بقلم الدكتور إبراهيم نمر موسى (جامعة بيرزيت)
مقدمة
تماهى الشعراء الفلسطينيون بفلسطين/ الوطن تماهياً روحياً، وصوّروا علاقتهم بها، استجلاءً للسيرة المرتبطة بذاكرة التاريخ وخصوصية الهوية وتمايزها من الآخر المعتدي، وجعلوا منها ومن مدنها أماكن مسكونة بالروح، مُستعصية على الإمّحاء والطمس والتذويب، كما أعلنوا منها عن وجودهم وهويتهم وميلادهم، صيانة لحضورهم الوطني وتعبيراً عن جذورهم الحضارية، وقد تحقّق ذلك كله في إبداعٍ فنيّ أنتج دلالات متكثّرة، يُمكن تلخيص أهمّها في ما يأتي:
1. جعلت القصائد من فلسطين ومدنها نواة العالم، وكائنات إنسانية حيّة، وملكية خاصة، وطقساً أسطورياً، تبتهل إليها الذات الشاعرة، وتقف بين يديها طلباً للتطهر بمائها المقدس.
2. حضرت الخيمة والمنفى باعتبارهما جمجمة الموت التي ترفع شراعها كالأكفان، وغاشية المنفى التي تُذهل الإنسان وتعطّل حضوره الإنساني في الحياة والحب والولادة، لكنّ الروح تبقى خيمة سابحة لا تبرح حدود الوطن؛ لأنّه جوهر باقٍ لا عرض زائل.
3. تجسّدت القدس بوصفها (مطهّراً للأحزان) وإشارة عرفانية (مسرجة) الله، ومكاناً نورانياً ومقدّساً (الوادي المقدّس طوى) مقترنة بـ (اخلع نعليك)، وكذلك بشخصيات تاريخية: عمر بن الخطاب، وصلاح الدين، لتأكيد هويتها الإسلامية، وتاريخها العربي.
4. نهل الشعراء من معين الأساطير اليونانية والشرقية والعربية، وأفادوا من هيكلها الحكائي، ووظّفوها في سياق يستدعيها، وأعادوا صياغتها برؤيا عصرية تعبّر عن تجاربهم في تجسيد البطولة والانبعاث والحرية، وتستجلي صورة مُغتصب الأرض، وصورة الفلسطيني القابض على جمرة الحياة.
5. وظّفت القصائد أساليب متعدّدة منها: أنْسنة فلسطين ومدنها، والتوظيف الدرامي/ الملحمي، والسرد القصصي، والأساليب الإنشائية، وأسلوب التكرار، وبنية القصيدة التقليدية بدلالات حداثيّة، والإشارات غير اللغوية وأهمّها التشكيل الطباعي، وغير ذلك.
