بقلم وعدسة: زياد جيوسي ـ
"الحلقة الثانية"
غادرنا المدرج الغربي بعد جولة مطولة ودقيقة وفاحصة لكل مساحاته، وواصلنا المسير بالطريق الترابي حيث وجدنا العديد مما كان في تلك الأزمنة؛ محلات تجارية مبنية على طريقة العقود نصف البرميلية، وبعضها لها أبواب واسعة مستطيلة يعلوها حجر واحد على امتداد عرض الباب والأعمدة التي تشكل جانبيه، ومن بين هذه المخازن والأمكنة يمر شارع "الكاردو" والذي كان مرصوفا بالحجارة البازلتية حيث كانت هذه المخازن التجارية على جانبي الشارع مشكّلة السوق التجاري للمدينة، وتوجد لوحة إرشادية تشرح ذلك ولكن بكل أسف زالت وتلفت تماما مع العوامل الجوية بحيث لا يمكن قراءة إلا بعض الكلمات المتناثرة وبدون فهمها وبدون مشاهدة اللوحات المرسومة لتلفها أيضا، وأيضا كانت الأعمدة على الشارع كما النمط الروماني وهذا الشارع أنشئ في القرنين الأول والثاني الميلادي.
وعودة لتاريخ جدارا نجد أن البطالمة الذين أنشئوا جدارا حكموا مصر من بطليموس الأول حتى كليوبترا وابنها بطليموس الخامس عشر ابن يوليوس قيصر، وكانت "جدارا" تحت سيطرة البطالمة كما فلسطين والأردن، وكان يحكمها بطليموس الرابع ملك مصر"321- 203 ق م" ويسيطر من خلال موقع أم قيس على طرق التجارة في المنطقة بين مصر وبلاد الشام، وهذا ما جعل أنطيوخوس الثالث السلوقي يهاجمها ويحتلها وهو من العائلة السلوقية التي أسسها سلوقس الأول وهو من قادة جيوش الاسكندر أيضا، والذي تولى السيطرة على العراق وبلاد الشام بعد وفاة الاسكندر المقدوني الذي لم يكن له وريث، فتصارع القادة واقتسموا الإرث بينهم، ولكن السلوقيين كانوا يريدون سوريا الكبرى بأجمعها مما أنشأ الصراع بينهم وبين البطالمة حتى استولوا على جدارا، وبسيطرة السلوقيين على جدارا وصلت إليها الحضارة اليونانية العريقة، وأصبحت جدارا مركز حضاري وثقافي وسكنها الشعراء والفنانين والفلاسفة.
صعدنا إلى ساحة الكنيسة وهي من فترة القرن السادس الميلادي وما قبله وتتكون الكنيسة من جزئين الشمالي والجنوبي، وقد بدأنا جولتنا في الجزء الجنوبي حيث الكنيسة الثمانية ومنطقة "البازليكا" والساحة المفتوحة وهذه الكنيسة بنيت من خلال إعادة استخدام الأعمدة والتيجان البازلتية على منطقة الساحة ذات الأعمدة، وقد أشار الرحّالة الألماني شوماخر حين زار أم قيس في العام 1860م أن البازليكا أنشأت على أنقاض معبد قديم، وهذا ليس بالغريب فالمسيحية دخلت جدارا في وقت متأخر ابتداء من القرن الرابع الميلادي وانتشرت ببطء بين سكان جدارا، وأكملنا جولتنا في الساحة ذات الأعمدة وفي الجزء الآخر من بقايا الكنيسة التي تعاني كما كل جدارا من خراب ودمار بسبب الزلزال الكبير في القرن الثامن وبسبب عبث البشر بها.
من الكنيسة كنا نصعد سلما حجريا في أعلاه مطعم سياحي جميل، وهناك وقفنا ننظر باتجاه بحيرة طبريا وهضبة الجولان وجبل الشيخ، ومن هذه الإطلالة ورغم ارتفاع درجة الحرارة فترة الظهر إلا أن النسمات الرقيقة والناعمة أنعشت أرواحنا لنواصل المسيرة في جنبات ودروب جدارا، متجهين وعبر البيوت التي شكلت قرية أم قيس بالفترة العثمانية حتى أصبحت تسمى بالقرية العثمانية لدى البعض، والتي تحول قسم منها لمكاتب رسمية ومنها مكتب آثار لواء بني كنانة فوقفت ضيفتنا كنانة بجوار اليافطة لإلتقاط صورة تذكارية وهي تقول: هذا إرث أبنائي فهذه الأراضي والمنطقة تخصهم، فسمعها موظف وقال: ما زلت صغيرة أن يكون لأبنائك إرث بهذه المساحة، فردت عليه: أنا من لبنان وأنا كنانة.. فقال لها الموظف: إذا أنا من أبناءك فأنا من بني كنانة، فضحكنا جميعا على هذه الطرفة والمفارقة، وأكملنا مسيرتنا بإتجاه متحف أم قيس في أعلى الربوة.
لم تسلم جدارا من الغزوات المتتالية في تاريخها كما باقي المنطقة، ففي القرن الأول قبل الميلاد غزاها القائد الحشموني الإسكندر جانيوس من ضمن عدة مدن اجتاحها في الأردن، وبقيت تحت السيطرة الإغريقية حتى عام 64 قبل الميلاد حين احتلها الرومان بقيادة مومباي القائد الروماني الذي ضمها إلى مدن الديكابولس العشرة والتي شكلت الحزام الدفاعي عن جنوب الامبراطورية الرومانية حتى احتلها الفرس عام 162 م وطردهم الامبراطور الروماني ماركوس اوريليوس في بداية حكمه، وبقيت تحت سيطرة الرومان حتى عام 324 م لتخضع لحكم البيزنطيين حتى عام 636 م، وعاد الفرس لاجتياح جدارا عام 614 م ودمروا كنائسها وقتلوا عدد كبير من سكانها حين اجتاحوا سوريا، وطوال الفترة التي سبقت تخريبها من الفرس بقيت مدينة مزدهرة واشتهرت بمسارحها ومدرجاتها وحضارتها وشوارعها المبلطة والتماثيل والحمامات، وقطنها فلاسفة وشعراء وأدباء منهم مينيبوس شاعر الهجاء وميلاغروس الشاعر الساخر الذي شبه جدارا بمدينة أثينا والخطيب ثيودوروس والشاعر ارابيوس الذي نقش على ضريحه عبارته: "أيها المار من هنا، كما أنت الآن كنت أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، فتمتع بالحياة لأنك فان"، وفي عام 635 م حررتها الجيوش العربية الإسلامية بقيادة شرحبيل بن حسنة في عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب.
وصلنا المتحف وهو في الأصل بيت تراثي لآل الروسان وبني في نهاية القرن 19 فوق أعلى نقطة في جدارا حيث مرتفع "الأكروبوليس"، وقد استملكته دائرة الآثار العامة ضمن استملاك كل البيوت التي بنيت من السكان المجاورين مستخدمة الحجارة الأثرية، وقد تم ترميمه عام 1990 بالتعاون مع المعهد البروتستانتي الألماني وهو مبنى واسع واستخدم الطابق الأسفل مع الباحة والمضافة الواسعة كمتحف للمدينة، وحين زرته أول مرة كان تحت أعمال ترميم جديدة للساحة والطابق الثاني، وقبل الدخول شاهدنا على جوانب البوابة وفي المساحات المحيطة فيه مجموعة من الآثار كالتوابيت البازلتية والبوابات البازلتية الضخمة، وللمبنى كما أنظمة البناء التراثية للشخصيات الكبيرة بوابة ضخمة تسمح بدخول الفرسان على خيولهم، والبوابة خشبية سميكة وبها بوابة أصغر "الخويخة" للمشاة، وانعدام النوافذ المطلة على الخارج بالطابق الأرضي إلا طاقات صغيرة محدودة قرب السقف، وهذه مسائل أمنية تسمح بالدفاع عن القلعة أو البيت الكبير وسكانه، ودخلنا من الخويخة وتمتعنا بمشاهدة اللوحات الفسيفسائية "البازليكا" والتوابيت الحجرية ذات النقوش وتماثيل للآلهة الوثنية مثل زيوس وساتور وأرتميس وآلهة جدارا الجالسة والمقطوع رأسها بكل أسف، والبوابات البازلتية الضخمة والمنقوشة بدقة، إضافة لتيجان أعمدة وجرار فخارية، والعديد من القطع الأثرية.
جدارا تعرضت للإهمال فترات طويلة وساهمت الزلازل في دمار قسم كبير منها، وتعرضت كما أسلفت لجهل الناس بالآثار فبنوا بيوتهم من الحجارة الأثرية، وطمرت آثارها الرمال حتى أعيد اكتشافها عام 1806م وبدأ التنقيب بها منذ ثلاثينات القرن العشرين واستمر التنقيب بعد ذلك على مراحل زمنية من نهاية الخمسينات حتى نهاية التسعينات، وبقناعة أعتقد أن البيوت التي بناها السكان تخفي تحتها نسبة كبيرة من آثار جدارا، ولذا تحتاج إلى اهتمام كبير لإعادة اكتشافها جميعا، ومنح هذه المدينة التي تروي حكايات التاريخ اهتمام بالترميم والتنقيب.
من المتحف خرجنا باتجاه المدرج الشمالي ثم شاهدنا مواقع الآبار وأقنية المياه، فالمهندسين الرومان تميزوا بقنوات وأقنية وأنابيب نقل المياه في كل الأماكن التي حكموها، وكان لديهم هندسة متفوقة بسحب المياه ضمن أنابيب وعبر أنفاق وعلى جسور للمدن حتى تلبي الاحتياجات من شرب وحمامات وزراعة وثروة حيوانية، فكان النبع الرئيس الذي يزود المدينة بالمياه هو عين تراب شرقي المدينة وتم سحب المياه منه عبر نفق بطول 23 كم تحت الأرض، إضافة لعدد كبير من آبار التجميع لمياه الأمطار، وأكملنا المسير باتجاه المطل على الجولان واليرموك وطبريا وارتحنا قليلا لنكمل جولتنا في شارع الأعمدة المنحوتة من صخور بيضاء، مما منح جدارا جمالا خاصا بتنوع ألوان الأعمدة، وعبر طريق ترابي وصلنا للحمامات الرومانية لننهي جولتنا في عبق التاريخ وجدارا، حيث كل حجر يروي حكاية من تاريخ شهدته المنطقة.
غادرنا أم قيس لنتجه مسافة قصيرة وتوقفنا على ربوة تطل على فلسطين وطبريا واحتسينا القهوة هناك في استراحة صغيرة، وتمتعنا بالمناظر الخلابة لنكمل المسير باتجاه الحمة والمياه المعدنية وهذا ما سأتحدث عنه في الحلقة القادمة.
صباح آخر في عمَّان على شرفتي العمَّانية ونسمات حارة تهب مع الهواء الشرقي المغبر، احتسي قهوتي واستمع لشدو فيروز: "حلوة يا بلدتنا يا زهرة الوديان، بتمر عيشتنا فيكِ هنا والحان، يا دارنا يلي بتلوح عا جبهة الوادي، يا اللي القمر مشلوح عا سطحك الهادي، ناي الهوى مجروح بظلك ينادي، وبفيّتك بتبوح بحبها الأغصان".. فأهمس: صباح الخير يا وطنا أبيع من أجله الدنيا وما فيها.. صباحكم أجمل..
0 comments:
إرسال تعليق