(منشورات دار الفهد
الطبعة الثانية ـ
سيدني 2017
صفّ الكومبيوتر: مينار طراد ودنيا قضاة).
**
ـ إلى الشهيدين حسين حمدان وعبدالله سليم
وجميعِ الذين استشهدوا من أجل وطن حقيقي.
ـ**ـ
(بئس أمّة)
عندما تقف عاجزاً دون قُدْرة على فِعْلِ شيء
يتثاءبُ في داخلكَ رَحِمٌ عاقر
وتشعر إنّ الأيّامَ يرفعُها سيّاف
وتقتحمُكَ الدقائقُ والثواني مثل آلاف الإبر
تنخرُ عظامَ جسمِك المُتعَب من هولِ الصمتِ
والعجزِ وقِصَرِ اليد
ستعرف إنّكَ عند أعتاب زمن مُتكرّر، مُظلم
نازل من منخري متشعوذ
وستعرف إنّكَ مُحاصَر بصحراء
تدعوكَ كثبانُها إلى التضاؤلِ والغرق
وحدها الأنياب في الشوارع
تتربّصُ بذي الضميرِ الحيّ
وبالذين كانوا عندما كان للكلمةِ معنى
وعندما كان للعقلِ تقدير واحترام
وحدها الأنياب لها حقّ السيادة
تتقّن فنّ طأطأةِ الرأس والتمسّحِ بأذيالِ الأقوياء
وتقبيلِ الأيدي واللِحى والسيرِ في مواكبِ الأذلّاء
في الزمنِ الذي تغيب معالمُه
ويتلبّس عفنَ عصورِ القهرِ والخنوع
وتستلبُه أرواحُ المقابرِ الدارسة ومتاحفُ التاريخ
لا مكانَ للإنسان كقيمة ولا اجتماع ولا تطوّر
ولا حضارة ولا إرادة
ويقبعُ العقلُ صامتاً في زاوية
وتُنحَر كلّ المفاهيم التي تحاول مُلكاً
في عالمِ الرؤيةِ ماضياً، حاضراً ومستقبلاً
وتؤسّس لغدٍ أفضل لا قضبان فيه
لا سيّافين ولاجلاوزة
ويصيرُ العقلُ عنوان شقاء
يتبعُه الغاوون والكفّار بنعمةِ الصمت
ويصيرُ آفّةً يقتربُ منها من هو بلا عقل
والعاقلُ هو فقط الذي يحمل صكَّ براءته
من أيّ منطق، من أيّ واقع وأيّ معرفة
ويمشي مثل الساهمة إلى لا حول ولا قوّة
إلاّ بالسحرةِ والمشعوذين ومن فيهم مسّ
والسلاطين ومن لا يرون العالمَ يتنفّس
إلاّ من خياشيمهم وبعيونِهم الجشعة؟
من أين للجهل هذا الحضور الذرّي؟
من أين للقهر هذه القدرة على كمّ الأفواه
وافتراضِ ما لا يُفترض
ومقارعة كلّ حديث مهما كان مقنِعاً، ضروريّاً؟
من أين للظلاميّة بُدعة الكياسةِ
لاختراقِ الكلمة وتفجيرِها من الداخل ودوسِها بالأقدام؟
من أين لها قوّة التنفّس مع مساماتِ جلودنا
والسكن في عيوننا وسملها ومسخنا قروداً ووحوشاً
تحتكر مزيّة التدمير والقتل والإبادةِ المنظّمة؟
كذلك هو معظم تاريخنا الذي مضى
وكذلك هو حاضرنا الذي أفردَ عقلَه مثل بعير أجرب
وصدق الذي قال: "بئس أمّة ليس فيها أبطال".
(آدمُ السماء وآدمُ الأرض)
أنا من فقدَ نعمةَ الدهشةَ
الأشياءُ لم تعد ذكرى يمكن أن تُستعاد
مع أوّلِ تفتّح زهرة
مع أوّل هبوبِ نسيم وتساقطِ غيث
وأجزمُ، وهذا يُحزنني، ليس لأنّ الأشياء
قد ظلّلها النسيان وصارت باهتة
ولكن لأنّي كالآلهة صرتُ أعرف
كالآلهة صرتُ أكره
صرتُ آدمَ الأرض ولم أكن
اندهشْ إذا شئتَ يا صديقي
انتشلْ سؤالاً، ارسمْه على وجهك
لأنّكَ أوّل عهدكَ بالساقطين
أوّل عهدكَ بكيدهم
ولأنّك آدم السماء وأنا آدم الأرض
هل أتاك حديثُ الأنياب
تنغرز في كفّك الكبيرة؟
هل أتاك حديث القرصان
يحسّ العافية في سحنته المتحفّزة
لاقتناصِ الفرص؟
هل أتاك حديثُ
من لا قرارَ لأطماعهم
ويرغبون بدفنِ الشمس
في دورهم الكبيرة؟
هل أتاك حديثُ اللات
تخرّ لها حتى ذقنِك لتغفرَ لك
وهُبَل تشتعلُ جمرتا عينيه ثمّ تبردان
بماء الخوف على جبينك حتى يرضى؟
سرُّ الدهشة ماتَ يا صديقي في عيني
إنّما حسبي أن الأشياء تتغيّر، وأنّ العالم كلّه يتغيّر.
(الأرضُ لك)
"للطوائفيين مكان ينامون فيه فأين ننام نحن"؟.
ـ منقول.
في يومٍ مضى كنتَ المدى
في يومٍ مضى كنتَ النهر
كنت السواقي، دفءَ التلاقي
الحبَّ الذي يمّمتْ شطرَه وجوهُ الأحبّة
الأملَ المرتجى لحياة لا سيّد فيها ولا مسود
ولا من ينعق باقترابِ الأذى في دنيا المظالمِ هذه
هكذا كنتَ، هكذا أنتَ، هكذا القلبُ
هو أرحب من سماء لا يعرف معنى لاختلافِ البشر
إلاّ أنّهم كلّهم بشر
ولا يعرف معنى للحدود إلاّ إنّها غير ملزِمة
لعالَم أوسع من طموح فرد أو مجموعة
هكذا كنتَ، هكذا أنت
اصبرْ إذا مسّ العالمَ جنون
إذا ضاقتِ الأحداق وانتشرَ الحقدُ
في زمنِ الطوائف
اصبرْ إذا ما رجموك لأنّك الشجر مثقل بالثمر
اصبرْ لوحشةِ الطريق ولقلّةِ الزاد والصديق
يا مَن كنتَ الحلم
أكبر مِن حقدِهم ومِن حدودهم
يا مَن كنتَ الأمل
أقوى مِن ليلهم وممّا يأثمون
يا مَن كنتَ الشعلةَ
وكانوا العناكب والأفاعي وأبناءَ الشياطين
يا صديقي
لك الأرض ولن يرثها المفسدون.
(صامتاً)
مثل نبيّ
رماه أهله بالجنون
ورجموه بالحجارة
كان صامتاً
مثل نبيّ
جاءَه الوحي
وعرفَ أنّها مرارة التجربة
كان صابراً
مثل نبيّ
آمن برحمةِ السماء
وإنّها لن تتخلّى عنه إلى الأبد
كان آملاً
هكذا عرفتُه
يتذكّر كأنّه في زاوية
وجهُه شاحب يغمرُه الظلام
تنكسر عيناه على أشواكه
يتأوّه، يصبر ويرفع يديه
من أجلِ قطرة ماء للشفتين اليابستين
حبّاتُ القلب
كيف تهاوت جموعٌ
مثل أوراق خريفٍ عاصف؟.
(ليل وذئاب)
لإولئك الذين يستشعرون فجأةً تخمةً
خصائص منطبعة في عيون جاحظة
رعباً من أمسٍ قريب
تنعكس على صفحة وجوههم
تأريخاً لأرَق لازمهم
تحيّناً لفرص مثل القطط الوحشيّة
تخلّصاً من سوءِ الطالع
ومن خصائصهم
الشكُّ بكلِّ ما يحيط بهم
وبكلّ القيم النبيلة التي يعتبرونها ملازمة للضعفاء
العاجزين عن تسلّقِ العلياء
ولذلك هم عموماً في مجتمع غابة
حيث القوي يحكم الضعيف بعنف
ويشبع الأسد ويتضوّر جوعاً من ليس أهلاً للحياة
وفي ذلك يحاكون تجربةً عاشوها واقعاً
مع حديثي نعمة من أمثالهم
شهروا أظافرَهم في وجوه الناس
أو اندسّوا بين الناس يوسعونهم عضّاً وخيانات
وأعذارهم فلسفتهم التي ورثوها:
القوي ليأكل الضعيف
لا تؤخذ الدنيا إلاّ غلابا
من لا يطأ يوطأ
من لا يظلم فلِعِلّة
وإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب
ما أقبح وجوههم المعفّرة بالوحل
أولئك الذين تلمع عيونهم فرحاً
باكتشافِ الخسّة في أنفسِهم الوضيعة.
(متى!)
يغيب العقلُ ويغيب
وحين نتوسّم عودتَه في لحظة رجاء متعثّرة
يعود ويمدّد فتطول إجازته وتطول
القيودُ من بدعِ القبائلِ والطوائف
تضغط على العنق
في هجير صحراء سنوات
من حرب ليس فيها إلاّ رمال محرِقة
وثعابين تنتصب كأنّها قشّ خلاص
يتوهّمه الطيرُ المتعَب
لتصدمه الحقيقة
هذه الحرب حربٌ
ينهش فيها الفقراءُ الفقراءَ
من ذا الذي شرّع ويشرّع
للحروب بين الفقراء؟
هي إمعانُ المشرّدين في التشرّد
من زيّن للمشرّدين دروبَ التشرّد؟
هي الجريمة أن يُمثّل بأبي عبدالله
ويُبكى ويُحاصَر اليومَ أيضاً ليُمثّل به
عجائب في زمنِ العجائب
في زمنِ اغتيالِ العقل وتقاتلِ الجياع
بحضرةِ البطون الممتلئة وأسودِ منابرِ الجماجم
لا يهمّ من تكون الضحيّة
لا يهمّ عدد الضحايا
لا يهمّ أن يكون الدمُ في الأزقّة
عند بيوت التنك
لا يهمّ عدد العيون التي تبكي وستبكي
أو عدد الأمّهات اللواتي سيتّشحن بالسواد
ما دمنا قد اعتدنا ويغري الساديّة فينا
لا شيئ غير معقول في غياب العقل
لا شيئ غير مقبول إلاّ جواز العقل في المعقول
وأن يقول ما يجب أن يقول
يا صديقي الفقير المهان
عدوّك هو ذاك الجاثم على القلب
أيّها المشرّد المهان تعلّمْ
أن لا تُطعن خصوصاً من الخلف
واحفظ وجوه أعدائك الحقيقيين
أولئك الذين سرقوا أرضك وبيتك وقتلوك
متى نعقل؟. متى نتعلّم؟
متى نقدح العقلَ في الزمنِ اللامعقول؟.
(صبراً إلى مطلع الفجر)
(إلى شهيد الفكر د حسين مروّة)
كان شجاعاً وكانوا جبناء
كان حرّاً و كانوا أذلاّء
كان ابن المدينةِ الحقيقيّ
وكانوا المزيّفين
كان عنوانَ ثقافتِنا وتاريخَ أسمائنا
فقتلوه
هم عبيدُ الذهب والفضّة
هم بطانةُ السلطان
يتخفّون بالليل مثل لصوص
أفزعَ أبناءُ الأفاعي
أن تفضحهم عيناه الجريئتان
فقتلوه
أحبَّ فكتبَ بحبرِ القلب
عن ثورةِ الزنج
مشى فهدهدتْه أحلامُ القرامطة والفلاّحين الفقراء
ونذرَ العمرَ للوطنِ الآتي على مهرٍ أبيض
فقتلوه
أيّتها المدينة التي ودّعتْ قلبَها
حين افتقدتْ روحَه
أيتها المدينة التي خسرتْ أجمل عينيها
عندما غدرَ به الظلاميّون
أيّتها المدينة التي يدنّس الطوائفيّون أطرافَ ثوبِها بأحقادِهم
تجمّلي وقولي صبراً متوعِّداً حتى مطلعِ الفجر.
(ليل وذئاب)
الكتابةُ عن شهداءِ الخبزِ والكلمة
هي دموع على الرجالِ الرجال
تنهمر من مآقٍ قيّحها الأمل
باشتعالِ غياضِ الورود في جنائن الغد
هي الحزنُ العملاقُ الذي تطلقه أمٌّ
غدتْ أمّةً مكلومةً بكبريائها
منذ قدومِ أوّلِ مستعمرٍ
قذفتْه رياحُ الجشعِ
حتى آخرِ مسخٍ ظلامي
ورثَ كلَّ حقاراتِ أنظمةِ الذلِّ والخنوع
وصارَ مثالاً وعنواناً لانحطاطِ مرحلةٍ بكاملها
تجتاحُ بلاداً لا يبعثها إلاّ طوفان كريم
يعيد للشيء أوّله، يعيد للمرجِ خضرته
وللزيتون غصنَه ومعانيه
يأتي استشهادُ مهدي عامل تأكيداً
أنّ أعداء العِلم والإنسانيّة
يُبعثون أيضاً كالمومياءات من القبور
ليعيدوا تشكيل العالم على هيئاتهم القميئة
متقدّمين كأصنامٍ حجريّة
تحطّم كلَّ شيء ليس فيه من صقيعها الأزلي
وتدوس كلّ شيئ ليس فيه من ظلامِ عيونِها
وقسوةِ قلوبها وعفنِ أدمغتِها
التي أودعها التاريخُ مزابلَه منذ أزمنة
فما معنى إغتيال مفكِّر التزمَ جانبَ الواقعيّة
في المعرفةِ ودراسةِ التاريخ؟
فما معنى اغتيال مفكِّر انتصرَ للعقلِ ـ صانعِ الحضارةِ الإنسانيّة؟
فما معني اغتيال مفكِّر نذرَ عمرَه لأمّةٍ يناشدها الثورةَ والنهوض؟
فما معنى اغتيال مفكّر عرفَ الظلمَ من عينِ فقيرٍ
قبلَ أن يعرفَه من بطونِ الكتب؟
فما معنى اغتيال مفكّر رفض أن يساير حالةً عنوانها إجرام، ليل وذئاب
وأصرَّ على فطرتِه وحبِّه الأوّل وعشقِه للأرض، للوطن، وللإنسان؟
فما معنى أن تُذبح الثقافة في كربلاءِ القرن العشرين؟
حقدُهم أيضاً يصيبُ وجه المدينة الأمّ
يطالُ ظلامُهم صفاء عينيها
متى تكون صيحةُ غضب؟.
(حنظلة)
أقدمتْ قوى الجهالةِ والظلام
بعد اغتيال المفكّر حسين مروّة والمفكّر حسن حمدان
وغيرهما من أعلامِ الفكرِ اللبنانيين والعرب
على ارتكاب جريمة جديدة بإطلاقِ النار
من كاتم صوت
على رسّام الكاريكاتور الشهير ناجي العلي في لندن
وأصابته شهيداً تاركاً ذكرى مناضل أحبَّ الحياة
فاستكثروا أن يحبّ
واستنصر للضعفاء فاغتاظوا
وتجرّأ على الجاهلين فقتلوه
ناجي العلي "حنظلة"
رسّام الكاريكاتور الأكثر شهرة في العالم العربي
فلسطيني حملَ أوزارَ غيره منذ مولده
تربّى في حواري وأزقّة المخيّمات في لبنان
عايش رحلةَ الشتات بكلِّ ويلاتها وأحداثها الكبرى
وعندما تركَ مجبراً دارَ السفير البيروتيّة
لم يجد أرضاً عربيّة واحدة لكي تستقبله
تابعَ مكسوراً نحو أرضِ الأعداء، أرضِ بلفور
التي شهدتْ فيضَ روحه
أعداءُ الإنسان يصرّون أيضاً على غيّهم
تمتدّ يدُ الظلام لتطفئ شمعة
ينزف جرح وليس من يضمّد جرحاً
ينكسر عَلم. تدمع عين. ينتفضُ قلب ويذوي جسد.
(السلام على كمال بك جنبلاط)
الربيعُ ينهضُ فينا كلّما نتذكّره
يزدهرُ الحلمُ الورديّ
على عتباتِ الثورةِ والتغيير
هو الفكرة وهو المفكِّر
هو المعلِّم القدوة بالصبرِ والأناة
حبّةُ القمح التي غاصتْ في التربة
لتملأَ البيادرَ غلالاً
وتهبَ الرضى لوجوه كثيرة
كمال جنبلاط هو المدرسة
هو العِلم الذي تفتّحت أكمامُه
في مشاتلِ العزّةِ والكرامة
من أجلِ لبنان واحد سيّد مستقلّ
ساءه أن يرى إلى المحسوبيّة
تنمو مثل غدّة سرطانيّة
في أنحاءِ جسمِ الدولة
أن تستعرَّ الرشاوى
أن يقفَ الخرّيجون الجامعيّون
عند أبوابِ زعامات
ابتيعتْ بثلاثين فضّة
من حسابِ الأبرياء
وأن تُمتهن الكرامة الإنسانيّة
في وطنه لبنان
أن يتطاول أضأل الفاشست على الكلمة
أيقن أن الأوطان يصنعها الرجال الرجال
وإن رايةَ الموقف
يرفعها الرأيُ الصريح
أعلن جريئاً برنامجَه المرحليّ للإصلاح
باعتباره الجسر الممكن إلى وطن حقيقي
لا إلى مزارع طائفيّة تفقّس الخوفَ، الغبنَ
والحقدَ المتبادل
افتقدنا كمال جنبلاط
حين امتدّتْ إليه يدُ الغدر
ونتذكّره أيضاً وأيضاً
كما في كل 16 آذار
لنعمل معاً
لنحيا بالأمل
ونقرأ الوصيّة:
"لبنان وطن للجميع"
والعقَد النفسيّة أعجز من أن تطالَ الحقيقة
السلام على الرجل الذي حملَ صليبَه
على الرجل الذي لم يرهبه بطشُ الخصوم
الذي أحبّ ليمنعوا حبَّه بالرصاص.
(وداعاً بالزغاريد)
المناضلُ عبدالله سليم "أبو جميل"
انتقلَ إلى مثواه الأخير
عن عمرٍ يناهزُ الثلاثةَ والثلاثين عاماً
الجالية اللبنانيّة والعربيّة
وإن كانت على موعدٍ مع النبأِ الجلل
فالغيابُ المبكّر للرمزِ الوطني
ظلَّ يختزن عظيمَ المفاجأة
وهولَ المصاب
ويشدُّ الأهلَ والأصدقاء والمحبّين
إلى عدمِ التصديق
كثيرون حضروا لإلقاءِ النظرةِ الأخيرة
على الرجلِ الذي ترجّلَ عن فرسِه
رغماً من قوّةِ الحياة في عينيه
ولوداعِه بأكاليلِ الورود
ودموعِ الوفاء وزغاريد الأمّهات
الفنّان عبدالله سليم
هو الأستاذ والمثقّفُ الثوري
هاجرَ إلى أستراليا من لبنان
قبل سبع عشرة سنة
ليبدأَ مشواراً جديداً وفصلاً آخر من المعاناة
بقلبٍ كأنّه قُدَّ من جبالِ عاملة
وبعزيمةٍ يعرفُها فلاّحو الجنوب اللبناني
لتكتسبَ الأرضُ لونَ الخضرة
وتتّخذَ الحياةُ شكلَها الأجمل
منذُ وطئتْ قدماه أرضَ أستراليا
لاحظَ الكثيرون مواهبَ الفتى الشاب
استبشروا فرحاً، أنشدَ لهم على عودِه
أغاني الثورة والتغيير
قرأَ لهم فصولاً عن
"أجملِ الأيّام تلك التي لم تأتِ بعد"
كان الثائرَ والعاشق
كان الشعلةَ المنيرة لإبادةِ ظلمة
أحاطتْ بكثيرين
وحجبتْ عنهم رؤيةَ الوطن موحّداً
فتوزّعوه مناطقَ وطوائفَ
كان أبو جميل يقول
إذا حدّث عن الحقِّ وعن الظلم:
دولة الظلم ساعة حقّاً
دولةَ العدل حقّاً إلى قيامِ الساعة
إنّ زهرةَ الحبّ أقوى
إنّ عزيمةَ الثوّار أشدّ
من أنظمةِ الديكتاتوريّة المتعفّنة
في كلِّ بلادِ العرب
والذين يضحّون بالغالي
يمدّون أجسامَهم جسوراً
لكي تعبرَ الأجيالُ
إلى وطنٍ حرٍّ وشعبٍ سعيد
عبدالله الكادر الطليعي
العلماني بامتياز
كان يعرف كيف يشدّ إليه العقول المستنيرة
آمن بالإنسان أقدس الخلق
نافحَ عنه فقيراً في آسيا
مستغَلاً في أميركا اللاتينيّة
مستعبَداً في إفريقيا
فقيراً ومستغَلاً وذليلاً ومستعبَداً
ومرميّاً في غياهبِ السجون
في أوطانِ الضادّ
آمن بوحدةِ الطبقةِ العاملة العالميّة
آمن بالوحدةِ العربيّة، بالثورةِ الفلسطينيّة
بلبنانَ الواحد السيّد المستقلّ والديمقراطي
حتى آخر قطرة في كأسِ عمرِه القصير
مات عبد الله سليم "أبو جميل"
رحل الطائرُ المهاجر أيضاً وأيضاً
أبحرَ مبكِّراً إلى ميناء بعيد
ذهبَ المحاربُ المثقّف
إلى أقصى خلوتِه
وتركنا وحيدين نستذكر الشهامة
في البطل الذي غاب
نذرفُ دمعةَ خسران
وتنهضُ في صدورِنا قلوبٌ أكبر.
(قضاءُ القطط السمان)
عندما دولةٌ متحضّرة
تفترض أنّ هيبتَها
تكمن في قدرتِها على فرض قوانينِها
سواسية دون تفرقة بين زيد وبين عمْر
نجد الدولةَ المتخلّفةَ ترى العكس
أي ترى أنّ الحضارة أو المدنيّة
هي في خضوعِ الشعب ـ "الرعاع"
خضوعاً لأبناءِ "الذوات" الحاكمين
وأنّ زيداً هو غير عمْر
فكيف المساواة بين سيّد ومسود؟
وبالقياسِ على هذه القاعدة
أحرى بالقوانين
أن تسري على قومٍ دون قوم
أن تطالَ بسيفِها أبناءَ الطبقاتِ الشعبيّة
إذا تجاوزتْها سرّاً أو جهراً
وأن تكون برداً وسلاماً على "البهاوات" ـ
أصحابِ العروقِ الطاهرة
ولهذا يَقول القضاءُ بالموتِ شنقاً
على الصغار تأكيداً لهيبةِ الدولة ـ السلطة
أمّا القطط السمان فهي لها من نفوذِها المؤيَّد
قدرة سحريّة لتبرئة ساحاتِها
وفي أسوأ حال تدفع غرامةً مالية ديّة الضحيّة
وكفى الله المؤمنين شرّ العدالة
نشير هنا إلى المواطِنة سميحة عبد الحميد
التي ارتكبتْ جريمةَ قتل زوجها
كان من قدرها السيئ أيضاً أن يُحكم عليها بالموت شنقاً
لأنّها من أبناء الشعب وليست من ذوي النفوذ
أو الجاه أو السطوة
لا رثاءَ ها هنا للقاتلة عبد الحميد التي تُقاصَص
بقوانين بلادِها
ولكن: لماذا يصدر حكم بإعدامها
ولا يصدر حكمٌ بإعدامِ مقاولين ومهندسين فاسدين
تسبّبوا بسقوط أبنية على رؤوس ساكنيها بمجازر جماعيّة؟
لماذا لا يُصدر القضاءُ أحكاماً ضدّ من يسمّمون الناس
بالأطعمةِ واللحومِ الفاسدة؟
لماذا لا يصدر حكم بإعدام أولئك الذين يدفعون ملايين الناس
إلى مطاحن الجوعِ والجهلِ والأمراض
وإلى العيشِ في "القرافات" أو المقابر؟
لماذا يتجاهل القضاءُ جرائمَ الذين يجرحون كرامةَ أُمَّة
ويقتلون روحَها تحت عين الشمس يوميّاً؟
أم صدقَ الشاعر حين قال:
"قتْلُ امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفر
وقتْلُ شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظر"؟
لأنّها غير محظوظة
لأنّها سميحة عبد الحميد
مواطِنة عاديّة.. يطالها القانون
ولكن متى سيطال المحظوظين
من أصحاب السعادةِ والعطوفة
والسموّ أو الرياسة أو الجلالة؟.
(جنوب إفريقيا ولبنان)
تابو ندامينا
سائقُ التاكسي الجنوبي
إفريقي.. يقول:
من العار أن يكون لونُك أسود في هذا البلد
ذلك سيعني أن لا تدخل إلى مطعم محترم
فيه شخص "أبيض"
أن لا تدخل دارَ سينما أو مسبحاً
يرتادهما شخص "أبيض"
وأن تُعتصَر في المصانع إلى آخرِ قطرة
حتى إذا جاءَ المساء
بالكاد ستتعرّف عليكَ زوجتُك
لأنّكَ تكون من الإعياء
أقرب إلى الموتى منك إلى الأحياء
ونحن معاشر داحس والغبراء
وعبس وذبيان لبنان
ومهما قال ندامينا
ليس لنا إلاّ أن نتحسَّر
وذلك ببساطة لرحمة حاله قياساً بحالنا
ولرحابة زنزانته قياساً بوحشيّةِ غاباتنا
وأين هو من هَوْلِ عذاباتِنا؟
مهما بلغَ السوءُ في جنوبِ إفريقيا
فإنّ خطّاً واحداً واضحاً يفصل بين طرفين
بوضوح الأبيض والأسود
فيما عندنا في لبنان 17 خطّاً
بعدد الطوائف المتذابحة
وما أسرع أن تنبثقَ خطوطٌ
تفصل بين أبناءِ كلِّ طائفة على حِدَة
وحتى بين أبناءِ الحزب الواحد
البلاد التي يُذكر فيها الله كثيراً
ويُقال: "يا أبانا الذي في السماوات"
عوض: "أيّها الأب الذي في السماوات"
تقديراً إنّ "أبانا" للأشخاص البيض دون السود
يُهان الإنسان فيها بسبب من سوادِ لونِه
أمّا في بلادِنا، في بلاد الإشعاع الطائفيّ، الذرّي
فموتاً تموت لأنّكَ مسلم، لأنّكَ مسيحي، لأنّكَ يساري
لأنّك يميني، لأنّك فقير، لأنّك غني ولأنّك ما شئت
في "جوهانزبرغ" قضيّةً يناضلُ من أجلها شعبٌ
يؤمنُ بالحريّة وبالكرامةِ اللتين يكسرهما الذئاب
أمّا في بيروت "أمّ الشرائع" أو أمّ الفضائح
فالموت بالمجّان لكي ترضى طائفة
أو كي ترضى عائلة أو كي يرضى نصّاب
صديقي تابو ندامينا صبراً
وانظرْ إلى مصائبنا تهن مصائبك
وستحمد ربَّكَ على ما سبقَ وما تقدّم.
