يمتلكُ الفنَّان التَّشكيلي السُّوري جاك جوخدار طاقةً فنّيّةً خلّاقةً في فضاءِ النّحتِ والتَّشكيلِ الفنِّي


كتب الأديب والتشكيلي السوري صبري يوسف:

 

جاك جوخدار فنّان تشكيلي خريجُ كلَّيّة الفنون الجميلة مِنْ جامعةِ دمشق، قسمُ النَّحت، يمتلكُ هذا الفنَّان السُّوري البارع طاقةً فنّيّةً خلّاقةً في فضاءِ النّحتِ والتَّشكيلِ الفنِّي، لما لديهِ مِنْ خيالٍ جامحٍ ورؤيةٍ شاهقةٍ وخلّاقةٍ في تطويعِ الكتلةِ وتشكيلها تشكيلاً فنّيّاً مُبهراً، مُركِّزاً على الإنسانِ كموضوعٍ أساسيٍّ لمختلفِ أعمالِهِ الفنِّيّةِ، مُسقطاً عليهِ الكثيرَ مِنَ الرُّموزِ والأفكارِ والتّطلُّعاتِ والآفاقِ الهادفِةِ، فتولدُ منحوتاتُهُ بأسلوبٍ متميّزٍ، لما في أعمالِهِ مِنْ خصوصيّةٍ فنّيّةٍ وفيها مِنَ الحداثةِ الشَّيءُ الكثيرُـ يعملُ بغزارةٍ متميّزةٍ في فضاءِ النَّحتِ والتَّشكيلِ اللَّونيِّ، ولهُ باعٌ كبيرٌ في هذا الفضاءِ الفنِّي الشَّاهقِ، ويمتلكُ طاقاتٍ تشكيليّةً في بناءِ لوحاتٍ فنِّيّةٍ في غايةِ العُمقِ والتَّشكيلِ والبناءِ الفنِّيِّ، متوغِّلاً في آفاقِ الرَّمزيّةِ والتَّجريدِ بحداثويَّةٍ متجدِّدةٍ على الدَّوامِ. 

التقيتُهُ في عدَّةِ مَعارضَ مشتركة لَهُ مَعَ فنَّانينَ آخرينَ، وأتابعُ أعمالَهُ مُنذُ سنواتٍ في مرسمِهِ في هوسبي كونست هال، ودائما تراهُ متجدِّداً في أعمالِهِ، ومُواكباً الحداثةَ المعاصرةَ. فنّانٌ هادئٌ، مُمتلئٌ بالحيويّةِ والنَّشاطِ، والصَّبرِ في الاشتغالِ على منحوتاتِهِ برهافةٍ عاليةٍ، يُعِدُّ فِكرةً ما ثمَّ يشتغلُ على تنفيذِ فكرتِهِ، وفيما هو في أوجِ انشغالِهِ وغوصِهِ في العملِ، سرعانَ ما تولدُ لديهِ أفكارٌ جديدةٌ، فيصوغُها في البناءِ الفنِّيِّ للمنحوتةِ، يعملُ باستمراريّةٍ وهوَ مُستغرقٌ في عوالمِ العملِ بشغفٍ كبيرٍ، ويتواردُ إلى ذهنِهِ عبرَ خيالِهِ الخلَّاقِ، الكثيرُ مِنَ التَّفاصيلِ والأفكارِ الجديدةِ خِلالَ عمليّةِ تشكيلِ الكتلةِ الفنِّيِةـِ، مُستفيداً مِنْ ثقافتهِ الفنِّيّةِ العميقةِ ومِنْ خبراتِهِ، ومشاهداتِهِ لآلافِ الأعمالِ الفنِّيَّةِ، النَّحتيّةِ منها واللَّوحاتِ التَّشكيليّةِ بمختلفِ الأساليبِ والمدارسِ الفنَّيّةِ، وتشكَّلَ لديهِ رؤيةً فنّيَّةً خاصّةً بِهِ، وحالما نشاهدُ أعمالَهُ نجدُ فيها لمسةً جوخداريَّةً تُميِّزُهُ عَنْ غيرِهِ مِنَ الفنَّانينَ.   


