Ezz El-Din El-Manasrah felt the problem of Formation and Expression
أ. د . محمد صابر عبيد Prof.Dr. Mohammed Saber Aupid
م. د. إبراهيم نامس ياسين Asst.Dr. Ibrahim Namis Yasin
Abstract: The problem of composition and expression in the poems of Ezz El-Din El-Manasrah does not unfold in isolation from a sharp emotional awareness that recognizes the strength of the emotional and spiritual nerve, which reveals the unique stylistic options that inject the thick and active spray of language with a formative figure that embodies its vividness in the image mirrors. If we enter into the poet's words and visions to know some of the secrets of the game of writing poetic, he sees the moment of creativity as an expression of the deep essence of what feels and sees and touches and contemplates and dreams. The poetry that is in the light of this understanding and the common sense is an aesthetic cultural given in the first place, because the language that is part of the text of poetic text and composed of its most stylistic characteristics acquires its unique expressive power, in terms of expression, formative and photographic language stemming from the essence of the experience and its essence and warmth and flow. Inherent in their roots, incubators and layers, in which the poet responds to the cultural and the cognitive within the scope of language discourse.
الخلاصة: إشكالية التكوين والتعبير في قصائد عز الدين المناصرة لا تتكشّف بمعزل عن وعي عاطفيّ حادّ يدرك متانة العصب الوجدانيّ والروحيّ، الذي يتكشف عن خيارات أسلوبية فريدة تحقن رذاذ اللغة الكثيف والفاعل بطاقة تشكيل تتجسّد حيواتها في مرايا الصور. وإذا ما تدخلنا في تفوّهات الشاعر ورؤاه لعرفنا بعضاً من اسرار لعبة الكتابة الشعرية لديه، إذ يرى لحظة الإبداع فيها تعبيراً عن الجوهر العميق لما يحسّ ويرى ويلمس ويتأمل ويحلم. إنّ الشعر عنده في ظلّ هذا الفهم والإحساس المشترك هو معطى ثقافيّ جماليّ بالدرجة الأساس لأن اللغة الداخلة في نسيج النصّ الشعريّ والمؤلفة لأبرز خصائصه الأسلوبية تكتسب قوّتها التعبيرية الفريدة، من حيث كونها لغة تعبيرية وتشكيلية وتصويرية نابعة من صميم التجربة وجوهرها وحرارتها ودفقها، ذات وهج ثقافيّ كامن في جذورها وحاضناتها وطبقاتها، على النحو الذي يستجيب فيه الشعريّ للثقافيّ والمعرفيّ داخل نطاق خطاب اللغة.
مدخل:
عز الدين المناصرة شاعر إشكاليّ لا تتأتى إشكاليته من ثلاثية تكوينه الأدبيّ والمعرفيّ لأنه شاعر وناقد وأكاديميّ حسب؛ بل من طبيعة شعره وكيفيته الفنية، لكنه حين تنجح القراءة بصبرها الضروريّ في الانتماء إلى فضاء هذا الشعر وتقاليده ورؤاه والانشغال الحميميّ بخصوصيته الإشكالية، ستكشف بسهولة ورحابة خطابه وفرادته وسيبادر بمتعه ولذائذه قبل أن تبادره باحتمالاتها وتأويلاتها. ولا بأس في توثيق هذه الرواية التي شكّلناها عبر قراءة مخلصة لشعر المناصرة أن نراجع ما وصفت به تجربته منذ بداياتها من لدن كبار الشعراء والمثقفين والنقاد والدارسين، وهم يرون فيها تجربة لافتة ومميزة في مسيرة الشعرية العربية المعاصرة، إذ وصف الشاعر صلاح عبد الصبور لغته بأنها (لغة عربية فخمة وموسيقى ناضجة، وبقدرته الفائقة على توظيف عصارة الموروث بلغة يومية قريبة من النفس (1) (وهو عنده) من ألمع الأصوات الجديدة في حركة الشعر الحديث في النصف الثاني من الستينيات (2)). في حين
وجدته الدكتورة سهير القلماوي شاعراً (عربيّ الروح، تقرأ في شعره خصوصية ونكهة متفردة مختلفة عن الرواد (3))، واعترف الدكتور الطاهر أحمد مكي بقوله (لا أعرف من بين الشعراء المحدثين من أرغمني على قراءته سوى ثلاثة: نزار قباني وعز الدين المناصرة وبدر شاكر السياب (4))، ورأى الناقد محي الدين صبحي في لغته الصلابة والقدرة الفنية الجيدة على بناء القصيدة الحديثة (5). وفي مجال الاشتغال الشعريّ على المرجعيات وجد الشاعر محمد عمران أنّ المناصرة) قد أعاد الروح الحضارية لأمّته في شعره، بتوظيفه للرموز التراثية العربية: امرؤ القيس وتميم بن مقبل وأبو محجن الثقفيّ، والأهمّ هو استغلاله لشخصية زرقاء اليمامة التي استفاد منها في قصيدته أمل دنقل بعد ذلك بعامين (6) (قال، وفي مجال حساسية الاشتغال الشعريّ النوعيّ )الدكتور علي عشري زايد( بأنّ المناصرة) أبرز شاعر عربيّ استخدم التوقيعة الشعرية بتركيز العبارة وتكثيف الفكرة في ألفاظ قليلة (7). أما (كلود روكيه) فقد عبّر عن أهمية المناصرة بكونه لا يقلّ أهمية عن شعراء فرنسا العظام في النصف الثاني من القرن العشرين فله هوية خاصة ومختلفة عن زملائه من الشعراء الفلسطينيين (8). الناقد غالي شكري في معرض مقاربته النقدية التأويلية لديوان المناصرة الشعريّ (الخروج من البحر الميت)، قال بأنه (أحد الأمثلة على بشاعة ما يحيا هذا الجيل من عذاب المنافي. المناصرة لا يصوغ تماثيل مجوفة لبطولة الشعارات العربية، ولا يرفع البندقية ليطلق منها رصاصات في الهواء حيث لا يبقى سوى الدخان، وإنما يصوغ المناصرة تجربة الفلسطينيّ الجائع للحب والحرية ويستخدم أدوات شعرية أكثر تكافؤا من العواطف التي صاغها من خلال القلب الذبيح وجوانح العقل المؤرق (9))، ورأى فيه )الدكتور صلاح فضل( عبر قراءة جمالية تاريخية (شعار كبار حقا، فهو ذو نفس ملحميّ متجذّر في التاريخ (10)). ما ذهب إليه الدكتور ولعلّ ما يؤكد هذه الأهمية على الصعيدين الفنيّ والتاريخيّ إحسان عباس، إذ عدّ المناصرة بشيء قليل من التسامح (واحداً من رواد الحركة الشعرية الحديثة (11)). وثمة آراء أخرى كثيرة لا سبيل إلى حصرها في هذه المقدمة فضلاً عن دراسات نقدية وأكاديمية جادة (12) سعت إلى استكناه الخصائص الإبداعية المتميزة لشعرية قصيدة المناصرة، وهو ما يجعل من محاولتنا هنا لتقديم قراءة حرّة مشفوعة بمنتخبات شعرية تواصل فيها القراءة حريتها أمراً ينطوي على الكثير من الأهمية والمشروعية.
