بقلم وعدسة: زياد جيوسي ـ
ما أن خرجت من ياصيد ومن متحف الأستاذ الحاج عوني ظاهر برفقة مضيفيني ومرافقيني د. لينا الشخشير صاحبة الابتسامة التي لا تغيب والتي نسقت كل برنامج جولاتي في نابلس، والشاعر الشاب الجميل مفلح أسعد بلطفه وحكاياته الجميلة عبر الطرق المشبعة بالجمال وحقول الزيتون عائدين إلى المدينة، وبدأنا بصعود قمة جبل جرزيم للقاء السيد اسحق السامري سكرتير الطائفة السامرية، حتى بدأت دقات قلبي تتصاعد كلما ارتفعنا باتجاه القمة والحي السامري والمعروف بقرية لوزة، فهذه المرة الأولى التي سأصعد بها إلى قمة هذا الجبل الحافل بالحكايات والروايات لبعض من ملامح تاريخ نابلس وحكاياتها، ورغم أني التقيت في رام الله سابقا بأكثر من كاهن سامري واستمعت إليهم لكثير من الحكايات، إلا أن الاستماع للقصة مسألة تختلف تماما عن الوقوف على أعلى جبل جرزيم والمشاهدة وجها لوجه مع أثار مشبعة بعبق التاريخ وحكاياته.
وصلنا الحي السامري، وعبرنا البوابة إلى حي أنيق وجميل، مشجر ونظيف، متجهين إلى بيت السيد اسحق السامري الذي التقانا بكل ترحاب، ومع فناجين القهوة التي دارت علينا، بدأ يحدثنا عن الطائفة السامرية عبر التاريخ والمكان، ومن ضمن ما قاله أنّ اليهود يعتبرون أنّ السامريين كفار، وبينهم وبين اليهود الآخرين الآلاف من الخلافات، وتحدث عن تاريخ السامريين من عهد سيدنا موسى عليه السلام، وأشار أنّ كلمة سامري تعني الحارس أو المحافظ باللغات القديمة، وهم حراس التوراة الحقيقية، وديانة موسى التي أرسل بها منذ 3650 عاماً، والسامريون قوم وليس اسم عائلة كما يظن البعض، ومن أهم نقاط الخلاف أن اليهود يعتبرون القدس مكان الهيكل، بينما السامريون يرون ويؤكدون أن الهيكل بني على جبل جرزيم، ومدينة نابلس هي مركز ديانة سيدنا إبراهيم التوحيدية تحديدا، ومن لا يعترف بهذا فهو خارج عن الديانة العبرية، التي يسمونها عبرانية نسبة لسيدنا إبراهيم العبراني لأنه عبر نهر الأردن إلى فلسطين حتى أسوار مدينة القدس حيث أشركهم ملكها اليبوسي يومها بشراب العنب المعتق في عيد الحصاد، وبالتالي يرون أن اليهودية صفة لأناس وليس ديانة، ويقرون أنّ إسرائيل هو سيدنا يعقوب وأنهم هم السلالة الحقيقية لبني إسرائيل.
خرجنا من بيت اسحق وتجولنا في الحي الجميل المكتنز بنباتات الزينة والأشجار، وقال لي أن جبل جرزيم مكان مقدس ليس مرغوبا السكن فيه، وأنهم كانوا يسكنون في الوقف السامري في نابلس التراثية، وأنهم رحلوا إلى هنا لضيق السكن بعد أن تم منحهم المكان وحصلوا على تسجيله بإسم الطائفة السومرية رسميا كهبة من الملك عبدالله الأول مؤسس المملكة الأردنية الهاشمية، ولكن مصالحهم التجارية وأماكن العمل ما زالت في نابلس المدينة.
سرنا جميعاً متجهين إلى قمة جبل جرزيم، حيث مررنا ببيوت تراثية هجرها أهلها وآلت أجزاء منها للسقط والهدم، ربما كان السبب أن أجبر سكانها على الرحيل بسبب استيلاء الاحتلال على المنطقة وبناء مستوطنات تحيط بجبل جرزيم، هذا الجبل المواجه لجبل عيبال، وترتفع قمته إلى 886م والذي كان ضمن مناطق (ج) حسب تقسيمات اتفاقية أوسلو، وهي مناطق حسب الاتفاق تخضع لسلطات الاحتلال بالكامل، وفي عام 2012 قام الاحتلال بالاستيلاء على أعلى الجبل وضمه إلى سلطة الحدائق الإسرائيلية التي حولته لموقع سياحي يتم الدخول إليه ببطاقات مدفوعة الثمن، وسيجته بالكامل ووضعت عليه حراس مسلحين ورفعت عليه العلم الإسرائيلي، في محاولات حثيثة للاحتلال لتهويد أراضي فلسطين، خاصة المقدسة منها، والاستيلاء عليها بصورة مبررة على أنها أماكن مقدسة تعني اليهود، لهدف شطب التراث الكنعاني، والعربي، والإسلامي، والمسيحي، والسامري أيضا، وتحويل المكان إلى موقع سياحي له مساس كبير بقدسية المكان لدى السامريين من جهة، والمسلمين الذين كانوا يزورون مقام الشيخ غانم من جهة أخرى، فسرنا بالسيارة حتى وصلنا بوابة ضخمة عليها تمنع الدخول إلى المكان إلا بموافقتهم، وبعد نقاش وإصرار من الأستاذ اسحق فتحت البوابة وأعطونا ربع ساعة فقط للتجوال والتصوير، فيما هم يقفون في حالة الاستعداد وأيدهم على أسلحتهم، حتى شعرت أني أتجول داخل ثكنة عسكرية وليس مكان حج للطائفة السامرية ومكان مقدس لديانتهم، اضافة لمقام إسلامي، وبقايا كنيسة بيزنطية، وآثار ضاربة بالعمق الكنعاني، تروي حكايات تعود لتاريخ العهد الكنعاني وتراث يعود لما قبل وجود سيدنا إبراهيم .
بدأت التجوال السريع موثقا كل ما أراه بعدستي وذاكرتي، بعد أن وقفت وقفة تأمل استطلع فيها جبل عيبال المواجه، وهو أعلى جبال نابلس ويصل ارتفاعه إلى 950 م، وهو من وجهة نظر اليهود جبل له قدسية، وكالعادة في أسلوبهم المعهود في لجوئهم لتزوير التاريخ بهدف تأكيد أسطورة كاذبة، فأبناء كنعان هم من بنوا نابلس القديمة "شكيم" كما أشرت في المقالات السابقة، وفي نفس الوقت لإقناع الناس أن السامريين الذين يقدسون جبل جرزيم ويرون أن الهيكل المقدس من وجهة نظرهم بني هناك هم على خطأ، وهم اليهود على حق، وأول ما رأيته من على قمة الجبل تلك الآثار التي تعود إلى الفترة الرومانية والتي تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وواضح أنها كانت منطقة سكنية، وحسب تقديرات المختصين بالآثار كان بالقرب منها (معبد زيوس الروماني) الذي تم بناؤه على تل الراس في القرن الثاني للميلاد، وكنيسة بيزنطية ومدرج كبير، إضافة للأسوار والبوابات ومباني كانت مخصصة للسكن، فجبل جرزيم كان مأهولاً بالسكان عبر العصور المختلفة، ومنها فترة اليونان (العصر الهلينستي) والتي تلت وفاة الاسكندر الكبير، وأيضا فترة الرومان وآثارهم واضحة في المواقع التي رأيتها وطالعت بقاياها، إضافة للفترة البيزنطية الواضحة من آثار الكنيسة، مرورا بالفترة الإسلامية وحضارتها.
وهناك اعتقاد أيضا أنّ هذه الآثار ربما تمثل المدينة السومرية التي تم هدمها وتدميرها في عام 128 ق.م على يد جون هيركانوس والذي دمر الهيكل السومري مرتين، فالسامريون تعرضوا عبر تاريخهم للاضطهاد والطرد والمذابح، ومثال لذلك أنه خلال فترة الامبراطور فلافيوس زينون " 474 -491م وفي عام 484م جرى بناء كنيسة مريم العذراء ذات الأضلاع الثمانية على القمة الرئيسة لجبل جرزيم، والتي هي أقدس أمكنتهم، وتحولت الكنيسة إلى حصن عسكري أيضا، فثار السامريون بسبب ذلك وتعرضوا للذبح والاضطهاد وتم اخماد ثورتهم، وهذه الكنيسة هدمت مرتين بعد ثورات السومريين، وأعيد بناؤها واستمرت حتى القرن الثامن الميلادي ومن ثم هجرت، وكذلك الحصن انهار بعدها.
بعد ذلك مررت بمذبح النبي اسحق، وهو عبارة عن صخرة تحدد موقع ما يعتبره السامريون على أنه المكان الذي أراد سيدنا إبراهيم أنْ يضحي بولده أسحق تصديقا للرؤية، فالسامريون وهم فلسطينيون عبر التاريخ يمثلون طائفة دينية صغيرة، ولعلها من أصغر الطوائف في فلسطين، لها شرائعها وأعيادها الخاصة بها وطقوسها الدينية من صلاة ووضوء وحج وزكاة، ويؤمنون أنّ الآثار الموجودة على جبل جرزيم تمثل بقايا الهيكل الأول الذي بناه يوشع بن نون حين غزا مدينة أريحا وبعض قليل من فلسطين، ويؤمنون ضمن حسابات فلكية تخصهم أنّ جبل جرزيم هو مركز العالم، وأنّ سيدنا إبراهيم كان هناك وليس في مكة المكرمة، وأنّ سيدنا موسى أمرهم ووجههم لجبل جرزيم لتقديسه وتحويله إلى قبلة للصلاة والحج، وأن هذا وارد في الوصايا العشر التي وردت في التوراة السامرية ويؤكدون أنها أقدم نص توراتي مثبت في العالم، وحسب معتقدهم هي التي علمها الله سبحانه وتعالى لسيدنا موسى عليه السلام، ولذا يسمون المساحة الصخرية على جبل جرزيم (تلة العالم).
ومن مذبح اسحق مررت على معصرة عنب، وهذه المعاصر اشتهرت في فلسطين عامة، وهي أيضا كانت بشكل عام قرب حقول العنب أو بجوار الأديرة البيزنطية، ولكن مما شاهدته أنّ بقايا الدير البيزنطي ما زالت قائمة خلف المعصرة ومن حولها، ومن بعده شاهدت المساحة الصخرية الكبيرة التي يسمونها (تلة العالم)، وهذا مرتبط بالإيمان السومري وفي شرائع ديانتهم، لننهي الجولة بمشاهدة (مقام الشيخ غانم) الذي بني في عهد القائد صلاح الدين الأيوبي، كما أشار لهذا الأستاذ اسحق السامري اضافو للمصادر التاريخية التي تؤكد ذلك، ومن المعروف أنّ القائد صلاح الدين الأيوبي شجع بناء المقامات لاستثارة الحس الديني لدى الشعوب العربية، لمقاومة الصليبيين الأوروبيين وتحرير فلسطين والقدس من رجس استعمارهم، والمقام عبارة عن مبني يقع على الزاوية الشرقية لبقايا الحصن الذي أحاطته كنيسة سيدتنا مريم العذراء.
هناك روايات متعددة حول مقام الشيخ غانم، فقد ذكره الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي وقال: "من المحتمل أنْ يكون صاحب القبر هو غانم بن عيسى بن موسى بن الشيخ غانم المتوفي سنة 770 هـ، وأن المدفون بالقرب منه هو ( قبر ولده الشيخ عبد السلام) ولعله والد العز بن عبد السلام بن غانم المقدسي سلطان العلماء"، وفي روايات أخرى أنّ هذه البقعة والقائمة على طرف ما تبقى من آثار كنيسة بيزنطية وحصن، أقام فيها الشيخ غانم بن علي الأنصاري والمولود في قرية بورين القريبة، وبنى زاوية ليتعبد فيها، وأنّ القبر لأحد مريدي الشيخ الذي سكن القدس فيما بعد، بينما تنسبه مصادر أخرى إلى الشيخ عثمان الأنصاري، والمقام مرتفع ومبني من طابقين وهو بحالة سليمة ولكن الاحتلال أغلقه ومنع زيارته والدخول إليه، واعتدى على القبور التي حوله وأخفى أثرها.
فقمت بمشاهدته من الخارج، والتقطت عدستي له الصور، وهذه الآثار تم اكتشافها خلال حفريات في عهد الاحتلال البريطاني عام 1940م، وفيما بعد وتحديدا عام 1992م بدأت أعمال الحفريات من خلال دائرة الآثار الإسرائيلية لحكومة الاحتلال، وفي المرحلتين تم الكشف عن بقايا الكنيسة والمعبد السامري والبيوتات السكنية وصهريج ماء ضخم يعود للفترة اليونانية، ومن ثم تم الاستيلاء على المنطقة بالكامل من قبل الاحتلال الصهيوني بعدما تبين احتوائها على الكثير من الآثار.
حدثني الأستاذ اسحق السامري الكثير حول ديانة الطائفة، ومواقع سكنها التي كانت تمتد في اليمن وبلاد الشام، وأنّ سيدنا داوود عليه السلام اجتمع بهم في نابلس وأبلغهم عن نيته نقل الهيكل من جرزيم إلى القدس، ولكن الملاك أتى له بالحلم وقال له: "أنا الرب المعبود وهذا مكاني المعهود"، فغير رأيه وبقي الهيكل في جرزيم ولم ينقل أو يبنى بالقدس أبدا كما يدعي اليهود، وحدثني أنهم يعلِّمون أطفالهم بمدرسة خاصة الديانة السامرية واللغة العبرية القديمة، ومن ثم يكملون دراستهم في مدارس نابلس الحكومية، وأشار أنهم لا ينخرطون بالعمل السياسي، وأنه كان لهم مقعد بالمجلس التشريعي في عهد الشهيد ياسر عرفات، ولكن تم إلغاء هذا المقعد بالفترة اللاحقة، وأنهم يحملون الجنسية الفلسطينية والأردنية والإسرائيلية أيضا من أجل التواصل مع باقي أفراد الطائفة في منطقة "حولون" بين تل أبيب ويافا، وهم عبر التاريخ عاشوا بكل محبة وتآخي وتعايشوا مع الفلسطينيين من أبناء مدينة نابلس كأبناء وطن واحد، بغض النظر عن الديانات والمعتقدات، ويتحدثون اللهجة النابلسية المميزة كونهم جماعة من أهل نابلس، والمجال فعليا لا يتسع للحديث عن كل ما حدثني به الأستاذ اسحق، فاهتمامي مركز على الأماكن التراثية والأثرية والتاريخية، وهناك مصادر كثيرة لمن أراد التعرف على الديانة السومرية.
في نهاية المطاف عدنا إلى الحي السامري، ولكن بكل أسف لم نتمكن من زيارة المتحف السامري لتأخر الوقت، وهو يحتوي على مخطوطات ووثائق ومستندات وآثار من عملات قديمة وزجاج وفخار أثري يروي بعض من تاريخ المنطقة، فودعنا بكل الشكر الأستاذ اسحق، وغادرنا الحي مارين بسفح الجبل عن مسجد ياسر عرفات، ومن ثم واصلنا طريقنا إلى محطة النقل العام لأتمكن من العودة إلى بلدتي جيوس، فقد شغلتني الرحلة المزدحمة بالمشاهدات وتأخر عليّ الوقت، فوقفت مودعا مضيفيني ومرافقيني د. لينا الشخشير والشاعر مفلح أسعد، استعداداً لزيارة أخرى ستبدأ بزيارة إلى مكتبة نابلس العامة تلك المكتبة التي تشكل أحد أهم الصروح الثقافية، ومن ثم استكمال بعض من برنامجي الطويل لمدينة نابلس.
في رام الله أجلس بهذا الصباح متمتعا بصوت المطر وعزف الريح في الخارج في بيت شقيقي جهاد الذي وصلته من الربى الكرمية، أحتسي قهوتي وأتذكر جولاتي في نابلس متمتعا بشدو فيروز: "أنت معي.. سراجنا مضاء، ليلتنا ملاح وكوخنا يموج، أنت معي.. فلتمطر السماء ولتعصف الرياح ولتهطل الثلوج"، فأهمس: صباحك أجمل يا وطنا يسكنني في حلي وترحالي، صباحك أجمل يا نابلس.
0 comments:
إرسال تعليق