وفي فضاءِ الرَّسمِ، تراهُ جامحاً في خيالِهِ، وعميقاً في رؤاهُ، فهو قادرٌ على الرَّسمِ في مرسمِهِ وباستمراريّةٍ مُدهشةٍ، كما يُمكنُهُ أنْ يرسمَ في مَنزلِهِ، وفي أيِّ مَكانٍ عندما تتوفَّرُ لَديهِ أدواتُ الرَّسمِ، ويرسمُ على أحجامٍ كبيرةٍ ومتوسِّطةٍ وصغيرةٍ، ولا يضيرُهُ أنْ يرسمَ بقلمِ الرَّصاصِ عندما تردُهُ فكرةٌ ما، أو يستهويهِ أنْ يعبِّرَ عمَّا يجولُ في خاطرِهِ، ويرسمُ بالحبرِ الصِّيني على الورقِ المقوّى، الكارتون، كما يرسمُ بالفحمِ، والتّلوينِ العادي الخشب، ولَهُ باعٌ طويلٌ بالرَّسم بالباستيل، ورسمَ العديدَ مِنَ اللَّوحاتِ الصَّغيرةِ خِلالَ فترةٍ قصيرةٍ بالباستيل،  وشغفُهُ الكبيرُ هو أنْ يرسمَ بالاكريليك والزَّيتي بقياساتٍ متنوّعةٍ، وهو في حالةِ تفكيرٍ إبداعيٍّ مُتجدِّدٍ، ويسعى إلى ابتكارِ تشكيلاتٍ فنّيةٍ جديدةٍ ورؤيةٍ جديدةٍ بأسلوبٍ مُتميّزٍ، ويساعدُهُ في تنفيذِ هذهِ الآفاقِ والطُّموحاتِ الفنّيّةِ ما لديهِ مِنْ مخزونٍ ثقافيٍّ فنِّيٍّ مُتجدِّدٍ وعميقٍ، فتولدُ اللَّوحةُ بينَ يديهِ بطريقةٍ انسيابيَّةٍ رهيفةٍ وكأنّهُ في حالةِ ابتهالٍ مَعَ بهاءِ الألوانِ، عبرَ تناغمِها وانبعاثِها فوقَ وجنةِ اللَّوحاتِ. حيثُ يجدُ سلواهُ في الرَّسمِ، عندما لا يكونُ بينَ يديهِ منحوتة معيّنة، فدائماً في حالةِ انشغالٍ في فضاءَاتِ الرَّسمِ أو النَّحتِ!


وفي فضاءِ النَّحتِ، وبما يتعلَّقُ في الكتلةِ، الفراغ، يتحدَّثُ عَنْ كيفيَةِ ولادةِ العمليّةِ النَّحتيّةِ وعلاقتِها بالكتلةِ والفراغِ، فهو يرى أنَّ كلَّ حجمٍ محسوسٍ هو كتلةٌ إيجابيّةٌ، والفراغُ هو الحجمُ غيرُ المحسوسِ، أو غيرُ الملموسِ، لكنَّنا نجدُهُ أي الكتلةُ غيرُ المحسوسةِ - عبرَ جماليّةٍ مُعيّنةٍ، والفراغُ كما يراهُ جوخدار يُحدَّدُ بينَ الظُّلمةِ والنّورِ، والهلامي والجامد. والكتلةُ السَّلبيّةُ، هي الفراغ المُحيط ُبالكتلةِ الجامدةِ، أي الكتلةُ الواقعيّةُ، المحسوسةُ والملموسةُ، وهذا الفراغُ المتشكِّلُ حولَ الكتلةِ المحسوسة هو أيضاً جزءٌ مِن الكتلةِ السَّلبيّةِ بما فيها الفراغ المحيط بالتمثالِ المحسوسِ. فهو يرى أنَّ الفراغَ المحيطَ بالكتلةِ الملموسةِ هو الّذي يشكلُّ الكتلةَ، التمثالَ، أو المنحوتةَ، لهذا فالفراغ لهُ دورٌ كبيرٌ في إبرازِ معالمِ المنحوتةِ. وفي هذا السِّياقِ أستطيعُ القولَ إنَّ الكتلةَ السِّلبيّةَ كإصطلاحٍ في التَّسميةِ هي ليسَتْ سلبيةً في تشكيلِ المنحوتةِ، بلْ هي العمودُ الفِقري في إبرازِ الكتلةِ الإيجابيّةِ الملموسةِ ولولا الفراغُ لما تمكَّنا مِنْ مشاهدةِ تفاصيلِ المنحوتةِ، وبهذا السِّياقِ أرى أنَّ الكتلةَ السِّلبيّةَ أو الفراغَ كتلةٌ موجودةٌ في جوهرِ تشكيلِ العملِ النَّحتي، لأنَّه لولا هذا الفراغ لَما تمكَّنا مِنْ مشاهدةِ المنحوتةِ بكلِّ تفاصيلِها ودقائق متفرِّعاتِها.


وفيما يخصُّ البدءُ في منحوتةٍ معيّنةٍ، فهو يرسمُ سكيتشات بأشياءَ يحسُّها ويراها مناسبةً للعملِ الَّذي سينحتُهُ،  لكنّهُ عندما ينحثُ المنحوتةَ، ينسى كلِّياً، الاسكيتش الَّذي أعدَّهُ، لأنَّهُ يدخلُ في عالمٍ جديدٍ، وخلالَ عمليّةِ النّحتِ، يجدُ تشكيلاً ومعانيَ وتقنياتٍ جديدةً، وتولدُ عدّةُ أفكارٍ وتتطوَّرُ العمليّةُ النَّحتيّةُ بحسبِ ما يتراءَى لَهُ في الخيالِ - المتداخلِ مَعَ الواقعِ، ومَعَ تداخلِ الأحاسيسِ، لأنَّ لكلِّ لحظةٍ تأثيرُها وحضورُها ولها تدفُّقُها وانبعاثُ ما ينبثقُ عَنِ الحالةِ المرافقةِ عندَ النّحّاتِ، ويتداخلُ الشُّعورُ مَعَ اللَّاشعورِ بمجرى واحدٍ ويولِّدُ انبعاثٌ جديدٌ غيرُ موجودٍ في بدايةِ العملِ النَّحتي، وهكذا نرى أنَّ السكيتش الّذي أعدَّهُ الفنَّانُ للبدءِ في منحوتتِهِ كانَ بمثابةِ الشَّرارةِ الأولى لانبعاثِ فضاءِ المنحوتةِ ولم يكُنِ الصِّيغةَ المتطابقةَ مِنْ تشكيلِها، بَلْ هي بمثابةِ الانطلاقةِ الأولى للبدءِ بالعمليّةِ الإبداعيّةِ، وهذهِ الحالةُ تقتربُ كثيراً إلى فضاءِ انبعاثِ القصيدةِ، حيثُ ينطلقُ الشَّاعرُ مِنْ إشراقةٍ ما، أو ومضةٍ ما، وهذهِ الومضةُ تقودُهُ إلى فضاءَاتٍ ما كانَتْ تخطرُ على بالِهِ لحظةَ انبعاثِ القصيدةِ، والنَّحّاتُ أيضاً انطلقَ مِنَ السكيتش كشرارةٍ أو إشراقةٍ أولى، ثمَّ بدأَ في انبعاثِ تدفُّقاتِ خيالِهِ مَعَ انبعاثِ مشاعرِهِ وربطِها مَعَ بعضٍ مِنْ آفاقِ واقعِهِ، وهكذا تولدُ المنحوثةُ عبرَ عدَّةِ عمليّاتٍ تجلِّياتيَّةٍ إلى أنْ يصلَ الفنَّانُ إلى مرحلتِهِ النِّهائيّةِ في بنائِها الفنِّي! 


وفيما هو في ذروةِ الانغماسِ في تشكيلِ العمليّةِ النَّحتيِةِ، يبحثُ النّحَّاتُ عَنِ الأحجامِ المناسبة، والكتلِ والخطوطِ، المنبثقةِ مِنْ تفاصيلِ تشكيلِ المنحوتةِ، ويعمِّقُ معانيها في بناءِ الشَّكلِ الَّذي أمامَهُ، ويبدأُ بعمليّةِ اللُّعبِ المدروسِ، وهذا اللُّعبُ أشبهُ ما يكونُ بالقفزِ فوقَ الماءِ على حدِّ قولِ الفنّان. وهذا القفزُ يتمُّ مِنْ نقطةٍ إلى نقطةٍ أخرى، وهذا اللُّعب المدروسُ يتوافقُ معَهُ الوهْجُ العفويُّ المتدفِّقُ والخيالُ المصاحبُ لتجلِّياتِ الحالةِ الإبداعيّة. 


يركِّزُ الفنَّانُ جاك جوخدار على الإنسانِ في معظمِ أعمالِهِ، فلا ترى منحوتةً مِنْ منحوتاتِهِ إلَّا وفيها تشكيلٌ أو ترميزٌ لإنسانٍ، والإنسانُ عندَهُ يحملُ معاناةً لعدّةِ أسبابٍ، ويستخدمُ في أعمالِهِ الفنِّيّةِ الرُّموزَ، للوصولِ إلى أهدافِهِ وطروحاتِهِ وأفكارِهِ مِنْ صنعِ المنحوتةِ، ولا يغفلُ تأثيرَ الكتلةِ وجمالياتِها بالفراغِ الَّذي يتركُهُ، ويجبُ أنْ يُشاهَدَ الجمالُ مِنْ جَميعِ الجوانبِ، مَعَ البحثِ عَنِ الحداثةِ في العملِ الفنِّي، وبناءِ عالمٍ فنّيٍ بأسلوبٍ خاصٍّ بالفنَّانِ، فهو يسعى لتحقيقِ خصوصيّةٍ فنِّيّةٍ وأسلوبٍ فنِّي يميّزُهُ عَنْ غيرِهِ مِنَ الفنَّانينَ.

تبقى المنحوتةُ عندَهُ مفتوحةً على آفاقٍ متعدِّدةٍ، لكنَّهُ يصلُ إلى مرحلةِ الاكتمالِ، أو الاشباعِ مِنَ العملِ الَّذي بينَ يديهِ، ويُصبِحُ لديهِ شغفُ الانتقالِ إلى عملٍ جديدٍ، وكأنَّ المنحوتةَ المبحوثَ عنها هي استكمالٌ للمنحوتةِ السَّابقة لها، وبالتَّالي النَّحتُ عندَهُ سلسلةٌ متواصلةٌ ومتداخلةٌ عبرَ المنحوتاتِ ككل، فالعملُ عندَهُ عبارة عَنْ مجموعةِ أفكارٍ متداخلةٍ ومترابطةٍ وتكمِّلُ المنحوتاتُ بعضُها بعضاً، في العديدِ مِنَ الجوانبِ، استكمالاً للوصولِ إلى الأهدافِ البعيدةِ، رغم تغيُّرِ وتنوُّعِ الأعمالِ.

يميلُ الفنَّانُ إلى العملِ على المنحوتاتِ الكبيرةِ والنُّصبِ التّذكاريّةِ، العملاقةِ، لما لديهِ مِنْ خيالٍ، مُتدفِّقٍ في بناءِ ونحْتِ هذهِ النُّصبِ الكبيرةِ، وقَدْ سبقَ ونفّذَ الكثيرَ مِنَ النُّصبِ التذكاريّةِ في ساحاتٍ عامّةٍ. 


وحولَ شغفِهِ وقدراتِهِ في تنفيذِ النُّصبِ التُّذكاريَةِ الكبيرةِ، يقولُ: "كلُّ نُصبٍ كبيرٍ يتطلَّبُ، ماكيت، أي مُجسَّماً صغيراً، كي يشاهدَ الكتلة - الحجم بشكلٍ محسوسٍ وملموسٍ كي ينفِّذَها بحجمٍ كبيرٍ، وأثناءَ تنفيذِ الماكيتِ، أو المجسَّمِ الصَّغيرِ إلى الحجمِ الكبيرِ، في هذهِ الحالةِ، يقومُ الفنَّان بدارسةِ الموقعِ الهام، بحيثُ يكونُ هناكَ انسجامٌ بالشَّكلِ والمضمونِ، والحجمِ، وهذا يتوقَفُ على المادّةِ الّتي سينفِّذُ فيها العملَ، وغالباً ما تأخذُ طابعاً هندسيّاً فنِّيّاً مُتناغماً ومُناسِباً للمكانِ الَّذي سيُعرَضُ فيه. 