منهج القراءة العامل في هذا الحرث النقديّ المخصوص يستخدم شبكة من الأدوات والآليّات التي نمت في أحضان الرؤية الجديدة للمناهج النقدية الحديثة، وتغذّت على الكثير من معطياتها النظرية والاجرائية، وتسلّحت بقواها المعرفية وإمكاناتها الجمالية. لكنها أي الأدوات والآليّات نمت وتغذّت وتسلّحت وتشكّلت منهجيا بعيدا عن ضغط المهيمنات النظرية لتلك المناهج، على النحو الذي انتمى منهج القراءة فيه إلى الشخصية النقدية الخالصة في تشكلها الذاتيّ وانفتاحها على طاقات التأويل التي تؤكد حضور هذه الشخصية القارئة وتطور فعالياتها، بعد أن فاعل مرحلة التكوّن المنهجيّ بالثقافة والمعرفة والرؤيا والحساسية والذوق والخصوصية والحلم داخل فضاء هذه الشخصية وآفاقها. بمعنى أنّ التمظهرات النظرية المنهجية بأفقها المعرفيّ تضافرت تضافراً حميماً ومتكافئا وحراً مع التمظهرات الشخصية، بأفقها الذوقيّ والرؤيويّ والإجرائيّ من أجل أن تؤلف المنهج. لذا فإنّ الحرية التي انتزعها منهج القراءة تتوغل في النصوص بدينامية ورشاقة وحساسية عالية بامتصاص ما تخترنه من طاقة، كلما كانت هذه الحرية كاشفة وضرورية ومنتجة وفعالة وذات معنى جماليّ عميق، تؤكد فيه أصالة المنهج وشعرية القراءة وتصل بالنصوص إلى حالة من التماهي المطلق مع الأدوات والآليّات، بحيث تصرّح بأسرارها وتسلّم شفراتها لآليّات التأويل بطمأنينة وشفافية وسلام، وتتحرر من كمونها في قفص اللغة ومن انعكاسها (المرآتيّ) على سطوح الصور، فتتحول إلى رذاذ يتطاير في الفضاء أمام شهوة المرايا محرّضا الحواس على استهدافه والتمتع بما تيسّر من ندواته المنعشة.
حركية التعبير الشعريّ:
لا تتمّ حركية التعبير الشعريّ في قصائد عز الدين المناصرة بمعزل عن وعي عاطفيّ حادّ يدرك متانة العصب الوجدانيّ والروحيّ، الذي يتكشف عن خيارات أسلوبية فريدة تحقن رذاذ اللغة الكثيف والفاعل بطاقة تشكيل تتجسّد حيواتها في ماريا الصور. وإذا ما تدخلنا في تفوّهات الشاعر ورؤاه لعرفنا بعضا من أسرار لعبة الكتابة الشعرية لديه، إذ يرى لحظة الإبداع فيها عن الجوهر العميق لما يحسّ ويرى ويلمس ويتأمل ويحلم. إنّ الشعر عنده في ظلّ هذا الفهم والإحساس المشترك هو معطى ثقافيّ جماليّ بالدرجة الأساس، لأنّ اللغة الداخلة في نسيج النصّ الشعريّ والمؤلفة لأبرز خصائصه الأسلوبية تكتسب قوّتها التعبيرية الفريدة، من حيث كونها لغة تعبيرية وتشكيلية وتصويرية نابعة من صميم التجربة وجوهرها وحرارتها ودفقها، ذات وهج ثقافيّ كامن في جذورها وحاضناتها وطبقاتها، على النحو الذي يستجيب فيه الشعريّ للثقافيّ والمعرفيّ داخل نطاق خطاب اللغة. فالثقافة تولّد المعرفة والمعرفة تضاعف كثافة المعجم اللغويّ الذي لا يتوقف عند حدود الكثرة والازدياد، بل يغوص في عمق التجربة، تحوز شرعيتها الشعرية والجمالية عبر حركية هذه الفتنة الباذخة في مجال الغنائية، بوصفه المجال الحيويّ الأكثر سخونة وانبثاقا لميلاد السيولة الشعرية، شرط أن تظهر الغنائية (من التركيز على الذات في مواجهة الضجيج (13)) للوصول إلى حالة السلام او الراحة الداخلية لداخليّ الفريدة والطمأنينة الأنوية في مركز الوجدان التي يحتاجها الشعر.
يجد المناصرة أنّ النصّ الشعريّ في عملية تخلّقه وتشكّل حركيته التعبيرية (له معدة تمتصّ وتحوّل إلى دم شعريّ (14)) يسري في عروق القصيدة ليؤلف روحها الخاصة، معترفا في هذا الإطار بأنه شاعر (دائم التجريب (15))، وأنّ أسراره الشعرية والجمالية في أعماق نصوصه (لا تحصى وتحتاج إلى قراءة عميقة (16))، على النحو الذي يقوده للتصريح بريادة نوعية ما في الشعرية العربية المعاصرة بقوله (لقد أسست لمشروع القصيدة الحضارية في الشعر العربيّ الحديث (17)). لا شكّ في أنّ التصريح بالريادة في تأسيس مشروع (القصيدة الحضارية) ينهض عنده على جملة مقومات أسهمت في بناء شخصية شعرية فيها من الفرادة والتميز ما يسمح لها بالتأسيس والتطوير، إذ يقول في تفسير مقوّم مركزيّ من هذه المقومات (أنا أريد أن أعبّر عن شيء فيّ، همّ شعريّ ما، وهذا يرتبط بما أسميه الإيقاع النفسيّ للشعر في محطة الكتابة (18))، وتشغل المرأة ومفردات الطبيعة بمعناها النوعيّ الأكثر انفتاحا ورحابة موقعا استثنائيا في حقل المقومات (فتنة المرأة والبحر والغابات تثقب روحي (19)).
في مجال الالتفات إلى خاصية حركية التعبير بأنموذجها السرديّ يقول (استخدمت بعض الكنسية والقرآنية وطريقة السرد عن الرواد الشعبيين، وكنت مبدع هذه الطريقة في الشعر العربيّ الحديث (20)).
وفي فهمه العميق لعلاقة الشاعر بالمدينة بوصفها مقوما جوهريا فاعلا وحركيا من مقومات تشكّل الشخصية الشعرية، يعكس رؤية فلسفية تنعكس جماليا على الأداء الشعريّ بحساسيته النوعية، إذ يقول في رؤياه للمدن (أنا لا أحمل المدن على ظهري بل في قلبي (21))، بمعنى أنه يعيشها عبر تجربة عناء وغربة ونفي وتمثّل وكشف وتطلّع لا يكتفي بوصفها أو رثائها، بل يتجاوز ذلك إلى التوغل في عصبها الداخليّ ومحاورتها ومساءلتها.