(جسر مانديولاّ)
وصلَ إلى جسرِ مانديولا
رأى مثلما في منام آلافاً من الفلاّحينَ الفقراء
تخفقُ فوق رؤوسِهم راياتٌ بلونِ الشفق
وتصدحُ حناجرُهم بأناشيد من رحمِ الأرض
وعلى جباهِهم خطوط عن الإصلاحِ الزراعي
وعن الذين يزرعون ولا يجدون ما يقتاتون به
وحكايات لا تنتهي عن الإقطاعِ والمظالم
وفي الجهةِ المواجهة رأى عسكرَ الجنرال
هيئاتهم كأنّهم خرجوا للتوّ من مختبرات فرانكشتاين
عليها أثر المباضع، عيونهم خواء
وفي أيديهم موت على هيئة سواطير أو بنادق
لم يشأ أن يتراجعَ في يومِ الإصطفاف الجلي
للخير كلِّه ضدّ الشرّ كلّه
لم يهن عليه أن يكون دون الفيليبّينيين تصميماً
ودونهم تعظيماً للحبِّ، للأرض، للإنسان
لا أبشعَ من الموت ذليلاً
لا أروعَ من الحياةِ شاهراً قبضة بوجه مجرم قاتل
عندما عثرتْ أمُّه على جثمانه بين الضحايا المتناثرين
عند جسرِ مانديولا
مدروزاً بالرصاص
جلستْ عنده، رفعتْ رأسَه، أسندتْه إلى زندها
لم يشرّف الفلاّح الفيليبّينيّ أن يموتَ بأوامر من الرئيسة ماركوس
ولكنّه الزمن الغادر يُذبح فيه الفقراء أيضاً كثيراً بأيدي المقنَّعين.
(إنّهم جميعنا)
يتردّدون إليك
في الليالي الحالكة
ليقتنصوا من لحمِك
يستلّونَ من عينيك خيوطَ الضياء
ليصنعوا لهم أثواباً تنكّرية
يقطّعون أطرافَك بيعاً في أسواقِ النخاسة
يبكونَ عليك مكراً تفضحُه دولتُهم الدمويّة
تفضحه المقابر الجماعيّة
وطني: إنّهم أولئك.. فوق رؤوسِهم "هُبَل"
بوجوهه الكثيرة وكلّها قاهرة، ومُذلّة، وضاحكة
من دموعِ الحفاة
إنّهم أولئكَ الذين فوق رؤوسِهم صاحب الألواحِ المسروقة
تحرسُه البنادق في مدينةِ السلامِ المفترَضة
وطني: إنّهم أولئك.. فوق رؤوسِهم
مَن رأسُه أعلى من النجوم
ليطفئَ النجومَ في زنازين القهر
أو بأعقابِ البنادق
بيّاعُ الأعراضِ الأكبر
الخفي والمنظور
الذي له جوازاتُ سفر لا تحصى
ومن كلِّ الجنسيّات
وفي جيبِه قلوب مسحوقة، عيون مسلومة
أرواحٌ مقتولة ودفاترُ حساباتٍ بنكيّة
إنّهم جميعنا
المصفّقون، علفُ الموت
الغافلون عند المذبحة.
(نتوحّدُ فيك)
أيّها الوطن
من أيّ الأبوابِ المخلّعة
ندخلَ إليك؟
من أيّ الجراحِ المشرّعة
على العاصفة؟
رِفقاً لا تنكسر
عيناكَ البحر لا تنحسرْ
كفُّكَ المثلوم عبقُ الحقولِ المفلوحة
أنتَ الوردة والأطفال
لا ترحلْ في تيه الزمنِ الموحل
لا ترحلْ في عقوقِ المدنِ المزيّفة
الجوعى والحمام يأوون إلى خبزِ يديك
نتوحّدُ فيك عندَ حدّ السيفِ والروحِ المكسورةِ
عندَ العطشِ الكبيرِ نتوحّدُ فيك
على إسمِ الماء، عندَ الموانئ، في المطارات
في كلِّ جهة أنتَ الأملُ الضائعُ
في شعابِ العالم.. نتوحّدُ فيك
ولا غيرك أوّل الغيث
ولا غيرك.
(الوطن نحن)
من أين لكَ أيّها الوطن
أن تبحر نحو موتِك ولا تتعب؟
من أين لكَ أن تسافرَ بلا زاد ولا تموت؟
نحن لكَ عبثُ الأيّام، حبّةُ القمح
وصمةُ عار، غضبٌ وكرامةٌ
وتناقضات لا تحصى
ودمعة على الخدِّ الأسيلِ
حين في يدِ هولاكو سوط الذلّ
تَقدّمْ أيّها المبعوث إلى الموت فجراً
والراحل إلى الموت غروباً
نسقيكَ من عيوننا ومن عزمِ زنودِنا
نحن أبناؤك
يروينا ماؤك
تظلّلنا سماؤك
ونضلُّ
في الحبِّ إليك؟!.
(زمانُ الأفاعي)
لا تحاكِ السرابَ
في عيونِ مصّاصي الدماء
لا تتمسّكْ بوعودِهم الكاذبة
لا تصدّقْ، إنّهم يريدون أن تكون يا وطني
عشبةً أو سمكةً
أيّها الوطن المنفي
خلفَ أسلاكِ جراحِكَ النازفةِ يوميّاً
أيّها الوطن المتسكِّع على أبوابِ الجوامعِ والكنائس
تسألُ "إيل" كسرةَ خبز
أيّها الوطن مسبيّاً
في مضاربِ القبائلِ الطائفيّة
والمذهبيّة والعنصريّة
لا تصدّقْ غيرَ شراعِك، غيرَ نداءِ الجبال:
"بإسمِ العمل والأمل"
لا تصدّقْ غيرَ نسْغِ الحياةِ
في عروقِكَ الجديدة
العسَسُ
يؤلّفون طريقة
لكي يصلوا إلى دمِك
إلى يدِك الشريفة
الأفاعي، حرّاسُ الهياكلِ القديمة
يجتمعون تقاسماً للغنيمة التي هي أنت
حذاري من نهشِ الأفاعي
الآن زمانُ الأفاعي
المثقّفون المراؤون
التجّار في دورِ العبادة
يصلّون شكراً لئلا تزول النعم
حذاري من المرائين
أن لا تكون أنت أنت
موتاً نموت
حين ليس بعدُ غير صفيرِ الريح
في القلوبِ الخاوية.
(هيروشيما)
تسقطُ الدمعةُ الأخيرة من
محجرِ العين ويذوي القلب
تنكسرُ الروحُ
ومن خجلٍ تبحثُ عن ملجأ أخير
أو غابةٍ بعيدة
هيروشيما
وجهُ أمّي على أشلاءِ الضحايا
وصمت المدينة
قلْ خصلةُ شعرِها
أحرقَها وهْجُ الحضارة
وقفْ دقيقةَ صمت
قلْ لكفِّ هيروشيما المعرَّقِ
عربون وفاء وتاريخ البناء
فأنكروها
الحزنُ
في شوارعِ هيروشيما
وشهرُ آب عاماً بعد عام
مرتاب بتمثالِ الحريّة
ترعبُه الإعلاناتُ المزيّفةُ
عن حقوقِ الإنسان
أيّتها المدينة
التي اجتاحتكِ عاصفةُ لهب
أنتِ أقوى
هيروشيما
أنتِ أقوى
و"أجملُ الأيام هي تلك التي لم تأتِ بعد".
ـ ***** ـ
(أوراق
نُشِرت عام 1987
في جريدة البيرق العربيّة الأستراليّة
تحت زاوية بعنوان :
"نافذة على البحر"
ونُشرت في كتاب بعنوان:
"على طريق بعيد"
في سنة 1991
عن دار الثقافة ـ سيدني).
Shawki1@optusnet.com.au
وجميعِ الذين استشهدوا من أجل وطن حقيقي.
ـ**ـ
(بئس أمّة)
عندما تقف عاجزاً دون قُدْرة على فِعْلِ شيء
يتثاءبُ في داخلكَ رَحِمٌ عاقر
وتشعر إنّ الأيّامَ يرفعُها سيّاف
وتقتحمُكَ الدقائقُ والثواني مثل آلاف الإبر
تنخرُ عظامَ جسمِك المُتعَب من هولِ الصمتِ
والعجزِ وقِصَرِ اليد
ستعرف إنّكَ عند أعتاب زمن مُتكرّر، مُظلم
نازل من منخري متشعوذ
وستعرف إنّكَ مُحاصَر بصحراء
تدعوكَ كثبانُها إلى التضاؤلِ والغرق
وحدها الأنياب في الشوارع
تتربّصُ بذي الضميرِ الحيّ
وبالذين كانوا عندما كان للكلمةِ معنى
وعندما كان للعقلِ تقدير واحترام
وحدها الأنياب لها حقّ السيادة
تتقّن فنّ طأطأةِ الرأس والتمسّحِ بأذيالِ الأقوياء
وتقبيلِ الأيدي واللِحى والسيرِ في مواكبِ الأذلّاء
في الزمنِ الذي تغيب معالمُه
ويتلبّس عفنَ عصورِ القهرِ والخنوع
وتستلبُه أرواحُ المقابرِ الدارسة ومتاحفُ التاريخ
لا مكانَ للإنسان كقيمة ولا اجتماع ولا تطوّر
ولا حضارة ولا إرادة
ويقبعُ العقلُ صامتاً في زاوية
وتُنحَر كلّ المفاهيم التي تحاول مُلكاً
في عالمِ الرؤيةِ ماضياً، حاضراً ومستقبلاً
وتؤسّس لغدٍ أفضل لا قضبان فيه
لا سيّافين ولاجلاوزة
ويصيرُ العقلُ عنوان شقاء
يتبعُه الغاوون والكفّار بنعمةِ الصمت
ويصيرُ آفّةً يقتربُ منها من هو بلا عقل
والعاقلُ هو فقط الذي يحمل صكَّ براءته
من أيّ منطق، من أيّ واقع وأيّ معرفة
ويمشي مثل الساهمة إلى لا حول ولا قوّة
إلاّ بالسحرةِ والمشعوذين ومن فيهم مسّ
والسلاطين ومن لا يرون العالمَ يتنفّس
إلاّ من خياشيمهم وبعيونِهم الجشعة؟
من أين للجهل هذا الحضور الذرّي؟
من أين للقهر هذه القدرة على كمّ الأفواه
وافتراضِ ما لا يُفترض
ومقارعة كلّ حديث مهما كان مقنِعاً، ضروريّاً؟
من أين للظلاميّة بُدعة الكياسةِ
لاختراقِ الكلمة وتفجيرِها من الداخل ودوسِها بالأقدام؟
من أين لها قوّة التنفّس مع مساماتِ جلودنا
والسكن في عيوننا وسملها ومسخنا قروداً ووحوشاً
تحتكر مزيّة التدمير والقتل والإبادةِ المنظّمة؟
كذلك هو معظم تاريخنا الذي مضى
وكذلك هو حاضرنا الذي أفردَ عقلَه مثل بعير أجرب
وصدق الذي قال: "بئس أمّة ليس فيها أبطال".
(آدمُ السماء وآدمُ الأرض)
أنا من فقدَ نعمةَ الدهشةَ
الأشياءُ لم تعد ذكرى يمكن أن تُستعاد
مع أوّلِ تفتّح زهرة
مع أوّل هبوبِ نسيم وتساقطِ غيث
وأجزمُ، وهذا يُحزنني، ليس لأنّ الأشياء
قد ظلّلها النسيان وصارت باهتة
ولكن لأنّي كالآلهة صرتُ أعرف
كالآلهة صرتُ أكره
صرتُ آدمَ الأرض ولم أكن
اندهشْ إذا شئتَ يا صديقي
انتشلْ سؤالاً، ارسمْه على وجهك
لأنّكَ أوّل عهدكَ بالساقطين
أوّل عهدكَ بكيدهم
ولأنّك آدم السماء وأنا آدم الأرض
هل أتاك حديثُ الأنياب
تنغرز في كفّك الكبيرة؟
هل أتاك حديث القرصان
يحسّ العافية في سحنته المتحفّزة
لاقتناصِ الفرص؟
هل أتاك حديثُ
من لا قرارَ لأطماعهم
ويرغبون بدفنِ الشمس
في دورهم الكبيرة؟
هل أتاك حديثُ اللات
تخرّ لها حتى ذقنِك لتغفرَ لك
وهُبَل تشتعلُ جمرتا عينيه ثمّ تبردان
بماء الخوف على جبينك حتى يرضى؟
سرُّ الدهشة ماتَ يا صديقي في عيني
إنّما حسبي أن الأشياء تتغيّر، وأنّ العالم كلّه يتغيّر.
(الأرضُ لك)
"للطوائفيين مكان ينامون فيه فأين ننام نحن"؟.
ـ منقول.
في يومٍ مضى كنتَ المدى
في يومٍ مضى كنتَ النهر
كنت السواقي، دفءَ التلاقي
الحبَّ الذي يمّمتْ شطرَه وجوهُ الأحبّة
الأملَ المرتجى لحياة لا سيّد فيها ولا مسود
ولا من ينعق باقترابِ الأذى في دنيا المظالمِ هذه
هكذا كنتَ، هكذا أنتَ، هكذا القلبُ
هو أرحب من سماء لا يعرف معنى لاختلافِ البشر
إلاّ أنّهم كلّهم بشر
ولا يعرف معنى للحدود إلاّ إنّها غير ملزِمة
لعالَم أوسع من طموح فرد أو مجموعة
هكذا كنتَ، هكذا أنت
اصبرْ إذا مسّ العالمَ جنون
إذا ضاقتِ الأحداق وانتشرَ الحقدُ
في زمنِ الطوائف
اصبرْ إذا ما رجموك لأنّك الشجر مثقل بالثمر
اصبرْ لوحشةِ الطريق ولقلّةِ الزاد والصديق
يا مَن كنتَ الحلم
أكبر مِن حقدِهم ومِن حدودهم
يا مَن كنتَ الأمل
أقوى مِن ليلهم وممّا يأثمون
يا مَن كنتَ الشعلةَ
وكانوا العناكب والأفاعي وأبناءَ الشياطين
يا صديقي
لك الأرض ولن يرثها المفسدون.
(صامتاً)
مثل نبيّ
رماه أهله بالجنون
ورجموه بالحجارة
كان صامتاً
مثل نبيّ
جاءَه الوحي
وعرفَ أنّها مرارة التجربة
كان صابراً
مثل نبيّ
آمن برحمةِ السماء
وإنّها لن تتخلّى عنه إلى الأبد
كان آملاً
هكذا عرفتُه
يتذكّر كأنّه في زاوية
وجهُه شاحب يغمرُه الظلام
تنكسر عيناه على أشواكه
يتأوّه، يصبر ويرفع يديه
من أجلِ قطرة ماء للشفتين اليابستين
حبّاتُ القلب
كيف تهاوت جموعٌ
مثل أوراق خريفٍ عاصف؟.
(ليل وذئاب)
لإولئك الذين يستشعرون فجأةً تخمةً
خصائص منطبعة في عيون جاحظة
رعباً من أمسٍ قريب
تنعكس على صفحة وجوههم
تأريخاً لأرَق لازمهم
تحيّناً لفرص مثل القطط الوحشيّة
تخلّصاً من سوءِ الطالع
ومن خصائصهم
الشكُّ بكلِّ ما يحيط بهم
وبكلّ القيم النبيلة التي يعتبرونها ملازمة للضعفاء
العاجزين عن تسلّقِ العلياء
ولذلك هم عموماً في مجتمع غابة
حيث القوي يحكم الضعيف بعنف
ويشبع الأسد ويتضوّر جوعاً من ليس أهلاً للحياة
وفي ذلك يحاكون تجربةً عاشوها واقعاً
مع حديثي نعمة من أمثالهم
شهروا أظافرَهم في وجوه الناس
أو اندسّوا بين الناس يوسعونهم عضّاً وخيانات
وأعذارهم فلسفتهم التي ورثوها:
القوي ليأكل الضعيف
لا تؤخذ الدنيا إلاّ غلابا
من لا يطأ يوطأ
من لا يظلم فلِعِلّة
وإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب
ما أقبح وجوههم المعفّرة بالوحل
أولئك الذين تلمع عيونهم فرحاً
باكتشافِ الخسّة في أنفسِهم الوضيعة.
(متى!)
يغيب العقلُ ويغيب
وحين نتوسّم عودتَه في لحظة رجاء متعثّرة
يعود ويمدّد فتطول إجازته وتطول
القيودُ من بدعِ القبائلِ والطوائف
تضغط على العنق
في هجير صحراء سنوات
من حرب ليس فيها إلاّ رمال محرِقة
وثعابين تنتصب كأنّها قشّ خلاص
يتوهّمه الطيرُ المتعَب
لتصدمه الحقيقة
هذه الحرب حربٌ
ينهش فيها الفقراءُ الفقراءَ
من ذا الذي شرّع ويشرّع
للحروب بين الفقراء؟
هي إمعانُ المشرّدين في التشرّد
من زيّن للمشرّدين دروبَ التشرّد؟
هي الجريمة أن يُمثّل بأبي عبدالله
ويُبكى ويُحاصَر اليومَ أيضاً ليُمثّل به
عجائب في زمنِ العجائب
في زمنِ اغتيالِ العقل وتقاتلِ الجياع
بحضرةِ البطون الممتلئة وأسودِ منابرِ الجماجم
لا يهمّ من تكون الضحيّة
لا يهمّ عدد الضحايا
لا يهمّ أن يكون الدمُ في الأزقّة
عند بيوت التنك
لا يهمّ عدد العيون التي تبكي وستبكي
أو عدد الأمّهات اللواتي سيتّشحن بالسواد
ما دمنا قد اعتدنا ويغري الساديّة فينا
لا شيئ غير معقول في غياب العقل
لا شيئ غير مقبول إلاّ جواز العقل في المعقول
وأن يقول ما يجب أن يقول
يا صديقي الفقير المهان
عدوّك هو ذاك الجاثم على القلب
أيّها المشرّد المهان تعلّمْ
أن لا تُطعن خصوصاً من الخلف
واحفظ وجوه أعدائك الحقيقيين
أولئك الذين سرقوا أرضك وبيتك وقتلوك
متى نعقل؟. متى نتعلّم؟
متى نقدح العقلَ في الزمنِ اللامعقول؟.
(صبراً إلى مطلع الفجر)
(إلى شهيد الفكر د حسين مروّة)
كان شجاعاً وكانوا جبناء
كان حرّاً و كانوا أذلاّء
كان ابن المدينةِ الحقيقيّ
وكانوا المزيّفين
كان عنوانَ ثقافتِنا وتاريخَ أسمائنا
فقتلوه
هم عبيدُ الذهب والفضّة
هم بطانةُ السلطان
يتخفّون بالليل مثل لصوص
أفزعَ أبناءُ الأفاعي
أن تفضحهم عيناه الجريئتان
فقتلوه
أحبَّ فكتبَ بحبرِ القلب
عن ثورةِ الزنج
مشى فهدهدتْه أحلامُ القرامطة والفلاّحين الفقراء
ونذرَ العمرَ للوطنِ الآتي على مهرٍ أبيض
فقتلوه
أيّتها المدينة التي ودّعتْ قلبَها
حين افتقدتْ روحَه
أيتها المدينة التي خسرتْ أجمل عينيها
عندما غدرَ به الظلاميّون
أيّتها المدينة التي يدنّس الطوائفيّون أطرافَ ثوبِها بأحقادِهم
تجمّلي وقولي صبراً متوعِّداً حتى مطلعِ الفجر.
(ليل وذئاب)
الكتابةُ عن شهداءِ الخبزِ والكلمة
هي دموع على الرجالِ الرجال
تنهمر من مآقٍ قيّحها الأمل
باشتعالِ غياضِ الورود في جنائن الغد
هي الحزنُ العملاقُ الذي تطلقه أمٌّ
غدتْ أمّةً مكلومةً بكبريائها
منذ قدومِ أوّلِ مستعمرٍ
قذفتْه رياحُ الجشعِ
حتى آخرِ مسخٍ ظلامي
ورثَ كلَّ حقاراتِ أنظمةِ الذلِّ والخنوع
وصارَ مثالاً وعنواناً لانحطاطِ مرحلةٍ بكاملها
تجتاحُ بلاداً لا يبعثها إلاّ طوفان كريم
يعيد للشيء أوّله، يعيد للمرجِ خضرته
وللزيتون غصنَه ومعانيه
يأتي استشهادُ مهدي عامل تأكيداً
أنّ أعداء العِلم والإنسانيّة
يُبعثون أيضاً كالمومياءات من القبور
ليعيدوا تشكيل العالم على هيئاتهم القميئة
متقدّمين كأصنامٍ حجريّة
تحطّم كلَّ شيء ليس فيه من صقيعها الأزلي
وتدوس كلّ شيئ ليس فيه من ظلامِ عيونِها
وقسوةِ قلوبها وعفنِ أدمغتِها
التي أودعها التاريخُ مزابلَه منذ أزمنة
فما معنى إغتيال مفكِّر التزمَ جانبَ الواقعيّة
في المعرفةِ ودراسةِ التاريخ؟
فما معنى اغتيال مفكِّر انتصرَ للعقلِ ـ صانعِ الحضارةِ الإنسانيّة؟
فما معني اغتيال مفكِّر نذرَ عمرَه لأمّةٍ يناشدها الثورةَ والنهوض؟
فما معنى اغتيال مفكّر عرفَ الظلمَ من عينِ فقيرٍ
قبلَ أن يعرفَه من بطونِ الكتب؟
فما معنى اغتيال مفكّر رفض أن يساير حالةً عنوانها إجرام، ليل وذئاب
وأصرَّ على فطرتِه وحبِّه الأوّل وعشقِه للأرض، للوطن، وللإنسان؟
فما معنى أن تُذبح الثقافة في كربلاءِ القرن العشرين؟
حقدُهم أيضاً يصيبُ وجه المدينة الأمّ
يطالُ ظلامُهم صفاء عينيها
متى تكون صيحةُ غضب؟.
(حنظلة)
أقدمتْ قوى الجهالةِ والظلام
بعد اغتيال المفكّر حسين مروّة والمفكّر حسن حمدان
وغيرهما من أعلامِ الفكرِ اللبنانيين والعرب
على ارتكاب جريمة جديدة بإطلاقِ النار
من كاتم صوت
على رسّام الكاريكاتور الشهير ناجي العلي في لندن
وأصابته شهيداً تاركاً ذكرى مناضل أحبَّ الحياة
فاستكثروا أن يحبّ
واستنصر للضعفاء فاغتاظوا
وتجرّأ على الجاهلين فقتلوه
ناجي العلي "حنظلة"
رسّام الكاريكاتور الأكثر شهرة في العالم العربي
فلسطيني حملَ أوزارَ غيره منذ مولده
تربّى في حواري وأزقّة المخيّمات في لبنان
عايش رحلةَ الشتات بكلِّ ويلاتها وأحداثها الكبرى
وعندما تركَ مجبراً دارَ السفير البيروتيّة
لم يجد أرضاً عربيّة واحدة لكي تستقبله
تابعَ مكسوراً نحو أرضِ الأعداء، أرضِ بلفور
التي شهدتْ فيضَ روحه
أعداءُ الإنسان يصرّون أيضاً على غيّهم
تمتدّ يدُ الظلام لتطفئ شمعة
ينزف جرح وليس من يضمّد جرحاً
ينكسر عَلم. تدمع عين. ينتفضُ قلب ويذوي جسد.
(السلام على كمال بك جنبلاط)
الربيعُ ينهضُ فينا كلّما نتذكّره
يزدهرُ الحلمُ الورديّ
على عتباتِ الثورةِ والتغيير
هو الفكرة وهو المفكِّر
هو المعلِّم القدوة بالصبرِ والأناة
حبّةُ القمح التي غاصتْ في التربة
لتملأَ البيادرَ غلالاً
وتهبَ الرضى لوجوه كثيرة
كمال جنبلاط هو المدرسة
هو العِلم الذي تفتّحت أكمامُه
في مشاتلِ العزّةِ والكرامة
من أجلِ لبنان واحد سيّد مستقلّ
ساءه أن يرى إلى المحسوبيّة
تنمو مثل غدّة سرطانيّة
في أنحاءِ جسمِ الدولة
أن تستعرَّ الرشاوى
أن يقفَ الخرّيجون الجامعيّون
عند أبوابِ زعامات
ابتيعتْ بثلاثين فضّة
من حسابِ الأبرياء
وأن تُمتهن الكرامة الإنسانيّة
في وطنه لبنان
أن يتطاول أضأل الفاشست على الكلمة
أيقن أن الأوطان يصنعها الرجال الرجال
وإن رايةَ الموقف
يرفعها الرأيُ الصريح
أعلن جريئاً برنامجَه المرحليّ للإصلاح
باعتباره الجسر الممكن إلى وطن حقيقي
لا إلى مزارع طائفيّة تفقّس الخوفَ، الغبنَ
والحقدَ المتبادل
افتقدنا كمال جنبلاط
حين امتدّتْ إليه يدُ الغدر
ونتذكّره أيضاً وأيضاً
كما في كل 16 آذار
لنعمل معاً
لنحيا بالأمل
ونقرأ الوصيّة:
"لبنان وطن للجميع"
والعقَد النفسيّة أعجز من أن تطالَ الحقيقة
السلام على الرجل الذي حملَ صليبَه
على الرجل الذي لم يرهبه بطشُ الخصوم
الذي أحبّ ليمنعوا حبَّه بالرصاص.