- كما جدّل عز الدين المناصرة الأماكن في ضفيرة واحدة تصريحاً لا تلميحاً، وأصبح الكلّ في واحد، حين استحضر الكرمل، والخليل، وشيحان، وبغداد، وبادية الشام، والقدس، وجعل منها تجلّياً مكانياً فلسطينياً معبّراً في الآن نفسه عن مأساة المنفى، وذلك في قصيدة (مهنة حرّة) يقول:
قال الراوي الأوّل:
فرسي كانت تصعد درج القصر العثماني الأكحل
قال الآخر: ليلاً كنتُ رأيت البحر يُكَسْدِر
فوق ذؤابات الكرمل
قال الثالث: من كرم خليل الرّحمن
شفتُ مزاودهم ترشح ماءً بلّلورياً
فوق الحيطان... بشيحان
قال الراوي الرّابع:
كنّا نركب ظهر الشهباء صباحاً من بيت المقدس
حتّى بغداد
حيث نمرّ على بادية الشام
ونعود إلى القدس مساءً لننام
تعتمد الأسطر الشعرية على بنية التعارض أو التضادّ بين زمنين: زمن حرية العربي في الانتقال من مكان إلى آخر دون منع أو معارضة وهو زمن مضى وانقضى، وزمن حاضر لا يستطيع العربي فيه الانتقال من دون إذنٍ مسبق أو تأشيرة دخول لوطنه العربي الكبير، وينتج من هذه البنية التعارضية مفارقة جارحة ومأسوية، تجعل العربي مكبّلاً بسلاسل الإجراءات الروتينية، وقد وظّف الشاعر هذه الدلالات لعلاقتها المباشرة بالشعب الفلسطيني في أماكن تواجده، وتقييد حرّيته في الانتقال من مكانٍ إلى آخر، وهذا ما سلف الحديث عنه في أنّ قضية فلسطين قضيّة حرّية وصراعٍ دامٍ، وقد شكّل ذلك كله حُلماً شعرياً وثورياً باستعادة الماضي، حتى يستطيع الفلسطيني إنجاز حقّ العودة إلى وظنه وأرضه؛ ولهذا حاول الشاعر تعويض ذلك بإعادة كتابه مدنه وقُراه على خريطة العالم من جديد، لكي تجسّد صورة الوطن، وتذكّر بوجوده الإنساني.
أما المدن الفلسطينية المعبّرة عن استحضار فلسطين فهي كثيرة ومتنوعة، وتغطّي مجمل المدن الفلسطينية في الشعر الفلسطيني المعاصر، ومنها استحضار المناصرة لمدينة الخليل في قصيدة (يا أخضر.... إنّهم يتربّصون بك). بوصفها رمزاً من رموز الخصب والثورة. على الرّغم من قوى البوار والجفاف والقمع/ الجنود، الذين (يلعلع) الرصاص من فوهات بنادقهم، لينزف سفح عيبال وأرض الخليل، بل ينزف دم الذّات الشاعرة باعتبارها رمزاً للجماعة. يقول: الخليل دمي طافحٌ/ فوق هذي البسيطة، وهو بهذا يجعل من الخليل مكاناً يمثّل الذّات الشاعرة وقومها وهي طافحة بالدّم الذي يغطّي مساحة الكرة الأرضية؛ وبذلك تصبح الخليل تجسيداً للوجود الفلسطيني المتحقّق في العالم حتى الموت. بناءً على ما سبق، تتشكّل الأماكن عادةً في شعر المناصرة وغيره من الشعراء الفلسطينيين عبر مكانٍ واحد، يأخذ صورها، ويتجلّى من خلالها، وتستمدّ هذه الأماكن وجودها منه، وهو ما يُطلق عليه (النواة الخفيّة) للمكان، ويبيّن المناصرة ذلك بقوله: (عندما كنتُ أعيش في الخليل، كنتُ أريد التخلّص منها باتّجاه العالم، لكنّني أدركتُ بعد أن عشتُ في المنفى أن الشاعر، أيّ شاعر يدور في مدن العالم، ويعود إلى (النواة الخفيّة) ليتمركز حولها). وهكذا يتّخذ المكان الفلسطيني في شعر المناصرة شخصيّة واضحة القسمات، تجعل منه نواة العالم الأرضي.
أما الصورة الثانية للقدس المتعلّقة بالتاريخ والهويّة، فقد استحضرها عزّ الدين المناصرة في قصيدة (محاورات الباب العالي)، وقد شكّلت في جسد القصيدة فلذات وجودية ضاربة في عمق التاريخ والهوية العربية الإسلامية، كما شكّلت معالم بارزة على وجه القدس وتضاريسها وجغرافيتها، فتحضر تبعاً لذلك شخصية (عمر بن الخطاب) وتسامحه وعدله وعهدته العمرية لغير المسلمين، واستعادة وجه التاريخ العربي الإسلامي وتأكيد هوية القدس وهوية الفلسطيني. يقول:
أمّا سيدتي القدسُ المسكونةُ بالروح
فاسألني، واسألْ عهدتها العمرية
واسألْ أجراسَ كنائسها عن باب الواد
إنّ وصف القدس بـ (سيّدتي المسكونة بالروح) و(عهدتها العمريّة)، يجعل للمكان قيمة جمالية روحية، فضلاً عن قيمته التاريخية المؤكِّدة للهوية؛ وبهذا لا يمثّل المكان نفسه فحسب، بل يمثّل أيضاً وعي الإنسان بحقيقته وكنهه المُشبع بالتاريخ، وهذا ما أكّده الشاعر في قصيدة (كنيسة القيامة) أيضاً. التي يحضر فيها صلاح الدين الأيوبي وشارعه المقدسي الموسوم باسمه، تقديراً لتحريره القدس من أيدي الصليبيّين المُغتصبين سنة 583ه/1187م، بعد أن دنّسوها قرابة مئة عام من عُمر الزمن، لكن حضوره في الزمن الحاضر مشوب بكثير من الحزن والمرارة، أو على حدّ تعبير الشاعر (شارعُه من دمعة وطين). ولا شكّ في أن استدعاء الشخصيات بأسمائها المعروفة يحمل تداعيات تربطها بأحداث تتعلّق بمدينة القدس وفتحها أو تحريرها من أيدي المغتصبين على مرّ التاريخ، ويجْعل منها بؤرة مركزيّة تتحلّق حولها الدلالات، ويخرج بها من كونها مجرّد كتلة جغرافية إلى حيوية التاريخ وعبره، وتجدّد حضور الهويّة.
ستظل الهويّة (بمنزلة الرصيد التاريخي الذي يستمدّ منه الأفراد انتماءهم، وتتشكّل بموجبه شخصيّتهم الفرديّة والجمعية والوطنية والقومية، التي تظلّ مصدر كرامتهم واستقلالهم، ومنها يستمدّون تطلّعاتهم وآمالهم المستقبلية.
لقد حاول الشعراء الفلسطينيون اختراق الحجب الكثيفة نحو فجرٍ مشرق في التعبير الشعري متجسّداً في الأسطورة. فربطوا بين تضحيات الشعب الفلسطيني والرموز الأسطورية للدلالة على الإصرار والرغبة في الخلاص الإنساني من الألم والعذاب، ومعنى هذا أنّ الشاعر يوظّف الأسطورة في سياق يستدعيها، بعد أن ينتقي من أحداثها ما يصلح للتعبير عن التجربة الشعرية، ومن ذلك قصيدة عز الدين المناصرة في توظيفه للرمز الأسطوري (إيكاروس) الصاعد دوماً نحو الشمس طلباً للحرّية، إذ جعله في قصيدة (طريق الشام) ثائراً فلسطينياً يخرج من رحم المأساة وشط صحراء العرب المُقمرة راكباً فرسه، وشاهراً سيفه ويُقسم ألا يتوب عن مواصلة النضال ضدّ الاحتلال الصهيوني الذي سرق أرضه، وهجّره قسراً إلى منافي العالم، لكنّه في قصيدة (تشمّع كبد إيكار)، يخرج عن تلك المحمولات الدلاليّة في توظيف الرمز الأسطوري (إيكاروس)، ويجعل منه مُعادلاً موضوعياً لحالته، أو يعيد تأسيسه وفق رؤيا جديدة، تعبّر عن حالة النفي التي يُقاسيها الإنسان الفلسطيني، وهذه أسطر شعرية تبيّن ذلك، يقول:
بيني وبين إيكار.... مسافات ضوئية
ومع هذا، فنحن نلتقي غالباً
في نقطة واحدة من العالم
ومع هذا فأنا أتوقّع
أن يكرّر التاريخ نفسه
هو سيحترق بشمسه
وأنا سيذوّبني المنفى مثل شمعة
هو يتّحد بعباءة العشب السماوي
وأنا أنحلّ في تراب المنافي الصخريّة
تلك مشيئة عدم التخطيط يا إيكاروس
تنهض البنية الفنّية في الأسطر الشعرية على محورين اثنين: أوّلهما استحضار حكاية الرمز الأسطوري ومفادها أن والد (إيكاروس) صنع له في سجنهما جناحين من الريش والشمع للهروب، وحذّره من الارتفاع إلى الشمس أو الهبوط إلى البحر، لكنّه فرح بالطيران السريع، وصار يُضاعف من تصفيق جناحيه، ونسي نصيحة والده، وحلّق عالياً حتى كاد يبلغ وجه السماء، ويُدرك الشمس الساطعة، فصهرت أشعتها المتلظّية ما على جناحيه من شمعٍ ما أدّى إلى سقوطه في البحر ميّتاً. أما ثانيهما فيتضافر مع حكاية الرمز الأسطوري بتوظيف أسلوب التوازي المعتمد على الموازنة بين طرفين يلتقيان في مأساةٍ واحدة، إذ تتّصف الذّات الشاعرة بالذوبان في المنفى مثل شمعة، والانحلال في تُراب المنافي الصخرية، وأما الثاني فيحترق بشمسه، ويتّحد بالعشب السماوي، وينتهي المشهد الشعري في سياق القصيدة بالندم لعدم التخطيط، وكذلك بالموت، لكنّني أرى أن المشهد لم ينغلق تماماً، بل يثير تساؤلاً ثورياً إجابته أن نجاح الثورة الفلسطينية منوط بجودة التخطيط، وهكذا ينفتح الشاعر على أفقٍ للمستقبل.
تُجمع كتب الأساطير على تشابك الرموز الأسطورية وتداخلها وحضورها بمسمّيات متعددة، فتمّوز هو أدونيس، وعشتار هي إنانا، وهي كلها تشير إلى حكاية واحدة في الأساطير اليونانية أو الشرقية، تجعل من عشتار ملكة السماء، وتمّوز الابن الحقّ للحياة العميقة، وهما من آلهة الخصب والتجدّد والانبعاث في الطبيعة. وقد أفادت فدوى طوقان من هيكل الأسطورة العام، ووظّفتها في قصيدة (تمّوز والشيء الآخر، وعبّرت من خلالها عن قيم إنسانية عامّة، وفي واسطة عقدها تأتي فلسطين/ الأرض وانبعاثها بالزّرع الرّيان، والحرّية المُشتهاة.
هوامش
1. عز الدين المناصرة: مواليد (بلدة بني نعيم – الخليل، فلسطين)، عام (1946). درس في مدارس الخليل، وجامعة القاهرة، وحصل على الدكتوراه في جامعة صوفيا، 1981 في النقد الحديث والأدب المقارن. صدر له (12 ديواناً شعرياً)، و(25 كتاباً) في النقد الثقافي المقارن، والتاريخ، عمل صحافياً، 1964-1982. وعمل (34 عاماً) أستاذاً في خمس جامعات عربية. أُحيل إلى التقاعد الإجباري بتاريخ 1/9/2017.
2. حصل على جائزة الدولة التقديرية في الشعر من وزارة الثقافة الأردنية عام 1995. وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الشعر والنقد من وزارة الثقافة الفلسطينية، عام 2019.
3. انظر: فلسطين في مرايا الفكر والثقافة والإبداع – التقرير الحادي عشر للتنمية الثقافية – الجزء الأول، مؤسسة الفكر العربي، 2019 (ص: 344 + 345 + 353 + 358 + 359 + 361) – إبراهيم نمر موسى: عندما يعيد الشعر الفلسطيني المعاصر صوغ فلسطين: الأرض والإنسان.
4. انتمى لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1964، وكان الشاعر الفلسطيني الوحيد الذي حمل السلاح في المرحلة اللبنانية للثورة الفلسطينية.
0 comments:
إرسال تعليق