حوار مع التَّشكيلي والأديب صبري يوسف


تبدو اللَّوحة كأنَّها الجّزء المتمّم للقصيدة

أجرى الحوار: د. محمَّد الكحط – ستوكهولم
لو سمعت أنَّ فنَّاناً غير صبري يوسف أقام معرضاً بمائة لوحة ومائة قصيدة لتعجبت، ولكن لكوني أعرفه جيداً، فكان الأمر طبيعياً جدَّاً، لما عرفته منه من نشاط ومثابرة وعطاء وإبداع، أثار إعجاب من حوله، ولا أريد أن أحسده فعين الحسود تفقأ بالعمى، أتمنَّى له الصّحة والعافية. صبري يوسف صديق مقرَّب من جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين في ستوكهولم منذ تأسيسها حتى الآن.                                                                                              
وأنا أتحدث هنا عن معرضه الشخصي الأخير الذي أقامه في المركز الثقافي العراقي في السويد، يوم السبت 26 أكتوبر  2013 م، تحت شعار "الفرح...الحب...السلام".                                                                       
هذه المفردات الإنسانية العميقة في المعنى هي التي إختارها اسماً لمعرضه.                                             
عوالمه، فراشات ملوَّنة، زخارف جميلة، أسماك زاهية الألوان، حمائم رشيقة تطير فرحة، زهور منوَّعة تنعش الرُّوح، نساء حالمات يحلقن في الفضاء، تلك هي بعض عوالمه التي تحكيها لوحاته وقصائده المرافقة مع كل لوحة. تحس من خلالها عمق التناغم اللوني مع الكلمات والحروف.                                                                           
وهو في كلمته المختصرة التي ألقاها في حفل الافتتاح، قال: (حالما أدخل في فضاءات الألوان، أرسم فرحاً، حبّاً، عشقاً، سلاماً، وردةً، زهوراً برّية.. حنينُ الكرومِ لا يفارقُ لوني، والسَّنابلُ تغمرُ مروجاً ممتدَّة على مدى العمر!                   
في الرَّسم أنحاز إلى الجَّمال لأنَّ اللَّوحة عندي حالة جماليّة، تحملُ فضاءاتها رسالة سلام ومحبّة وفرح ووئام بين البشر، انطلاقا من رؤاي الجَّانحة نحو إحلال السَّلام في وطني الأم سورية، مروراً بوطني الثَّاني السُّويد وإنتهاءاً بالعالم أجمع.    
أتساءل، متى سيفهم المرءُ أنَّ الحياةَ بمثابة لوحة جميلة تظهر في بسمةِ طفلٍ، في نضارةِ وردةٍ، في وهجِ عشقٍ، في زخّةِ مطرٍ، في نقاوةِ بحرٍ، في تلألؤاتِ نجيماتِ الصَّباحِ، في مصالحةِ الإنسان مع أخيهِ الإنسان، في مصالحةِ الإنسانِ مع جمالِ البرّ والبحرِ وأجرامِ السَّماءِ، في وئام البشرِ على مساحاتِ جغرافيّةِ الكونِ؟!                                         
أرسمُ أعمالي بالسِّكِّين والفرشاة النَّاعمة، بأسلوب شاعري فطري طفولي حُلمي تخيُّلي، وبعدّةِ مدارس فنّية، بعيداً عن التَّقيّد بأساليب معيّنة في عالم الفن، فلا أتوقّف عند مدرسة أو تيّار فنِّي معيَّن، بقدر ما أتوقَّف عند مشاعري العفويّة المتدفِّقة مثل حنين العشَّاق إلى أعماق تجلِّيات الرُّوح، أو مثلَ شلالٍ يتدفّقُ من أعالي الجِّبال، أو كشهقةِ طفلٍ لاشراقةِ الشَّمسِ في صباحٍ باكر، حيث تتداخل عدّة أساليب في اللَّوحة الواحدة، وغالباً ما تتدفّق هذه الألوان بشكل عفوي حلمي تأمُّلاتي، ثمَّ تتوالد الأفكار وتتطوّر وتتناغم الألوان خلال عمليات الرَّسم، ويتميّز الأسلوب الَّذي أشتغل عليه بالتَّدفُّقاتِ اللَّونيّة وموشور إنسيابيّة الأفكار ضمن إيقاع لوني فيه من الموسيقى والرّقص والفرح والحنين إلى عوالم الطُّفولة والشَّباب والحياة بكلِّ رحابها، وكأنّي أتعانقُ مع تدفُّقاتي الشِّعريّة. أكتب شعراً عبر اللَّون، أجنح كثيراً نحو العفويّة والتّحليقات اللَّونيّة، مستخدماً الرَّمز والتَّجريد والأزاهير وكائنات برّية وأهليّة وأشكال من وحي الخيال والواقع أيضاً، حيث تبدو لوحاتي وكأنّها قصائد شعريّة تمَّ كتابتها عبر اللَّون، ولهذا تبدو اللَّوحة وكأنَّها الجّزء المتمّم للقصيدة، وفي هذا السِّياق قلتُ في إحدى الحوارات التي أُجْرِيَتْ معي: "إن الشِّعرَ والرَّسمَ وجهان لعشقٍ واحد هو الإبداع"، لأنّني أرى أنَّ الَّذي لا يعشقُ الشِّعرَ أو الرَّسمَ بعمق، لا يستطيعُ إنجازَ نصٍّ شعريٍّ عميقِ الرُّؤية أو رسمَ لوحةٍ فنّيةٍ غنيّةٍ بمساحاتها وأجوائها اللَّونيّة المنسابة بتجلِّياتِ الإبداع.)، في هذه الكلمات أفصح عن الكثير ممّا كنَّا نودُّ الحديث عنه.                                                                           

سألناه، الأستاذ صبري لماذا ترسم؟                                                                                     
أرسم لأنَّ الرّسم يمنحني فرحاً ومتعةً لا يضاهيها متعةً سوى الكتابة، لهذا تجدني غائصاً في عوالم وفضاءات الكتابة واللَّون لأنّني عبرهما أترجم مشاعري وأحاسيسي وأجسِّد أفكاري عبر الحرف واللَّون!                                             

بالضبط ما الَّذي قادكَ إلى فضاءات الرَّسم؟                                                                            
يجذبني اللون كأنّه عاشقة مبهرة، يهيمن على خيالي ومشاعري، ويجعلني أن أنصاع لمداعبته عبر وجنة اللَّوحات، فألهو به، أداعبه كمن يداعب طفل، حتّى أنّني عندما أرسم، أرسم بطريقة عفويّة طفوليّة كأنّني ألهو بالألوان مثل الأطفال، لكنِّي ألهو كطفلٍ كبير، يعي ما يريد حتى ولو جاءت رسومي بطريقة عفويّة طفوليّة، لكنّي أجسّد عبر مداعباتي اللَّونية الكثير من المشاعر والأفكار والآمال والتَّطلُّعات الَّتي تراودني قبل الرَّسم وأثناء الرَّسم وخلال مرحلة انبعاثات اللَّوحة!              

كيف تشكَّل الخزين اللَّوني والفنّي في عوالمكَ؟                                                                        
بدأتُ أرسم متأخِّراً في عام 2004، وتبيّن لي أنَّني كنتُ أرسم قبل أن أرسم بسنوات عديدة، لأنَّني كنتُ أخزِّن هذه الطَّاقات اللَّونيّة في لاشعوري الضُّمني، وفي ثنايا خيالي وذاكرتي، وأحياناً كنتُ أرسم لوحاتي عبر نصِّي الشِّعري، لأنَّ الرَّسم ممكن أن يتمَّ عبر الصُّورة الشِّعريّة، وقلتُ في حوار سابق: "الشّعر والرّسم وجهان لعشقٍ واحد هو الإبداع". وفعلاً أجدُ تماهياً وعناقاً عميقاً بين النَّص الشِّعري والنَّص اللَّوني، لأنَّ كليهما يحملان صوراً خلاقة، فعبر الحرف أرسم صوراً شعريّة وعبر اللَّون أرسم تشكيلاً وصوراً لونيّة تترجم مشاعري الدَّفينة المنبعثة من أعماقي الحلميّة وخيالي المتعانق مع وهج الشِّعر!   

أين يجد صبري يوسف نفسه أكثر إنسجاماً، شاعراً، ناقداً، صحفيَّاً أم فنَّاناً تشكيليَّاً...؟                                   
أجد نفسي محلِّقاً في فضاءات الشِّعر والسَّرد القصصي، لكنّي منسجمٌ مع كلِّ هذه الحالات الإبداعيّة الَّتي أشرتَ إليها، بدأتُ عبر مشواري الإبداعي قاصَّاً وشاعراً معاً، ولكنَّ القصّة كانت تأخذ في البداية المساحة الأرحب من اهتماماتي وشغفي وإبداعي، ولهذا أصدرتُ أوَّل ما أصدرت مجموعتي القصصيّة الأولى: "احتراق حافات الرُّوح"، ثم أصدرت دواويني الشِّعريَّة وإذ بي أجدني غائصاً في رحاب القصيدة وبدأت القصيدة والنَّص الشِّعري يستهويني ويهيمن على كامل مساحات إبداعي، فتوارت قليلاً حفاوة القصّة لكنّها كانت تدخل على خطِّ الإبداع كلَّما راودتني فكرة قصصيّة، وهكذا كنت أتأرجح بين عوالم هذين الجنسين الإبداعيين وأرى أنهما متعانقان لأنّهما يترجمان مشاعري وتطلُّعاتي، وقد بدا لي أنّني عندما أكتب نصاً قصصيَّاً، أراني أموج في وهج الشِّعر حتَّى في عوالم السّرد القصصي، فالجملة الشِّعرية طاغية في القصّة ثمَّ توغَّلت لاحقاً في اللَّوحة، لأنَّ لوحاتي أشبه ما تكون قصائد شعريّة كتبتها عبر اللَّون!                                         
ومنذ أن بدأت أرسم في عام 2004، وجدت نفسي منجذباً بشكل عميق إلى عوالم الألوان، وسرّني أن أشتغل وأداعب وجنة لوحاتي عبر الألوان، وأشعر أحياناً وكأنّني مختطف إلى هذه العوالم عبر حالات عشقيّة خفيّة، أشبه ما تكون عشق الألوان، فدرست حالتي العشقيّة هذه، وتبيّن لي فعلاً أنّني كنتُ أرسم منذ أن كنتُ طفلاً، أسوح في براري المالكية/ديريك مسقط رأسي، حيث سهول القمح والكروم والحقول وأشجار التُّوت واللَّوز والأزاهير البرِّية والأهليّة ظلّت محفورة في ثنايا الذَّاكرة عبر القصيدة والقصّة ثم ظهرت بشكل طازج عبر اللَّوحة، وهكذا فأنا اليوم ومنذ 2004 أجسِّد ما كان غافياً في مروج الرُّوح والذَّاكرة البعيدة، وهذا ما دفعني مؤخّراً أن ألتحق بجامعة ستوكهولم، استكمالاً لدراساتي الجَّامعيّة في دمشق قسم الدّراسات الفسلفيّة والاجتماعية، لكنِّي تخصَّصت هذه المرّة أن أدرس أصول التَّدريس، ثم تخصّصت في أصول تعليم الفن وتدريس مادة الفنون، وتخرّجت في عام 2012 كمدرّس لتدريس مادَّة الفنون في الحلقة الابتدائية والإعداديّة، وقد حصلتُ في بعض المواد على الدَّرجة الأولى، متقدِّماً على أقراني السُّويديين والسُّويديات!                                        
أمَّا مسألة النَّقد والدِّراسات التَّحليلية، فليس لدي شغف كبير في هذا المجال، لكنِّي وجدت نفسي هائماً في عوالم الشَّاعر المبدع الأب يوسف سعيد قبل رحيله وبعد رحيله، وقد كنتُ قد أصدرت له ديوانين شعريين عبر دار نشري في ستوكهولم، فاستهواني شعره وقرأت كلّ دواوينه، وكتبتُ دراسة تحليلية نقدية بعنوان: رحلة فسيحة في رحاب بناء القصيدة عند الأب يوسف سعيد، واستغرقت الدِّراسة معي سنوات، لأنَّني كتبتها بشكل متقطِّع، وعندما غصت في عوالم نصوصه وفضاءاته وجدت نفسي توّاقاً إلى هذه الآفاق الَّتي عبرتها، لأنَّ قراءة النَّص وتحليله أشبه ما تكون ترجمة لمشاعر الشَّاعر والمبدع، وأشبه ما تكون إعادة كتابة نصّه من جديد عبر رؤية وقراءة جديدة، وهكذا ترعرت هذه الإهتمامات وأدَّت إلى قراءة تحليلية لرواية عراقي في باريس للروائي صموئيل شمعون، وقراءة تحليلية لديوان دببة في مأتم للشاعر صلاح فائق وقراءات لقصائد وسرديات متفرقة!                                                                                              
وأمَّا موضوع الصّحافة فأنا لستُ صحافيَّاً، لكنّي أقوم بين الحين والآخر بدور الأديب الصّحافي، وأقوم بهذا الدَّور بحرفيّة تفوق أحياناً الصّحافي المتفرّغ للصحافة، لأنَّ الصحافي المتفرغ لصحيفة معيّنة من خلال عمله اليومي، يسعى إلى إعداد حوارات وقراءات وتعليقات وريبورتاجات صحفية غالباً ما تكون سريعة وغير مكتملة بالطريقة التي تستهوي المتحاور معه وأحياناً لا تستهوي الصّحافي نفسه الّذي يقوم بها، لضيق وقت الصّحافي من جهة ولأنّه مطلوب منه أن يغطِّي بعض الصّفحات المطلوب تغطيتها في صحيفة معينة، وعمله لا يرتكز على الإبداع بقدر ما يرتكز على إعداد وكتابة ما يحتاجه من مساحات للجريدة الّتي يكتب فيها! وحرفيّة وجودة هذا العمل يختلف من صحافي إلى آخر، ومن جريدة إلى أخرى! وأمّا أعمالي التي أنشرها في بعض الصُّحف والمجلَّات، فهي طوعيّة إبداعيّة، حتّى أنّني لا أتقاضى عنها دولاراً واحداً لأنَّ أصحاب المنابر الّتي أكتب فيها يأكلون حقِّي، فيما إذا كانوا يكافئون غيري ممَّن يكتبون في صحفهم!                  
والفرق ما بيني وبين الصّحافي الّذي يعد حواراً سريعاً أو يقدّم تغطية لفعالية ما، هو إنني أقوم بإعداد حواري مع شاعر ما بعد قراءة كافة دواوينه، ثم أضع أسئلتي بهدوء كبير وبدقة بحيث أن تشمل تجربة الشَّاعر أو الأديب الَّذي أتناوله، ويستغرق الأمر معي أيام وأسابيع، وبعد أن يجيب الشَّاعر عن حواري، أعيد استخلاص مقدِّمة لتقديمه ثم أعيد قراءة الحوار وأعالجه بصياغاته النّهائية وإلى أن أرسله لمخبز الجريدة أكون قد قضيت أكثر من 20 ساعة في إعداده ومراجعته ناهيك عن قراءتي المتأنّية لدواوين الشَّاعر الَّذي أحاوره! وفي النّهاية الصّحافي الَّذي يشتغل في صحيفة ما، يتقاضى مائة، مئتين، خمسمئة دولار عن كل مساهمة من مساهماته وأنا لا أتقاضى قيمة حبري، مع أنّني أقدِّر جهدي أضعاف مضاعفة مقارنة مع أتعاب صحافي يعدّ حواره أو ريبورتاجه بشكل عابر كي يغطِّي على عجلٍ مساحة من الجَّريدة الَّتي يعمل فيها!      