إنّ كلّ هذه المداخل تقود إلى اعتراف يصور تماما استراتيجية حركية التعبير في شعره مفاده إنّ شعري يتطور تدريجيا دون قفز مفاجئ (22))، وهو اعتراف نابع من شدة الوعي النقديّ داخل إدراك الحساسية الشعرية التي تجعله عارفا بحركة التجربة وهي تتطور بهدوء. ويظلّ الشاعر عز الدين المناصرة حاضراً في شعره على مستويات الرؤية والتقويم ومراقبة حركية التجربة وملاحظة النمو الداخليّ الصاعد إلى الأعلى، في سياق محطات أساسية يلاحظ فيها تحولات شعرية باستخدام ماريا نقدية عاكسة تحرر الوعي من سطوة الأنموذج.
يقول المناصرة في معاينته لديوانه الأول (يا عنب الخليل (الذي يمثل محطة بدء ناضجة) في هذا الديوان اتجهت نحو التراث الشعبيّ لا كمقصود بذاته، بل كوسيلة للبحث عن شكل شعريّ يستوعب المضمون الذي يتعلق بواقعنا (23))، وخرج في ديوانه اللاحق (الخروج من البحر الميت (إلى قصائد من عمق الوجدان التاريخيّ (تحمل الشوق والحنين والتيه الفلسطيني ثم الخروج الكبير من قاع البحر الميت، من المدن النائمة الغارقة إلى الثورة الفلسطينية. في كلّ ليلة من ليالي طفولتي في قريتي شرقي الخليل كنت أرى (لوطاً (يخرج من قاع البحر الميت متوجها إلى قريتنا ليقيم هناك. هكذا خرج الفلسطينيون من خيامهم، بحرهم الميت، إلى حركة الثورة(24))، وانعكست هذه الحركة الثورة بفضائها الواقعيّ والسيميائيّ والرمزيّ على حركية التعبير الشعريّ في نسق لغته وشكل صورته، وتمثلت في مجموعة من التقانات والآليّات الجديدة التي وصف استخدامها بالحواريّ الدارميّ والترجيع والهوامش الشعرية الملتحمة بالقصيدة التي أخذتها عن (هوامش الدراسات والبحوث)، وبدأت الغنائية التي كانت في (يا عنب الخليل( تتلاشى(25))، إذ كانت الغنائية عالية بعض الشيء في (يا عنب الخليل)، وفي (الخروج من البحر الميت) أخذت شكلا فيه الكثير من الاقتصاد والتقشف والكثافة. ويقطع مرحلة جديدة في توغله الوجداني الحميم في عمق التجربة في ديوان (قمر جرش كان حزيناً)، إذ يقوم بشحذ دينامية حركية تعبيره الشعريّ بدمٍ ساخن وجديد متحرّر من الانسحاق تحت وطأة النجاح السابق، وقادم من حرارة الالتصاق وجدل التوحد مع الميكانزمات الداخلية للتجربة، إذ يقول (صرت أعبّر عن التجربة بشكل أكثر نضجاً، \ صرت أعبّر عن التجربة بشكل أكثر مباشرة والتصاقا بالتجربة نفسها (26)). أمّا ديوان (بالأخضر كفناه) فيعد (صرخة زمانية من أجل المكان (27))، فيما يرى في ديوانه (جفرا) تلخيصا مركبا للتجارب السابقة وحدّاً فاصلاً بين مرحلتين (28). ويلتفت المناصرة برؤيته الناقدة إلى حساسية (التاريخ الحيّ) بوصفه مرجعية ماثلة أبدا في ضميره الشعريّ وموجّها فلسفيا وجماليا لحركية التعبير الشعريّ في تجربته، إذ يقول: ((منذ (يا عنب الخليل) و (الخروج من البحر الميت) مروراً ب(قمر جرش) و (القبائل) و (بالأخضر كفناه) و(جفرا)، كان التاريخ هاجسي، التاريخ ليس بمعناه المدرسيّ، كنت وما زلت أعني (التاريخ الحيّ) التاريخ المتواصل الممتد، لأنّ الإنسان كائن متحرّك يصارع ليبقى على صلة بنقطة البدء)( 29)). إذ تتمظهر صورة الشاعر على هذا النحو عبر سلسلة المقاربات التي صرح بها في مناسبات مختلفة، لتنعكس على مرآة الشاعر طرازاً نوعيا يعزّز خصوصية التجربة وذاتية الرؤيا وفعالية القوة التعبيرية في الكيان النصيّ.
السرد الشعريّ وكيمياء النصّ:
تفيد حركية التعبير الشعريّ كثيراً من لغة الحكاية الداخلة في كيمياء النصّ الشعريّ، وهي ترشّح آليّات سردها لتفعيل نظم الحركة في بنية النصّ ودفعها باتجاه شحن قوّتها الشعرية بقوة سردية مضافة، تنهض على تطوير العناصر السردية في الشعر ومساعدتها في التمظهر والتشكّل داخل المشهد على نحو فاعل ومنتج ومحرّك للفعل السرد شعريّ. فشعر عز الدين المناصرة في أحد أهم مظاهر إشكاليته وخصوصية حركيته التعبيرية أنه لا يطوّف لغته بوساطة الإمكانات الهائلة للغنائية، فهو مقتصد فيها من غير بخلٍ لكنه حذر بشأن انفلاتها بلا حدود، وهو في الوقت ذاته يجتهد في استحداث بدائل نوعية تقلل من مساحة الغنائية بالقدر الذي يبقي الكلام في دائرة جنس الشعر من جهة، ويفتحه على آفاق أخرى تجعله أكثر عمقا وحساسية وتحضراً، ويجعل منه خطابا جماليا مناظراً لحركة العصر ومستجيبا لمنطقها الحيويّ في التدليل والتصوير والتمثيل. في الانبثاقة الشعرية الأولى للمناصرة المتمثلة بديوانه (يا عنب الخليل(30)) تندفع تعبيريته إلى منطقة السرد الشعريّ، إذ يتنكب قوله لغة الحكاية سائراً في تقاليدها وواعداً بتكريس نموذجها:
سأروي الحكاية من سورة المبتدأ
أسجلها فوق هذا الورق :
إذ تندمج الأنا الشعرية بأنا السارد الذاتيّ لافتتاح فضاء حكائيّ يبدأ من عصور البداية ويتقيّد خطّيا في الفضاء الورقيّ، لتبدأ اللغة الشعرية لعبتها في نفث رذاذها السحريّ على مرايا الصور:
أراك عموداً من الملح في الحلم
قبل الغسق
كما نخلة الملح بين الدخان
يعمّ القرى في تعاريجه جمرة
في ضلوع الدخان
تتشكل الصورة في المنظور البصريّ (أراك) من مجموعة وحدات صورية قادمة من مرجعيات مختلفة ومندمجة في حقل التشكيل بدلالة هذا الاختلاف، ف (عمودا من الملح) المتوازي تشبيهيا ب(نخلة الملح)، مع انحراف تخييليّ محدود يتعلّق بنسق انفعاليّ ذي مرجعية نفسية (في الحلم قبل الغسق) و (بين الدخان)، ليباشر حركيته التعبيرية في نسق مكانيّ مشحون بعاطفة رعوية (يعم القرى ) تسهم في مضاعفة قوة المتخيل في الصورة (جمرة في ضلوع الدخان)، وهي تعكس مرآوياً قيمة تدليليه تخترق الحجب الكثيفة) الملح/الحلم/الغسق/الدخان) كي تصبح في مواجهة القراءة البصرية تماما . تفضي حركية التعبير الشعريّ في الصورة البصرية المرهونة بقدر متوتّر من الحجب والعزل إلى صورة بصرية طالعة من رحم الأولى، تفتح مجال الرؤية البصرية على مدى مرآويّ وتخييليّ أقلّ عزلاً وحجباً وأكثر مرونةً في تلمس رذاذ اللغة على سطح الصورة:
أراك مع الفجر أسطورة في خيال الغيوم
كغيمة قطن نداه
يعاشق دير التلال
نسق الزمن يتحرك (مع الفجر) ويرتفع المرئيّ والمحجوب والمصوّر تخيلياً إلى مرتبة (أسطورة( تتعلق بالغامض البعيد (خيال الغيوم)، على الرغم من رهنها بقيد تشبيهيّ تتنفس حركته التعبيرية في نسق مكانيّ أرضيّ في قربه من شاشة الرؤية (كغيمة قطن نداه يعاشق دير التلال)، من أجل نوع من التوازي الصوريّ في سطح المرآة بين الأنساق المتضادة. هنا يصبح مناسباً أن تتمركز الحكاية في لسان الأنا الشعرية الساردة وهي تحاور قرينها ونظيرها المؤنث، على النحو الذي يستجيب لمفردة (غزل) في ثريا العنوان (غزل إلى نخلة الملح)، وتسري إيقاعيا وسردياً في تموّجات تعبيرية يتناثر رذاذ الدوال فيها على كلّ المساحات الصورية المتاحة:
ألم تلحظي وقفتي في نقاط مبللة بالدموع
أنادي بأعلى عذابي: اصبروا
صابروا فوق أخشابكم...
