بقلم نوميديا جروفي، شاعرة و كاتبة و ناقدة (الجزائر)
هناك ذكريات حلوة في ذاكرة كل منا من أيام الطفولة أو الشباب أو المرحلة الجامعية لا نستطيع نسيانها وكلما كبرنا لمرحلة أكبر من التي كنا فيها تزيد أحزاننا أحيانا، فكثيرون يندمون على كثرة أحزانهم على بعض الأشياء في الماضي التي من الممكن أن تمرّ دون أن تُؤثّر فينا بشكل سلبي.
وقد تبدو بعض المواقف التي قمنا باتخاذها في الماضي تُجاه أمور عادية هي أكثر المواقف الذي قمنا بالنّدم عليها وتمنّينا أن تعود الأيام مرّة أخرى حتّى نستطيع أن نستمتع باللّحظة تاركين كلّ الأفكار السلبية جانبا حيث أنها مرّتْ وأصبحت ذكرى فعلينا أن نعي أنّ كلّ الأشياء تمرّ وتُصبح ماضي سواء أليم أو ماضي يحمل ذكريات نتمنّى عودتها.
نشعر بالحنين والاشتياق لأيام مضت نتمنّى عودتها فهناك من يتحسّر علي أيام شبابه أو طفولته متمنيا عودته يوماً حتّى يستطيع أن يفعل ما كان يفعله في الماضي ولكن ليت الزمان يعود يوماً لنفعل ما عجزنا عن فعله الآن.
و الشيء الجميل هو تلك الذاكرة القوية التي يملكها البعض كما لاحظتها في المجموعة القصصية للقاصّ السّوري (جورج عازار) فليس الماضي إلاّ كنزا من المهارات و الخبرات و التّجارب، بدونها يتخبّط الإنسان في الظّلام.
حيث يقول (جورج إليوت) بهذا الصّدد: " لا أريد مُستقبلا يفصلني عن الماضي".
نتوغّل قليلا في قصصه و نتحدّث عنها..
ففي قصّة ( إرادة الحياة):
نعيش مُعاناة أمّ راشد بعد وفاة زوجها، حيث قامت بالأعمال المنزلية لقاء أجر زهيد عند أصحاب البيوت المُترفة لتُعيل أطفالها اليتامى، حتّى حلّ ذلك اليوم الذي بُترت فيه ساقها بسبب حادث السيارة الذي تعرّضت له و هي تهُمّ بقطع الطّريق عائدة إلى أطفالها ذلك المساء.
و بعد مُضيّ أيّام من فترة العلاج و النّقاهة خطرت لها فكرة بيع سندويتشات لطلبة المدارس بعربة صغيرة لتُطعم صغارها، حيث كان يُساعدها ابنها و هو في طريقه للمدرسة.
و هكذا نسيت مرارة ما عاشته و هي ترى الابتسامة في عيون أطفالها.
فبعزيمتها و قوّتها و صلابة إرادتها و تحدّيها استطاعت أن تتخطّى كلّ الأهوال و المصاعب.
و في قصّة (تأوّهات الحنين):
القصّة هنا جعلها الكاتب (جورج عازار) على لسان الأمّ التي أحزنها فُقدان بيت العائلة و الإبتعاد القهري عنه.
إنّه البيت العتيق الذي احتضن الأطفال، إنّه المكان الذي عشقتْ فيه روح الحياة.
لم تستطع نسيان زهور حديقتها التي زرعتها بنفسها، و لا عبير الريحان،
و لا تلك الصّباحات المشمسة التي اشتاقت لها.
جلست و هي في منفاها البعيد و غُربتها تُحدّث ابنها عن شجرة التّوت العجوز التي كانت في باحة المنزل، حدّثته عن تسلّقه جذعها فترة شقاوته و هو طفل ليقطف ثمارها.
ذكّرته بليالي الصّيف و رعد الخريف.
شكتْ له عن حنينها لمدفأتها القديمة و صوت زقزقة العصافير.