لماذا مائة لوحة ومائة قصيدة؟                                                                                         
لأنّي أحبُّ الأرقام الكاملة! أقمتُ معرضين في عام 2007، و2011 في ستوكهولم ضمَّ كلّ معرض 40 لوحة، وقدّمت معرضين آخرين في شباط 2012، وشباط 2013 ضمَّ كلّ معرض 50 لوحة، وأحببت أن أقدِّم في معرضي هذا مائة لوحة عن: الفرح الحبّ السّلام! وكلّ لوحة هي بمثابة قصيدة شعريّة في الوقت ذاته! ويراودني أن أقدم بعد فترة من الزَّمن معرضاً يضمُّ 200 لوحة، وهكذا إلى أن أقدَّم معرضاً يضمُّ ألف لوحة وألف قصيدة!                                             

ما الإنسجام اللوني واللَّفظي الجَّمالي الَّذي أردتَ التَّعبير عنه...؟                                                       
هناك انسجام كبير ما بين اللَّون: اللَّوحة، والحرف: القصيدة، لأنَّ رؤيتي منسابة ومتعانقة ما بين القصيدة واللَّوحة.         

ما هي كلمتك للمتذوِّقين وللمتلقين لفنِّك وشعرك وما تكتبه من أمور ونشاطات ثقافية متعدِّدة تستحقُّ عليها الثناء.؟      
أكتب وأرسم وأحاور وأعدُّ دراسات تحليليّة لأنِّي أجد متعة وفائدةً وفرحاً عميقاً بتوهُّجاتي الإبداعيّة، وأتمنّى أن أكون قد حقَّقتُ هذه المتعة، والفائدة لمشاهديّ لوحاتي وقرّاء وقارئات نصوصي وأشعاري وكتاباتي!                               

أخيراً أودُّ الإشادة بمثابرتك ومتابعاتك الثَّقافية الرَّاقية وخصوصاً لقاءاتك مع رموز ثقافيّة عربيّة وتواصلك معهم!!           
شكراً، .. أجد متعةً في الحوار مع الآخر، ونحن الآن أحوج ما نكون للحوار مع بعضنا بعضاً لتحقيق معادلة الإبداع الحقيقيّة وتقديم الفائدة المرجوَّة للقرَّاء والقارئات، .... وقد أسَّست مؤخراً مجلة السَّلام والتي ستصدر في كانون الأول (ديسمبر) القادم 2013، تأكيداً منّي على تفعيل دور الإبداع في السَّلام والوئام بين البشر كلَّ البشر!                   

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق