بقلم وعدسة: زياد جيوسي
"البوح السابع"
نابلس.. صباحك أجمل، هكذا همست لنابلس وأنا أطل عليها من أعلى رفيديا قادما من جيوس لمواصلة جولاتي فيها، كانت الشمس مشرقة بعد فترة من الأمطار التي جعلت التلال تكتسي باللون الأخضر الموشّى بالأزهار والحنون وشقائق النعمان، حتى وصلت قلب المدينة لمنطقة الدوار وانتظرت وصول د. لينا الشخشير منسقة برنامج جولاتي في نابلس، وما هو إلا قليل من الوقت حتى كانت تطل بابتسامتها التي لا تفارق محياها لنتجه مباشرة إلى قصر النابلسي والذي أنشأه الحاج نمر النابلسي، حيث كان بانتظارنا السيد نياز عطا حماد الدويكات، الذي روى لنا حكاية القصر مصطحبا معه بعضا من الصور القديمة التي توثق مرحلة مهمة في تاريخ نابلس ومنطقة عسكر البلد، التي يوجد على سفح جبلها القصر الذي لم يكن مبنيا غيره على هذه المساحة الكبيرة من السفح وعلى امتداد واسع كانت البساتين والأشجار والأراضي المزروعة.
وصلنا إلى بقايا القصر الذي لعب الإهمال والزمن أثره عليه إضافة للعوامل الجوية، وكان وصولنا من المدخل الخلفي حيث واجهنا العلية أمامنا والتي يصعد إليها درج حجري من الحديقة الخلفية المهملة، ونزلنا يمينا على بقايا درج دمر وتحول لكومات من الأتربة التي دفنت أجزاء من المدخل الخلفي، حيث فتح لنا السيد نياز الباب المعدني الذي أضيف لاحقا في محاولة لحماية البيت من المتطفلين، حيث دخلنا من هناك إلى ردهة واسعة في الدور الثالث من البناء المكون من 3 أدوار إضافة للعلية، ومن خلال هذه الردهة الواسعة كانت هناك مجموعة من الغرف على الجانبين، والبيت بأكمله مبني على نظام العقود المتصالبة بإتقان رهيب، والحجر الخارجي للبناء من الحجر السلطاني الصلب والمتميز، وفي آخر الردهة شرفة تطل على سهل عسكر، وكل غرفة إضافة للنوافذ الخارجية القوسية والطولية والمزودة بأشباك الحماية الحلبية، يوجد بها في الجدران السميكة فجوات للاستخدام اليومي تحتوي على عدة رفوف خشبية أو لحفظ المواد، إضافة لما كنا نسميه "المصفت" ويوضع به الفراش والألحفة والوسائد بعد الاستخدام، وأبوابها أيضا ذات أقواس من الأعلى والأبواب من الخشب المتين الذي ما زال بعضه يحافظ على بعض من متانته رغم العقود الطويلة من السنوات التي مرت عليه.
عبر بوابة خشبية كانت تغلق من الداخل بالعوارض المعدنية نزلنا باتجاه الطابق الأسفل، وفي نهاية الدرج الأول كانت هناك مساحة أخرى مبنية ومستقلة، وفوقها قسم مواجه لمبنى العلية، وهذه المساحة أمامها قطعة من الأرض التي كانت مزروعة ومطلة على السهل، وهي ملتصقة بالبناء مع القصر بشكل جانبي لاستغلال المساحة وزيادة حجم ومساحة البناء، وأيضا هذا الملحق مبني على نظام العقود المتصالبة، ومن ساحته نزلنا الى الطابق الذي تحته وهو الطابق الأساس حيث يصعد إليه من الشارع السفلي درج حجري مرتفع، وهو فعليا قاعدة القصر ومبني على نظام العقود المتصالبة الضخمة وقد تعرض إلى تخريب كبير، وحسبما أفادني السيد نياز فهناك من يظنون أن الذهب مدفون فيه فخربوه بحثا عن أوهام، حتى أن وزارة السياحة والآثار بناء على معلومات غير دقيقة قامت بالنبش والحفر وتركت الأتربة مكومة دون إعادة أو صيانة، ولم يدرك أحد أن الذهب الفعلي في ترميم هذا القصر وجعله قبلة للزوار والسائحين.
وهذا الطابق يظهر أنه كان مستخدما كمكان استقبال للضيوف والزوار ويستدل على ذلك من مساحاته الواسعة، وأيضا نوافذه الكبيرة إضافة لوجود موقد تدفئة بالجدار، وبعدها تجولنا في الطابق الذي تحته ويظهر أنه كان مستخدما مخازن للتخزين، ومن الحديقة كانت هناك عدة غرف وكأنها تسوية ربما كانت تستخدم أثناء الجلوس في البستان أو لحفظ المنتوجات وأدوات الزراعة، والقصر أصلا بناه الحاج نمر النابلسي وهو من أثرياء نابلس، ووالد السيد نياز وهو عطا حماد دويكات عمل معه بالزراعة وكان مشرفا على الأراضي الزراعية والبساتين، وبعد وفاة الحاج نمر بدأ الورثة ببيع حصصهم في القصر والتي اشتراها منهم الحاج عطا، ومن ثم آلت لورثته الذين هجروه عام 1993 إلى شقق وبيوت، وأخذوا معهم البلاط القديم التراثي بعد خلعه وكذلك القرميد الذي كان يعلو القصر، وأشار السيد نياز أن د. محمد دويكات أحضر الطلاب وقاموا بإنجاز دراسة عن القصر ولكن من زاوية عائلية باعتباره يعود لآل دويكات بعد الحاج نمر.
لم نترك زاوية لم نتجول بها وشاهدنا حجم الإهمال لقصر تراثي مميز بجماله وبنائه، فتحول إلى خرابة آيلة للسقوط إن لم يتم تدارك الأمر وترميمه، وبعد أن أنهينا صعدنا للعلية وتأملنا عسكر البلد وشكرنا السيد نازك، لنلتقي الشاعر مفلح أسعد ونتجه ثلاثتنا إلى بلدة ياصيد من بلدات نابلس القريبة حيث لقاء آخر مع الحاج عوني ظاهر وتراث آخر مختلف.
عبر الطبيعة الخلابة اتجهنا إلى ياصيد بلدة الأستاذ عوني ظاهر، وكان قد سبق هذه الزيارة التي تأخرت كثيرا تواصل بيني وبينه عبر الهاتف من عدة سنوات ووعد مني بالزيارة، حتى رتبت د. لينا من ضمن برنامج تجوالي في نابلس الزيارة للأستاذ عوني والإطلاع على مقتنيات كان قد حدثني عنها قليلا، لكني لم أتوقع أن أصاب بالذهول من نوعية وحجم ما رأيت وخاصة أن كل ما شاهدته كان جهدا شخصيا دون دعم أو اهتمام من أية جهة بكل أسف.
الأستاذ عوني كان يعمل معلما ومن ثم رئيسا لقسم التقنيات في دوائر التربية في الضفة المحتلة عام 1967 من فلسطين، واستمر بعمله من عام 1984 حتى عام 2014 وهو من مواليد 1960، كان لديه اهتمام كبير في التراث ويتابعه وكل ما يمكنه الحصول عليه يحتفظ به في بيته الذي أحاله متحفا، واهتم كابن لقرية صغيرة بتراثها ووثائقها، فأصبح تاريخ البلدة في أرشيفه من طلاب ومعلمين ومناسبات أفراح يحتفظ ببطاقات الدعوات لها، إضافة للوفيات والشخصيات التي تركت أثرا فيها، حتى أني وجدت لديه دفاتر ديون تعود لبقالات في أوائل الخمسينات من القرن الماضي مسجل بها أسماء الناس والديون اليومية عليهم، والأهم أنه عمل على توثيق التعليم وما يتعلق به ويسميه تاريخ فلسطين التعليمي عبر مائة عام، وأعلمني أنه كان في مديرية التربية ملفات تعود للأعوام 1921 إلى 1970 وكان هناك قرار بإتلافها، لكنه احتفظ بما يزيد عن ألف وثيقة، منها أوارق علاج للمدرسين ومن عالجهم إضافة لمناهج التعليم القديمة ومنها مؤلفات خليل السكاكيني، والجميل أنه يحتفظ أيضا بمقاعد قديمة استخدمها الطلاب وآلات طباعة وتقارير وطوابع عبر عدة حقب زمنية مرت على فلسطين من العهد العثماني وما بعده.
بعد اللقاء واحتساء القهوة بدأت جولتي برفقة د. لينا الشخشير والشاعر مفلح أسعد، وحقيقة ذهلت لما رأيت، فلو تفرغت لجنة من الباحثين لتوثيق بعض مما رأيته لاحتاجت سنوات، فلم أتوقع إطلاقا أن أرى هذا الكم من الوثائق والمناهج والأدوات التراثية وجوازات السفر والهويات والصور من العهد العثماني وصولا لآخر ما تمكن الحاج عوني من توثيقه، إضافة لأدوات زراعية وحجارة وسبل إضاءة ووسائل إيضاح تعليمية، وخير ما فعل الأستاذ عوني الاحتفاظ ببعض من هذه الوثائق التي تؤرخ للتعليم في فلسطين بدلا من إتلافها، وأستغرب أن المدارس كانت تقوم بإتلاف المناهج التي تغيرت بدلا من الاحتفاظ بها في مكتبات المدارس، إضافة لملابس تراثية وأدوات زينة وعملات مختلفة، إضافة لأدوات حلاقة وأدوات مطبخ تراثية وساعات تراثية، وكتب كثيرة لفت نظري منها كتاب يحمل اسم روضة الأطفال للمدارس الأولية من أربعة أجزاء وهو من المنهاج المصري وكان يدرس في فلسطين عام 1930.
ليس هناك مساحة تسمح بالحديث عن كل ما رأيته خلال ساعات، فكيف بالحديث عما لم يسمح الوقت برؤيته، فالأستاذ عوني يحتل بتراثياته مساحة كبيرة من البيت وما تحت البيت، ويحتفظ بالكثير من المواد في حقائب وصناديق لعدم إمكانية عرضها، وحلمه هو أن تقوم بلدية نابلس بإنشاء مشروع قرية تراثية وهو مستعد لنقل كل هذا التراث لمتاحف في هذه القرية الحلم، وحقيقة أشير أن المواد الموجودة عند الأستاذ عوني كافية لإنشاء متحف تراثي كبير ومتميز، فأين وزارات السياحة والآثار والتربية والثقافة عن ذلك؟ وأين بلدية نابلس عن ذلك أيضا؟ أسئلة بحاجة للإجابة قبل أن تضيع هذه الذاكرة التراثية كما ضاع الكثير من تراث مادي بين احتلال وجهل وإهمال.
أنهينا الجولة لارتباطنا بالذهاب إلى جبل جرزيم حيث الموعد مع الأستاذ اسحق السامري سكرتير الطائفة السامرية، وهم بعض من تاريخ وتراث فلسطين، ولكن الحاج عوني رفض أن نغادر قبل تناول إفطار تقليدي شهي جرى إعداده، فتناولناه معاً وشكرناه لحسن الضيافة وهذه المتعة الفكرية والبصرية بالتجوال في متحفه البيتي، لنغادر باتجاه جبل جرزيم وأنا ما زلت بحالة من الذهول لهذه الثروة الفكرية والتراثية التي رأيتها ووثقت منها بعدستي بحدود 250 لقطة بينما كل ورقة وكل قطعة تستحق توثيقها.
صباح آخر في بلدتي جيوس وغيوم في السماء وأمل بغيث عميم بعد تأخر المطر، أستعيد ذكرى زيارتي إلى نابلس وياصيد ومتحف الحاج عوني ظاهر، أحتسي قهوتي في حديقتي الصغيرة مع شدو فيروز: "لا يدوم اغترابي، لا غناء لنا يدوم، فانهضي في غيابي واتبعيني إلى الكروم، هيئي هالدنانة، كرمنا بعد في ربى، يوم تبكي سمانا، نشبع القلب والشفاه، حبيبتي زنبقة صغيرة، أما أنا فعوسج حزين، طويلا انتظرتها طويلا، جلست بين الليل والسنين".
فأهمس: صباحكم أجمل.. صباح الخير والحلم الآت يا وطني..
0 comments:
إرسال تعليق