و في تأوّه عميق أخبرته عن حنينها الكبير لتلك الدّار و صخب الجيران و صياح الصّبية.
بصراحة يصعب عليها نسيان ذلك البيت، فبين جنباته عاشت مسرّاتها و اختبأت أحزانها، فلأجله تبكي ذكريات عمر و أشواق و حنين.
هي الأمّ التي أحبّت المطر فوق بيتها العتيق و لون شمس وطنها و نسمة الهواء التي تُداعب براعم زهراتها الجميلة.
ففي كلّ ليلة كانت تُبلّل وسادتها بدموع الأشواق لذاتها التي تاه منها العمر ذات يوم في المنفى بعيدة عن بيتها العتيق.
نتحدّث عن قصّة ( من عبق الماضي):
إنّه العنوان الذي وَسَمَ به الكاتب (جورج عازار) عنوان المجموعة القصصيّة.
و يتحدّث الكاتب هنا عنه هو لأنّه بطل القصّة، حيث عاد إلى موطنه مُشتاقا لبيتهم العائلي، و دخل كلّ الغُرف واحدة تلو الأخرى مُستعيدا كلّ الذّكريات هناك.ليعود مُجدّدا إلى موطن اغترابه مُودّعا بيتهم العتيق بصمت.
لكن عندما وصل اكتشف و هو يفتحُ حقيبته ليُرتّب حاجياته أنّ الحزن قد غافله و تسلّل إلى جميع أشيائه فعطّرها بلونه ليُصبح شريكا دائما لما تبقّى من سنوات عمره الكئيبة.
و في قصّة (غريبة):
قصّة بلسان الأمّ تتحدّث فيها عن الدّنيا التي تراها غريبة و تُناديها بــ: " يا أيّتها الغريبة".
تبقى تُكلّمها و تُحدّثها ة تبُثّها شكواها و مناجاتها و ألمها و أمنيتها شبه المستحيلة بالعودة لوطنها الأمّ حيث قالت: "آه لو أعود إلى ضيعتي".
حزينة جدّا هي في غربتها تلك لأنّها في عالم لا تنتمي إليه و لم تتمكّن من التأقلم فيه.
ثمّ نرى أنّ الكاتب جعل غريبة في نهاية القصّة هي الأمّ نفسها حين قال:
"ترحل غريبة عن عالمٍ صارت فيه الأحاسيس عملة مُندثرة، ترحل راضية زاهدة".
فنراه هنا يتحدّث عن رحيل والدته عن العالم و يتكلّم بتفاصيل شبه دقيقة عن ما حدث يومها في ألم جعلنا نعيشه معه. ثمّ ختم القصّة بميلاد الحفيدة.
غريبة هي الحياة، فهناك من يأتي إليها في الوقت الذي يُغادرها البعض لتستمرّ الحياة الغريبة.
نتحدّث عن قصّة (موعد مع السّماء):
قصّة تحكي معاناة والدَيْنِ في بلاد الغربة بعد أن فرحا بنجاة ابنهما و وحيدهما من موت مُحتم بسبب الحرب، ليموت المسكين غرقا بقارب في نزهة في غربته قبل أن يلتمّ شمل عائلتهما الصغيرة الذي كاد أن يحصل.
الكاتب هنا يُحدّثنا عن معاناة الغريبة في بلاد الغربة دوما في حياته اليومية، حيث عليه أن يدفع ثمنا باهضا لأجل الحفرة التي تُوارى فيها جُثّته حيث لاحظنا هذا من خلال ما عاناه الوالدين لأجل دفن ابنهما الوحيد و فلذة كبدهما.
و في قصّة (كان جدّي):
يعود بنا الكاتب إلى مرحلة طفولته و يحكي لنا عن جدّه الأسطورة في زمن مضى، كما وصفه لنا وصفا دقيقا جعلنا نتخيّله و كأنّنا نراه بملامحه كلّها و عن مسبحته تلك التي لم تكن تُفارقه.
حدّثنا عن جدّه الذي كان يحكي للأحفاد حكايات لا تُنسى ، و منها نستنتج أنّ الكاتب جورج عازار ورث السّرد و القصّة من جدّه النّابغة و الأسطورة.
نتوغّل قليلا في قصّة (شجرة تتحدّث عن موتها):
تكلّم الكاتب هنا بلسان الشّجرة و هي تحتضر في سُويعاتها الأخيرة قبل أن تُودّع العالم القاسي الذي اجثتّها من جذورها بعد أن كانت شتلة خضراء يانعة لغاية ما أصبحت شجرة كبيرة.
قصّة الشّجرة هنا ذكّرتني بقصيدة الشاعر (إيليا أبو ماضي) عن التينة الحمقاء التي قتلت نفسها بنفسها حتى اقتلعوها.
لكن هنا الشجرة في قصّة الكاتب (جورج عازار) مختلفة جدّا لأنّها تتحدّث عن حياتها و سعادتها لغاية رؤيتها شبح الموت يتسلّل رويدا رويدا و يقترب منها، حتى انتهى بالمسكينة و هي تقول:
" و ما أنذا ألفظ أنفاسي الأخيرة، فيما صورة رفيقاتي تتراءى لي هناك في البعيد و المنشار الكهربائي لا يترك لي فرصة التقاط الأنفاس".
و لأنّ الكاتب جورج عازار مسرحي فقد أبدع كثيرا في قصّة الشجرة.
نسافر لقصّة (في رحلة الإغتراب):
يحكي الكاتب هنا عن معاناة المغترب عندما يصل إلى بلاد الغربة و معاناته الكبيرة في الإغتراب بعيدا عن وطنه.
ذكّرني بقوارب الموت التي يُهاجر فيها الشّبان بلدانهم هربا من المعاناة ظنّا منهم أنّهم سيجدون السّعادة تنتظرهم أوّل ما تطأ أقدامهم بُلدان الغربة، حيث يعتقدون أنّهم سيجدون العمل و المال كمن قال:" إنّ السّماء لا تُمطر ذهبا و لا فضّة" و إنّما تنتظرهم معاناة كبيرة حتّى يتأقلموا مع تلك الحياة الجديدة.
في قصّة (سيّارة جديدة):
الكاتب هنا حدّثنا عن قصّة حقيقية حدثتْ معه بفقدان سيارته الجديدة التي سُرقت منه ذات يوم و مفاجأته الكبرى بعدم إيجادها في مكان ركنها، و بعد مُخابرته قسم الشّرطة و التّبليغ عن سرقتها تفاجأ من الردّ البارد من قبلهم في أنّها ستظهر لاحقا بعد أن ينتهي منها الوقود في مكان ما و أنّها قد تكون سُرقت من قبل بعض المراهقين، و هكذا كان، فبعد حواليْ أسبوع اتّصلوا به من إدارة الشرطة و أبلغوه بالمكان الذي وُجدتْ فيه و أنّه بإمكانه الذّهاب هناك لجلبها.
لكن بمجرّد وصوله هناك وجد سيارته في حالة يُرثى لها، حيث كُسّر زجاج النافذة و خُرّب موضع تشغيل السيّارة، بالإضافة إلى الضّربات التي كانت موجودة على هيكل السيّارة من الخارج، و بعد إصلاحها و في أوّل يوم لها تعرّضت لحادث اصطدام لها في مقرّ عمله.
لتذهب السيّارة مجدّدا إلى ورشة الإصلاح و يضطرّ هو لركوب الحافلة من جديد في الصّباح للتوجّه للعمل.
و في الحديث عن قصّة (المكان الأخير):
هي قصّة جمعتْ بين الشكّ و اليقين، الحياة والموت، الخيال والواقع، خوف و قلق، حياة واقعيّة ووهميّة، هلوسات، أماكن تظهر و تختفي، و كلّ هذا حدث و هو في الحافلة في طريقه للعمل. و بعد أن انتهى دوامه و في طريق العودة للبيت ظهرت الهواجس من جديد بمجرّد الاقتراب من المكان نفسه.
لنكتشف بالتّدريج أنّ ذلك المكان هو المقبرة و نحن نتوغّل فيما كتبه من خلال وصفه بعد أن وجد نفسه وجها لوجه أمام ذلك المكان و توجّهه بأقدام مرتعشة مُجتازا بوّابة الدّخول.
و من خلال بعض الجمل التي كتبها الكاتب مثل:( الكلمات المكتوبة فوق الألواح الرّخامية) و ( أخذ يغرق في حسابات الأرقام متى جاؤوا لهذا العالم و متى رحلوا)
لتنقضي ساعات كثيرة له هناك و يُغادر المكان في منتصف الليل عائدا إلى بيته حيث وجد زوجته قلقة لغيابه و تأخّره في العودة.
و في اليوم التالي و هو مارّ بنفس المكان و هو في الحافلة ينظر بإمعان و يندهش من اختفاء الألواح الرخامية و لا حتّى أثر لمقبرة، و حتّى المدافن اختفتْ تمامًا.
ففي هذه القصّة أدخلنا الكاتب في متاهة مليئة بالمشاعر و الهواجس و الخوف و الرهبة.
و القصّة هنا هي تحليل في فلسفة النفس البشرية و فلسفة الموت و الحياة.
ننتقل لقصّة (مشاعر في غيبوبة):
هي قصّة الابن العاقّ الذي استمع لرأي زوجته فقام بتوبيخ والده العجوز الذي كان في أمسّ الحاجة لابنه في ذلك العمر الكبير و كيف قام بطرده بطريقة غير مباشرة فهمها الأب المسكين و اختفى من حياة ابنه دون مقدّمات.
الزوجة الشريرة فرحت بانقطاع الزيارات فيما الحفيد تكدّر لأنه يُحبّ جدّه و الهدايا التي كان يجلبها له ككلّ جدّ يُسعد أحفاده و لو بقطع شوكولاطة أو حلوى.
و بعد ثلاث سنوات يمرض الأب المسكين بمرض ألزمه الفراش، و عندما وصل الخبر إلى الابن صحا من نوم الغفلة الذي كان فيه و شعر بتأنيب الضّمير ليسافر مسرعا إلى أبيه بعد أن أحسّ أنه على وشك أن يفقده.
لكن ماذا ينفع النّدم هنا؟
و بعد الكلمات التي سمعها من والده دمعت عيناه و هو يُدرك مدى الألم الذي سبّبه لوالده من معاملته القاسية له.
لكن هل تكفي الدّموع لتُداوي جراح القلب الغائرة و الدّامية؟
في الأخير:
المجموعة القصصيّة (من عبق الماضي) تحتوي على 24 قصّة تُسافر بنا تارة إلى الماضي الجميل في البيوت الدمشقية بباحاتها الجميلة بحديث الأمّ و قصص الجدّ الرائعة، و تارة إلى مرحلة الطّفولة و الشّباب للكاتب نفسه و تارة أخرى إلى هناك حيث غُربته في بلاد الثّلج فيسرد علينا مُعاناة المغترب، و أحيانا أخرى يتحدّث بلسان غيره، كما جعلنا نعيش حزن الأمّ في غربتها و حنينها لبيتها العتيق أو كما فعل مع الشّجرة، و قصّة ندم الإبن العاقّ بعد فوات الأوان لما فعله مع والده أو مأساة سوسن في قصّة (همسات النّفس الجريحة) التي اختتم بها مجموعته القصصيّة.
بصراحة الكاتب (جورج عازار) أبدع كثيرا في أوّل إصدار قصصي له لأنّ القارئ يقرأ القصص بعاطفته و يتأثّر كثيرا بما جاد به قلم الكاتب من إبداع رصين يجعلنا نعيش كلّ قصّة لأنها تحكي الحقيقة الإجتماعية المُعاشة حولنا و فينا و بيننا كلّ يوم في حياتنا اليومية.
0 comments:
إرسال تعليق