(وداعاً بالزغاريد)
المناضلُ عبدالله سليم "أبو جميل"
انتقلَ إلى مثواه الأخير
عن عمرٍ يناهزُ الثلاثةَ والثلاثين عاماً
الجالية اللبنانيّة والعربيّة
وإن كانت على موعدٍ مع النبأِ الجلل
فالغيابُ المبكّر للرمزِ الوطني
ظلَّ يختزن عظيمَ المفاجأة
وهولَ المصاب
ويشدُّ الأهلَ والأصدقاء والمحبّين
إلى عدمِ التصديق
كثيرون حضروا لإلقاءِ النظرةِ الأخيرة
على الرجلِ الذي ترجّلَ عن فرسِه
رغماً من قوّةِ الحياة في عينيه
ولوداعِه بأكاليلِ الورود
ودموعِ الوفاء وزغاريد الأمّهات
الفنّان عبدالله سليم
هو الأستاذ والمثقّفُ الثوري
هاجرَ إلى أستراليا من لبنان
قبل سبع عشرة سنة
ليبدأَ مشواراً جديداً وفصلاً آخر من المعاناة
بقلبٍ كأنّه قُدَّ من جبالِ عاملة
وبعزيمةٍ يعرفُها فلاّحو الجنوب اللبناني
لتكتسبَ الأرضُ لونَ الخضرة
وتتّخذَ الحياةُ شكلَها الأجمل
منذُ وطئتْ قدماه أرضَ أستراليا
لاحظَ الكثيرون مواهبَ الفتى الشاب
استبشروا فرحاً، أنشدَ لهم على عودِه
أغاني الثورة والتغيير
قرأَ لهم فصولاً عن
"أجملِ الأيّام تلك التي لم تأتِ بعد"
كان الثائرَ والعاشق
كان الشعلةَ المنيرة لإبادةِ ظلمة
أحاطتْ بكثيرين
وحجبتْ عنهم رؤيةَ الوطن موحّداً
فتوزّعوه مناطقَ وطوائفَ
كان أبو جميل يقول
إذا حدّث عن الحقِّ وعن الظلم:
دولة الظلم ساعة حقّاً
دولةَ العدل حقّاً إلى قيامِ الساعة
إنّ زهرةَ الحبّ أقوى
إنّ عزيمةَ الثوّار أشدّ
من أنظمةِ الديكتاتوريّة المتعفّنة
في كلِّ بلادِ العرب
والذين يضحّون بالغالي
يمدّون أجسامَهم جسوراً
لكي تعبرَ الأجيالُ
إلى وطنٍ حرٍّ وشعبٍ سعيد
عبدالله الكادر الطليعي
العلماني بامتياز
كان يعرف كيف يشدّ إليه العقول المستنيرة
آمن بالإنسان أقدس الخلق
نافحَ عنه فقيراً في آسيا
مستغَلاً في أميركا اللاتينيّة
مستعبَداً في إفريقيا
فقيراً ومستغَلاً وذليلاً ومستعبَداً
ومرميّاً في غياهبِ السجون
في أوطانِ الضادّ
آمن بوحدةِ الطبقةِ العاملة العالميّة
آمن بالوحدةِ العربيّة، بالثورةِ الفلسطينيّة
بلبنانَ الواحد السيّد المستقلّ والديمقراطي
حتى آخر قطرة في كأسِ عمرِه القصير
مات عبد الله سليم "أبو جميل"
رحل الطائرُ المهاجر أيضاً وأيضاً
أبحرَ مبكِّراً إلى ميناء بعيد
ذهبَ المحاربُ المثقّف
إلى أقصى خلوتِه
وتركنا وحيدين نستذكر الشهامة
في البطل الذي غاب
نذرفُ دمعةَ خسران
وتنهضُ في صدورِنا قلوبٌ أكبر.
(قضاءُ القطط السمان)
عندما دولةٌ متحضّرة
تفترض أنّ هيبتَها
تكمن في قدرتِها على فرض قوانينِها
سواسية دون تفرقة بين زيد وبين عمْر
نجد الدولةَ المتخلّفةَ ترى العكس
أي ترى أنّ الحضارة أو المدنيّة
هي في خضوعِ الشعب ـ "الرعاع"
خضوعاً لأبناءِ "الذوات" الحاكمين
وأنّ زيداً هو غير عمْر
فكيف المساواة بين سيّد ومسود؟
وبالقياسِ على هذه القاعدة
أحرى بالقوانين
أن تسري على قومٍ دون قوم
أن تطالَ بسيفِها أبناءَ الطبقاتِ الشعبيّة
إذا تجاوزتْها سرّاً أو جهراً
وأن تكون برداً وسلاماً على "البهاوات" ـ
أصحابِ العروقِ الطاهرة
ولهذا يَقول القضاءُ بالموتِ شنقاً
على الصغار تأكيداً لهيبةِ الدولة ـ السلطة
أمّا القطط السمان فهي لها من نفوذِها المؤيَّد
قدرة سحريّة لتبرئة ساحاتِها
وفي أسوأ حال تدفع غرامةً مالية ديّة الضحيّة
وكفى الله المؤمنين شرّ العدالة
نشير هنا إلى المواطِنة سميحة عبد الحميد
التي ارتكبتْ جريمةَ قتل زوجها
كان من قدرها السيئ أيضاً أن يُحكم عليها بالموت شنقاً
لأنّها من أبناء الشعب وليست من ذوي النفوذ
أو الجاه أو السطوة
لا رثاءَ ها هنا للقاتلة عبد الحميد التي تُقاصَص
بقوانين بلادِها
ولكن: لماذا يصدر حكم بإعدامها
ولا يصدر حكمٌ بإعدامِ مقاولين ومهندسين فاسدين
تسبّبوا بسقوط أبنية على رؤوس ساكنيها بمجازر جماعيّة؟
لماذا لا يُصدر القضاءُ أحكاماً ضدّ من يسمّمون الناس
بالأطعمةِ واللحومِ الفاسدة؟
لماذا لا يصدر حكم بإعدام أولئك الذين يدفعون ملايين الناس
إلى مطاحن الجوعِ والجهلِ والأمراض
وإلى العيشِ في "القرافات" أو المقابر؟
لماذا يتجاهل القضاءُ جرائمَ الذين يجرحون كرامةَ أُمَّة
ويقتلون روحَها تحت عين الشمس يوميّاً؟
أم صدقَ الشاعر حين قال:
"قتْلُ امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفر
وقتْلُ شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظر"؟
لأنّها غير محظوظة
لأنّها سميحة عبد الحميد
مواطِنة عاديّة.. يطالها القانون
ولكن متى سيطال المحظوظين
من أصحاب السعادةِ والعطوفة
والسموّ أو الرياسة أو الجلالة؟.
(جنوب إفريقيا ولبنان)
تابو ندامينا
سائقُ التاكسي الجنوبي
إفريقي.. يقول:
من العار أن يكون لونُك أسود في هذا البلد
ذلك سيعني أن لا تدخل إلى مطعم محترم
فيه شخص "أبيض"
أن لا تدخل دارَ سينما أو مسبحاً
يرتادهما شخص "أبيض"
وأن تُعتصَر في المصانع إلى آخرِ قطرة
حتى إذا جاءَ المساء
بالكاد ستتعرّف عليكَ زوجتُك
لأنّكَ تكون من الإعياء
أقرب إلى الموتى منك إلى الأحياء
ونحن معاشر داحس والغبراء
وعبس وذبيان لبنان
ومهما قال ندامينا
ليس لنا إلاّ أن نتحسَّر
وذلك ببساطة لرحمة حاله قياساً بحالنا
ولرحابة زنزانته قياساً بوحشيّةِ غاباتنا
وأين هو من هَوْلِ عذاباتِنا؟
مهما بلغَ السوءُ في جنوبِ إفريقيا
فإنّ خطّاً واحداً واضحاً يفصل بين طرفين
بوضوح الأبيض والأسود
فيما عندنا في لبنان 17 خطّاً
بعدد الطوائف المتذابحة
وما أسرع أن تنبثقَ خطوطٌ
تفصل بين أبناءِ كلِّ طائفة على حِدَة
وحتى بين أبناءِ الحزب الواحد
البلاد التي يُذكر فيها الله كثيراً
ويُقال: "يا أبانا الذي في السماوات"
عوض: "أيّها الأب الذي في السماوات"
تقديراً إنّ "أبانا" للأشخاص البيض دون السود
يُهان الإنسان فيها بسبب من سوادِ لونِه
أمّا في بلادِنا، في بلاد الإشعاع الطائفيّ، الذرّي
فموتاً تموت لأنّكَ مسلم، لأنّكَ مسيحي، لأنّكَ يساري
لأنّك يميني، لأنّك فقير، لأنّك غني ولأنّك ما شئت
في "جوهانزبرغ" قضيّةً يناضلُ من أجلها شعبٌ
يؤمنُ بالحريّة وبالكرامةِ اللتين يكسرهما الذئاب
أمّا في بيروت "أمّ الشرائع" أو أمّ الفضائح
فالموت بالمجّان لكي ترضى طائفة
أو كي ترضى عائلة أو كي يرضى نصّاب
صديقي تابو ندامينا صبراً
وانظرْ إلى مصائبنا تهن مصائبك
وستحمد ربَّكَ على ما سبقَ وما تقدّم.
(جسر مانديولاّ)
وصلَ إلى جسرِ مانديولا
رأى مثلما في منام آلافاً من الفلاّحينَ الفقراء
تخفقُ فوق رؤوسِهم راياتٌ بلونِ الشفق
وتصدحُ حناجرُهم بأناشيد من رحمِ الأرض
وعلى جباهِهم خطوط عن الإصلاحِ الزراعي
وعن الذين يزرعون ولا يجدون ما يقتاتون به
وحكايات لا تنتهي عن الإقطاعِ والمظالم
وفي الجهةِ المواجهة رأى عسكرَ الجنرال
هيئاتهم كأنّهم خرجوا للتوّ من مختبرات فرانكشتاين
عليها أثر المباضع، عيونهم خواء
وفي أيديهم موت على هيئة سواطير أو بنادق
لم يشأ أن يتراجعَ في يومِ الإصطفاف الجلي
للخير كلِّه ضدّ الشرّ كلّه
لم يهن عليه أن يكون دون الفيليبّينيين تصميماً
ودونهم تعظيماً للحبِّ، للأرض، للإنسان
لا أبشعَ من الموت ذليلاً
لا أروعَ من الحياةِ شاهراً قبضة بوجه مجرم قاتل
عندما عثرتْ أمُّه على جثمانه بين الضحايا المتناثرين
عند جسرِ مانديولا
مدروزاً بالرصاص
جلستْ عنده، رفعتْ رأسَه، أسندتْه إلى زندها
لم يشرّف الفلاّح الفيليبّينيّ أن يموتَ بأوامر من الرئيسة ماركوس
ولكنّه الزمن الغادر يُذبح فيه الفقراء أيضاً كثيراً بأيدي المقنَّعين.
(إنّهم جميعنا)
يتردّدون إليك
في الليالي الحالكة
ليقتنصوا من لحمِك
يستلّونَ من عينيك خيوطَ الضياء
ليصنعوا لهم أثواباً تنكّرية
يقطّعون أطرافَك بيعاً في أسواقِ النخاسة
يبكونَ عليك مكراً تفضحُه دولتُهم الدمويّة
تفضحه المقابر الجماعيّة
وطني: إنّهم أولئك.. فوق رؤوسِهم "هُبَل"
بوجوهه الكثيرة وكلّها قاهرة، ومُذلّة، وضاحكة
من دموعِ الحفاة
إنّهم أولئكَ الذين فوق رؤوسِهم صاحب الألواحِ المسروقة
تحرسُه البنادق في مدينةِ السلامِ المفترَضة
وطني: إنّهم أولئك.. فوق رؤوسِهم
مَن رأسُه أعلى من النجوم
ليطفئَ النجومَ في زنازين القهر
أو بأعقابِ البنادق
بيّاعُ الأعراضِ الأكبر
الخفي والمنظور
الذي له جوازاتُ سفر لا تحصى
ومن كلِّ الجنسيّات
وفي جيبِه قلوب مسحوقة، عيون مسلومة
أرواحٌ مقتولة ودفاترُ حساباتٍ بنكيّة
إنّهم جميعنا
المصفّقون، علفُ الموت
الغافلون عند المذبحة.
(نتوحّدُ فيك)
أيّها الوطن
من أيّ الأبوابِ المخلّعة
ندخلَ إليك؟
من أيّ الجراحِ المشرّعة
على العاصفة؟
رِفقاً لا تنكسر
عيناكَ البحر لا تنحسرْ
كفُّكَ المثلوم عبقُ الحقولِ المفلوحة
أنتَ الوردة والأطفال
لا ترحلْ في تيه الزمنِ الموحل
لا ترحلْ في عقوقِ المدنِ المزيّفة
الجوعى والحمام يأوون إلى خبزِ يديك
نتوحّدُ فيك عندَ حدّ السيفِ والروحِ المكسورةِ
عندَ العطشِ الكبيرِ نتوحّدُ فيك
على إسمِ الماء، عندَ الموانئ، في المطارات
في كلِّ جهة أنتَ الأملُ الضائعُ
في شعابِ العالم.. نتوحّدُ فيك
ولا غيرك أوّل الغيث
ولا غيرك.
(الوطن نحن)
من أين لكَ أيّها الوطن
أن تبحر نحو موتِك ولا تتعب؟
من أين لكَ أن تسافرَ بلا زاد ولا تموت؟
نحن لكَ عبثُ الأيّام، حبّةُ القمح
وصمةُ عار، غضبٌ وكرامةٌ
وتناقضات لا تحصى
ودمعة على الخدِّ الأسيلِ
حين في يدِ هولاكو سوط الذلّ
تَقدّمْ أيّها المبعوث إلى الموت فجراً
والراحل إلى الموت غروباً
نسقيكَ من عيوننا ومن عزمِ زنودِنا
نحن أبناؤك
يروينا ماؤك
تظلّلنا سماؤك
ونضلُّ
في الحبِّ إليك؟!.
(زمانُ الأفاعي)
لا تحاكِ السرابَ
في عيونِ مصّاصي الدماء
لا تتمسّكْ بوعودِهم الكاذبة
لا تصدّقْ، إنّهم يريدون أن تكون يا وطني
عشبةً أو سمكةً
أيّها الوطن المنفي
خلفَ أسلاكِ جراحِكَ النازفةِ يوميّاً
أيّها الوطن المتسكِّع على أبوابِ الجوامعِ والكنائس
تسألُ "إيل" كسرةَ خبز
أيّها الوطن مسبيّاً
في مضاربِ القبائلِ الطائفيّة
والمذهبيّة والعنصريّة
لا تصدّقْ غيرَ شراعِك، غيرَ نداءِ الجبال:
"بإسمِ العمل والأمل"
لا تصدّقْ غيرَ نسْغِ الحياةِ
في عروقِكَ الجديدة
العسَسُ
يؤلّفون طريقة
لكي يصلوا إلى دمِك
إلى يدِك الشريفة
الأفاعي، حرّاسُ الهياكلِ القديمة
يجتمعون تقاسماً للغنيمة التي هي أنت
حذاري من نهشِ الأفاعي
الآن زمانُ الأفاعي
المثقّفون المراؤون
التجّار في دورِ العبادة
يصلّون شكراً لئلا تزول النعم
حذاري من المرائين
أن لا تكون أنت أنت
موتاً نموت
حين ليس بعدُ غير صفيرِ الريح
في القلوبِ الخاوية.
(هيروشيما)
تسقطُ الدمعةُ الأخيرة من
محجرِ العين ويذوي القلب
تنكسرُ الروحُ
ومن خجلٍ تبحثُ عن ملجأ أخير
أو غابةٍ بعيدة
هيروشيما
وجهُ أمّي على أشلاءِ الضحايا
وصمت المدينة
قلْ خصلةُ شعرِها
أحرقَها وهْجُ الحضارة
وقفْ دقيقةَ صمت
قلْ لكفِّ هيروشيما المعرَّقِ
عربون وفاء وتاريخ البناء
فأنكروها
الحزنُ
في شوارعِ هيروشيما
وشهرُ آب عاماً بعد عام
مرتاب بتمثالِ الحريّة
ترعبُه الإعلاناتُ المزيّفةُ
عن حقوقِ الإنسان
أيّتها المدينة
التي اجتاحتكِ عاصفةُ لهب
أنتِ أقوى
هيروشيما
أنتِ أقوى
و"أجملُ الأيام هي تلك التي لم تأتِ بعد".
ـ ***** ـ
(أوراق
نُشِرت عام 1987
في جريدة البيرق العربيّة الأستراليّة
تحت زاوية بعنوان :
"نافذة على البحر"
ونُشرت في كتاب بعنوان:
"على طريق بعيد"
في سنة 1991
عن دار الثقافة ـ سيدني).
Shawki1@optusnet.com.au
0 comments:
إرسال تعليق