وأمَّا اهتمامُ الفنّانِ فيما يتعلَّقُ بالرَّسمِ وفضاءَاتِ هذهِ العوالمِ الفسيحةِ في التَّشكيلِ الفنّي، لَهُ علاقةٌ وطيدةٌ بطاقاتِهِ الفنّيّةِ، المعشَّشةِ في أعماقِهِ، وقد تنامَتْ هذه العوالمُ الفنِّيّة منذُ التحاقِهِ بكلِّيّة الفنونِ الجميلة، ثمَّ بدأً رحلةَ العطاءِ في فضاءِ الفنِّ على مدى عقودٍ مِنَ الزَّمانِ، وهو يرسمُ لمُتعةٍ خالصةٍ، ولِما لديهِ مِنْ شغفٍ عميقٍ في تجلِّياتِ انبعاثِ الألوانِ فوقَ نصاعةِ البياض، ويرى في رِحابِ جُموحاتِ الرَّسمِ، حاجةً عميقةً للتعبيرِ عَنْ مَشاعرِهِ وأحاسيسِهِ وتوجُّساتِهِ، وما يجولُ في خاطرِهِ مِنْ أفكارٍ وطُموحاتٍ يُريدُ أنْ يجسِّدَها فوقَ بياضِ اللَّوحاتِ، ويرى أنَّ الرَّسمَ جزءٌ مِنْ وجودِهِ في الواقعِ، ويترجمُ الكثيرَ مِنْ آفاقِ تطلُّعاتِهِ، وللرسمِ علاقةٌ في انبعاثِ الدَّوافِعِ والغرائزِ والقيمِ والأفكارِ الخلَّاقِةِ، والحَالاتِ الانفعاليّةِ الخاصَّةِ بالمشاعرِ الإنسانيَّةِ. ويرتكزُ الرَّسمُ على مدى ما يمتلكُ الفنَّانُ مِنْ موهبةٍ، لأنَّ الفنَّ هو بالأساسِ ينبعثُ مِنَ الموهبةِ المعشَّشةِ عندَ الفنَّانِ على أنْ يحافظَ على هذهِ الموهبةِ من خلالِ صقلِها، كما ينبعثُ مِنْ جانبٍ آخر مِنَ فضاءِ الفطرةِ أيضاً، وللثَّقافةِ الفنِّيّةِ والخبراتِ الحياتيّةِ، علاقةٌ عميقةٌ في تطويرِ العمليّةِ الفنِّيَّةِ، وللتجربةِ الفنِّيّةِ والتَقنياتِ والأساليبِ المتنوّعةِ عندَ الفنَّانِ تأثيرٌ في تمازجِها مَعَ بعضِها بعضاً وينتجُ عَنْ تفاعلاتِها عملٌ فنِّيٌّ جميلٌ. 


يرسمُ الفنّانُ جاك جوخدار بالزّيتي والأكريليك، والباستيل، وبموادَّ عديدة أخرى، محاولاً إدخالَ تقنياتٍ جديدةٍ في لوحاتِهِ، منطلقاً مِنْ فضاءِ التّجريبِ، لاعطاءِ فضاءَاتٍ فنّيَّةٍ جديدةٍ للوحاتِهِ بأساليبَ متنوِّعةٍ، مُستفيداً مِنْ خِبراتِهِ وثقافتِهِ وخيالِهِ وشغفِهِ، وهو فنَّانٌ غزيزُ الانتاجِ وعميقُ الخيالِ والأفكارِ ولديهِ روحُ المغامرةِ والتَّجريبِ والرَّسمِ في مُعظمِ الأوقاتِ الَّتي تتطلبُ شغفاً ورغبةً في الرَّسمِ، خاصَّةً عندما تتوفَّرُ لديهِ أدواتُ الرَّسمِ فيرسمُ بشغفٍ عميقٍ متدفِّقاُ في انسيابيّةِ ألوانِهِ بمواضيعِهِ المختلفةِ بأسلوبٍ أخّاذٍ، تصبُّ في فضاءَات الحداثةِ!

يستخدم الرُّموز في لوحاتِهِ، كأحدِ أساليبِهِ المتَّبعةِ، وهي عاريةٌ أو بعيدةٌ عَنِ الرَّسائلِ المباشرةِ للمتلقِّي في ترميزاتِهِ، لهذا تحملُ لوحاتُهُ عدَّةَ تفاسيرَ، ويستطيعُ المشاهدُ أنْ يقدِّمَ تحاليلَهُ وتفاسيرَهُ وفقَ ثقافتِهِ وقدراتِهِ على التَّحليلِ وما يوحي إليهِ العملُ الفنِّي مِن ترميزاتٍ متنوِّعةٍ، يمكنُ الولوجُ عبرَها في تقديمِ الكثيرِ مِنْ المعاني الّتي عبَّرَ عنها الفنّانُ عبرَ تجلِّياتِ بوحِ الألوانِ وتناغُمِ ترميزاتِهِ.

ويركِّزُ الفنّانُ في الرَّسمِ أيضاً على الإنسانِ كأحدِ أهمِّ أهدافِهِ، لأنَّ الإنسانيَّةَ في إطارِها العام هي مِنْ أهمِّ أهدافِهِ الَّتي يتوخّاها مِنْ لوحاتِهِ، لهذا دائماً تراهُ يرسمُ أعمالاً تتعلَّقُ بطريقةٍ أو بأخرى بالإنسانِ، يترجمُ معاناتَهُ، أوجاعَهُ، جراحَهُ، حُبَّهُ، حنينَهُ، وكلَّ ما يخطرُ على بالِهِ مِنْ أحاسيسَ تتقاطعُ مَعَ أحاسيسِ المُشاهدينَ والمشاهِداتِ بصيغةٍ أو بأخرى!

يستخدمُ الفنَّانُ التَّشكيلي المبدع جاك جوخدار في تقنياتِهِ الفنِّيّةِ في فضاءِ الرَّسمِ، التَّجريدَ برهافةٍ عاليةٍ، والرّمزيّةَ بكلِّ ما تحملُ مِنْ عُمقٍ في تجسيدِ عوالمِها، والتَّعبيريّةَ بكلِّ ما فيها مِنْ تقنياتٍ باهرةٍ، وتصبُّ أساليبُهُ الفنِّيّةُ المتنوّعةُ في فضاءِ الحداثةِ والتَّجديدِ في البناءِ الفنِّي للوحةِ، وهناكَ تمازجٌ بالواقعيّةِ في بعضِ الأعمالِ ويتمُّ توظيفُها مَعَ الرَّمزيَّةِ والحداثةِ، ويَهُمُّهُ رسمُ النِّسبِ المثاليّةِ في بناءِ اللَّوحةِ، وتوزيعِ الألوانِ بطريقةٍ يخدمُ عبرَها الموضوعَ، ولا يركّزُ على تقنياتِ العملِ الفنّي، بقدرِ ما يركِّزُ على رزانةِ العملِ الفنِّي في البناءِ والتَّكوينِ، وتشكيلِ اللَّوحةِ، مُحافظاً على تطلُّعاتِهِ، ورؤاهُ الفنّيّةِ، فهو فنّانٌ يعرفُ ماذا يقدِّمُ للمشاهدِ ولنفسِهِ، حيثُ تنبعِثُ اللَّوحةُ عندَهُ مِنْ عدَّةِ مساربَ فنّيّةٍ إبداعيّةٍ، وكأنَّهُ في حالةِ بحثٍ عَنِ التَّجديدِ والتَّحديثِ والإبداعِ الخلَّاقِ، مَعَ الإيمانِ بفلسفةِ صنعِ الحدثِ مِنْ دونِ التَّأثُّرِ فيهِ، وإيجادِ الصَّدمةِ الوجدانيّةِ للمتلقِّي ليأخذَها معَهُ إلى زمنٍ طويلٍ، على عكسِ العمليّةِ الاحتكاريّةِ، الّتي تريدُ مِنَ الإنسانِ فقط الاحساسَ الانفعاليَّ اللَّحظيَ، المؤقَّتَ، ولهذا لا توجدُ في مَنْ يؤمنُ برسالةِ الفنِّ أشياءُ هامشيّةٌ، بَلْ السَّعيُ إلى تثبيتِ الحقيقةِ، ويجنحُ الفنَّانُ جاك جوخدار نحوَ فضاءِ التَّجريدِ الممزوج بتعبيريّةٍ مُحدثةٍ، مَعَ تجلِّياتِ وحشيّةِ الألوانِ، ولا يغفلُ الأهدافَ الّتي يسعى إلى تعميقِها ونشرِها والتَّعبيرِ عنها بأسلوبٍ خلَّاقٍ عبرَ فضاءَاتِهِ الفنِّيَّةِ المُتنوِّعةِ.  


ستوكهولم: آذار 2024

صبري يوسف

أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق