بلدة كونين ـ لطائف وطرائف



محمّد مسلم جمعة. 

نجح الشاعر والأديب شوفي مسلماني في رسم أجمل الصور والمشاهد لوقائع ويوميات بلدته "كونين" ـ العامليّة ـ الجنوبيّة اللبنانيّة ـ في كتابه "كونين ـ لطائف وطرائف"، وهو كتاب حقّاً منعش وخصوصاً للذاكرة، يشدّ القاريء سهلاً في السرد ومشوّقاً، ما أسهم في رفع الكتاب ليكون إضافة كريمة الى مكتبة جبل عامل ـ جنوب لبنان. وها هنا كيفما اتّفق من الكتاب الذي أجاد في رسم غلافه الفنّان التشكيلي محمّد خالد.  


(حرام عليك!)   

 وفي الأربعينيّات من القرن العشرين كان مختار كونين هو الشيخ عبد الحسن حمّود والد المرحومين: موسى وجواد، والمشيخة له اعتباريّة وذلك لِسِعة عقله واتّساع صدره، وكان "صاحب بيت" وكريم النفس جدّاً. وكان له صديق بيروتي متموّل من آل الكردي يرتدي "قمبازاً" ـ ثوباً طويلاً و"طربوشاً" أحمر اللون، استضافه الشيخ أكثر من مرّة، فأحبّ كونين وأحبّ أهلها، واشترى فيها "كذا" قطعة أرض. ومرّة جاء إلى كونين مصطحباً زوجته البيروتيّة، وعند المغادرة عائداً إلى بيروت بالبوسطة ـ الحافلة الكبيرة ـ وقفتْ له خديجة الحاج حسين طالب ومعها طفلها يبكي وصرخت في "مقلب" من مقالبها الغريبة: "لوين رايح؟، لمين تارك إبنك؟، حرام عليك"!. وأُصيبت الزوجة البيروتيّة بالذعر، وأقسم زوجُها الكريم أنّه متّهم مظلوم، وبالطبع من دون جدوى. وأخيراً باع الأراضي التي سبق واشتراها وانقطع عن كونين، و"هيداكْ يوم وْهيدا بَدَاله". 


(بين السمرا والبيضا) 

 اشتبكت إثنتان بالغناء إحداهما سمراء وثانيتهما بيضاء، وكلٌّ منهما تُظهر محاسنَها ومعايبَ الثانية. وأخيراً قرّرتا الذهاب إلى القاضي ليبتّ في أمرهما ويقضي للأجمل. ويبدو أنّ القاضي فاسد، فيقضي للبيضاء التي تشير إليه بيديها خفيةً أنّ حزمة كبيرة من المال بإنتظاره إذا قضى لها. وكان حسين عبدالله "أبو فوزي" رحمه الله، وهو رجلٌ "فاكهة" بتعبير كامل مسلماني "أبو محمّد" ورجلٌ "فاكهة" مثل كلّ آل طعمة في كونين بتعبير شاهر مسلماني "أبو شوقي"، يغنّي هذه الأغنية وهو بالجزمة الطويلة والخيزرانة، "وْعمْيرقص"، وكلّ من في العرس "كورس" له فَرَحاً وضحكاً وتصفيقاً: "بين السمرا والبيضا \ صاير خِلفه قويّه \ السمرا بتقول للبيضا \ لي عندك مشروعيّه". وتقول السمراء: "أنا السمرا السمّوره \ بْناغي متل العصفوره \ يا بيضا يا مصفوره \ يا ليمونة المهريّه". وتقول البيضاء: "أنا ماني ليموني \ كلّ الشباب حبّوني \ يا سمرا يا مجنوني \ كبّاشك متل الجنيّه". وتقول السمراء: "متل الجنيّه كبّاشي \ بيخضع لي أمر الباشي \ عيونك متل الرشّاشي \  وْبينزّوا دايماً مَييّ". وتقول البيضاء: "متل الرشّاشه عيوني \ لكن حلوه ومزيوني \ قماشةْ وجّك مدهوني \ بزفت المركبجيّه". وتقول السمراء: بالزفت طاليتيني \ يا بيضا يا لعيني \ لونك متل الشنّيني \ وبْيمصل باللبنيّه". وتقول البيضاء: "اللبنيّه مأكول الناس \ ما هي زفت الأقرع راس \ يا لونِك أسود أغباس \  كأنِّك مشحرجيّه". وتقول السمراء: "مشحرجيّه وغندوره \ ومن وجّي تهلّ بْدوره \ يا بيضا يا مصفوره \ يا حوّارة البريّه". وتقول البيضاء: "أنا ماني حوّاره \ وجّي عالقمر طاره \ البيضا ستّ القمارا \ والسمرا خزمتشيّه". إلى أن تقول السمراء والبيضاء معاً، وقد اتّفقتا أن تحتكما للقاضي: "إيدي وإيدِك عالقاضي \ تنكفّي المشروعيّه". وتقولان: "يا قاضي السلام عليك \ نحنا بأرواحنا بنفديك \ ما تحكيلناش هيك وهيك \ واشرح بالحق سْويِّه". ويقول القاضي: "السلام بردّ عليكن \ ذبحتوني بعينيكن \ إحكوا أنا بين ديكن \ بْرايات المعنويّه". وعندما يعجز عن التميّيز أيّهما أجمل يقول: "والمعاني بْراياتي \ اسمعوني يا بناتي \ السمره رجوة حياتي \  البيضا رجوة عينييّ". وتقولان: "ما بدّها رجوات عيون \ إحكي كلامك عالقانون \ مين اللي فازت بالكون \ ع الستّات المخبيّه"؟. فتشير له البيضاء، بيديها، من وراء ظهر السمراء، كما أشرنا، إنّ شيئاً محرزاً بإنتظاره، فيسارع ويقول ناطقاً بالحكم النهائي: "بحكي كلامي عن أكيد \ لا بنقّص فيه وْلا بْزيد \ البيضا بْتضوّي لبعيد \ متل الشمس المضويّه". فتغضب السمراء وتقول للقاضي المغشوش: "إمشي أقعد ع الحفّه \ ما بتفهم ولا نتفه \ تاكلّك هاك اللفّه \ بتطلع دورة أرضيّه". ويطلب القاضي من البيضاء أن تفيه ما وعدته، فتستنكر أن تكون قد وعدته بشيء، وتقول إنّها كانت تشير بيديها لينتبه أنّ "قِرقه" كبير ـ خُصيتيه ـ فقط!. 


(شمس العروس)  

تزوّجتْ حمدة خنافر "أمّ محمّد" التي هي أصلاً من بلدة عيناثا المجاورة لبلدتي كونين سنة 1955 من عمّي كامل علي محمّد أسعد أمين مسلماني، و"زفّوها" على فرس، وكانت العادة أن يجرّ ناطور البلدة فرسَ العروس، وكانوا يعطونه بدل عمله هذا "تيّاراً" هو "إشارب" ثمين كان يُلفّ به عنق الفرَس. وهناك "حوربة" ـ أغنية أنشدها في الزفّة حسين عبدالله "أبو فوزي" نادرة: "يا شمس دَلّي حبالِك \ وتأمّلي بحالِك \ بالجوّ ما عاد لِك سكونْ \ طلعتْ عروس قبالك". 

ـ وكنتُ قد نشرت هذه الورقة على صفحتي في "التواصل الإجتماعي" ـ فايسبوك ـ وكان من التعليقات اللطيفة أيضاً تعليق "إبن العم" محسن مسلماني وهو كاتب من بلدة "الشعيثيّة" الجنوبيّة اللبنانيّة القريبة من مدينة صور: "وعنّا غنّوا في أحد الأعراس: يا شمس يلّي بالسما \ أنوارِك بتحيي النفوسْ \ لا تشرقِي فوقِ الحمى \ عالأرض في عنّا عروس".  


(ذات الكحل)  

مرّة ذهب محمّد شاهر مسلماني إلى المرحوم عبد الكريم محمّد مسلماني "أبو علي"، وهو شقيق جدّه، وكان مهجّراً من كونين، ويقطن في محلّة خندق الغميق ـ بيروت، إثر احتلال إسرائيل "للشريط" الحدودي اللبناني سنة 1978 وإثر تهجير جميع كونين، في ما بعد، تقريباً. وكان بين الإثنين، على رغم فارق السنّ الكبير جدّاً، مودّة ظاهرة وملاطفة ومزاح كأنّهما متجايلين، ولم يمكث محمّد قليلاً في منزل أبي علي زائراً حتى استأذن على غير عادة أنّه يريد الذهاب إلى "أبي إسحق"، سأله عن أبي إسحاق هذا، قال: "زلمي" ـ رجل "عنده صبايا للإيجار"!. ابتسم المرحوم، طيّب الله ثراه، بعدما فطن إلى مداعبات حفيد أخيه وقال: "والله ذكّرتني". وروى إنّ "محسن ذيب"، وذلك في الخمسينات من القرن الفائت، كان صديق أبيه المرحوم محمّد، المعروف كثيراً بشجاعته، وفي مرحلة من زمان هذه الصداقة كان محسن ذيب، وقد كان  نحيلاً وقصير القامة، قد استأذن، وهما معاً، أنّه سيفارق إلى عمل ضروري، حتى إذا سأله عنه قال "متشاوفاً" إنّه يعرف "واحدة" ولا أجمل، عيناها "مْكحّلينْ تكحيلْ"، أي هي من الحور العين، وإنّهما يلتقيان في "العريض" ـ غابة الضيعة. ويوماً قرّر المرحوم محمّد أن يعلم من تكون هذه "الواحدة" التي "يحرقصه" محسن ـ  يثير غيرته ـ بها؟، وتبعه خلسة حتى رآه أخيراً عند صخرة في طرف العريض ـ غابة الضيعة ـ "وْنازلْ سَفِقْ ـ يفعل ـ بِحمارَهْ". 


(مخاطباً الله)    

هناك رواية عن الحاج مصطفى فوعاني تقول إنّه كان قد زرع قطعة أرض قمحاً، ونضج القمح ولكن للأسف لم يبلغ طوله شبراً، وبعد البيدر والمورج جعل القمح الصافي في "خيشة" صغيرة ربطها وجعلها على حمارته إلى البركة الكبيرة التي عمرها ربّما من زمان ما قبل الرومان من أجل الغسل والصوصلة، وكان الحاج مصطفى طيّب القلب وإنّما عصبي جدّاً في آن، وكانت أيّام فقر، وعندما اقترب من البركة خطر له أن يرفع يديه نحو السماء وهو يقول: "يا ربّ حلّها وافرجها علينا"!. وكانت الحمارة قد وضعت قائمتيها الأماميتين في الماء كالعادة ولكن هذه المرّة لم يعجبها أن تشرب من أوّل البركة بل خاضت في الماء أمتاراً، وزيادة في الطين بلّة كأنّ أحداً حلّ ربطة الخيشة وهرَّ القمح في الماء. وانصدم الحاج مصطفى، ورفع يديه بعصبيّة نحو السماء مخاطباً الله وقال: "قلتلّك حلّها وافرجها ما قلتلّك حلّ الخيشهْ"!. 


(وداعاً)    

حصل كامل مسلماني "أبو محمّد" على "فيزا" ـ تأشيرة سفر له ولأسرته الكبيرة سنة 1977 بمبادرة من صهره اللبناني الأسترالي عبد علي مهنّا للهجرة إلى أستراليا، فاستدان ستة آلاف ليرة لإستكمال ثمن بطاقات السفر، ثمّ وهو في آخر يوم من عمله  في سوق السمك ببيروت تحلّق بعض أبناء كونين من آل رسلان  وصالح ومصطفى وغيرهم، وبدأوا بالتصفيق والعزف على تنكة كإنّها طبلة، وكامل مسلماني ذاته يعزف ببراعة على آلة المجوز. وغنّى أبو أنيس عبد المنعم طعمة: "يا محروق قبر جدّك \ وين رايح وين؟ \ صهرك ركّب عَ قلبك \ 6 الآف دين". وقال كرّومة طعمة: "يا محروق أبو جدّك \ ما كان يهصّ (أي كان يتكلّم دائماً ولا يصمت) \ بيْبيع 12 علبه (علبة السمك وزنها أكثر من 20 كلغ) \ ما بيربح فصّ". وقال محمود عبد الله طعمة: "يا محروق قبر جدّك \ بتبحّ القلب \ بتْروح الله لا يردّك \ بالناقص كلب". 

ـ وذاته عمّي "أبو محمّد" قصّ ذلك فرِحاً كطفل. 


(الشيخ علي)     

ورواية يزيد عمرها على سبعين عاماً، كان الشيخ علي ياسين هو مؤذّن كونين، ويؤذّن "يدويّاً" حيث لم تكن كهرباء وميكروفونات إلى الستّينات من القرن العشرين. كان الشيخ يصعد الدرج إلى مئذنة الجامع ويقوم بتأدية الآذان، وكما تعرف فالحال في ذلك الوقت، ولكلّ الناس سواسية تقريباً، كان بائساً، أي الجميع في مستوى واحد، إلاّ الشيخ علي فقد كان الأكثر فقراً لأنّه كان كفيفاً وزوجته مثله كفيفة وقد رزقهما الله خمس بنات "مفتّحات" إنّما لم يرزقهما صبيّاً. وللإستعانة على الحياة افتتح الشيخ علي دكّاناً صغيراً ولا مصدر رزق له ولأسرته غير هذا الدكّان  المتواضع جدّاً. وحدث أن اتّفق بعض الشباب "الشلمسطيّه" على سرقة الدكّان، ورسموا الخطّة، ولعبوا بعقل عبد الحسين طعمة الذي كان أصغرهم سنّاً، واستطاعوا إقناعه بدهاء، وبسّطوا له الأمر باعتبار إن الشيخ يثق به، وقالوا له بوجوب الذهاب للدكّان وشراء أي شيء، وأن يتحيّن الفرصة ويتّجه إلى باب الدكّان ذي "الدرفتين": الأولى متحرّكة  والثانية ثابتة، ومهمّته فقط أن يخفض قفل "الدرفة" الثابتة من الداخل  ففعل. وعند منتصف الليل جاء دور "فوج المغاوير" الذين "دفشوا" ـ دفعوا الباب ـ وفتحوه بسهولة، ونهبوا المحتويات عن بكرة أبيها. وعندما طلع الصباح لم تسكت شهرزاد وخاضت في الكلام المباح، وانكشف المستور وضجّت الضيعة لهذا العمل الأرعن، ومن جهتهم فإنّ أفراد العصابة أظهروا إنّهم أشدّ الناس إستنكاراً لما جرى أو حصل، وكان قائد العمليّة هو مصطفى، يصيح غضباً وأسفاً، ويصول ويجول، ويتقدّم ويتأخّر، ويصفّق، بعدما يرفع كفّيه نحو السماء ويقول: "يا ويلكم من الله يا أهل كونين"!. وكان عبد الحسين طعمة واقفاً مع الناس يراقب مندهشاً  ولا يصدّق غرابة أفراد العصابة. وندم على فعلته أشدّ الندم ولكن ظلّ الأمر سرّاً حتى تقدّم في السنّ وقرّر أن يذهب الى مكّة حاجّاً بيت الله الحرام، وذهب إلى إمام البلدة السيّد محمد باقر إبراهيم وروى له تفاصيل التفاصيل، وخمّن السيّد قيمة المسروقات مع احتساب فارق الزمن، فالأسعار تتغيّر، ودفع عبد الحسين المبلغ الذي تمّ توزيعه على الأكثر عوزاً في كونين عن روح المرحوم الشيخ علي ياسين. 


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق