في عنوان المجموعة الشعرية "ويقول لها" بوح وإقرار، وفيما يشبه الاعترافات تتوالى قصائد الشَّاعر الدكتور عاطف الدرابسة، وفي أولى القصائد "كرسي برجل واحدة" والتي تُذكرُنا بقصيدةِ الشَّاعر الكبير الرَّاحل "نزار قباني" وهي "السيرة الذاتية لسيافٍ عربي" تناصٌ واضحٌ، حيث يعلن فيها الشَّاعر الدَّرابسة:
أنا الملكُ الحاكم بأمر الشيطانِ
أُعلنُ الحربَ متى أشاء
أُعلنُ الحب متى أشاء
كذلك انا
أفعلُ بالرَّعيةِ ما أشاء
وفي موضعٍ أخر نجدُ بأنَّ هذا الحاكم مراوغ مُحتالٌ يقول عن نفسه:
هكذا أنا كرسيٌ برجلٍ واحدةٍ
لا أجيد إلا لغة الَّلفِ
والدَّوران
- ونكتشف بأنَّ كُلَّ أفعاله العظيمة التي فعلها، ماهي سوى سرابٌ، فلا هو من يكتب على الماء، ولا هو من يطفئُ البرقَ، ويُخرسُ الرَّعدَ، ويروضُ السَّحابَ، أو يَسجنُ الهواءَ، فما هو سوى مريضٌ بجنونِ العظمة يسعى وراء السَّرابِ. هذه هي الشخصية التي يرسمُها الشَّاعر لذلك الحاكم، وإذا ما أردنا أن نفكرَ فيما بين السُّطور لنصلَ إلى المُضمرِ من مقاصده، نكتشفُ ذلك في تَوالي المعاني:
فهذا الكرسي من حجرٍ
وأنا يا ألهة العربِ ملكٌ
يحكمُ منذ الأزلِ
دولةَ المقابرِ
الرعيةُ أمواتٌ
والأمواتُ هم يا سيدتي سكانُ القصورِ
والقصورُ مقابرٌ
وهكذا تصبحُ الاسقاطات السياسية في قصيدته أمراً لا مفر منه، ويصبحُ موضوعُ التَّناصِ مع قصيدةِ نزار قباني في قصيدتِه "السيرة الذاتية لسيافٍ عربي" أمراً واضحاً وجلياً لا مفرَ منه.
وفي قصيدته الثَّانية "الهدنة" تناصٌ من لونٍ آخر، ومع أيةٍ قرآنيةٍ هذه المرَّة، حيث يرتلُ لنا سورةَ الفاجعةِ:
هل تسمحون أن أرتل عليكم سورة الفاجعة؟
الهاوية
وما أدراكم ما الهاوية؟
كُلُّ المنازلِ خاوية
لا عروشٌ فيها ولا خابية
والقصيدة في المضمون تدور حول الحرب الهمجية في غزة، والتي تأتي على الأخضر واليابس، فيتحدث عن المجازر التي لا تنتهي إلا بهدنةٍ صُوريةٍ، لا تكفي سوى لالتقاط الأنفاسِ ولسماعِ حشرجاتِ من يحتضر بلا شفقةٍ:
غزَّة
كُلّ الأماكن حزينةٌ
كلُّ الأماكن موحشةٌ
أسمعُ صوتَ الجوعِ
أرى الجثثَ تسلكُ الطريقَ الممنوعِ
وأرى المساجد والكنائس بلا صلواتٍ
ولا دعاء
تُصيبه غزَّة بالحزن وهي تحترقُ والبطلُ متوارٍ خلف السِّتار، تُبكيه رائِحةُ شِواء الُّلحوم الطَّرية، وما في الطريق سوى نائحات وشهقات، وقصفٌ لا يتقن الصَّمت أبداً، وكلّ العيونِ تحدِّق في الجانب الآخرالبعيد، والأذان صَمَّاء، في زمنٍ لا يُشبه كل الأزمان.
ويستمر طعمُ الحنظلِ في كأسه، يتجرعُ مرارتَه، يعرضُ علينا تفاصيلَ الكابوسِ الَّذي ألَّم به فما عاد يعلمُ إن كان حياً او ميتاً مسلوب الذَّاكرة أم مازال يتذكر:
كنت قد فقدت ذاكرتي
أحاول أن أسترجع صوراً من اليوم
فلم أجد صورة واحدة
تذكرني أنني كنت على قيدِ الحياة
هذا اليوم..
ولا يلبثُ أن ينتهي الكابوسُ بتساؤلِ الحِيرة: إن كان العظماء والأساطير في العالم، ما استطاعوا تغيير شروط الُّلعبة، فكيف سيكون بمقدوره وهو البائس المسكين أن يغيِّرَ معالمَ هذا الزَّمن الرديء:
فكلُّ هذا وكلُّ هؤلاء
لم يُخلِّصوا العالم الموبوء من كلِّ هذا الوباءِ
فكيف لي أن أنجو من موائد الوحوشِ
هو اليأسُ يرتِّب له أفكارَه، ويجعلُه يرفضُ كل شيءٍ، حتَّى نِعمةَ النَّارِ الَّتي جاء بها "بروموثيوس" ومَنحها للإنسانِ كي يتدفَّأ بها، ويطردُ الحيواناتِ المُفترسة عن مسكنه، وقبل هذا وذاك كي يطهو بها طعامَه، ولكن أيّ طعامٍ لفقيرٍ؟، وأي مذاقٍ لمسكينٍ؟، والنَّارُ ما عادت كما أرادها "بروموثيوس" نعمةً للإنسان الّذي صيَّرها بشروره أداةَ قتلٍ وفناءٍ ودمارٍ، ولذا يعاتب الشَّاعر بروموثيوس قائلاً:
بروموثيوس: ليتك ما سرقت النَّار..
أرجوك أخرج من الموقد
لقد هيأتُ لك سريراً لتقيمَ في الفُرنِ
فقد حكمتْ عليك الآلهة أن تبقى سجيناً إلى الأبدِ
وأن يبقى فرنَ الشِّواءِ مُغلقاً
الفقيرُ يموتُ إذا استنشقَ رائحةَ اللحم المشوي
الفقيرُ يموتُ إذا استنشقَ رائحةَ الرَّغيفِ
- يَتسلَّلُ اليأسُ رويداً رويداً إلى كلِّ ما يراه ويحسُّ به، وكأنَّه عدوى وباءٍ ينتشرُ من غير رحمةٍ، إلى كلِّ مناحي الحياة، و حتّى المرأة التي من المُفترض أن يراها عوناً له على نكبات الزَّمان، ما عاد يطمئِنُ إليها، فقد صار عسيراً عليه فهمها، فيجدها متقلبةَ الأطوارِ مثل الطَّبيعة، حزنٌ وفرحٌ، قُربٌ وبُعادٌ، ثورةٌ و نسيمٌ ضَّحِكٌ وبكاءٌ، فيحتارُ في أمرها:
قلتُ لكِ إنني لا أجيدُ قراءةَ النِّساء
أنتِ والطبيعةُ وجهان لأحلامي:
متقلبةٌ، متحولةٌ، متناقضةٌ
كريمةٌ حيناً وبخيلةٌ أحياناً
أنتِ والطبيعةُ
وجهانٌ متناقضانِ للُغتي
أنت كالطبيعة امرأةٌ متناقضةٌ
مرةً تهبيني طينَ الجداول فأختنقُ
ومرةُ تهبيني ماءَ الأنهارِ فأرتوي
وعندما يستعصي عليه لونَ الحبورِ، يُحاولُ الُّلجوءَ إلى الحُلمِ كي يكون مُنقذاً له في طَوفان الكونِ المُمتَدِّ إلى أعماقه، فيرى فيه حبلَ الخلاصِ وبوَّابته إلى عالم آخر، فيخذله حتى الحُلمُ، ويتفاجأ بأنَّه هو الأخر متهالكٌ وعاجزٌ:
أحلامي كأنها جموعٌ من القصائد التي لا تجيدُ الإبحارَ
تسألُ عن موجٍ يحملُها
عن ريحٍ تحركُها
عن أشرعةٍ، فإذا كُلُّ الأشرعةِ مُمزقةٌ
وهكذا نجد أن حتَّى أحلامه لا تملكُ مجاديفَ في مركبه، ولا تقوى على الإبحار، يائس يتسرَّبُ الشَكُّ إلى حناياه كأنَّه يستبقُ الحدثَ قبل حدوثِه، فلا يأمنُ جانبَ العشقِ مخافةَ الخيانة:
لا تُلقِ نفسكَ
في نارِ الحبِّ
لا أريد أن أشُمَّ رائحةَ الخيانة
وهي تحترقُ
وليس هذا فحسب، بل يمضي إلى أبعد من ذلك فهو لا ينتظرُ خيراً مطلقاً من علاقةِ عشقٍ، إنه شكٌ إلى حدودٍ لا يحدُّها حَد ٌ، فهو على ثقةٍ بأنَّ الخيانةَ أمرٌ مَحتمٌ وهي قادمةٌ لا محالة:
إياكَ أن تأمنَ إلى اِمرأةٍ شرقيةٍ
قلبُها مع واحدٍ
وعقلُها مهووسٌ بواحدٍ
ويدها في جيب واحدٍ
وعينُها على واحدٍ
ورغم كلّ هذا لا يجدُ مفراً من الُّلجوءِ إليها، مثلَ طِفلٍ تقسو عليه أمه، فيرتمي في حِجرها ويذرفُ الدُّموع َ لها ومنها.
