بداية صباحٍ ربيعي، وحالما نعبر وسط غابة الأشجار المتعانقة تحاول طيور عديدة أن تُلفت نظرنا بزقزقةٍ أو تغريدات ممتعةٍ فتضفي على المشهد تأثيرات ساحرة خلَّابة.
الفنان التشكيلي يعقوب اسحق رسَّام عاشق لألوانه يبث فيها أحاسيسه وخيالاته يغازلها بلمسات الحب، فتزهر فرحا كزهراتٍ بريّةٍ في أقاصي الوديان فتتلوى بمتعةٍ مثل راقصة تانجو بين ذراعي الرفيق على خشبة مسرحٍ، تموج بحميميات الروح تارةً وتضج بالنشوة والمتعة تارةً أُخرى.
لا تحتاج أن تختبر سحر الطبيعة وجنونها، يكفي أن تبحر بناظريك في فضاءات لوحاته المعجونة بالفتنة والممتدة على جبين الجمال حتى تأخذك في تأملاتٍ عميقةٍ، ترحل بك إلى عوالم من عبقٍ يفوح بأريج الزَّهرات البرية ورائحة العشب الندية وتمايل شجيرات السرو والحور ووشوشات الطيور في سماءٍ سكبت بقصائد من عشقٍ وزُيّنت بمصابيحٍ من رجع صدى رونق الحسن والبهاء.
الفنان التشكيلي يعقوب اسحق مُتيَّمٌ بالطبيعة، سحرته في زمنٍ من الأزمان جنيةٌ هاربة من تفاصيل عالم الدهشة الآسر والخلاب، فانصاع راضياً لأوامر الخيال يتحفنا باياتٍ من الجمال، يُشَكِّلُها بكلِّ مهارةٍ وبتمكُّنِ العارف لما يريد، يبدع بأسلوبٍ جذابٍ يصوِّرُ لنا قطرات المطر وندف الثلج وزمجرة الرياح وغضب البحر وانصياع الموج إلى أوامر الخُلجان.
جاء هذا الفنان من زمن النَّقاء، من رحم الأرض المعطاءة، من صفاء سماء الضيعة المزركشة بالريحان والورد والعوسج والمسقيةٍ حُباً وعشقاً وخيالاً، والمعجونة بشذى الزنبق والياسمين وقطرات المطر العذبة على مشارف نيسان.
هناك حيث تمرح من غير خوفٍ حملان وخرفان وجديان، وحيث تغرِّد العصافير وترنم الحساسين والبلابل وطيور الوروار بعيداً عن عيون وبنادق ومَكرالصَياد.
يعقوب اسحق ليس مجرد فنان يرسم، فهو شاعر عبر ريشة الإبداع، وهو روائي يتحدث إلينا بوحيٍ من حكايا الطبيعة الساحرة، وهو قبل هذا وذاك الفنان الإنسان الذي يقدِّسُ الجمال، ويغوص في محرابه متعبداً وشاكراً لله على نعمة الخلق في هذا الإعجاز المتمثل في كل تلك البدائع المتجسِّدة حولنا من ألقٍ ورقيٍ وجمال.
ريشة جميلة وطبيعة يتمثل له جمالها مثل عري إمراةٍ فاتنةٍ يَهمُّ برسمها أو يشكِّل ملامحَها نحاتٌ يعشق تفاصيلها وينتشي بملامحها فيذوب في سِّحرها ويتوه في دوّامات النشوة القصوى.
الفنان التشكيلي يعقوب اسحق عطاءُ عشرات السنين من فنٍ وإبداعٍ، يترك في كل لوحةٍ من لوحاته نفحةً من رُوحه، وشذىً من خياله، تداعب أنفاسه خطوط الألوان فتمتزج في خليطٍ من روحٍ وحياةٍ وخيالٍ، فهو يعيش في خلاياها، ويعيش بين ثناياها، ويغوص مثل أسماك البحر في طيَّاتها، يتنفس هوائَها في الدَّاخل ولكنَّه أبداً لا يغرق، أبداً لا يتوه، وأبداً لا يخطئ في التضاريس واستكشاف بوصلة البَحرِ والأرضِ وفضاءات السَّماء.
0 comments:
إرسال تعليق