كيسوع
وكنت دخان القرى والصباحات
حين بنات المدارس بالأخضر الدمويّ
المخطط مثل مراييلهن،
تلوح خطوط الأفقْ.
المرئيات تتجسد وتتم رأى عبر الصوت والصدى واللون السيميائيّ الضارب في عمق العلامة والمكان والزمن والحدث الحكائيّ، لتنفعل بأقصى طاقاتها على الاستجابة للرائي وهو يتقصّد الإشارة إلى الحدود والمنطلقات وبقايا الصور ورذاذ الدوال على سطوح المرايا.
في قصيدة (غزال زراعيّ) تتشكل بنية العنوان على رعوية جمالية خاصة تعكس فضاء استعارياً يعمل في قلب الصورة، على النحو الذي فيه ضوء المرايا المنعكس من حركية الصورة الكامنة في بؤرة العنوان في التجليات الصورية التي يتطاير رذاذ الدوال فيها على الاتجاهات كلها، وهي تنبثق من منطقة الضمير المخاطب (أنت) العائد استعاريا على بلاغة العنوان:
أنتِ القنديل يضيء الظلمات
أنتِ النجمة والصاري ومنارة بحر الظلمات
أنت النخل الأخضر والعرجون الأصفر
في قفر مفازات
أنت رذاذ الغابات
أنت المهر الظمآن
أنت هديل حمامات
أنت الرغوة إن غضب البحر
أنت الأصداف المشبعة الملساء
أنت الخضرة والماء
أنت النار لتطهير جروحي (في عز الظهر (
أنت البحر ولون البحر وقاع البحر
أنت الفتنة في عشب الشطآن
أنت صلاة الأحباب
إذا جفت أمطار الوديان
إذ تتنوع الانبثاقات الصورية المتنوعة من منطقة الكثافة العالية لتكرار المخاطب المرئيّ (أنت) لتتوزع على اتجاهات الحياة كافة، فتأخذ الطبيعة بمعناها الحركيّ المتوهّج ذي القوة التعبيرية الواسعة الحضور الأوفر عبر شبكة الدوال الجزئية والكلية الحركية (النخل الأخضر/العرجون الأصفر/الخضرة/الماء/البحر/لون البحر/قاع البحر/الرغوة .../الأصداف ...(، وتمتد حركيا إلى فرادة الإيقاع ورومنسيته ووجده الإنسانيّ (رذاذ الغابات/هديل حمامات(، ثم تكشف عن بعد صوريّ أسطوريّ وحكائيّ يتصل بتاريخها البشريّ (النجمة والصاري ومنارة بحر الظلمات)، وعن حركية مختزنة مشحونة بحلم الارتواء (المهر الظمآن(.
وتتوزع في مسار حكائيّ آخر على حل إشكالية الضوء والظلمة (القنديل يضيء العتمات (، وحلّ تطهيريّ لأزمة الروح في الإشكالية ذاتها ((النار لتطهير جروحي) في عز الظهر (. وتنتهي إلى ضخّ حقل الوجدان بالرؤى الجمالية (الفتنة في عشب الشطان) والرؤى الوصفية (صلاة الأحباب إذا جفت أمطار الوديان)، للوصول بصورة المخاطب المرئيّ (أنت) إلى مرتبة المثال المهيّأ لدخول الذات الشعرية الساردة فضاء الحكاية وشروعها في استثمار الكنز الدلاليّ الاستثنائيّ، الذي أفرزته هذه الانبثاقات وكونت صورة الضمير بحركيتها التعبيرية الهائلة، على هذا النحو الذي يفتح أفق الحكاية تماما أمام رغبة القارئ ف الأنا الشعرية الساردة في التوغل الإيروسيّ الحادّ داخل عمق المشهد:
أتمضمض بعض حليبك
بعد شروقي
أو قبل غروبي
ويعبر الفعل (أتمضمض) عن حركية تعبيرية ذات مستوى شعريّ خاصّ تتضاعف دلالته الفعلية بإسناده إلى المفعول (بعض حليبك)، والى اللقطة الصورية الزمنية التي تتردد بين (بعد شروقي/قبل غروبي) بما تنطوي عليه من فعالية جسدية ترتبط إيروسياً بقوة الحركة وحركة القوة.
يتوقف السرد الشعريّ بتعبيريته الحركية اللافتة أمام ضرورة وصفية تستعرض الخلفية الصورية التي تحققت فيها إجراءات (أتمضمض):
نهداك سفرجلتان
عنب دابوقي يتشعبط أكواز الرمان
ولاشكّ في أنّ استنهاض البعد (الثمري) في دوال الفاكهة (سفرجلتان/عنب دابوقي/أكواز الرمان) يحيل على تركيز المعنى الإيروسيّ في الصورة عبر علامة اللذة. إلّا إنّ الانعطافة السردية التي يتمظهر فيها الضمير المخاطب (أنت) متحولا إلى شخصية روائية تتسلم مبادرة الكلام:
قالت: لكن يا هذا
هذا عنب منذور لحبيبي
ومضت تتمنجق
في حقل الزيتون.
إذ يتقوّض حلم الأنا الشاعرة وتوقف لغة الحكاية عند حدود السرد اللفظيّ، فتنتهي لعبة الحلم ولا تترك من آثارها سوى رذاذ لغويّ يتشبث على مرايا الصورة، بوصفه علامة راهنة على مدلول غائب. تقود عملية الانهماك في تكريس تعبيرية سرد شعرية خاصة عند المناصرة إلى الاتجاه نحو ضبط لغة الحكاية بمجموعة من الآليّات والتقانات النوعية، التي تختزل القول الشعريّ إلى مراحل التكثيف والتركيز، ومن ذلك تجريب أنموذجيّ) الهايكو والتانكا (وهما نمطان من الشعر اليابانيّ يكون فيه الهايكو ثلاثيّ الأبيات والتانكا خماسي الأبيات. وقد وضعها الشاعر تحت العنوان النوعي نفسه) الهايكو التانكا (لكنه ربطهما بنسيج نصيّ كيانيّ وتشكيليّ واحد، كان الهايكو ذو الأبيات الثلاثة بمثابة) الصوت (والتانكا ذو الأبيات الخمسة هو )الصدى(
(الهايكو)
يا باب ديرنا السميك
الهاربون خلف صخرك السميك
افتح لنا نافذة في الروح.
(التانكا)
أجاب شيخ يحمل الفانوس في يديه
يوزع الشمعات
على نثار دمنا المسفوك
وحين سلمنا عليه
بكى ..
واصفر لونه ..
ومات
فالنداء الكنسيّ المتّجه سردياً إلى الشيء )يا باب( المنطوي على حساسية الفتح والإشراق الروحي عبر ارتباطه بالمكان الموصوف بالحجب والفصل (ديرنا السميك)، ثم على الحكاية الغائبة (الهاربون) التي تختبئ (خلف صخرك السميك)، يدعو إلى افتتاح مجال روحيّ يعيد الأشياء إلى توازنها (افتح لنا نافذة في الروح) أملا في ضبط أعلى قدر من التوازي والتناسب والجدل بين المادة والروح، وبين الحضور والغياب، وبين الكلمة المحجوبة والكلمة المفتوحة، وبين الخفاء والتجلي. ويأتي التانكا ليكون الصدى الذي ينعكس في ميدان السرد في بؤرة مكانية ما، يشيع فيها الفضاء الطقوسيّ الأسطوريّ داخل معادلة الثنائية والجدل. إذ يتمثل جواب الشيخ الذي يحمل الفانوس في يديه صورة (ديوجين) وهو يتجاوز مهمته الأسطورية بتوزيع الشمعات على حطام الروح (نثار دمنا المسفوح). إلّا أنّ المفارقة التي تفكّ اشتباك معادلة الثنائية والجدل تحصل في صورة الإقفال الزمنية ذات البعد العلاميّ الصوريّ (وحين سلمنا عليه)، إذ ينتهي فعل الأسطورة عبر ثلاث انتقالات درامية لفعل الغياب على النحو الآتي:
بكى
اصفر لونه
مات
ليتحول صدى التانكا من صوت الهايكو إلى توقف حركية التعبير وغياب الإيقاع في حدود الفعل (مات)، وهو يرد لغة الحكاية إلى نقطة صفر الحياة في صورة الغياب الكامل.
شعريّةُ اللغة والصورة:
يشتغل ديوان المناصرة (الخروج من البحر الميت(31)) على اقتصاد أكبر في الغنائية، من أجل توظيف رذاذ اللغة المنتشر بكثافة على مرايا الصورة، وتنفتح على استنهاض منطق المحاورة الشعرية في كلّ المناطق المتاحة داخل منطقة الذات وخارجها. في المقطع الاختتاميّ المكتنز من القصيدة التي تحمل اسم الديوان (الخروج من البحر الميت) تتشكل شبكة من الخطوط الحوارية ذوات البعد الإشاريّ، المنتشرة على مساحات أمكنة وضمائر وحالات مختلفة، تبدأ بالوصف التعبيريّ المتوطن في جمالية الحركة:
الموجة سلسال ذهبي
تجري خلف الموجة.
وتمضي في النسق الوصفيّ نفسه لتخضع حركيته التعبيرية لمجموعة حركات حوارية يتراسل فيها رذاذ اللغة مع ماريا الصورة:
فاتنة من عنب تغزل مكبوت الأشواق النارية
خلف الجفنين المرسومين
ذنوباً وذنوب
يعقبه مباشرة نداء أمريّ يتجه إلى آخر ماثل في الحضور والغياب معاً، ويحثّه على تركيز رؤيته البصرية في عمق التاريخ والأسطورة والواقع بدرجة واحدة وعلى مسافة واحدة، وما يتكشف عنه ذلك من تشكيل جدليّ وإشكاليّ يسعى إلى الموازنة بين صور الدوال الموقعة:
حدّق في المدن الغرقى
في البحر الميت عند الأقدام
حدّق في صمت التطريز على الافزيز
ثم ما تلبث آلة الوصف الحوارية أن تستردّ وضعها القياديّ بقوة سرد درامية أكبر من ذي قبل، وهي تحرر الدوال من انكماشها وغيابها وانحسار رؤاها لتنقلها إلى فضاء سرديّ عميق الوضوح والشفافية:
شباك مفتوح
وجبال الملح تذوب تذوب
تبزغ أنا الشاعر من عمق المشهد وهي تقترح صورة سمعية ضاربة في جذر المتخيل المرهون بقوة الواقع:
أسمع طقطقة الأوهام على داري / وعواء امرأة في
جوف البحر / عموداً من ملحٍ ثم يغيب.
ف (أسمع/طقطقة الأوهام/عواء امرأة ) صورة سمعية مزدوجة تثير خيالا إيقاعيا حواريا مع الأمكنة (داري/جوف البحر)، يختزل الرؤى ويق لص مدياتها إلى أقصى حدّ ممكن في اللقطة الصورية الثالثة المرتبطة بالمشهد (عمود من ملح ثم يغيب) حيث تنتهي الصورة إلى الذوبان والمحو، وثمة تناص شعريّ داخليّ في هذه اللقطة مع الصورة البصرية (أراك عموداً من الملح في الحلم قبل الغسق) في قصيدة (غزل إلى نخلة الملح) من ديوان (يا عنب الخليل)، حيث تساوي الجملة الاستئنافية العطفية (ثم يغيب) في اتجاهها نحو المحو والغياب جملة (في الحلم قبل الغسق( المرشحة للتلاشي والذوبان. لكنّ كثافة الطاقة السمعية في الصورة بشكلها الحواريّ الذي يتردد بين الحضور والغياب، يقود إلى إنتاج صورة ينفصل فيها الشاعر عن ذاته انفصالا رمزياً، لتتمركز الذات في منطقة السارد والشاعر في منطقة الصورة وقد أثخنته جراح الإيقاع بما انطوى عليه من قوة حزن وحنين شعبية:
خرج الشاعر مجروحاً من القلب الموال
ينفتح بعد ذلك النداء الحواريّ على أوسع فضاء إنسانيّ ممكن ليعرّي (البركان الأرعن) على الرغم من انتصاره، ويعزي الناس في غيبتهم ونفاقهم، على النحو الذي تبقى فيه الدعوة معلّقة في فضاء الحلم المقيّد:
يا أهل الأرض أفيقوا من هذا النوم المزمن
لكن الناس اندمجوا في التطبيل
حيث انتصر البركان الأرعن
حيث يبقى المكان بعمقه التاريخي منبعا لحوارية اللغة وحوارية الصورة، ومنجما لتزويد قوة التعبير عن الهوية والمصير برؤى تعبيرية هائلة تختصر الجغرافيا في لحظة لقاء تستجيب بعنف لنداء الجدّ:
من خاصرة البحر الشرقي يكون الأردن
ومن البحر الغربي تكون فلسطين
مع هذا يلتقيان .
يا هذا ،
إن نادانا كنعان .
وهو يدعو إلى خروج حاملٍ للحلم من البحر الميت إلى اليابسة الحيّة في دينامية حضارية تنتج أسئلة جديدة. تتكشف اللغة بإمكاناتها الدلالية، والصورة بإمكاناتها الأيقونية عن قدرات حوارية متشظية في قصيدة (جنازة مقهى)، إذ تشيّع الذاكرة مشهد المكان وقد اندلعت فيه الذكريات بلا هوادة في ظل فعالية درامية تحكي قصة الزوال بمعناه الحضوريّ والعاطفيّ. تستعين أنا الشاعر النافية بشكل ذي قوة تعبيرية كبيرة من أشكال الطبيعة لتحقق عبر مضاهاتها وموازاتها معادلاً موضوعياً للحضور في مشهد الغياب:
ألا لا أقول الذي ...
جعل الريح تبكي ،
تقهقه ثم تموء .
ألا لا أقول انتهيت فمازلت في غربتي
مرتعاً للقوافل ،
ما زلت باب لجوء
إنّ مشهد الغياب والرحيل العاصف (جعل الريح/تبكي/تقهقه/تموء) يتوازى عكسيا مع نفي الهزيمة وتنزيه أنا الشاعر منها، إذ لا تزال غربته قادرة على الفعل واستيعاب استمرارية الزمن الطارد من الوطن، إلى المنفى، إلى حلم العودة (مرتعاً للقوافل/ باب لجوء). تتحول أنا الشاعر في مشهد الشعر الحواريّ إلى (أنت) على بعد مسافة رمزية تسمح بإنجاز لغة حوارية، تنتهي إلى سلسلة صور حوارية تلخّص التاريخ الدمويّ في لحظة نسيان مقترحة:
وللصيف أنت بحار سباحة
وإن كنت لي غيمة ورسائل غم وأخبار سوء
لقد طعنوك تضاءلت في الأمة المستباحة
وما زلت جذراً،
تلوح عيونك في كل ساحة
تتضاعف الطاقة الحوارية في الصورة بدلالة استنهاض الخيال الذاكراتيّ وشحنه بالحلم، لرعاية بذرة النفي والغربة في حقل مكانيّ واسع المدى مكتظّ بوجدان التاريخ والحكاية:
زرعت طحالبك الخضر في قصب الرقمتين
زرعت التشابيه في غضب المنحدر
وقلت ستكبر طيفاً ورمزاً لأيامنا في الحسين
على أمل نمو الحلم (زرعت .../زرعت ...) في لسان الحكاية (قلت ستكبر/ طيفا / رمزاً/ لأيامنا في الحسين)، بالمعنى السيميائيّ والرمزيّ الذي تولّده الذاكرة في المكان. ثم ترتد حوارية اللغة إلى فضاء مونولوجيّ داخليّ مزدان بآليّات التأمل والاسترجاع وتقييد الزمن في حدود الصورة لمحاورته ومحاكمته ونقده:
تظل ندوباً لقلبي، شعاباً لمرجانهم، ونتوء
أتبقى فضاء من الانغلاق وكأساً من الاشتياق
وصوتاً ... وضوء
تظل حكيماً / يحرّضني جبل الثلج في المفرقين
ورمزاً لأيامنا في ضجيج الحسين
إذ يتشظى المشهد في ظلّ هذه الاحتفالية الحوارية إلى صور حالية كثيرة التعدد والتنوع (ندوبا / شعابا / نتوء/ فضاء/ كأسا / صوتا / ضوء/ حكيما / رمزاً)، وتنتمي إلى مرجعيات ذاكراتية وحلمية وواقعية تتناوب في تشكيل حوارياتها بين حدود اللغة وحدود الصورة، على النحو الذي يحرّض أنا الشاعر على اللجوء إلى أفعال الاستقبال للخروج من المحاورة المهزومة إلى فعل انتصار تتفوق فيها الأنا على ذاتها:
سأمسك كأساً من الدمع أكسره مرتين
سأكسره مرّة بالوعود
وأكسره مرة بالندى.
لتتحول المحاورة إلى نداء رثائيّ للصورة التي فقدت صلاحيتها اللغوية، وخرجت من عمقها الإيقونيّ، وتنازلت عن ألوانها، حيث تقذفها الذاكرة خارج المشهد على النحو الذي تصبح فيه قابلة للتشييع وهي تتعلق بعتبة العنوان بتشكيلها الاستعاريّ الرمزيّ (جنازة مقهى (
أيا نادل الجرح.. ماتت أقاصيصك الباكية
ونامت كؤوسك نامت ن ا رجيلك الصاحية
وعُدت لنا بدويا تبيع القصائد للمترفين
لتغتصب اللقمة السافلة
تغني لمن سيجيء
تغني لمن سيجيء
لتؤول حوارية اللغة وحوارية الصورة بمعناهما الحكائيّ إلى هجاء للرحيل القسريّ المفروض، يتضمن فيه دعوة رمزية للوقوف الحكيم أمام إشكالية عصيبة في اختيار المصير، بين ذاكرة راحلة بتراثها العاطفيّ الثري، وحضارة بديلة برؤية جديدة للإنسان والعصر.
خصوصية التجربة الشعرية:
إنّ من أبرز خصائص التعبير الشعريّ عند المناصرة أنّ حركيته الجمالية والتشكيلية ذات قدرة تطورية واضحة، يسعى الشاعر بوعي إلى إيجاد ملاءمة فنية عالية المستوى بينها وبين خصوصية تجربته الحيوية والشعرية بكلّ ما تختزنه من تنوع وتعدد وتمظهر، لذا فإنّ نضج التجربة بهذا المعنى يأتي من فاعلية الوعي بضرورة تحسين كفاءة الأداة الشعرية وتحديثها باستمرار، ومضاعفة وعي التشكيل بإجراءاته الفنية والجمالية. ويعد ديوانه (قمر جرش كان حزيناً (32)) حلقة مهمة في هذا النضج باتجاه تمثّل أكبر للتجربة ورغبة في حرث وكشف مناطق جديدة فيها، ونقل حساسيتها إلى ميدان العمل الشعريّ بطاقتها التعبيرية العفوية والمباشرة عبر الحفاظ على حيويتها وسخونتها وألقها وتدفق رذاذ روحها. في قصيدة (لسببٍ عاطفيٍ إغريقي) تذهب حركية التعبير الشعريّ إلى منطقة التركيز والاختزال والتكثيف (جملة واحدة)، وهي تتصل بقائل استعاريّ مشحون بالاتساع والامتداد والانفتاح والغموض معا، على النحو الذي يجعل من أنا الشاعر متلقيا مشتغلا ومفسراً ومؤولا لهذه الجملة الواحدة، بعد أن ينشغل بأسرارها إلى حدّ التوحد والتماهي:
أسير في الصباح فوق الشط
أمسح الرذاذ عن جديلة تنساب في الهواء
ألقط الحصى وأرجم الحيتان،
أستغيث يا مفرج الكروب
إذ تندفع درامية التعبير الفعليّ نحو ضخ حركة الأنا بشبكة أفعال تنمو حكائياً عبر تناص )موروث شعبيّ) داخل فضاء الدراما (أسير/أمسح/ألقط/أرجم/أستغيث)، تنتقل بعدها الأنا إلى بناء إطار وصفيّ يحيط بعمل الأفعال ويرعاها بتشكيل ثلاث لوحات، تصور الأولى الجزء الطائر من البناء:
حمامة في شاطئ الإسكندرية اللعوب
تدور في الفضاء،
حيث الطائر الطروب
يقزقز الدقائق الطوال بانتظار موعد البللور
والثانية تصور الجزء الأرضيّ بمكانيته العاطفية المتمركزة في حدود ضيقة لكنها غزيرة وثرية: المطعم الصيني في محطة القلوب
ملفّح بضحكة من القماش الأزرق الشحوب
والثالثة تنفتح على فضاء القائل الاستعاريّ (البحر) لتصور شدّة زمنيته ومكانيته بمعناها الحكائيّ التشكيليّ التاريخيّ الأسطوريّ:
البحر عاصف والوحش في الزقاق
الليلة استرحت،
لا صديق لي سواك يا مضيق
البحر كان هائجا أوشكت أن أقول إن شارع التانيس،
قد يفيض رغم بعد وجهك الصبوح،
رغم أن قلبك الغريب
يرفّ بالصلاة لي.
أوشكت أن أتوب.
الليلة استرحت في مقاعد الغابات واستمعت للألوان
رأيت ((سيف وانلي)) يرسم المياه للأغصان
يتابع الغناء في مراسح العويل
وبعد الانتهاء من تشييد هذا الفضاء المحيط الوصفيّ يعود الراوي الشعريّ إلى جملة البحر ليخترقها ذهابا إلى مرجعيتها الذاكراتية، ليبسط حكايته على زمن الذاكرة مستعيداً الأمكنة والأزمنة والحالات والرؤى والأحلام، في ظل تجربة فيها من العفوية والبساطة والتشبيه العاطفيّ المباشر ما يجعلها ترتد إلى أوليتها الشعرية في منطقة الينابيع الأوُل:
وعندما ذكرت صاحبا يجول في مدينة الخليل ويشتهي غناءه الطلاب والبنات
يقفزن في الهواء فوق السور
الليلة ابتكرت خطاً رابعاً من الخطوط فوق الرمل ....
تشبهين أسطراً من قلم الجليل
المطرب الحزين يستعيد ساعة من الوصال
فوق شط النيل
فأومأت زهقانة بطرف المنديل
هل تحفظين هذه القصائد التي تموج بالترتيلْ
أحبها جميعها بدون أفعل التفضيل
واشتعلت كنجمة تذوب
ثم اختفت كأنها جنية الحقول !!!
فيرتقي نضج التجربة هنا بوعي الأداة ووعي التشكيل، في سبيل إحداث تحوّل في جوهر التجربة وعمق مسيرتها. يعود الراوي الشعريّ في القصيدة التي أخذ الديوان اسمها (قمر جرش كان حزيناً) إلى فضاء الحكي بوصفه قناعاً وملاذاً ومخلصاً كما استخدمته شهرزاد في الليالي، ويستعير الكثير من أجواء الليالي لكنه يدمجها دمجاً شعرياً عميقاً بفضاء التجربة الشعرية، إذ تتجلى حركية التعبير في كلّ عناصر التشكيل زمناً ومكاناً وشخصيات وأحداثاً وأساليب:
سوف أحكي وأحكي وأحكي
وإلا فقدت الصواب
عابراً صرت في مهمة من رمال
بعدما عبروا فوق نهر العذاب
عابراً نحو نبعك، طفت المدائن،
عدت أشيل الإياب
عابراً صرت في مدني، غجري الثياب
عابراً يا دموع الرمال التي صوّحت
عضّها في الغياب
رجال لهم في الجباه قرون
ولهم في الشطوط نساء يضاجعن رمل الغريب،
ويفردن أثداءهن الجميلات للعابرين
عابراً يا أميرة كل الشطوط البعيدة،
هل يولد العشب تحت البساطير،
هل يعبر العابرون؟ !!!
لعلّ في تكرار الحال السردية (عابراً) ما يشي بهذه الحركية المنتجة ذات الصفة البطولية المتجاوزة للعناصر والمكونات والأشكال والحدود والأدوات، إذ إنّ العبور ب (الحكي) هو عبور أسطوريّ لا تصدّه العوائق، ويتميز بالسيولة والرشاقة والتحقق والإنجاز. إلّا أنّ السؤال الكبير الذي ينمو من أسفل الحكاية (هل يولد العشب تحت البساطير، هل يعبر العابرون؟ !!!) يوقف حركية التعبير عند حدود السؤال ويوقف سيولة الحكي، لينحرف بعيدا عن شهرزادية الحلم الحكائيّ في إيقاف مسلسل الدم والموت، فحين يتوقف العشب عن النمو (تحت البساطير) فإنّ العابرين لن يتمكنوا من مواصلة عبورهم حتى وإن تسلّحوا بلسان الحكاية، لأنّ العشب هو الحكي نفسه وعندما يجهض فإنّ الحكاية تموت على النحو الذي تنشط فيه رغبة شهريار بالقتل، قتل الإنسان في الحكاية وقتل الحكاية في الإنسان. في قصيدته (مزيدا من الأغاني) يستعير عز الدين المناصرة صوت الشاعر (أبي الهندي) في بيتيه الشعريين الشهيرين:
اجعلوا إنْ متّ يوما كفني ... ورق الكرم وقلبي معصرة
وادفنوني وادفنوا الراح معي ... وانشروا الأقداح حول المقبرة
ليحقق معه تناصا تشكيليا يضاعف كمية الغناء في الصورة ويعلي من صوت الإيقاع في المشهد، وهو ما يفتتح به المناصرة قصيدته ويقفلها به أيضا:
(طريق البنات)
احفروا لي هناك
قرب دير الملاك
حفرة 000 واملأوها نبيذا وتمراً وقات
تحت دراقة، صوتها في العروق
وادفنوا جثتي، في طريق البنات
قبل شمس الشروق
ستمر الوحوش
ستمر النساء اللواتي لبسن الحداد
حاملات دمي في زهور الصلاة.
احفروا لي هناك
حفرة في البقيع
ثم غطوا ضلوعي لئلا أموت من البرد تحت الصقيع
ثم لا ترفعوا ساعدي
ستحنو الجنادب يوما إليّ
الزنابق مختالة رفعت ثوبها في خضوع
الثعالب مرت هناك.
إنّ اشتغال وعي الأداة هنا على عناصر البناء الشعريّ ومكوناته يتم بطريقة استخلاصيه مركزة لا تتجه إلى التفصيل والشرح والثرثرة، بل إلى استعمال الدوال بأسلوبية تعبيرية تشعر القارئ وكأنها تستعمل أول مرة بصفاء إشراقيّ وحمولة دلالية غنية، إذ إنّ نداء أنا الشاعر الضاغط إلى الآخر الجمعيّ (احفروا/املأوها/ادفنوا ....) يمتلئ بروح الاستدعاء الحقيقيّ للوصول إلى حالة خلاص مثالية، تعكس فكرة جدل الحياة في الموت بلغة شعرية غير متفلسفة. ويساوي بين ذاته الشعرية والكلام في المقطع الثاني من القصيدة بحيث تساوي الأنا الكلام تماما:
احفروا حفرة للكلام
واغسلوها بسيل الدموع
فأنا إن صحوت أجوع
مدن كالشوارع،
لا تستطيع السكوت
رغم هذا وذاك، تموت
مات فيّ البكاء الأصيل المطير
عندما يتساوى الرقاد
في رماد النذور الوثير مع النوم فوق السرير
في محاولة لتحقيق أعلى حركية اختزال شعرية ينشط فيها وعي الأداة مع وعي التشكيل من أجل بلوغ التجربة أوج نضجها، فالكلام قناع تتخفى وراءه المقاصد وتحتجب الغايات، وهو يشتغل عادة في منطقة عازلة لا يمكن تعرية وضوحها بسهولة، فالدوال (الدموع/ صحوت/ السكوت/ تموت/ البكاء/ المطير/ الرقاد/ النذور/ النوم) شبكة أسهم تنطلق من منطقة العزل لتتجوّل بحرية في فضاء الاستعمال/القراءة، وهي تحمل إنسانية التجربة في أداة ورقية تشتغل شعريا في حقل التشكيل لتؤلف مقولتها بأسلوبية رمزية وسيميائية. وتقفل القصيدة أغنيتها بإيقاع الاستهلال نفسه في دورة شعريّة تعيد إنتاج أشيائها من البداية إلى النهاية:
احفروا لي هناك
قرب دير الملاك
حفرة ...
واملأوها نبيذا وتمراً وقات
وادفنوا جثتي في طريق البنات.
إذ يُعاد إنتاج الصورة الاستهلالية هنا بعد حذف جملة (تحت دراقة، صوتها في العروق) لأنّ فاعلية الاستدلال انتهت، وأنجزت مهمتها في المسافة الشعرية الواقعة بين منطقة الاستهلال ومنطقة الإقفال، وهو ما يشير أيضاً إلى طاقة الاستخلاص والتكثيف الأدائيّ في الفعل الشعريّ عبر وعي الأداة ووعي التشكيل.
الهوامش والإحالات:
(1) الشاعر صلاح عبد الصبور، مصر، 1968، وينظر الغلاف الثاني لديوان (يا عنب الخليل) الصادر عن دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، ط 6 ، 2004 ، وكانت طبعته الأولى قد صدرت عن دار الكاتب العربي، القاهرة، 1968 .
( 2 ) م . ن .
( 3 ) د . سهير القلماوي، مصر، 1968 ، م . ن.
( 4 ) د . الطاهر أحمد مكي، مصر، 1969، م . ن.
( 5 ) الناقد محي الدين صبحي، مجلة (الطليعة)، دمشق، 1 / 11 / 1969 ، وينظر م . ن.
( 6 ) الشاعر محمد عمران، جريدة (الثورة)، دمشق، 25 / 4 / 1970 ، وينظر م . ن . وينظر أيضا ما قاله الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة في القضية ذاتها، مجلة (فلسطين الثورة)، قبرص، 15 / 6 / 1985 .
( 7 ) د . علي عشري ا زيد، مجلة )فصول(، القاهرة، أكتوبر، 1980 ، وينظر م . ن.
( 8 ) كلود روكيه )مدير دار سكامبيت الفرنسية( في حفل تكريم المناصرة في مدينة بوردو مساء 29 / 5 / 1997 ، وينظر الغلاف الثاني لديوان (قمر جرش كان حزينا) الصادر عن دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، ط 4 ، 2004 ، وكانت طبعته الأولى قد صد رت عن دار ابن خلدون، بيروت، 1974
.(9) ثقافتنا بين نعم ولا، د. غالي شكري، دار الطليعة، بيروت، 1972 ، وينظر الغلاف الثاني لديوان )الخروج من البحر الميت) الصادر عن دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، ط 3 ، 2004 ، وكانت طبعته الأولى قد صدرت عن دار العودة، بيروت، 1969
( 10 ) د . صلاح فضل، جريدة )العرب اليوم(، عمان، 1998 ، وينظر م . ن.
( 11 ) د . إحسان عباس، 1993 ، الغلاف الثاني لديوان (لا أثق بطائر الوقواق) الصادر عن دار مجدلاوي، عمان، ط 3 ، 2004 ، وكانت طبعته الأولى قد صدرت عن بيت الشعر واتحاد كتاب فلسطين ، القدس، 1999 .
( 12 ) حظي شعر المناصرة باهتمام نقدي وأكاديمي واسع، وكان آخر ذلك أطروحة دكتوراه للشاعر والباحث العراقي فيصل القصيري بعنوان (بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة)، قدمها لكلية الآداب في جامعة الموصل ونال عليها درجة الدكتوراه بتقدير (ممتاز)، وكان لنا شرف رئاسة لجنة مناقشتها، وصدرت عن دار مجدلاوي عام 2006 .
( 13 ) شعرية التاريخ والأمكنة، حوارات مع الشاعر عز الدين المناصرة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1 ، 2000 : 331 .
( 14 ) م . ن: 184 .
( 15 ) م . ن: 82 .
( 16 ) م . ن: 551 .
( 17 ) م . ن: 308
( 18 ) م . ن: 625 .
( 19 ) م . ن: 678 .
( 20 ) م . ن: 685 .
( 21 ) م . ن: 435 .
( 22 ) م . ن: 451 .
( 23 ) م . ن: 515 .
( 24 ) م . ن: 584 .
( 25 ) م . ن: 488 .
( 26 ) م . ن: 235 .
( 27 ) م . ن: 82 .
( 28 ) م . ن: 51 .
( 29 ) م . ن: 73 .
( 30 ) يا عنب الخليل، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، ط 6 ، 2004 .
( 31 ) الخروج من البحر الميت، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، ط 3 ، 2004 .
( 32 ) قمر جرش كان حزينا، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع ، عمان، ط 4 ، 2004 .__
(33 ) Journal of Al-Frahedis Arts - Vol (2) Number (27) (2016) 26-46 * .
0 comments:
إرسال تعليق