كتبت د. أسماء غريب ـ
وإذ أحملُ قلمِي لأكتُبَ عن الشّاعرِ يوسف جزراوي، أرى الشّمسَ جالسةً أمامي، وبين يديْها بغداد زنبقةً بيضاءَ تنظرُ إليّ بمحبّة وتسألني: أَلِلْعَارفَةِ أن ترُصَّ لآلئَ أبْجديّتِها فوقَ قراطيسِ الأبِ الكاهِنِ؟ وهل لقلبِها المغربيّ أنْ يكتُبَ بحرفِ البهاءِ عن قلبهِ المَشرقيّ؟ وهَبِي الأمرَ كذلكَ، فهل للغريبة كُنْيَةً ومكاناً أن تُطَرِّزَ حروفاً من ذهبٍ عن الغريبِ اسماً وإقامةً في بئرِ المنفى اليوسفيّ البعيد؟ ابتسمتُ للشّمسِ الفضّيّة وقد أشرقتْ عراقيّةً بيْنَ عينيَّ وقلتُ لها: لا يعرفُ الغُربَةَ والغُرباءَ إلّا غريبٌ آخرَ شرِبَ مثلهُم حتّى الثّمالة من الكأسِ العيسويّةِ، ونهلَ معهُم مِن الرّحيق المُحمّديّ حتّى فاضتِ النّقطةُ البيضاءُ بالدّموع والآهات، واللّواعج واللّوعاتِ، وكيف لا يا سيّدتي وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ، بلْ كيف لا وغربةُ يوسفَ في ديوانه هذا غربتَان: غُربةُ الصّالحين بيْن أهل الدّنيا والفسَادِ والرّياء، وغربة الفارّين بدينِهم من أهل الفتْنَة الفُسَّاق السّفّاكين للدّماء، وهو لأنّهُ من أهل الهِمّة والطّريقِ أكتبُ عنهُ وعن غربتِه وبغدادِه، عروسَ الشّرق وقدّيسةَ العواصم كلّها، ألمْ تسمعيه يا سيّدتي الشمس وهو يقولُ:
((في قلب كلِّ غريبٍ
قصّة لم ولن تحكى
وقصّتي تدور عن شدة وفائكِ
فكم يؤلمني أن كلَّ ما حولي لم يظلَّ وفيًا
إلّا أنتِ!
مازلتِ حدبة في ظهري
وندبة في جبيني،
متى ستطلقين سراحي؟
يوسفٌ كنتُ لكِ وأنتِ كنتِ لي بئرًا)) (1)
نعم، يا شمسَ المحبّة، فمن مقام البئر هذا يُؤثِّثُ الشّاعرُ يوسف مكانَه الشعريّ ويجعلهُ مرآةً قلبيّة لا تعكسُ شيئا سوى بغداد التي يقول فيها:
((بغداد يا ملكوت الأرض،
عجزتُ عن حبّ غيركِ،
كأنّ قلبي عاقر
لم ينجب مشاعر إلّا لكِ!
ولكن،
حتّى متى سيظل في الروح
أسى حبّ لا يُفسّر؟!
أنا الذي هو أنت
أوقدتُ قلبي للصلاة
أقمتُ القدّاس مرتلاً بالحنين،
وأشعلتُ آخر شمعة على مذبح الأمنيات
عسى أن تبصريني،
فلكلّ داء دواء
إلّا أنتِ،
فقد أعييتِ من يداويكِ!)) (2)
بغداد هذا المكان الذي يعشقُه بصوفيّة العارفين كمنزلٍ لا يَفْتَحُ أبوابَهُ إلّا لأهل الكمال الّذين تحقّقوا بالمقامات والأحوال وجاوزُوها إلى مقام الجلال الّذي تظهرُ فيه بغداد عروس الشّرق الحاملة لسرّ العشقِ والحكمة العليا كمعنىً بديلٍ يُساوقُ في هذا الدّيوان بين اللّغة والخيال الشعريّ العرفانيّ بشكل يحاولُ معه الشاعرُ يوسف أن يستعيدَ التّوازنَ بين المعنى المجرّد لبغداد كمكان جغرافيّ فقط، وبين معناها الرّمزيّ المُدرَكِ بحسٍّ وعقلٍ مُختلفيْن هُما حسُّ وعقلُ الكاهن العابد اللذانِ تتحولُ عناصرهُما التكوينيّة والدلاليّة لتُصبحَ عناصر تحيل إلى اللّامنتهى، أو إلى الوجه اليسوعيّ الذي ظهر متقنّعاً في الدّيوانِ بوجه بغداد، مصداقاً لقولِ الشّاعر في هذا المقطع الحلوليّ بامتياز: ((أنا الذي هو أنتِ / أوقدتُ قلبي للصلاة / أقمتُ القدّاس مرتلاً بالحنين، / وأشعلتُ آخر شمعة على مذبح الأمنيات / عسى أن تبصريني)). فهل أبْصَرَتْ بغدادُ يا ترى عاشقَها الكاهن المرميّ في أقصى منافي الأرض؟!
نعم، أبصرتْهُ حتّى أنّها أصبحتْ نموذجاً جمالياً يتحرّكُ فيه الوعيُ الدّاخلي للشّاعر رغماً عن كلّ المسافات مُعيداً بذلك إنتاج كلّ الصّور المرسومة في ذاكرتهِ عنها وعن أهلها وأزقّتها، وسمائها ومائها ونجومها وكواكبها، بل عن حياته التي قضاها فيها مُذ رأى النور إلى أن تركها وفي القلب غصّة الأسى وفي الحلق حشرجة الموت:
((في مستشفى السامرائي حبل مشيمتي،
وفي الكرادة مهد طفولتي وجرن عمادي،
وفي الدورة كلّيتي
وفي المعلمين
حيث كنيسة الصعود
أوقدتُ أولى شموع كهنوتي،
وفي مقابر بعقوبة
يرقد والدي على رجاء القيامة
تحت تربتك الطاهرة
فهل عرفت ابن من أنا؟)) (3)
هكذا في حضرة بغداد الشامخة يؤسِّسُ يوسف جزراوي أبنيتَه الشّعريّة ويرصّها الواحدة تلو الأخرى ليقول إنّ الحقيقة ليست هي فقط ما نبصرهُ حولنا وإنما هي أيضاً ما يضفيه الخطابُ اللغويّ من قيم وصفيّة على كلّ الكائنات والأشياء بما فيها الأماكن التي هي حيّز خصبٌ لأحداث وتوقّعات وذكريات وصور هي صدىً لتجاربه العميقة والحميميّة في وطنه العراق. وهو بهذا يسعى إلى إعادة بناء بغداد مرّتين، مرّة في قلبه الحيّ عبر التذكّر المُستمرّ، ومرّة في خيال المتلقّي عبر اللّغة الشّعريّة التي تجعل من بغداد زائراً ينعكس على مرآة الغُربة التي يقول فيها الشاعر:
((ليس في رزنامة العمر سوى الغربة
وفي الغربة صومعة ومرآة متشظّية
أغازل فيها حبيبة لم تعُد تغازلني
صباحا ومساء أناجيها وأحاكيها
ألملم ذاتي الجريحة من حنايا انعكاساتها
أتفرّسُ في ملامح تشبهها إلى حد كبير
ولولا أنها تبتسمُ
لقلتُ إنها هي!
[...]
سألتها متى ستزورك بغداد؟
لأفتل ضفائرها حين يزرع الليل القمر،
وأقطف لها في الصّباحات خصلات الشّمس
متى سأغنّي لها حنيني وأدقّ أنيني وأشدو مواويلي؟
بين الأنين والحنين
جاءني الجواب من دمعة اشتياق
عنوانه انتظار!
راودتني فكرة
أن أنام في عين العاصفة
أحطّم ما تبقى من المرآة
وأمشي على بقايا الزجاج المطحون
تريثتُ
لأنني لم أكسر يوما بخاطر وردة؛
فإن كانت بغداد جرحا لم يندمل ونزيفا لم يلتئم،
إلّا أنّ لقاء خيالها في مرآة الاغتراب هو للعين مستطاب.))(4).
لا بدّ للغريب أينما كان من المرآة، مرآةَ الله التي عليها يرى العرفاءُ الغرباءُ أسرارَ الكون كما حدث لموسى حينما كان على قمّة جبل سيناء. لا بدَّ ليوسف الشّاعر من المحنة، ولا بدّ للمحنة من الآه واللّوعة والدّمعة والاحتراق، وإلّا فإنّ بغداد لن تزوره في منفاه، ولن يتجلّى له اللهُ من خلالِ وجهها البهيّ، وهو الشّاعرُ الذي قضى أيام البُعد في انتظارها ليُشعلَ شموعَ حبّها ويُبشّرَ بها هنا وهناك (5)، مادام يوسف وإن كان بعيدا هناك في استراليا فإنه ظلّ وفيّاً للعهد والوعد، وحرص على ألّا يولّي وجهَه إلّا شطر بغداد الله، لأنها مرآته الحقّة التي بدونها لا يكون له قِبلة يتّجِهُ إليها ولا قطبٌ يوجّهُهُ في حياته وصلاته وعبادته كما تفعل بغداد التي هي دار السّلام وعروس الشّرق شاء من شاء وأبى من أبى. وهي وإن كانت اليوم في محنة فإنّ محنتها عرضية ليس إلّا، وهي لهذا زائلة، وما المُعوَّلُ إلّا على بغداد القلب التي يَخْبِرُ العرفاءُ والشّعراء الغرباءُ من تكون حقيقة، هذه الشمس المكللة بالضياء والجمال:
((حبيتي بغداد،
أقف طويلاً أمام صورتكِ
لأنظر في وجوم إلى زمنٍ
لم يبق منه سوى ذكريات خلدتها الصور!
ولأنّ الذكريات تدوم أكثر من الحبّ
تركتُ لكِ ذكرى، بل وردة لا تذبلُ
بين طيات كتاب له رائحة بخور الكنائس،
وزرعتُ صورة قداسي الأول بين الصفحات
لتتيقّني أنّكِ في قلبي وصلاتي مهما طال الغياب.)) (6)
الهوامش:
(1) الأب يوسف جزراوي، عروس الشرق بغداد، (أيتها الغربة رحماك)، دار تموز ميموزي، دمشق، 2018، ص 161.
(2) (إلّا أنت)، المصدر نفسه ص 138.
(3) (أقسمُ بحبّكِ)، المصدر نفسه ص 42.
(4) (مرآة الغربة وخيال بغداد)، المصدر نفسه، ص 72.
(5) انظر قصيدة (سأبشّرُ بحبّكِ)، المصدر نفسه، ص 129.
(6) المصدر نفسه، ص 68.
0 comments:
إرسال تعليق