بقلم وعدسة: زياد جيوسي
الحلقة الرابعة
رغم طول الجولة وحرارة الجو لم نكن نشعر بالتعب أثناء تجوالنا، وكنت أريد أن أكسب الوقت برؤية أكبر مساحة من ايدون قبل أن أغادرها عائدا إلى عمّان، والجميل أن مضيفيني والمرشدين كانوا أيضا يشعرون بالحيوية والنشاط، فاتجهنا من منازل الحاج محمود علي الخصاونة التي تحدثت عنها في الحلقة السابقة باتجاه مبنى الغربالة، وهو مبنى صغير مبني من الحجارة كان في الأصل نقطة للانتداب البريطاني أثناء احتلاله للأردن بعد الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو حتى انتهاء الاحتلال، واستخدم مدرسة لفترة ثم مكان لغربلة الحبوب والقمح ومن هنا استمد الاسم، وأثناء زيارتي كان مستودع للبلدية، لكن بعدها جرت المطالبة من الأستاذة والشاعرة منى عثامنة والمهتمين بالشأن الثقافي بأن يكون مركزا ثقافيا وأعتقد أنه قد جرت الموافقة المبدئية على ذلك.
واصلت ومضيفيني الرائعين العم أبو خالد "أحمد أبو دلو" والمربيات الفاضلات منى عثامنة وهند أبو دلو والأستاذ الشاب عبد الرحمن العثامنة والفنانة التشكيلية ربا أبو دلو جولتنا، فاتجهنا نحو بيت السيد محمود عبد الله العثامنة عليه رحمة الله وهو جد مرافقنا الشاب الأستاذ عبد الرحمن العثامنة، حيث يوجد بيت من البيوت التراثية بجوار المنزل الحديث ما زال محافظا عليه، وبوابته خشبية من ذوات المفاتيح الكبيرة التي أذكر أنها كانت تستخدم بطفولتي للأبواب وخاصة الخارجية، وقام عبد الرحمن بفتح الباب ودخلنا إلى داخل البيت الذي يستخدم الآن مخزنا للحبوب، وهو بحالة جيدة ومبنيٌّ على نظام العقود المتوازية وسقفه الأصليّ من الطين فوق أعواد القصب معتمدا على الدوامر المعدنية مما حفظه من الخراب، لكن جرى إضافة الاسمنت إلى السقف مما ساعد باستدامته والمحافظة عليه، وبوابته رغم أنها على شكل مستطيل فوقه قطعة حجرية كبيرة على عرض الباب ومرتكزة على جوانبه الحجرية، إلا أنه من الداخل مبني على نظام الأقواس الحجرية، وفي الخارج كانت هناك حديقة جميلة مزينة بنباتات وورود يانعة إضافة لأشجار رمّان وتين، وكالعادة كانت المربّية هند تسارع للتّينة وتقطف حبّات شهيّة منها تطعمنا اياها، لكن على جانب هذا البيت التراثي كان هناك بيت آخر هدم مع الزمن ولم يتبقى منه إلا بقايا جدران وعقد واحد من عقوده المتوازية يقف كلوحة حزينة تروي حكايات الأجداد.
الجميل الذي فاجئني حين فتح لنا الشاب الهادئ عبد الرحمن بوابة مخزن يقع تحت البيت الحديث، ويستخدم مخزنا للحبوب أيضا، لنجد فيه مجموعة من الأدوات التراثية مثل الغربال والكربال والمنخل وخزانة عرضية بارتفاع محدود من الصناعات الخشبية التراثية اليدوية، إضافة لبابور جاز وميزان تقليدي والأوزان المرافقة له ومكانس قش من الصناعات اليدوية التراثية، وأدوات زراعية متعددة، فشكرت عبد الرحمن على هذه الزيارة وغادرنا لنختم الجولة بزيارة لبيت عبد النعيم أبو دلو رحمه الله والد العم أبو خالد أحمد وإخوته محمد ومحمود، وفي الطريق كان أبو خالد يحدثني كيف أنه كان في وسط البلدة بركة رومانية تتجمع بها المياه في فصل الشتاء وتحضر إليها الطيور فيكون المجال متسعا للصيد، وفي محيطها تنبت النباتات مثل الميرمية والشيح والبابونج وغيرها من نباتات مفيدة وكانت تعرف باسم بركة "العريف"، لكنها بكل أسف أزيلت وذهب أثر مهم يروي بعض من تاريخ ايدون كما ذهبت الآثار الرومانية الأخرى، حين بنيت مكانها عمارات سكنية أكلت مساحات الزراعة في ايدون أيضا، كما حدثني عن عادات أهل ايدون فقال: "في الأعراس والأفراح كانت الاحتفالات تتم بمشاركة الجميع ويسود الفرح البلدة كلها، وكان يتم تقديم وجبة غداء حيث تذبح الذبائح وتقدم المناسف عادة، وكان مبدأ (العونة) هو السائد فيشارك بالترحيب وتقديم الغداء للضيوف والحضور الأهل والأقارب والأصدقاء، وكان (النقوط) عادة سائدة تساهم بتخفيف العبء عن العرسان وأهل العريس، وكانت تقام الأفراح التقليدية التراثية والدبكة وزفة العريس بعد الاستحمام، فكانت العادات والأعراس لها بهجتها وليس مثل أعراس الصالات والفنادق، فالكل كان يشارك كما عائلة واحدة، وكذلك في حالات الترح حيث يشارك الجميع بالصلاة والجنازة وبيت العزاء وإكرام أهل الفقيد أو الفقيدة بتقديم وجبات الأكل والعزائم، بينما نجد الآن التغيرات الاجتماعية وتكلف أصحاب العلاقة بهذه الواجبات والتكاليف".
وصلنا البيت وهو عبارة عن أربعة بيوتات متجاورة لكل فرد من الأسرة بيت يضمه وأسرته، وكان واضح أن البيت بني في مرحلة متقدمة، فحجارته ما زالت محافظة على نظافتها وجمالها، والأسقف عبارة عن الخرسانة وقضبان الحديد، والنوافذ مزودة بحديد الحماية والأبواب معدنية، ولكن الجدران كانت سميكة تحفظ البرودة صيفا والدفء شتاءًا، وفي الجدران الفاصلة بين البيوت فراغات للاستخدام مثل (مصفت) لفرشات النوم والأغطية، وأخرى عبارة عن خزائن للحفظ ومكان لوضع مصابيح الإنارة قبل وصول الكهرباء للبلدة، وأمام البيوتات مساحة متصلة مبلطة وبقايا معرشات عنب تظللها كانت تستخدم للجلوس والسهرات الأسرية، وأمامها مساحة كانت مزروعة من الأرض وما زالت بعض البيوتات التراثية تحيطها، كما دخلنا للبيت المجاور الذي بناه أبو خالد وسكنه قبل أن يعمر بيت حديث في المناطق الحديثة من ايدون، وشاهدنا بئر الماء والحديقة ولكن بكل أسف كانت المغارة مدفونة فلم نتمكن من مشاهدتها.
كنا نتجول وكنت أشاهد الفرح على وجوه هند وربا وهن يستعدن ذكريات الطفولة الحلوة والبسيطة، فهنا ولدن ونشأن فبقيت الذكريات التي لمست انثيالها من ذاكرتهن والمرح حتى خيل إليَّ أنهن عدن طفلتين في تلك اللحظات، قبل أن نختم الجولة (الإيدونية) متجهين إلى بيت أبو خالد لتناول الغداء المتأخر مع طول الجولة من الصباح.
كما عادات أهل ايدون في إكرام الضيف كانت المائدة عامرة بأطايب الطعام رغم أني تمنيت عليهم أن يكون الطعام خفيفا كي أتمكن من سياقة السيارة عائد إلى عمّان برفقة الفنانة ربا وزوجتي ختام وحفيدي المشاكس الصغير محمد بعد التعب والتجوال الطويل، ولكن العم أبو خالد وزوجته الرائعة المربية آمال شرار وابنتهم الرائعة هيا كانوا يعتبرون أنهم مقصرين لأنهم استجابوا لرغبتي ولم تطبخ المناسف والتي تعتبر رمزاً من رموز إكرام الضيف واكتفوا بهذه التشكيلة الرائعة، وحقيقة أكلت بشهية فالطعام كان طيبا ومشكلا ويدل على نفوس طيبة، فنحن نردد دوما أن الطعام يمثل نفوس من طبخوه.
بعد الغداء ومع القهوة كان أبو خالد والسيدة منى عثامنة يواصلون قص الحكايات عن ايدون ومنها حكاية الحاج محمد المساد العمري وهو رجل بسيط مؤمن، كان الناس يأتونه حين تأخر المطر فيذهب بهم إلى منطقة مرتفعة بني فيها لاحقا مشفى ايدون، وهناك كان يصلي بهم صلاة الاستسقاء وهي من السنن النبوية في الإسلام، وبعد الصلاة لا يتوقف عن الدعاء حتى يهطل المطر مدرارا وغيثا عميما ويعود الناس وقد أصابهم البلل، وحدثني أيضا أنه كانت العادة عندما يلمح المزارعون البرق من منطقة شمال البلدة وكانوا يدعونها مسمار أبو غصاب "الحاج مفلح الخليفة أبو دلو" لوجود مسمار معدني كبير على بوابة إحدى القلاع الكبيرة في المكان الواقع بمنطقة رباع الشومر القريبة من أراضي إربد وزبدة وناطفة، حينها يعلمون أن المطر سيتبع البرق الذي تمت رؤيته من هناك فيستبشرون خيرا.
ايدون هذه الواحة الجميلة والحورية الممتشقة القوام والمتميزة بالجمال تتكون من العديد من الأحياء والحارات، وهي من أكبر مساحات محافظة إربد وهي تتبع إداريا لواء ابن عبيد، وتتميز بامتدادها من الجبال في الأحياء الغربية نزولا إلى السفوح وصولا إلى المنطقة الشرقية السهلية والتي كانت بيادر للقمح وسلة الغذاء، ومن الجدير الإشارة إلى أن ايدون عرفت علماء أجلاء في تاريخها مثل الشيخ محمد بن يحي الشيخ نجم الدين الايدوني الشافعي وهو من علماء القرن العاشر الهجري وكان خطيبا في مساجد دمشق حتى وفاته عام 985ه، وأيضا المقرئ أحمد بن يحيي محي الدين الإيدوني الشافعي من علماء الفقه والتفسير وكان إماما بالمسجد الأموي بدمشق حتى وفاته عام 978ه، والشيخ أحمد بن أحمد بن محمد بن تقي الدين الإيدوني الشافعي والشيخ محمد بن موسى بن عيسى الايدوني، ومن الجدير الإشارة إلى أنّ أول مدرسة للذكور تأسست عام 1921م بينما أول مدرسة للبنات تأسست عام 1950 وكان المفترض أن نقوم بزيارة بعض المدارس لولا أن موعد الزيارة كان خلال العطلة الصيفية، ولاحقا تواصلت معي مدرسات ومديرة مدرسة ودعوني لزيارة مدارسهن في ايدون، ووعدت أن يتم ذلك حين يتم التنسيق مع الناشطة منى عثامنة إن ترتبت زيارة أخرى لايدون لأني لا أعرف الاستقرار طويلا في مكان.
ودعنا العم أبو خالد وشكرته والفريق المرافق على جهودهم وعلى حسن الاستقبال وكرم الاستضافة، كما شكرت المربية والناشطة الثقافية والمجتمعية منى العثامنة على تفرغها للجولة والمعلومات التي قدمتها، وغادرنا زوجتي وحفيدي والفنانة التشكيليّة ربا أبو دلو إلى عمان، لكن تحت إلحاح رفيقة الجولة المربية هند أبو دلو زوجة د.عصام أحمد زومط ذهبنا لبيتها الحديث الجميل في شرقي ايدون، واحتسينا على الشرفة وأمام الحديقة الجميلة القهوة وعصير المانجا الطازج، وتجولت برفقة عدستي الحديقة واعدا إياها بتلبية دعوتها لزيارة بيت راس التي تعمل بها مديرة مدرسة في وقت لاحق حين ترتيب البرنامج خلال زيارة من زياراتي القادمة بمشيئة الله للأردن الجميل..
ما أجمله من صباح مع انهمار مطر الخير والغيث العميم، وفنجان قهوتي احتسيها على شرفة وكني في جيّوس قريتي الهادئة والدافئة، متأملا الغيث على حديقتي وشدو فيروز تشدو: "راجعين يا هوى على دار الهوى على نار الهوى راجعين، منودع زمان ونروح لزمان ينسانا على أرض النسيان، نقول رايحين ونكون راجعين، على دار الحب ومش عارفين".
فأهمس وأنا استعيد ذكرى زيارتي لايدون: وداعا.. ولكن لا بد أنّ لنا لقاء آخر ايدون..
صباحك أجمل يا وطني..
"جيوس 30/11/2018"
0 comments:
إرسال تعليق