وحينما يحاصرُه اليأسُ وتتكاثفُ غربانُ الشُّؤمِ حولَه، لا يجدُ مَفراً من الارتماءِ بين أحضانِ المرأة فهي رغم كُل شيءٍ تبقى الملاذَ له:
كم قلتُ لكِ يا حبيبة
أنتِ العطر العابق في جسدي وأنفاسي
لا تَروي لهم
كيف تدقُ ساعةُ الحُبِّ في قلبي وفي روحي
تاركةً على الشفتين قبلةَ الوداعِ
يضيءُ من زيتِها كل الوجودِ
وعندما يستكين إلى لمساتِها وقبلاتِها يصيرُ الكونُ بالنِّسبةِ له أشهى:
تعالي يا حبيبة
نرسمُ الكونَ في هذه الليلة بلونين: لونِ القمحِ ولونِ الَّليمونِ لنستعيدَ ذواكِرنا
ونسألُ الحقولَ عن الجذورِ
ولكنَّه حالما يستفيقُ من النَّشوةِ يراودُه الشكُّ مجدداً، فيطلبُ منها أن تتلفَ كلًّ وثائقِ الِّلقاء:
أشعلي النار في كأسِك وأحرقي أخر قبلةٍ وأخر حوارٍ
فأنا يا سيدتي بقايا رجلٍ في روايةٍ اسطوريةٍ
وبقايا عاشقٍ في قصيدةٍ مكسورةَ الوزنِ والإيقاعِ
ورغم هذا تبقى المرأةُ بالنسبة له خشبةَ الخلاصِ التي يَنشدها في زَّمنِ العَتمةِ، رغم كُلّ تحفُّظاته وشَكوكه:
كأنَّك يدُ السَّماء على صدري
ترسمُ لوحةَ الحياةِ على الضِّفافِ
من أين جاء كل هذا الحبّ
من أين خرج كل هذا الوجع
وتصيرُ المرأةُ عنوانَ الحياة، بل عنوان كلّ ما في الكونِ ولون كُلّ الأشياء من الولادةِ وحتى المماتِ، والمماتُ ربَّما هو هجرٌ ورحيلٌ، ورُبَّما هو الرَّحيلُ الأكبر وهو ديمومةُ الغيابِ:
تأمَّل أيها النازِفُ صَمتَها
بيدٍ تحملُ فأساً وبيدٍ تحملُ كفناً
أطِل النظرَ اِصغِ إلى ندائِه سيأخذُك إلى هناك
حيث روحها والقبر
وبعد هذا هو عاطف الدَّرابسة، ناقدٌ صارمٌ، ورياحٌ عاصفةٌ عندما يقتضي الأمرُ، ولكنَّه شَاعرٌ رقيقٌ في الغزل، تصيرُ عواصِفُه نَسائمَ ربيعيةٍ مُنعشةٍ.
في داخله قلبُ طفلٍ في جسدِ شاعرٍ، يُخفي بين ظلالِ الصَّرامةِ عذوبةَ العاشقِ وهيامَ المُحبِ، يظنُّ من لا يفقهُ بمكنوناتِ النفسِ بأنَّه كارهٌ للمرأةِ، غير مدركٍ بأنَّ خيطاً رفيعاً، يفصل بين الحبِّ والكُرهِ، ربَّما المرءُ حينها يكرهُ المحبوبَ لكونه يعشقُه الى درجةٍ يصيرُ فيها البعادُ عنه عذاباً وعقاباً، لكونه صورة حقيقة لوجهي الحقيقة الحبّ والكُره.
عاطف الدَّرابسة الَّذي يجانِبهُ السُّرور، وتقلبُ له الدُّنيا ظهرَ المِجنِ، رغم تَوقِه إلى فُسحةِ فرحٍ، لكنَّ الحرائقَ تحجبُ أمامه فضاءات الضَّياء، ففي جحيمِ السَّوادِ لا طعم للحبورِ، حيث الصقيعُ يخمدُ الشَّمسَ هناك وتُفترسُ الذئابُ كلَّ القطيعِ بلا رحمةٍ، وتبكي الزُّهورُ في كل ليلةٍ براعمَها التي حصدتَها براثنُ الأعاصير بلا شفقةٍ.
هو اليأسُ يأكلُ بنهمٍ من أفكاره، وحتى من بصيصِ الأملِ في أخرِ النفقِ يقول:
لا تنتظري الأملَ إنه يحترقُ
يصير رماداً لا يشبهُ رمادَ الفينيق
وبالطبع فالأملُ حين يذوي لا يمكنه أن يحيا مُجدداً وسط الرمادِ، كما في أسطورة طائر الفينيق، إنَّه طعمُ الوجعِ، ولون اليأسِ، ومرارة الخذلانِ، وجراح الخيبةِ، في ترانيمٍ باح بها شاعرنا عاطف الدَّرابسة، في ديوانه “يقول لها" فأضحت كلُّ بحارِه مُصطبغَةً بلونِ الحُزنِ، وفي لُججها يتمايلُ مَركبُه التَّائِه من غيرِ مجاديفٍ ولا أشرعةٍ، يبحث بلا جدوى عن بصيصِ ضَوءٍ قد ينبعثُ من المَنارةِ البعيدةِ ذات مرةٍ.
0 comments:
إرسال تعليق