الفنانة اللبنانية جنان باشو... وحكايات الهجرة واللاجئين

اختيار وإعداد عادل محمد ـ
7 سبتمبر 2019

الفنّانة التي عايشت الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي بداية الثمانينيات، تطوّع الفولاذ في "فصول الهجرة اللامتناهية" لتشريح أحوال الجحيم العربيّ على حدٍّ سواء. بالإضافة إلى سرد مأساة الفرد العربيّ، والنطق بشجونه في زمن المنافي غير الطوعية والهجرات المتعددة. من خلال منحوتاتها الفولاذية، تصوّر باشو الفرد بشكلٍ يبدو فيه، ضمنيًا، بقايا أو أنقاض بشر، يمضون أيامهم بأقصى درجات اليقظة، وفي حالة فزع مستمر، وقلق وترقّب وكوابيس تملأ الذاكرة ولا تُمحى.

متاعب وكوارث بالجملة، مقابل طريق واحد للنجاة منها، وسبيل وحيد للخلاص، وهو الهجرة والمسير دون وجهة محدّدة.

بمتاعٍ قليل وحقائب تُحيط بها، تُكمل كائنات باشو المسير، وإن كانت تعرف مسبقًا أنّ غياب الوجهة يجعل منه مسيرًا بلا طائل. مشيهم في خطٍّ مستقيم لا يُلغي أو يخفي حقيقة أنّهم باتوا على تخوم التيه، ولكنّهم في المقابل يعرفون جيدًا ما سيترتّب عليهم إن حرفوا مسارهم خطوة واحدة. وبينما نتجوّل بينها، ونطلّ من أعلى على مأساتها، ننتبه إلى أنّ وقوف هذه المجسّمات الذي يبدو طبيعيًا للوهلة الأولى، وبديهيًا أيضًا؛ هو عكس ذلك تمامًا. اندفاع القضبان الفولاذية المفتولة نحو الأمام يدلُّ أو يشير إلى لحظة تعثّر لا بدّ منها أثناء المشي؛ إلّا أنّ تعثّرهم هذا يحدث بين جحيمين شاسعين، اختبروا الأوّل ويمضون لتوّهم قدمًا لاختبار جحيمهم الثاني.

تُغيّب باشو ملامح وجوه شخوصها، سعيًا منها إلى تكوين كائناتها الخاصّة، بحيث لا تدلّ على عمرٍ مُعيّن، ولا على جنسية بعينها أيضًا. انطباع سريع تبثّه هذه المنحوتات المتشابهة في الشكل والمصير، ولكنّ انطباعًا آخر سيحلّ مكان الأوّل ويُغيّبه أيضًا، فيبدو غياب الملامح حينها حصيلة عملية تشويه لا يهمّ إن كانت مقصودة أم لا، المهمّ أنّها نتيجة طبيعية لاقتلاعها من أرضها الأولى، ودفعها نحو المجهول. وغياب الملامح بدوره لا يخفي تعب عناء الحفاظ على تماسكها في هذا الوجود العاصف، ليصير هذا المسير بحثًا عن النجاة، أقرب إلى سقوطٍ من علوٍّ شديد الارتفاع.

المنحوتات الموزّعة أمامنا في "غاليري أجيال" عبارة عن كتل بشرية تسلك طريقًا مستقيمًا، وتتدافع فيما بينها بفعل الخوف مما تركوه خلفهم. بالإضافة إلى مجموعة عائلات، منها من تتوقّف لأخذ قسطٍ من راحةٍ يُنادى عليها دون أن تأتي. ومنها عائلات تئنّ متعبةً بفعل الحقائب الثقيلة المتراكمة حولها. نُشاهد أيضًا عائلاتٍ تسير معًا، وأطفالًا حُملوا على الأكتاف أيضًا. كلّ ما نراه في "فصول الهجرة اللامتناهية" هو حصيلة تطويع جنان مكي باشو للخردة والحديد وبقايا السيارات، بالإضافة إلى قضبان فولاذية من تلك التي تستخدم في البناء، ولفائف معدنية هي كلّ ما احتاجته الفنّانة اللبنانية لإنجاز منحوتاتها هذه.

بشكلٍ ما، نستطيع أن نتخيّل هذه المنحوتات التائهة عن دروب الخلاص، موزّعة على جبهتي قتال؛ تُحاول من خلف متاريس الجبهة الأولى هزيمة الوقت والتحايل عليه، ومن داخل خنادق الجبهة الثانية، تُحاول صدّ مصائرٍ فُرضت عليها بالقوّة. وبين الجبهتين، هناك طريق الهجرة الذي ستسلكهُ هذه الكائنات الفولاذية حين تعرف أنّ معاركها العنيفة هذه لن تقودها، في كلّ الحالات، إلى طريقٍ آخر سواه.

هكذا، ستُخلي هذه الكائنات مواقعها، وتنسحب من الجبهات المشتعلة لتجد نفسها على أعتاب جبهة ثالثة تقف فيها في مواجهة الحيرة بين البقاء أو المغادرة.

يضم معرض "فصول الهجرة اللامتناهية" كتلًا بشرية تسلك طريقًا مستقيمًا، وتتدافع فيما بينها بفعل الخوف مما تركوه خلفهم

معركة استنزاف جديدة تعرف هذه الكائنات التي هي في الأساس بشر انسحبوا من المشهد لتنوب عنهم منحوتات فولاذية؛ أنّ لا قدرة لها على خوضها. هكذا، ستعيش حالاتٍ قلق مختلفة، وتصل إلى أقصى توتّراتها النفسية، والسبب حيرتها في اختيار الطريق؛ طريق الانسحاب الذي تفضّل أن يكون سالكًا وخاليًا من المنعطفات الحادّة، ولكنّها سترغم فيما بعد على المسير فيه، إذ أنّ لا أمل للنجاة إلّا بالذهاب قدمًا لاختبار ما ينتظرها.

​المصادر: المواقع العربية واليوتيوب
معرض جنان مكي باشو.. الهجرة التي لن تنتهي - الترا صوت

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق