تقديم كتاب مثل "أحلام عمانية" ليس بالأمر السهل أبدا، لأن كاتبه الأستاذ زياد جيوسي دائم الانفلات الجميل..
تقرأ له "صباحكم أجمل" فتجده في النقد.
تضبطه و هو يجثو على تراب رام الله فيطل عليك من عمًّان.
تمسك به وهو يكتب مشجعا ومعرفا بالأقلام الشابة فتراه يغرس شجرتك الفلسطينية في موقع النبي غيث في منطقة دير عمار..
وهذا كثير على تقديم صغير كهذا..
هذا قليل بحق الرجل..
علاقتي به تمتد لبضع سنين..
أذكر أنني كتبت قبل ست سنوات نصا بمناسبة يوم الأرض و"عنونته أشجار فلسطين"، ولن أنسى أبدا الطريقة الراقية المبهجة والسخية التي تبناه بها الأستاذ زياد جيوسي و كيف أحبه بكل جوارحه ونشره في العشرات من المواقع الالكترونية، وكانت صداقتنا آنذاك ما تزال في بداياتها..
يومها قلت بيني و بين نفسي: هذا رجل يحمل في وجدانه فلسطين قبل أن يحمل روحه..
قلت ذلك و ما ظننتني أخطأت. ..
لن أنسى أيضا كيف غرس لي شجرة باسمي على تراب فلسطين في "حملة لنا جذور" وكيف أرسل لي شهادة انتماء حقيقية لفلسطين الحبيبة، هذه الشهادة التي لا تفارق منذ ذلك الحين مكتبي. "أحلام عمانية" التي صنفها صاحبها كوجدانيات عبارة عن نفحات معطرة من حياة الكاتب الحميمة في عمَّان ولكنها موشومة بفلسطين، الحب الأكبر والمحرك الأساسي لعملية التذكر و الكتابة معا.
ونلاحظ أننا كلما توغلنا في القراءة كلما أحسسنا بأن الكاتب ينتمي لأولئك الذين يضعون قلوبهم على الطاولة وهم يكتبون..
وكما خياطة تخيط لفستانها تبطينا حريريا يقيه من التمزق، يخيط زياد محكياته الحميمة الحاضرة بالذكريات الجميلة التي تقي القلب من وجع الغياب.
ثم إننا مع التقدم في القراءة يتراءى لنا جيدا هذا الطفل الكبير العاشق و هو يتأمل قطرات المطر، يحتسي قهوة الصباح ويعانق طيف المعشوقة الغائبة بهيام شبيه بابتهال، أما عمَّان الحاضرة كفضاء الكتابة فتقابلها جيوس ورام الله.
المسافة لا تفرق ولكنها تخلق سبل التواصل حتى نكاد نرى هذه الفضاءات تتشكل وتتراص كقطع في متحف عريق تحكي حقبة قلب وحكاية عشق أزلية.
هذه الوجدانيات التي تتلون بقطرات المطر حينا والياسمين والورود والعصافير حينا آخر هي قطع نورانية أيضا وتضيء درب من يقرأ ليصل إلى الخلاصة البسيطة وهي أن الحلم العمَّاني يأخذ شكل امرأة غائبة تجسدها الكلمات..
وتجدر الإشارة إلى أن الجميل في كتابات زياد جيوسي هو أنها ترتدي النظرة المرحة والجياشة لعاشق يتنقل بين هذه الفضاءات حاملا فلسطين في قلبه وعمَّان في روحه واللتين يصفهما انطلاقا من نظرة جميلة ايجابية، فلا نرى أي نقد سلبي ولا أي تأفف أو ضجر وحتى هذا الانتظار لحبيبة تأخرت بالمجيء، يحاول الراوي تأثيثه بطيفها والذكريات وحلم اللقاء الوشيك.
يقول ميشيل بيتور بأن كل كلمة مكتوبة هي انتصار على الموت، وفي نفس السياق تقريبا يقول موريس باشلار بأننا نكتب لننقذ حياتنا وأرواحنا حتى لا تضيع بين أيامنا الفقيرة.
هذان الاقتباسان للكاتبين الفرنسيين يستطيعان مساعدتنا على فهم وجدانيات كاتبنا.
فإذا كان الكاتب وهو غارق في وجدانياته شديد الاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية، بالتزاماته و لقاءاته الأدبية، فهذا يعني انه بجانب الحياة التي ينقذها من الموت كتابة، وهو فوق ذلك دقيق الملاحظة وكعدسته الشهيرة التي يوثق بها أمكنة فلسطين والبلاد العربية التي يتمكن من زيارتها، تلتقط عينه كل ما يراه من المناظر و الوجوه ويضفي عليها مسحته الجمالية الشاعرية المعتادة.
ونستطيع القول بأنه من كثرة ما كتب، تأتي الآن الكتابة معه سلسة وعفوية، والسرد يأتي بسهولة جميلة، أما الفضول الأدبي فهو جد كبير لديه: إن الكاتب يهتم بكل شيء ويحب أن يعرف كل شيء وهو فوق ذلك عاشق كبير للحياة، هذه التي لا تستقيم إلا بالعشق، وهنا نلاحظ بأن كل فصل من الكتاب يأخذ عنوانا موحيا بذلك، كما أننا نحس من كلمات النص الأولى بأن زياد جيوسي يعطي اللغة من روحه حتى تتألق الكتابة.
فكرة تقطيع الكتاب إلى نصوص قصيرة تتوازي مع فكرة بناء العلاقة التي هي في الأصل رؤية للحياة، وهي تشبه أي بناء يحتاج لكي يكتمل إلى لبنات ترتصف شيئا فشيئا.
وإذا كان الكاتب الجيد هو الذي يملك عينا وأذنا و يدا على استعداد دائم لالتقاط الأحاسيس، فنصوص زياد جيوسي تحمل الكثير من الاهتمام الذي يوليه للنظر والملاحظة، ولهذا نرى هذه النصوص القصيرة تفاصيل تتجانس لتشكل هذا الكل الذي يقدمه الكتاب، وبطبيعة الحال يملك كل نص من هذه النصوص كينونته الخاصة، إلا أنه في نفس الوقت لا يفقد علاقته بالكل الذي هو وجدانيات الكاتب.
وحين نتحدث عن الوجدان لا مناص لنا من الحديث عن الذاتية في نفس الوقت.
الذاتية غالبا ما تنظر إلى العالم نظرة عابرة ثم تدير له ظهرها لأنها لا ترى شيئا أهم منها.
ولكن يجب القول أيضا بأنها لا تدير ظهرها لهذا العالم إلا حين تمسك بشيء ما منه، هذا الذي يشبه حبة الرمل التي تتسلل إلى المحارة لتصبح فيما بعد لؤلؤة.
الكاتب الفرنسي مارسيل بروست يؤكد على أن كل شيء يكمن في الذات وليس في الموضوع.
في هذا السياق نستطيع أن نشير، وربما بشكل تعسفي قليلا، بأن زياد جيوسي الموزع ما بين المناضل الذي أفنى حياته في النضال والالتزام السياسي والفصائلي والاعتقال والمحبط سياسيا، وزياد الكاتب قد وصل إلى حقيقة مهمة، وهي أن العودة إلى الوجدان، إلى الذات، إلى الشأن الحميم هي عودة إلى الأرض، إلى معانقة الحبيبة وعبرها معانقة الآخرين لأن الوجدان أكثر واقعية من الواقع نفسه، فهو لا يخذل أبدا..
وزياد يحاول في كتابة "أحلام عمانية" تأسيس الوجدان وعلاقته بالذات والآخرين والأرض، لأن التفتت في العلاقات الاجتماعية والإنسانية عموما يحصل غالبَّا حين تكون هذه العلاقات مستلبة وغير معبرة عن وجدانها.
وكخلاصة نستطيع القول بأن قراءة نصوص زياد جيوسي تتيح للقارئ تكوين فكرة مختزلة عن معنى الحياة المتمثلة أساسَّا في العشق الخاص والعام معَّا، وأن شكل النص القصير المختصر والمليء صورا يسمح له باستشراف عالم لا نهائي، حيث يستطيع أن يضيع ويجد نفسه معا..
والأحاسيس التي تطالعنا في نهاية المطاف هي أحاسيس رجل أمام وحدته وهشاشة حياته دون حبيبته الغائبة، أما النظرة التي ما توقفت عن معانقة الناس فهي تعانق الآن وجدانه أيضا و تراقب الحياة التي تمر فترتج روحه.
باختصار شديد أقول: حين نقرأ زياد جيوسي نصبح عشاقا.
0 comments:
إرسال تعليق