بقلم وعدسة: زياد جيوسي ـ
"الحلقة الثالثة"
من أعلى تلال أيدون حيث حركة الرياح القوية والنسمات الحلوة كنا نتجه مجددا نحو البلدة من أجل التجوال والتوثيق لبعض من معالم التراث في أيدون، كنت أشعر بالفرح في عيون الوفد المضيف والمرافق لي وهم يتحدثون كلما توقفنا عن ذاكرة أيدون وتراثها وحكايات سمعوها أو عاشوها، كان الحماس يشدهم وخاصة العم أبو خالد "الأستاذ أحمد أبو دلو"، فهو رغم تقدمه بالسن إلا أنه كان يشعر بحيوية فائقة ربما يحسده عليها الشباب، فذاكرة المكان أعادت له عنفوان الشباب والصحة، فسألني كيف وجدت ايدون حتى الآن؟ فقلت له: حورية سمراء أشعر أنها امتلكت قلبي وأشعر انها كما نبضة من نبضات القلب انفردت عن غيرها لتنشد نشيد آخر.
قلت: ايدون معروف أنها تمتد لمساحات كبيرة في أحيائها الغربية والشرقية التي يشقها الطريق الرئيس الذي يصل عمَّان العاصمة بإربد عروس الشمال، وأعرف أنها كانت مشهورة بالزراعة بسبب طبيعة تربتها وامتداد أراضيها الزراعية، فكيف هي الآن وأنا كنت أنظر من التلال إلى امتدادها ومساحتها فلا أرى إلا البنايات الحجرية التي أستلبت الأرض الزراعية عذريتها واستولت عليها بأوراق وقرار كما شطبت معظم الأبنية التراثية التي كانت تروي حكاية أيدون، فقال لي بألم شعرت به في نبرات صوته: "كان اعتماد ايدون وأهاليها الاقتصادي على الزراعة وتربية المواشي من أغنام وأبقار، وما زلت أتذكر أن أراضي ايدون كانت مشهورة بإنتاج القمح والشعير والسمسم الذي كان يصدر إلى بيروت وعن طريقها للخارج أيضا، وكان اعتماد أهالي ايدون على انتاجهم فقط للاستهلاك والتصدير والتجارة، فمساحات ايدون الواسعة كانت تمنحها هذا الامتياز، وكانت هذه المساحات تحرث بالطرق التقليدية بالاستعانة بالأبقار بشكل خاص، ولكن ما يحدث الآن أن هذه المساحات الزراعية التي كانت تنتج الكثير من الخيرات أصبحت مكتظة بالأبنية، ولم يبق من الأراضي المزروعة ما يسد الحاجة، فتحولنا من منتجين إلى مستهلكين، وأصبح الاعتماد على المستورد سواء من مناطق أخرى أو من الخارج"، فهمست له: بكل أسف أن سهل حوران الذي كان يعرف بأهراء روما أصبح غابات من الإسمنت والحجارة.
وصلت برفقة مضيفيني والمرشدين في جولتي في ايدون العم أبو خالد "أحمد أبو دلو" والمربيات الفاضلات منى عثامنة وهند أبو دلو والاستاذ الشاب عبد الرحمن العثامنة والفنانة التشكيلية ربا أبو دلو الى بعض مما تبقى من بيوتات تعود للسادة عوض الرحال السهاونة والسيد حسين محمد شتيوي هناندة، وقد سقطت سقوفها ولم يتبقى منها إلا الجدران تروي حكايات من مروا وبنوا هذه البيوتات بالحجارة وأسقف الطين والقش، والبيوت كانت قد بنيت على نفس نظام الأبنية الذي كان منتشرا في ايدون، لكن مما تبقى من بيت الهنادندة يظهر أنه كان مبنيا على نظام الحوش مع ساحة أمامه، ومن هناك كنا نتجه لما كان بالسابق مبنى مطحنة ايدون فشاهدناها من الخلف والجوانب، وقد تحولت إلى ورشة صيانة للسيارات ولكنها ما زالت قائمة وحولها بعض من بقايا بيوت تراثية مهدومة، لنتجه من هناك مرورا بوسط البلدة وجامع حديث إلى منطقة بقايا مقام الخضر عليه السلام، والمقامات التي تحمل اسم الخضر عليه السلام منتشرة في بلاد الشام وخاصة في الأردن وفلسطين.
المقام لم يتبقى منه إلا بعض أكوام من الحجارة أحاطتها دائرة الآثار بسياج معدني للحفاظ على ما تبقى من أكوام الحجارة، بينما كان في السابق مزار للتبرك وأداء الصلاة، ومنه صعدنا إلى عدة بيوت آيلة للسقوط تعود للسادة الحاج علي الحمود وعبد الله الحمود، والبيت الأول كان مبني على قاعدة من الحجارة يعلوها زنار حجري أملس مشغول بعناية واهتمام، والنوافذ قوسية من أعلاها وإطارها الحجري مشغول أيضا من حجارة ملساء مشغولة بإتقان ويعلوها زنار حجري أملس كما الذي فوق القاعدة، وهو مبني على نظام الجدران والسقف الطيني، بينما البيت المجاور مبني على نظام العقود المتصالبة مما منحه القدرة على الصمود أكثر من البيوتات المجاورة، ولهذا بني بجوار الجدار درج حجري للصعود للسقف يتيح استخدام السطح، وكما نظام العقود المتصالبة كان يوجد بالجدران الداخلية فجوات قوسية كانت تستخدم لوضع احتياجات البيت، ولكن ما لفت نظري أن الباب الخارجي بني على على شكل مستطيل مع قطعة حجرية واحدة كانت أعلى البوابة وليس على نظام الأبواب التي تعلوها الأقوس كما هو معتاد بهذا النمط من البناء.
البيوتات الأخرى والتي تهدمت ولم تبقى منها إلا الجدران الآيلة للسقوط بعد انهيار أسقفها الطينية كلها مبنية على نظام الجدران الحجرية السميكة والأسقف الطينية، لذا تهدمت بعد أن تم هجرانها ولم يعد هناك اهتمام بالصيانة، فالأسقف الطينية تحتاج لصيانة سنوية قبل موسم الأمطار والثلوج، لكن ما لفت نظري البيت الأخير حين صعدنا الشارع المجاور، فرغم أنه بني أيضا على نظام الجدران والسقف الطيني، إلا أن واجهته كانت مبنية بنوافذها وبوابتها وحجارتها على الأسلوب الروماني في البناء، حتى أن هناك نقش زخرفي أعلى قوس أحد النوافذ من الرموز الرومانية بينما الجدران الثلاثة الأخرى مبنية بالحجارة العادية مع سقف طيني، مما يثير تساؤل هل أن الحجارة المستخدمة كانت لبناء روماني أم أن الواجهة كانت موجودة أصلا من ضمن الآثار الرومانية التي وجدت في ايدون وتم دمجها بالبناء، لأن الواجهة متناقضة تماما مع المبنى ونظام بناءه الاعتيادي كما معظم أبنية ايدون القديمة.
اتجهنا جميعا نحو الأرض التي كانت تضم بيت أو بيوتات الحاج علي الخصاونة وأحمد محمود الناصر، وهي مبنية على مساحة كبيرة من الأرض أسفل الكهوف الحجرية التي في سفح الجبل، وحين صعدنا بداية التلة على أقدامنا لفت نظري الخرزة الحجرية لبئر ماء كان يعتمد على نظام الأمطار، فتركت مرافقيني وأكملت الصعود منفردا نحو الكهوف في الأعلى حيث دخلت بعضها ووثقتها عدستي، ومن أعلى كنت ألتقط بعض الصور للبيوتات وما تبقى منها، بينما استغلت الفرصة الفنانة التشكيلية ربا لالتقاط عدة صور لي وأنا في منطقة الكهوف التي من الواضح أنها كانت مستغلة للسكن أو لرعاة الأغنام، وحين نزلت همست لي المربية ورفيقة الجولة منى عثامنة أنه يوجد في ايدون كهوف تمتد لمساحات كبيرة تحت الأرض عرفت بكهوف الخزين حيث كان يتم خزن القمح والحبوب فيها.
مساحة الأرض واسعة ولم يتبقى من بيوتها سوى العلّيّة التي ما زالت محافظة على شكلها الخارجي حتى الآن، ومن بقايا الأبنية يتضح أن الأرض كان مبنيا في محيطها مجموعة من البيوت المتلاصقة القائمة على نظام العقود المتوازية، ومقابلها عدة بيوتات كانت مبنية على النمط التقليدي لبيوتات ايدون، جدران وأسقف طينية سقط مع الزمن، وواضح أن العلّيّة بنيت في مرحلة لاحقة، فقد وضعت دوامر معدنية لسقف البيت الذي تحتها ومن ثم بنيت العلية بنمط مختلف، حيث الأبواب القوسية من أعلى وكذلك النوافذ والمزودة بقضبان الحماية المعدنية، بينما النمط التقليدي كان يعتمد على النوافذ والأبواب الخشبية، إضافة لحجارة مشذبة من الحجر البارز (الطبزة)، وجرى بناء سلم حجري بجوار البناء في الأسفل ليصعد إليها، والعلّيّة عادةً كانت تستخدم للضيوف أو لكبير الأسرة وإن كان استخدامها للضيوف أكثر لاستقلاليتها النسبية عن البيوت أسفلها، وأمامها كانت مساحة للمرور والجلوس تهدمت ولم يبقى منها إلا الدوامر المعدنية مما منع إمكانية أن ندخل العلّيّة.
المساحة كبيرة مما يدلل على عدد كبير من الأسر التي سكنتها، وكانت هناك مساحات واسعة واضح أنها كانت مزروعة بالأشجار، لكن مع الزمن والرحيل عنها تهدمت البيوت وامتلأت الساحة بأنقاض المباني بحيث طمرت العديد من النوافذ ولم تعد تظهر سوى أطرافها تروي حكايات الأجداد ومن عبروا منها.
صباح آخر مشرق من بين الغيوم في بلدتي جيوس الخضراء، ومن تحت شمس مشرقة بالحديقة الخلفية أجلس مع فنجان قهوتي الصباحي متأملا شجرة الأسكدنيا وشجرة الليمون وشجرات أخرى مستمعا لشدو فيروز: "عم بتضوي الشمس عا الأرض المزروعة، عم بتضوي الشمس والدنيا عم توعى، هذي الزيتونة السمرا يا سمرا يا مغبرة وحفافي خلف حفافي خلف حفافي مزروعة"، فأستعيد ذكرى جولتي في ايدون وأهمس: صباحكم أجمل جميعا في ايدون حورية الأردن السمراء وجيوس وإطلالة على الساحل المغتصب والوطن العربي الكبير.
0 comments:
إرسال تعليق